ص 109
الذي هو سبب الصحة، والعالم الذي هو سبب العلم، ومعطي الطعام والشراب والمرأة التي
هي آلة الوقاع: محبوبة لا لذواتها، بل من حيث أنها وسائل إلى ما هو محبوب لذاته،
فإذن يرجع الفرق إلى تفاوت الرتبة، والكل يرجع إلى محبة الإنسان نفسه، فمن أحب
المحسن لإحسانه فما أحب ذاته تحقيقا، بل أحب إحسانه، ولو زال إحسانه زال حبه مع
بقاء ذاته، ولو نقص نقص الحب، ولو زاد زاد. وبالجملة: يتطرق إلى حبه الزيادة
والنقصان بحسب زيادة الإحسان ونقصانه. الرابع - أن يحب الشيء لذاته، لا لحظ يناله
منه وراء ذاته، بل تكون ذاته عين حظه، وهذا هو الحب الحقيقي البالغ الذي يوثق به،
وذلك كحب الجمال والحسن، فإن كل جمال محبوب عند مدركه، وذلك لعين الجمال، لأن إدراك
الجمال عين اللذة، واللذة محبوبة لذاتها لا لغيرها. ولا تظن أن حب الصور الجميلة لا
يتصور إلا لأجل قضاء الشهوة، فإن قضاء الشهوة لذة حيوانية، وقد يحب الإنسان الصور
الجميلة لأجلها، وإدراك نفس الجمال لذة أخرى روحانية يكون محبوبا لذاتها، ولا ريب
في أن حب الصور الجميلة بالجهة الأولى مذموم، وبالجهة الثانية ممدوح، والعشق الذي
يقع لبعض الناس من استحسان الصور الجميلة يكون مذموما أن كان سببه اللذة الشهوية
الحيوانية، ويكون ممدوحا أن كان سببه الابتهاج بمجرد أدراك الجمال، ولأجل التباس
السبب في هذا العشق أختلف العقلاء في مدحه وذمه، وكيف ينكر حب الصور الجميلة لنفس
جمالها من دون قصد حظ آخر، مع أن الخضرة والماء الجاري محبوبان لا لتؤكل الخضرة
ويشرب الماء، أو ينال منهما حظ سوى نفس الرؤية، وقد كان رسول الله (ص) تعجبه الخضرة
والماء الجاري والطباع الصافية السليمة قاضية باستلذاذ النظر إلى الأنوار والأزهار
والأطيار المليحة الألوان الحسنة النفس المناسبة الشكل، حتى الإنسان لتتفرج عنه
الغموم بمجرد النظر إليها من دون قصد حظ آخر منها. وبما ذكرناه ظهر ضعف ظن بعض
ضعفاء العقول، حيث زعموا أنه لا يتصور أن يحب الإنسان غيره لذاته، ما لم يرجع منه
حظ إلى المحب سوى إدراك ذاته، ولم يعلموا أن الحسن والجمال
ص 110
ليس مقصورا على مدركات البصر، ولا على تناسب الخلقة، إذ يقال: هذا صوت حسن، وهذا
طعم حسن، وهذا ريح طيب، وليس شيء من هذه الصفات مدركة بالبصر، وكذا ليس الحسن
والجمال مقصورا على مدركات الحواس لوجودهما في غيرها، فإن أكثر خصال الخير يدرك
بالعقل بنور البصيرة الباطنة، إذ يقال: هذا خلق حسن، وهذا علم حسن. وهذه سيرة حسنة،
ولا يدرك شيء من هذه الصفاة بالحواس، بل يدرك بالبصيرة الباطنة، وكل هذه الخصال
المدركة حسنها بالعقل محبوبة بالطبع، والموصوف بها أيضا محبوب عند من عرف صفاته.
ومما يدل على تحقق الجمال المدرك بالعقل وكونه محبوبا: أن الطباع السليمة مجبولة
على حب الأنبياء والأئمة - عليهم السلام - مع أنهم لم يشاهدوهم، حتى أن الرجل قد
تجاوز حبه لصاحبه مذهبه حد العشق، فيحمله ذلك على أن ينفق جميع أمواله في نصرة
مذهبه والذب عنه، ويخاطر بروحه في قتال من يطعن في أمامه أو متبوعه، مع أنه لم
يشاهد قط صورته ولم يسمع كلامه، فما حمله على الحب هو استحسانه بصفاتها الباطنة: من
الورع، والتقوى، والتوكل، والرضا، وغزارة العلم، والإحاطة لمدارك الدين، وانتهاضه
لإفاضة علم الشرع، ونشره هذه الخيرات في العالم، وجملتها ترجع إلى العلم والقدرة،
إذ جميع الفضائل لا تخرج عن معرفة حقائق الأمور والقدرة على حمل نفسه عليها بقهر
الشهوات، وهما - أعني العلم والقدرة - غير مدركين بالحواس، مع أنهما محبوبان
بالطبع. ومن الشواهد على المطلوب: أن الناس لما وصفوا (حاتما) بالسخاء و(انوشيروان)
بالعدالة، أحبتهما القلوب حبا ضروريا، من دون نظرهم إلى صورهما المحسوسة، ومن غير
حظ ينالونه منهما، بل كل من حكي عنه بعض خصال الخير وصفات الكمال غلب على القلوب
حبه، مع عدم مشاهدته ويأس المحبين من انتشار خيره وإحسانه إليهم، ومن كانت بصيرته
الباطنة أقوى من حواسه الظاهرة، ونور العقل أغلب عليه من آثار الحواس الحيوانية،
كان حبه للمعاني الباطنة أكثر من حبه للمعاني الظاهرة، فشتان بين من يحب نقشا على
الحائط لجمال صورته الظاهرة، وبين من يحب سيد الرسل (ص) لجمال صورته
ص 111
الباطنة. الخامس - محبته لمن بينه وبينه مناسبة خفية، أو مجانسة معنوية، فرب شخصين
تتأكد المحبة بينهما من غير ملاحظة جمال، ولا طمع في جاه ومال، بل بمجرد تناسب
الأرواح، كما قال النبي (ص): الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر
منها أختلف). السادس - محبته لمن حصل بينه وبينه الألف والاجتماع في بعض المواضع لا
سيما إذا كان من المواضع الغريبة، كالسفن والأسفار البعيدة. والسبب فيه: كون أفراد
الإنسان مجبولة على المؤانسة مع التلاقي والاجتماع، ولكون المؤانسة مركوزة في طبيعة
الإنسان سمي إنسانا، فهو مشتق من الأنس دون النسيان - كما ظن -، والمؤانسة لا تنفك
عن المحبة، وربما كان حصول المؤانسة والحب بين أهل البلد، أو بينهم وبين أهل القرى،
وبين أهل البلاد المتباعدة والمواضع المختلفة، من جملة أسرار الأمر بالجمعة
والجماعة، وصلاة العيدين، والحج الباعث لاجتماع عموم الخلائق في موقف واحد. السابع
- محبته لمن يشاركه في وصف ظاهر، كميل الصبي إلى الصبي لصباه، والشيخ إلى الشيخ
لشيخوخته، والتاجر إلى التاجر لتجارته وهكذا.. فإن كل شخص مائل إلى من يشاركه في
وصفه وصنعته وشغله وحرفته، والسبب الجامع فيه هو الاشتراك في الوصف والصنعة. الثامن
- حب كل سبب وعلة لمسببه ومعلوله وبالعكس، فإن المعلول لما كان مثالا من العلة،
ومترشحا عنها ومنبجسا منها، ومناسبا لها لكونه من سنخها، فالعلة تحبه لأنه فرعها
وبمنزلة بعض أجزائها التي كانت منطوية فيها، والمعلول يحبها لأنها أصله وبمنزلة كله
الذي كان محتويا عليه، فكان كل منهما في حبه للآخر يحب نفسه. ثم السبب أن كان علة
حقيقة موجودة، تكون سببية أقوى في حصول المحبة والاتحاد مما إذا كان علة معدة.
فأقوى أقسام المحبة ما يكون للواجب - سبحانه - بالنسبة إلى عباده، وبعد ذلك لا محبة
أقوى من محبة العباد العارفين بالنسبة إليه - سبحانه فإن محبتهم له من حيث كونه
موجودا مخرجا لهم من العدم الصرف إلى الوجود ومعطيا لهم ما احتاجوا إليه في
النشأتين
ص 112
ومن حيث أنه - تعالى - تام فوق التمام في الذات والصفات الكمالية، والنفس بذاتها
مشتاقة إلى الكمال المطلق، وهذه المحبة فرع المحبة ولا تحصل بدونها، ولذا قال سيد
الرسل (ص): (ما اتخذ الله وليا جاهلا قط). وحب الأب لابنه وبالعكس نسبة هذا القسم،
من حيث أن الأب سبب ظاهر لوجود الابن، وإن لم يكن سببا حقيقيا، بل علة معدة له،
فيحبه لأنه يراه بمنزلة نفسه، ويظنه مثالا من ذاته، ونسخة نقلتها الطبيعة من صورته
ويعد وجوده بعده بمنزلة البقاء الثاني لنفسه، فيظنه أنه جزؤه وفي الخلق والخلق
مثله، وكذا كل ما يريد لنفسه من الكمالات يريد أفضله له ويفرح بترجيحه عليه،
وتفضيله عليه عنده بمثابة أن يقال: إنه في الآن أفضل من السابق، ومما يؤكد محبته
له: إنه يرجو منه إنجاح مقاصده ومطالبه في حياته ومماته، وليست محبة الابن للأب
كمحبة الأب للابن، بل هو أضعف، لفقد بعض الأسباب الباعثة له، ولذا أمر الأولاد في
الشريعة بحب الآباء دون العكس، وكذا المحبة التي بين المعلم والمتعلم من هذا القسم،
لأن المعلم كالسبب القريب للحياة الروحاني للمتعلم وإفاضة الصورة الإنسانية عليه،
كما إن الأب كالسبب لحياته الجسمانية ورتبته الصورية، فهو والد روحاني له، وبقدر
شرافة الروح على الجسم يكون المعلم أشرف من الأب وعلى هذا ينبغي أن تكون محبة
المعلم أدون من محبة الموجد الحقيقي وأكثر من محبة الأب، وقد ورد في الحديث: (إن
آبائك ثلاثة: من ولدك، ومن علمك، ومن زوجك، وخير الآباء من علمك). وسئل عن ذي
القرنين: أن أباك أحب إليك أم معلمك؟ قال: (معلمي أحب إلي، لأنه سبب لحياتي
الباقية، وأبي سبب لحياتي الفانية). وقال أمير المؤمنين (ع): (من علمني حرفا فقد
صيرني عبدا). وعلى هذا ينبغي أن يكون حب النبي (ص) وأوصياؤه الراشدين - عليهم
السلام - أوكد من جميع أقسام الحب بعد محبة الله - سبحانه -، لأنه المعلم الحقيقي
والمكمل الأول، ولذا قال (ص) (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وأهله
وولده). التاسع - محبة المتشاركين في سبب واحد بعضهم لبعض، كمحبة
ص 113
الأخوان والأقارب. وكلما كان السبب أقرب كانت المحبة أوكد، ولذا تكون محبة الأخوين
أشد من محبة أبناء الأعمام مثلا، ومن عرف الله وانتساب الكل إليه، وبلغ مقام
التوحيد، وعرف النسبة والربط الخاص الذي بين الله وبين مخلوقاته، يحب جميع
الموجودات من حيث اشتراكه معها في الموجد الحقيقي. ثم قد يجتمع بعض أسباب المحبة أو
أكثرها في شخص واحد، فيتضاعف الحب، كما لو كان لرجل ولد جميل الصورة، حسن الخلق،
كامل العلم، حسن التدبير، محسن إلى والده وإلى الخلق كان حب والده له في غاية
الشدة، لاجتماع أكثر أسباب الحب فيه، وربما أحب شخصا آخر لوجود بعض أسباب الحب فيه
من دون عكس، لعدم تحقق سبب من أسباب الحب فيه، وقد تختلف فيهما أسباب الحب، فيحب كل
منهما الآخر من جهة، وتكون قوة الحب بقدر قوة السبب، فكلما كان السبب أكثر وأقوى
كان الحب أشد وأوكد.
فصل لا محبوب حقيقة إلا الله 
إعلم أنه لا مستحق للحب غير الله
- سبحانه -، ولا محبوب بالحقيقة عند ذوي البصائر إلا هو، ولو كان غيره - تعالى -
قابلا للحب وموضعا له فإنما هو من حيث نسبته إليه - تعالى -، فمن أحب غيره - تعالى
- لا من حيث نسبته إليه، فذلك لجهله وقصوره في معرفة الله، وكيف يكون غيره - سبحانه
- من حيث هو: لا من جهة انتسابه إليه، مستحقا للحب وهو في نفسه مع قطع النظر عنه -
تعالى - وعن انتسابه إليه ليس إلا العدم، والعدم كيف يصلح للحب، فينبغي أن يكون حبه
لعموم الخلق بعموم النسبة، أي من حيث أنها منه - تعالى -، وآثاره، ومعلولاته،
وأضواؤه وأظلاله، ولخصوص بعض الخواص الذين لهم خصوصية نسبة إليه - تعالى -، كالحب،
والأنس، والمعرفة، والاطاعة لخصوص النسبة أيضا. ومما يوضح المطلوب: إن جميع أسباب
الحب مجتمعة في حق الله - تعالى -، ولا توجد في غيره حقيقة، ووجودها في حق غيره وهم
وتخيل
ص 114
ومجاز محض لا حقيقة له. أما السبب الأول - أعني محبة النفس: فمعلوم أن وجود كل أحد
فرع لوجود ربه وظل له، ولا وجود له من ذاته، بل هو من حيث ذاته ليس محض وعدم صرف،
فوجوده ودوام وجوده وكمال وجوده من الله وبالله وإلى الله، فهو الموجود المخترع له،
وهو المبقي له، وهو المكمل لوجوده بإيجاد صفات الكمال فيه، فهو صرف العدم لولا فضل
الله عليه بالإيجاد، وهالك بعد وجوده لولا فضله عليه بالإبقاء، وناقص بعد بقائه
لولا فضله عليه بالتكميل، فليس في الوجود شيء له قوام بنفسه إلا القيوم المطلق الذي
هو قائم بذاته ومقوم لغيره. وحينئذ، فمحبة كل شيء لنفسه ترجع إلى محبة ربه، وإن لم
يشعر المحب به، وكيف يتصور أن يحب الإنسان نفسه ولا يحب ربه الذي به قوام نفسه؟ مع
أن من أحب الظل أحب بالضرورة الأشجار التي بها قوام الظل، ومن أحب النور أحب لا
محالة الشمس التي بها قوام النور، وكل ما في الوجود بالإضافة إلى قدرة الله - تعالى
- كالظل بالإضافة إلى الشجرة والنور بالإضافة إلى الشمس، إذ الكل من آثار قدرته،
ووجوده تابع لوجوده، كما أن وجود الظل تابع لوجود الشخص، ووجود النور تابع لوجود
الشمس، بل هذا المثال إنما هو للتفهيم، وبالإضافة إلى أوهام العوامل، حيث يتوهمون
أن الظل والنور تابعان للشاخص والشمس وفايضان عنهما، وعند التحقيق ليس الظل والنور
أثرين للشخص والشمس وموجودين بهما، بل هما فايضان من الله - تعالى - موجودان به بعد
حصول الشرائط، كما أن أصل الشخص والشمس وشكلهما وسائر صفاتهما منه - تعالى -. وأما
السبب الثاني، والثالث - أعني الالتذاذ والاحسان، سواء كان متعديا إلى المحب أم لا:
فمعلوم أنه لا لذة ولا إحسان إلا من الله - تعالى - ولا محسن سوى الله، فإنه خالق
الإحسان وذويه، وفاعل أسبابه ودواعيه وكل محسن فهو حسنة من حسنات قدرته وحسن فعاله،
وقطرة من بحار كماله وأفضاله. وأما الرابع - أعني الحسن والجمال والكمال: فلا ريب
في أنه تعالى
ص 115
هو الجميل بذاته والكامل بذاته، وهو الجمال الخالص، والكمال المطلق، وحقيقتهما
منحصرة به - تعالى -، وما يوجد في غيره - تعالى - من الجمال والكلام لا يخلو من
شوائب الخلل والنقصان، إذ النقص شامل لجميع الممكنات، وإنما تتفاوت في درجات النقص.
وقد عرفت أن الجمال المعنوي أقوى من الجمال الصوري: ومن كان أهل البصيرة والكمال
يكون حبه للجمال الباطن المعنوي أكثر وأقوى من حبه للجمال الصوري، وحقيقة الجمال
المعنوي الذي هو وجوب الوجود، وكمال العلم والقدرة، والاستيلاء على الكل، واستناد
الجميع إليه، منحصر بالله - تعالى -، فإذا كان الجمال المشوب بالنقص محبوبا، فكيف
لا يكون الجمال الخالص البحت الذي لا يتصور جمال فوقه محبوبا، بل المحبوب حقيقة ليس
إلا هو. باده خاك آلودتان مجنون كند * صاف اگرباشد ندانم جون كند (11) على أن كل
جميل بالجمال الظاهر الصوري أو بالجمال الباطن المعنوي رشحة من رشحات جماله، وكل
كامل فكماله فرع كماله، فكل من أحب جميلا أحب خالقه، وما أحب أحدا غير الله - تعالى
-، لكنه أحتجب عنه تحت وجوه الأحباب وأستار الأسباب، هذا مع أن عمدة جمال المخلوقين
إنما هو علمهم بالله وبصفاته وأفعاله، وقدرتهم على إصلاح نفوسهم بإزالة الرذائل
والخبائث الشهوية المانعة عن التقرب إلى الله - تعالى - وباتصافهم بمعالي الصفات
وشرائفها المقربة إلى الله، وعلى إصلاح عباد الله بالارشاد والسياسة، ومعلوم أن هذه
الأمور إضافات إلى الله - سبحانه -، فحبها يرجع إلى حبه - تعالى -. وأما الخامس -
أعني المناسبة الخفية والمجانسة المعنوية: فلا ريب في أن للنفس الناطقة الإنسانية
مناسبة مجهولة خفية مع باريها وموجدها، إذ هي شعلة من شعلات جلاله، وبارقة من بوارق
جماله، ولذا قال الله سبحانه: (قل الروح من أمر ربي) (15). وقال: (إني جاعل في
الأرض
(هامش)
(14) إن خمركم الملوث بالغبار يجنني!! فلست أدري ما هو مفعوله إن كان صافيا!!؟ (15)
بني إسرائيل، الآية: 85. (*)
ص 116
خليفة) (16). إذ لم يستحق آدم خلافة الله إلا بتلك المناسبة، وبهذه المناسبة ينقطع
العبد إلى ربه، ويعرفه عند ابتلائه بمصيبة وبلية، وهذه المناسبة لا تظهر ظهورا تاما
إلا بالمواضبة على النوافل بعد أحكام الفرائض، كما قال الله - تعالى -: (لا يزال
العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي
يبصر به، ولسانه الذي ينطق به). وهذا موضع تزل فيه الأقدام، حتى وقع قوم في التشبيه
الظاهر، وآخرون في الحلول والاتحاد، وأهل الحق الذين انكشفت لهم استحالة التشبيه
والاتحاد، وفساد طرفي التفريط والافراط، واتضحت لهم حقيقة السر، وعرفوا تلك
المناسبة واستقاموا عليه: هم الأقلون. ثم من المناسبة الظاهرة التي بين العبد وبين
ربه هو قرب العبد من الله في الصفاة الربوبية والأخلاق الإلهية كالعلم، والبر،
والاحسان، واللطف، وإفاضة الخير والرحمة على الخلق، وإرشادهم إلى الحق... إلى غير
ذلك من الصفات الإلهية، ولذا قيل: تخلقوا بأخلاق الله. ولا ريب في أن كل ذلك يقرب
العبد إلى الله، ويصيره ناسبا له. وأما العلية والمعلولية فالأمر فيه ظاهر، وباقي
الأسباب أسباب ضعيفة نادرة، اعتبارها في حق الله نقص. وقد ظهر مما ذكر: أن أسباب
الحب بجملتها متظاهرة في حق الله - تعالى - تحقيقا لا مجازا، أو في أعلى الدرجات لا
أدناها، ثم كل من يحب أحدا من الخلق بسبب هذه الأسباب يتصور أن يحب غيره لمشاركته
إياه في السبب. والشركة نقصان في الحب، لا يتصف أحد بوصف محبوب إلا ويوجد شريك له
فيه، والله - سبحانه - هو الذي لا يشاركه غيره في أوصاف الكمال والجمال، لا وجودا
ولا إمكانا فلا جرم لا يكون في حبه شركة، فلا يتطرق إليه نقصان، كما لا تتطرق
الشركة والنقصان إلى أوصاف كماله، فهو المستحق لأصل المحبة وكمالها، ولا متعلق
للمحبة إلا هو، إلا أنه لا يعرف ذلك إلا العارفون من أوليائه وأحبائه، كما قال
(هامش)
(16) البقرة، الآية: 30. (*)
ص 117
سيد الشهداء (ع) في دعاء عرفة بقوله: (أنت الذي أزلت الأغيار عن قلوب أحبائك، حتى
لم يحبوا سواك، ولم يلجأوا إلى غيرك)) 0
(هامش)
(17) أسع سعيك اليوم لتكون على بصيرة. ولتكون متلهفا لجمال ذلك الحبيب الفتان! أما
تستحي أنك على غرار الأطفال في ليلة العيد؟!! إلى متى تنتظر اليوم الغد؟!! (18 * أن
غبار الجيد يكون حجابا لروحي ونقابا! فما أحلى اللحظة التي أطرح فيها عن وجهي هذا
الستار!! إن هكذا قفصا لا يليق لذي تغريد بهيج مثلي!! سأذهب إلى روضة الرضوان)...
فإني من طيور ذلك المرج والبستان!! (19) كل ما يكون هو العشق كما قالوا وقلنا -...
(*)
ص 119
وقيل: جز محبت هرجه بردم سود در محشر نداشت دين ودانش عرض كردم كس بچيزي برنداشت
(20)
فصل سريان الحب في الموجودات 
أكثر أقسام المحبة فطرية طبيعية، كمحبة
المتناسبين والمتجانسين، والعلة والمعلول، ومحبة الجمال وغير ذلك، والإرادي الكسبي
منها قليل، كمحبة المتعلم للمعلم، وربما أمكن إرجاعه أيضا إلى الطبيعي. وإذا كان
الحب طبيعيا، فالاتحاد الذي من مقتضياته يكون أيضا طبيعيا، فيكون لذلك أفضل من
العدالة التي تقتضي الاتحاد الصناعي. ثم مع وجود المحبة لا حاجة إلى العدالة، إذ هي
فرع الكثرة المحوجة إلى الاتحاد القشري، فمع وجود الاتحاد الطبيعي لا يقع الاحتياج
إليه، وقد صرح قدماء الحكمة بأن أقوام الموجودات خاليا عنها، كما أنه ليس شيء منها
خاليا عن الوجود والوحدة وقد صرحوا بأنه كل الوحدة، فهو سار في جميع الكائنات: في
الأفلاك والعناصر والمركبات، إذ الحب والشوق إلى التشبه بالفاعل رقص الأفلاك وأدار
رحاها، (بسم الله مجراها ومرساها)، والحب هو سبب ميل العناصر إلى أجسادها وميل
المركبات بعضها على بعض: سر حب ازلي بر همه اشيا ساريست وزنه بر گل نزدي بلبل بيدل
فرياد (21) ثم لما كانت المحبة التي هي ظل الوحدة مقتضية للبقاء والكمال، وضدها
موجبا للفساد والاحتلال، ولكل منهما مراتب ودرجات، فتختلف الموجودات بحسبها في
درجات الكمال والنقصان والمتأخرون خصصوا الحب بذوي العقول، فلا يطلقون اسم الحب على
ميل العناصر إلى مراكزها،
(هامش)
فعشقك يوصلك إلى الحبيب بالجهد والشطارة!! (20) سوى الحب لم يفد في الحشر مما
صحبته!! عرضت الدين والعلم. فلم يعرها أحد اهتماما!! (21) إن (سر الحب الأزلي) لسار
في جميع الموجودات! وإلا لم تغرد البلابل على الأزهار والأوراد!! (*)
ص 120
وميل المركبات بعضها إلى بعض، كميل الحديد إلى المغناطيس، ولا لسم الكراهة والبغض
على المنافرة التي بينها، كمنافرة الحجر الباغض الحل من الحل، بل يسمونها بالميل
والهرب، وكذا الموافقة والمعاداة اللتين بين العجم من الحيوانات، ولا يطلقون عليها
اسم الحب والبغض، بل يسمونها بالألف والنفرة
فصل رد المنكرين لحب الله 
قد ظهر مما
ذكر: ثبوت حقيقة المحبة ولوازمها من الشوق والأنس لله تعالى، وأنه المستحق للحب دون
غيره، وبذلك ظهر فساد رغم من أنكر إمكان حصول محبة العبد لله - تعالى - وقال: (لا
معنى لها إلا المواظبة على طاعة الله، وأما حقيقة المحبة فمحال إلا مع الجنس
والمثل). ولما أنكروا المحبة، أنكروا الأنس والشوق ولذة المناجاة وسائر لوازم الحب
وتوابعه، ويدل على فساد هذا القول مضافا إلى ما ذكر إجماع الأمة على كون الحب لله
ولرسوله فرضا، وما ورد في الآيات والأخبار والآثار من الأمر به والمدح عليه، وإنصاف
الأنبياء والأولياء به، وحكايات المحبين، وقد بلغت من الكثرة والصراحة حدا لا يقبل
الكذب والتأويل، فمن شواهد القرآن قوله تعالى: (يحبهم ويحبونه) (22). وقوله:
(والذين آمنوا أشد حبا لله) (23) وقوله - تعالى -: (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم
وأخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم... إلى قوله -: (أحب إليكم من الله ورسوله...) إلى آخر
الآية (24) وأما الأخبار الواردة والآثار، فقد قال رسول الله (ص): (لا يؤمن أحدكم
حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما). وقال (ص): الحب من شروط الإيمان). قال
(ص) (أحبوا الله لما يغدوكم به من نعمة، وأحبوني لحب الله). وقد نظر (ص) إلى بعض
أصحابه * هامش)*(22) المائدة، الآية: 57. (23) البقرة، الآية: 165 (24) التوبة،
الآية: 25. (*)
ص 121
مقبلا وعليه إهاب كبش، فقال (ص): (انظروا إلى هذا الرجل الذي قد نور الله قلبه، لقد
رأيته بين أبويه يغذوانه بأطيب الطعام والشراب، فدعاه حب الله ورسوله إلى ما ترون).
وقال (ص) في دعائه: (اللهم ارزقني حبك وحب من يحبك وحب من يقربني إلى حبك، واجعل
حبك أحب إلي من الماء البارد). وفي الخبر المشهور: (إن إبراهيم (ع) قال لملك الموت،
إذ جاءه لقبض روحه: هل رأيت خليلا يميت خليله؟ فأوحى الله تعالى إليه: هل رأيت محبا
يكره لقاء حبيبه؟ فقال: يا ملك الموت! الآن فاقبض) وأوحى الله إلى موسى (ع): (يا
ابن عمران! كذب من زعم أنه يحبني فإذا جنه الليل نام عني، أليس كل محب يحب خلوة
حبيبه، ها أنا ذا يا ابن عمران مطلع على أحبائي، إذا جنهم الليل حولت أبصارهم إلي
من قلوبهم، ومثلت عقوبتي بين أعينهم، يخاطبوني عن المشاهدة، ويكلموني عن الحضور، يا
ابن عمران! هب لي من قلبك الخشوع، ومن بدنك الخضوع، ومن عينك الدموع في ظلم الليل،
فإنك تجدني قريبا). وروي: (أن عيسى (ع) مر بثلاثة نفر قد نحلت أبدانهم وتغيرت
ألوانهم، فقال لهم: ما الذي بلغ بكم ما أرى؟ فقالوا: الخوف من النار، فقال: حق على
الله أن يؤمن الخائف. ثم جاوزهم إلى ثلاثة أخرى، فإذا هم أشد نحولا وتغيرا، فقال
لهم: ما الذي بلغ بكم ما أرى؟ فقالوا: الشوق إلى الجنة، فقال: حق على الله أن
يعطيكم ما ترجون. ثم جاوزهم إلى ثلاثة أخرى، فإذا هم أشد نحولا وتغيرا، كأن على
وجوههم المرايا من النور، فقال: ما الذي بلغ بكم ما أرى؟ قالوا: حب الله عز وجل،
فقال: أنتم المقربون). وفي بعض الروايات: (إنه (ع) قال للطائفتين الأوليين: مخلوقا
خفتم، ومخلوقا رجوتم. وقال للطائفة الثالثة: أنتم أولياء الله حقا، معكم أمرت أن
أقيم). وقال رسول الله (ص): (إن شعيبا (ع) بكى من حب الله عز وجل حتى عمى، فرد الله
عليه بصره، ثم بكى حتى عمى، فرد الله عليه بصره، فلما كانت الرابعة أوحى الله إليه:
يا شعيب! إلى متى يكون هذا أبدا منك، إن يكن هذا خوفا من النار أجرتك، وإن يكن شوقا
إلى الجنة فقد
ص 122
أبحتك. فقال: إلهي وسيدي! أنت تعلم أني ما بكيت خوفا من نارك، ولا شوقا إلى جنتك،
ولكن عقد حبك على قلبي، فلست أصبر أو أراك. فأوحى الله: أما إذا كان هذا هكذا
سأخدمك كليمي موسى بن عمران). وروي: (أنه جاء أعرابي إلى النبي (ص) فقال: يا رسول
الله! متى الساعة؟ فقال (ص): (ما أعددت لها؟ قال: ما أعددت لها كثير صلاة ولا صيام،
إلا أني أحب الله ورسوله، فقال له النبي: المرء مع من أحب). وفي أخبار داود: (قل
لعبادي المتوجهين إلى محبتي: ما ضركم إذا احتجبتم عن خلقي إذ رفعت الحجاب بيني
وبينكم حتى تنظروا إلي بعيون قلوبكم، وما ضركم ما زويت عنكم من الدنيا إذ بسطت ديني
لكم، وما ضركم مسخطة الخلق إذ التمستم رضاي). وفيها أيضا: (يا داود! إنك تزعم أنك
تحبني، فإن كنت تحبني فأخرج حب الدنيا عن قلبك، فإن حبي وحبها لا يجتمعان في قلب).
وقال أمير المؤمنين (ع) في دعاء كميل: (فهبني يا إلهي وسيدي ومولاي وربي صبرت على
عذابك، فكيف اصبر على فراقك). وقال (ع): (إن لله - تعالى - شرابا لأوليائه، إذا
شربوا سكروا، وإذا سكروا طربوا، وإذا طربوا طابوا وإذا طابوا ذابوا، وإذا ذابوا
خلصوا، وإذا خلصوا طلبوا، وإذا طلبوا وجدوا، وإذا وجدوا وصلوا وإذا وصلوا اتصلوا
وإذا اتصلوا لا فرق بينهم وبين حبيبهم) (25) وقال سيد الشهداء في دعاء عرفة: (أنت
الذي أزلت الأغيار عن قلوب أحبائك حتى لم يحبوا سواك ولم يلجأوا إلى غيرك). وقال
(ع) يا من أذاق أحبائه حلاوة المؤانسة فقاموا بين يديه متملقين). وفي المناجاة
الإنجيلية المنسوبة إلى سيد الساجدين (ع): (وعزتك لقد أحببتك محبة استقرت في قلبي
حلاوتها، وتنست نفسي ببشارتها، ومحال في عدل اقتضيتك أن تسد أسباب رحمتك، ورحمتك عن
معتقدي محبتك). وفي مناجاته الأخرى: (إلهي فاجعلنا من الذين توشحت أشجار الشوق إليك
في حدائق صدورهم، وأخذت لوعة محبتك بجامع قلوبهم)... ثم قال: (وألحقنا بعبادك الذين
هم
(هامش)
(25) لم نعثر على مصدر لهذه الرواية في كتب أصحابنا الإمامية - رضوان الله عليهم -.
(*)
ص 123
بالبدار إليك يسارعون، وبابك على الدوام يطرقون، وإياك في الليل والنهار يعبدون،
وهم من هيبتك مشفقون، الذين صفيت لهم المشارب، وبلغتهم الرغائب، وأنجحت لهم
المطالب، وقضيت لهم من وصلك المآرب، وملأت لهم ضمائرهم من حبك ورويتهم صافي شرابك،
فبك إلى لذيذ مناجاتك وصلوا ومنك على أقصى مقاصدهم حصلوا)... ثم قال: (فقد انقطعت
إليك همتي، وانصرفت نحوك رغبتي، فأنت لا غيرك مرادي، ولك لا سواك سهري وسهادي،
ولقاؤك قرة عيني، ووصلك منى نفسي، وإليك شوقي وفي محبتك ولهي، وإلى هواك صبابتي،
ورضاك بغيتي ورؤيتك حاجتي وجوارك طلبي، وقربك غاية مسألتي، وفي مناجاتك روحي
وراحتي، وعندك دواء علتي، وشفاء غلتي، وبرد لوعتي، وكشف كربتي). ثم قال: (ولا
تقطعني عنك، ولا تباعدني منك، يا نعيمي وجنتي! ويا دنياي وآخرتي) وقال (ع) أيضا:
إلهي! من ذا الذي ذاق حلاوة محبتك فرام منك بدنا، ومن ذا الذي أنس بقربك فابتغى عنك
حولا، إلهي! فاجعلني ممن اصطفيته لقربك وولايتك، وأخلصته لودك ومحبتك، وشوقته إلى
لقائك، ورضيته بقضائك، ومنحته بالنظر إلى وجهك، وحبوته برضاك، وأعذته من هجرك ثم
قال: (وهميت قلبه لإرادتك، واجتبيته لمشاهدتك، وأخليت وجهه لك وفرغت فؤاده لحبك)...
ثم قال: (اللهم أجعلنا ممن دأبهم الارتياح إليك والحنين، ودهرهم الزفرة والأنين،
وجباههم ساجدة لعظمتك، وعيونهم ساهرة في خدمتك، ودموعهم سائلة من خشيتك وقلوبهم
معلقة بمحبتك وأفئدتهم منخلعة من مهابتك، يا من أنوار قدسه لأبصار محبيه رائقة
وسبحان نور وجهه لقلوب عارفيه شائقة! يا منى قلوب المشتاقين، ويا غاية آمال تجعلك
أحب إلي ممن سواك). وقال (ع) أيضا: إلهي! ما ألذ خواطر النظر إلى وجهك، وقراري لا
يقر دون دنوي منك، ولهفتي لا يردها إلا روحك المحبين! أسئلك حبك وحب من يحبك وحب كل
عمل يوصل إلى قربك، وأن الإلهام بذكرك على القلوب، وما أحلى المسير إليك في مسالك
الغيوب، وما أطيب طعم حبك، وما أعذب شرب قربك،). وقال (ع) أيضا: (وغلتي لا يبردها
ألا وصلك، ولوعتي لا يطفيها ألا لقاؤك، وشوقي إليك لا يبله إلا (...)
ص 124
وسقمي لا يشفيه ألا طبك، وغمي لا يزيله إلا قربك، وجرحي لا يبرؤه ألا صفحك، ورين
قلبي لا يجلوه إلا عفوك، ووسواس صدري لا يزيحه إلا أمرك (26). وقال الصادق (ع): (حب
الله إذا أضاء على سر عبد أخلاه من كل شاغل وكل ذكر سوى الله، والمحب أخلص الناس
سرا لله، وأصدقهم قولا، وأوفاهم عهدا، وأزكاهم عملا، وأصفاهم ذكرا، وأعبدهم نفسا،
تتباهى الملائكة عند مناجاته، وتفتخر برؤيته، وبه يعمر الله بلاده، وبكرامته يكرم
الله عباده، ويعطيهم إذا سألوه بحقه، ويدفع عنهم البلايا برحمته، ولو علم الخلق ما
محله عند الله ومنزلته لديه ما تقربوا إلى الله إلا بتراب قدميه) وقال أمير
المؤمنين (ع): (حب الله نار لا يمر على شيء إلا احترق، ونور الله لا يطلع على شيء
إلا أضاء وسماء الله ما ظهر من تحته شيء إلا غطاه، وريح الله ما تهب في شيء إلا
حركته، وماء الله يحيي به كل شيء، وأرض الله ينبت منها كل شيء، فإن أحب الله أعطاه
كل شيء من الملك والملك) وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا أحب الله عبدا
من أمتي قذف في قلوب أصفيائه وأرواح ملائكته وسكان عرشه محبته ليحبوه، فذلك المحب
حقا طوبى له ثم طوبى له! وله عند الله شفاعة يوم القيامة) (27) إلى هنا كلام
الصادق. عليه السلام - وما ورد في الحب من الأخبار والأدعية المعصومية أكثر من أن
يحصى، وحكايات العشاق والمحبين لم تبلغ من الكثرة والتواتر حدا يمكن إنكاره، وقد
روي: (أن داود (ع) سئل ربه أن يريه بعض أهل محبته، فقال له: ائت جبل لبنان، فإن فيه
أربعة عشر نفسا، فيهم شبان وكهول ومشايخ، وإذا أتيتهم فاقرأهم مني السلام، وقل لهم:
يقول ربكم لا تسألوني حاجة، فإنكم أحبائي وأصفيائي وأوليائي، أفرح لفرحكم وأسارع
إلى محبتكم. فأتاهم داود، فوجدهم عند عين من العيون يتفكرون في عظمة الله وملكوته،
فلما نظروا إلى داود، نهضوا ليتفرقوا عنه فقال لهم داود أنا رسول الله إليكم، جئتكم
لأبلغكم رسالة ربكم. فأقبلوا نحوه، وألقوا
(هامش)
(26) صححنا فقرات المناجاة الإنجيلية والمناجاة الأخرى على (البحار): باب أدعية
المناجاة: مج 19 / 107 - 114، ط أمين الضرب. (27) صححنا الأحاديث الثلاثة على
(مصباح الشريعة) - الباب السابع والتسعون، ص 193 -. (*)
ص 125
أسماعهم نحو قوله، وألقوا أبصارهم إلى الأرض، فقال داود: ربكم يقرؤكم السلام، ويقول
لكم: ألا تسألوني حاجة، ألا تنادوني فأسمع صوتكم وكلامكم؟ فإنكم أحبائي وأصفيائي
وأوليائي، أفرح لفرحكم وأسارع إلى محبتكم، وانظر إليكم في كل ساعة نظرة الوالدة
الشفيقة الرفيقة. ولما قال داود ذلك جرت الدموع على خدودهم وسبح الله كل واحد منهم
ومجده، وناجاه بكلمات تدل على احتراق قلوبهم من الحب والشوق).
فصل معرفة الله أقوى
سائر اللذات 
قد عرفت أن الحب هو الميل إلى الشيء الملذ الملائم للمدرك والابتهاج
بإدراك الملائم ونيله، واللذة هي نفس إدراك الملائم الملذ ونيله، وهذا الإدراك إن
كان متعلقا بالقوة العاقلة - أي إن كان المدرك هو القوة العاقلة - عبر عنه بالعلم
والمعرفة، وقد عرفت أنه أقوى وأشد وأشرف من الإدراكات الحسية التي هي الأبصار
والاستماع والذوق والشم واللمس. ثم هذا الإدراك - أعني العلم والمعرفة - يختلف أيضا
في الشرافة والكمال بحسب شرافة المدرك، أي المعلوم، فكلما كان المدرك أجل وأشرف كان
الإدراك - أي المعرفة - أجل وأعلى. ولا ريب في أن الواجب - سبحانه - أشرف الموجودات
وأجلها، فالمعرفة به أعلى المعارف وأشرفها، ويثبت من ذلك: إن أجل اللذات وأعلاها هو
معرفة الله - تعالى - والنظر إلى وجهه الكريم، ولا يتصور أن يؤثر عليها لذة أخرى
إلا من حرم هذه اللذة. وبيان ذلك بوجه أوضح: أن اللذات تابعة للإدراكات، والانسان
جامع لجملة من القوى والغرائز، ولكل قوة وغريزة لذة، ولذاتها عبارة عن نيلها مقتضى
طبعها الذي خلقت له، فغريزة الغضب لما خلقت للتشفي والانتقام فلا جرم لذتها في
الغلبة والانتقام، وغريزة الشهوة لما خلقت لتحصيل الغذاء الذي به القوام فلا جرم
لذتها في نيل الغذاء وكذلك لذة السمع والبصر والشم في الاستماع والأبصار
والاستشمام، وغريزة العقل المسماة بالبصيرة الباطنة خلقت لتعلم بها حقائق الأشياء
كلها، فلذتها في العلم والمعرفة، والعلم لكونه منتهى الكمال وأخص صفات الربوبية،
يكون أقوى اللذات والابتهاجات
ص 126
ولذلك يرتاح الطبع إذا أثني عليه بالذكاء وغزارة العلم لأنه يستشعر عند سماع الثناء
كمال ذاته وجمال علمه، فيعجب بنفسه ويلتذ به. والتحقيق: إن الإدراك والنيل الذي هو
الكمال ليس إلا العلم، وسائر الإدراكات - أعني نيل الغلبة والغذاء والاستماع
والأبصار والاستشمام - لا تعد كمالات، ثم ليست لذة كل حلو واحدة، فإن لذة العلم
بالحراثة والخياطة والحياكة ليست كلذة العلم بسياسة الملك وتدبير أمور الخلق، ولا
لذة العلم بالنحو والشعر والتواريخ كلذة العلم بالله وصفاته وملائكته وملكوت
السماوات والأرض، بل لذة العلم بقدر شرف العلم، وشرف العلم بقدر شرف المعلوم، فإن
كان في المعلومات ما هو الأشرف الأجل والأعظم والأكمل فالعلم به ألذ العلوم وأشرفها
وأكملها وأطيبها، وليت شعري هل في الوجود شيء أعلى وأجمل وأشرف وأكمل من خالق
الأشياء كلها وقيومها، ومكملها ومربيها مبدئها ومعيدها، ومديرها ومرتبها، وهل يتصور
أن يكون أحد في الملك والكمال والعظمة والجلال والقدرة والجمال والكبرياء والبهاء
أعظم ممن ذاته في صفات الكمال ونعوت الجلال فوق التمام، وقدرته وعظمته وملكه وعلمه
غير متناهية فإن كنت لا تشك في ذلك فينبغي ألا تشك في أن لذة المعرفة به أقوى من
سائر اللذات لمن له البصيرة الباطنة وغريزة المعرفة فإن اللذات مختلفة بالنوع أولا،
كمخالفة لذة الوقاع ولذة السماع ولذة المعرفة ولذة الرئاسة، وكل نوع مختلف بالضعف
والقوة، كمخالفة لذة الشبق المغتلم (28) من الجماع، ولذة الفاتر الشهوة منه،
وكمخالفة لذة النظر إلى الوجه الجميل ولذة النظر إلى الوجه الأجمل ومخالفة لذة
العلم باللغات ولذة العلم بالسماويات، وإنما يعرف أقوى اللذتين من أضعفهما، بأن
يؤثر عليه، فإن المخير بين النظر إلى صورة جميلة وبين استنشاق روايح طيبة، إذا
أختار الأول كان عنده ألذ من الثاني، والمخير بين الأكل واللعب بالشطرنج، إذا أختار
الثاني كانت لذة الغلبة
(هامش)
(28) الغلمة - وزان غرفة -: شدة الشهوة وغلم غلما: من باب تعب، إذا اشتد شبقه.
المغتلم: المنقاد للشهوة. (*)
ص 127
في الشطرنج أقوى عنده من لذة الأكل، وهذا معيار في الكشف عن ترجيح اللذات. وحين إذ
نقول: لا ريب في أن المعاني واللذات الباطنة أغلب على ذوي الكمال من اللذات
الظاهرة، فلو خير الرجل بين لذة أكل المطاعم الطيبة ولذة الرئاسة والاستيلاء، فإن
كان عالي الهمة كامل العقل، أختار الرئاسة وترك الأكل، وصبر على الجوع أياما كثيرة
فضلا عن مدة قليلة، نعم، إن كان خسيس الهمة ميت القلب، ناقص العقل والبصيرة، كالصبي
والمعتوه ربما أختار لذة الأكل، وفعل مثله ليس حجة. ثم كما أن لذة الرئاسة والكرامة
أغلب وأرجح من اللذات الحسية عند من جاوز نقصان الصبي والسفاهة، فكذلك لذة المعرفة
بالله ومطالعة جمال الحضرة الربوبية ألذ عنده من لذة الرئاسة، بشرط أن يكون ممن ذاق
اللذتين وأدركهما، فلو كان ممن لم يذق لذة المعرفة بالله لم يكن أهلا للترجيح ومحلا
للكلام، لاختصاص لذة المعرفة بمن نال رتبتها وذاقها، ولا يمكن إثبات ذلك عند من ليس
له قلب، كما لا تثبت لذة الإبصار عند الأعمى، ولذة الاستماع عند الأصم، ولذة الوقاع
عند العنين، ولذة الرئاسة عند الصبي والمعتوه، وليت شعري من لا يفهم إلا حب
المحسوسات كيف يؤمر بلذة النظر إلى وجه الله تعالى، وليس له شبه وشكل وصورة، فحقيقة
الحال كما قيل: (من ذاق عرف)، فمن ذاق اللذتين يترك لذة الرئاسة قطعا، ويستحقر
أهلها لكونها مشوبة بالكدورات ومقطوعة بالموت، ويختار لذة المعرفة بالله، ومطالعة
صفاته وأفعاله، ونظام مملكته من أعلى عليين إلى أسفل السافلين، فإنها خالية عن
الانقطاع والمكدرات، متسعة للمتواردين عليها، لا تضيق بكثرتهم دائما وعرضها من حيث
التفهيم والتمثيل أعظم من السماوات والأرض، ومن حيث الواقع ونفس الأمر فلا نهاية
لعرضها، فلا يزال العارف بمطالعتها ومشاهدتها في جنة غير متناهية الأطراف والأقطار،
يرتع في رياضها، ويركع (29) في حياضها، ويقطع من أثمارها، وهو آمن من انقطاعها، إذ
ثمارها غير مقطوعة ولا ممنوعة بل هي أبدية سرمدية لا يقطعها الموت، إذ الموت لا
يهدم
(هامش)
(29) كرع - من باب نفع -: هو الشرب بفيه من موضعه. (*)
ص 128
النفس الناطقة التي هي محل المعرفة، وإنما يقطع شواغلها وعوائقها ويخليها من جنسها،
فأذن جميع أقطار ملكوت السماوات والأرض، فالأقطار عالم الربوبية التي هي غير
متناهية، ميدان للعارفين، يتبوؤن منها حيث يشاؤن، من غير حاجة إلى حركة أجسامهم،
ومن غير أن يضيق بعضهم على بعض أصلا، إلا أنهم يتفاوتون في سعة ميادينهم بحسب
تفاوتهم في اتساع الأنظار وسعة المعارف: (ولكل درجات مما ملوا) (30). ولا يدخل في
الحصر تفاوت درجاتهم، ومن عرف هذه اللذة انمحت همومه وشهواته، وصار قلبه مستغرقا
بنعيمها، ولا يشغله عن الله خوف النار ولا رجاء الجنة، فكيف تشغله عنه لذات الدنيا
وعلائقها، وكان في الدنيا والآخرة مشغولا بربه، فلو ألقي في النار لم يحس به
لاستغراقه، ولو عرض عليه نعيم الجنة لم يلتفت إليه لكمال نعيمه وبلوغه الغاية التي
ليس فوقها غاية، ولعل سيد الرسل ص) عبر عن هذه اللذة - أي لذة مطالعة جمال الربوبية
- حيث قال حاكيا عن الله سبحانه: (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن
سمعت ولا خطر على قلب بشر). وهذه اللذة هي المراد من قوله تعالى: (فلا تعلم نفس ما
أخفي لهم من قرة أعين) (31). وربما تعجل بعض هذه اللذات لمن انتهى صفاء قلبه إلى
الغاية، ومع ذلك لا يخلو عن توسط بعض الحجب المانعة عن الوصل إلى كنهها، ما لم يحصل
التجرد الكلي وخلع البدن العنصري، ولذلك قال بعضهم: أني أقول: (يا رب يا الله! فأجد
ذلك أثقل على قلبي من الجبال، لأن النداء يكون من وراء حجاب، وهل رأيت جليسا ينادي
جليسه). ثم من عرف الله وعرف حقيقة هذه اللذة، عرف أن اللذات المقرونة في الشهوات
المختلفة منطوية تحت هذه اللذة، كما قيل: كانت لقلبي أهواء مفرقة فاستجمعت مذ رأتك
العين أهوائي
(هامش)
(30) الأنعام الآية: 132. الأحقاف، الآية: 19. (31) السجدة، الآية: 17. (*)
ص 129
فصار يحسدني من كنت أحسده * وصرت مولى الورى مذ صرت مولائي تركت للناس دنياهم
ودينهم * شغلا بذكرك يا ديني ودنيائي
فصل تحقق رؤية الله في الآخرة ولذة لقائه 
إعلم
أن معرفة الله إذا حصلت في الدنيا لم تكن خالية عن كدرة ما كما أشير إليه، إلا أنه
إذا اكتسب أصلها في الدنيا فيزيدها في الآخرة انكشافا وجلاء بقدر صفاء القلوب
وزكائها وتجردها عن العلائق الدنيوية، إلى أن يصير أجلى وأظهر من المشاهدة بمراتب،
فالاختلاف بين ما يحصل في الدنيا من المعرفة وما يحصل في الآخرة من مشاهدة ولقاء
إنما هو بزيادة الانكشاف وجلاء. مثال ذلك: إن من رأى إنسانا، ثم غض بصره، وجد صورته
حاضرة في خياله كأنه ينظر إليها، ولكن إذا فتح العين وأبصر، أدرك تفرقة بين حالتي
غض العين وفتحها، ولا ترجع التفرقة إلى اختلاف بين بين الصورتين لاتحادهما، بل
الافتراق إنما هو بمزيد الكشف والوضوح، فالصورة المتخيلة صارت بالرؤيا أتم انكشافا،
فإذا الخيال أول الإدراك، والرؤيا استكمال لإدراك الخيال، وهي غاية الكشف، لا لأنها
في العين، بل لو خلق الله هذا الإدراك الكامل المتجلي في الصدر أو الجهة أو أي عضو
فرض، استحق أن يسمى رؤية. وإذا فهمت هذا في المتخيلات - أي المدركات التي تدخل في
الخيال من الصور والأجسام - فقس عليه الحال في المعلومات - أي ما يدرك بالعقل -،
ولا يدخل في الخيال كذات الباري وكل ما ليس بجسم، كالعلم والقدرة والإرادة وغيرها،
فإن لمعرفتها وإدراكها أيضا درجتين: إحداهما: أولى، والثانية: استكمال لها، وبينهما
من التفاوت في مزيد الكشف والايضاح ما بين المتخيل والمرئي، فتسمى الثانية بالإضافة
إلى الأولى لقاء ومشاهدة ورؤية، وهذه التسمية حق، لأن الرؤية سميت رؤية لأنها غاية
الكشف، وكما أن سنة الله جارية بأن تطبق الأجفان يمنع من تمام الكشف الذي هو الرؤية
في المتخيلات، فكذلك سنته أن النفس ما دامت محجوبة بالبدن وعوارضه وشهواته، لم يحصل
لها تمام
ص 130
الكشف الذي هي المشاهدة واللقاء في المعلومات الخارجية عن الخيال، فإذا ارتفع
بالموت حجاب البدن، وخلصت النفس، لم يكن بعد في غاية التنزه عن كدورات الدنيا، بل
كانت ملوثة بها، إلا أن النفوس مختلفة في ذلك: فمنها: ما تراكم عليه الخبث والصدى،
فصار كالمرآة التي فسد بطول تراكم الخبث وجوهرها، فلا تقبل الإصلاح والتصقيل،
وهؤلاء هم المحجوبون عن ربهم أبد الآباد، نعوذ بالله من ذلك. ومنها: ما لم ينتهي
إلى حد الرين والطبع، ولم يخرج عن قبول التزكية والتصقيل، وهذه النفوس غير متناهية
الدرجات والمراتب، إذ المتلوث بالكدورات عرض عريض في (الواقع) بين الرين والطبع،
وبين التزكية التامة والتجرد الكلي الذي لم يكن فيه شوب من الكدورات، وهذه النفوس
المتلوثة على اختلاف درجاتها ومراتبها تحتاج إلى التطهير لتستعيد للمشاهدة واللقاء
بتجلي الحق فيها، وتطهيرها إنما هو بنوع عقوبة من العقوبات الأخروية، وهي كمراتب
التلوث غير متناهية الدرجات، أولها سكرة الموت، وآخرها الدخول في النار، وما بينهما
عقوبات البرزخ وأهوال القيامة بأنواعها، فكل نفس لا بد لها من عقوبة من هذه
العقوبات لتتطهر من كدوراتها: فمنها: ما يتطهر بمجرد سكرة الموت وشدة النزع، ومنها
ما يتطهر بها، وينقص عقوبات البرزخ، ومنها ما لا يتطهر إلا بأن يذوق بعض عقوبات
الآخرة، ومنها ما لا يحصل تطهيره إلا بالعرض على النار عرضا يقمع منها الخبث الذي
تدنست به، فربما كان ذلك لحظة حقيقية، وربما كان سبعة آلاف سنة - كما وردت به
الأخبار - وربما كان أقل أو أكثر، ولا يعلم تفصيل ذلك إلا الله سبحانه، والمحجوبون
الذين بلغوا حد الرين والطبع يكونون مخلدين في النار. ثم النفوس القابلة للتطهير
إذا أكمل الله تطهيرها وتزكيتها، وبلغ الكتاب أجله، استعدت حينئذ لصفائها ونقائها
عن الكدورات لأن تتجلى فيه جلية الحق، فتتجلى فيها تجليا يكون انكشاف تجلية
بالإضافة إلى ما علمته وعرفته كانكشاف تجلي المرئيات بالإضافة إلى المتخيلات، وهذه
المشاهدة والتجلي تسمى رؤية، لأنه في الظهور والجلاء والوضوح والانكشاف كالرؤية
بالبصر، بل هو فوقه بمراتب شتى، إذ الرائي في الأول العقل،
ص 131
وفي الثاني البصر، وشتان ما بينهما، فإن الاختلاف في مراتب الإدراك والرؤية بحسب
اختلاف نورية المدرك، وأي نسبة لنورية البصر إلى نورية العقل وإشراقه، وما للعقل من
النفوذ في حقائق الأشياء وبواطنها أنى يكون للبصر. وقد ظهر مما ذكر: أنه لا يفوز
بدرجة الرؤية والمشاهدة إلا العارفون في الدنيا، لأن المعرفة هي البذر الذي ينقلب
في الآخرة مشاهدة، كما تنقلب النواة شجرة والبذر زرعا، ومن لا نواة له كيف يحصل له
النخل، ومن لم يلق البذر كيف يحصد الزرع، فمن لم يعرف الله في الدنيا فكيف يراه في
الآخرة، ومن لم يجد لذة المعرفة في الدنيا فلا يجد لذة النظر في العقبى، إذ لا
يستأنف لأحد في الآخرة ما لم يصحبه في الدنيا، فلا يحصد المرء إلا ما زرع، ولا يحشر
إلا على ما مات عليه، ولا يموت إلا على ما عاش عليه. ولما كانت المعرفة على درجات
متفاوتة، يكون التجلي أيضا على درجات متفاوتة، فاختلاف التجلي بالإضافة إلى اختلاف
المعارف كاختلاف النبات بالإضافة إلى اختلاف البذور، إذ يختلف لا محالة: بكثرتها
وقلتها، وجودتها، وردائتها، وضعفها. ثم كلما كان التجلي والمشاهدة أقوى، كان ما
يترتب عليه من حب الله والأنس به أشد وأقوى، وكلما كان الحب والأنس أزيد، كان ما
يترتب عليه من البهجة واللذة أعلى وأقوى، وتبلغ هذه اللذة مرتبة لا تؤثر عليها لذة
أخرى من نعيم الجنة، بل ربما بلغت حدا تتأذى من كل نعيم سوى لقاء الله ومشاهدته،
فالنعمة والبهجة في الجنة بقدر حب الله، وحب الله بقدر معرفته، فأصل السعادات هي
المعرفة التي عبر الشرع عنه ب (الإيمان). فإن قيل: اللقاء والمشاهدة إن كانت زيادة
كشف للمعرفة حتى تتحقق بين لذة الرؤية ولذة المعرفة نسبة، لكانت لذة اللقاء والرؤية
قليلة، وإن كانت أضعاف لذة المعرفة، إذ هي في الدنيا ضعيفة، فتضاعفها إلى أي حد فرض
لا ينتهي في القوة، إلا أن يستحقر في جنبها سائر لذات الجنة ونعيمها. قلنا: هذا
الاستحقاق والتقليل للذة المعرفة باعثه عدم المعرفة أو ضعفها
ص 132
فإن من خلا عن المعرفة، أو كانت له معرفة ضعيفة وقلبه مشحون بعلائق الدنيا، لا يدرك
لذتها، فمن كملت معرفته وصفت عن علائق الدنيا سريرته، قويت بهجته واشتدت لذته، بحيث
لا توازنها لذة، فإن للعارفين في معرفتهم وفكرتهم ومناجاتهم لله عز وجل ابتهاجات
ولذات لو عرضت عليهم الجنة ونعيمها في الدنيا بدلا عنها لم يستبدلوها بها. ثم هذه
اللذة مع كمالها لا نسبة لها أصلا إلى لذة اللقاء والمشاهدة، كما لا نسبة للذة خيال
المعشوق إلى رؤيته، ولا للذة استنشاق روائح الأطعمة الطيبة إلى ذوقها وأكلها، ولا
للذة اللمس باليد إلى لذة الوقاع. ومما يوضح ذلك أن لذة النظر إلى وجه المعشوق
تتفاوت بأمور: أحدها - كمال جمال المعشوق ونقصانه. وثانيها - كمال قوة الحب والشهوة
وضعفه. وثالثها - كمال الإدراك وضعفه، فإن الالتذاذ برؤية المعشوق في ظلمة، أو من
بعد، أو من وراء ستر رقيق، ليس كالالتذاذ برؤيته على قرب من غير ستر عند كمال
الضوء. ورابعها عدم الآلام الشاغلة والعوائق المشوشة ووجودها، فإن التذاذ الصحيح
الفارغ المتجرد للنظر إلى المعشوق ليس كالتذاذ الخائف المذعور أو المريض المتألم،
أو المشغول قلبه بمهم من المهمات، فلو كان العاشق ضعيف الحب، ناظرا إلى معشوقه على
بعد ومن وراء ستر رقيق، مشغول القلب بمهمات، مجتمعة عليه حيات وعقارب تؤذيه وتلدغه،
لم يكن خاليا عن لذة ما في هذه الحالة من مشاهدة معشوقه، إلا أنه إذا فرض ارتفاع
الستر وإشراق الضوء، واندفاع الحيات والعقارب المؤذية، وفراغ قلبه من المهمات،
وحدوث عشق مفرط، وشهوة قوية، بحيث بلغت أقصى الغايات ، تضاعفت لذته، بحيث لم تكن
للذته الأولى نسبة إليها بوجه، فكذلك الحال في نسبة لذة المعرفة في الدنيا مع حجاب
البدن والاشتغال بمهماته، ومع تسلط حيات الشهوات وعقاربها: من الجوع، والعطش
والشبق، والغضب، والحزن، والهم، ومع ضعف النفس وقصورها ونقصانها في الدنيا عن
التشوق إلى الملأ الأعلى، لالتفاتها إلى أسفل السافلين.
ص 133
إلى لذة اللقاء والمشاهدة التي يندفع فيها جميع ذلك عن النفس، فالعارف لعدم خلوه في
الدنيا عن هذه العوائق والمشوشات وإن قويت معرفته لا يمكن أن تكمل لذته وتصفو
بهجته، وإن ضعفت عوائقه ومشوشاته في بعض الأحوال وبقي سالما، لاح له من جمال
المعرفة ما تعظم لذته وبهجته ويدهش عقله، بحيث يكاد القلب يتفطر لعظمته، إلا أن ذلك
كالبرق الخاطف، ولا يمكن أن يدوم، إذ الخلو عن العوائق والمشوشات ليس يمكن أن يدوم
بل هو آني، ويعرض بعد الآن من الشواغل والأفكار والخواطر ما يشوشه وينقصه، وهذه
ضرورة قائمة في هذه الحياة الفانية، فلا تزال هذه اللذة منقصة إلى الموت، وإنما
الحياة الطيبة بعده، وإنما العيش عيش الآخرة، فإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو
كانوا يعلمون، ولذا كل عارف كملت معرفته في الدنيا وأحب لقاء الله يحب الموت ولا
يكرهه، إلا من حيث إرادة زيادة استكمال في المعرفة، فإن المعرفة كما عرفت بمنزلة
البذر، وكلما كثرت المعرفة بالله وبصفاته وبأفعاله وبأسرار مملكته، قويت المشاهدة
واشتدت، وكثر النعيم في الآخرة وعظم، كما إنه كلما كثر البذر وحسن كثر الزرع وحسن.
ولا ريب في أن المعرفة لا تنتهي إلى مرتبة لا تكون فوقها مرتبة، إذ بحر المعرفة لا
ساحل له، والإحاطة بكنه جلال الله محال، فالعارف وإن قويت معرفته، ربما أحب طول
العمر وكره الموت لتزداد معرفته. ثم أهل السنة قالوا: (إن الرؤية في الآخرة مع
تنزهها عن التخيل والتصوير والتقدير بالشكل والصورة والتحديد بالجهة والمكان: تكون
بالعين دون القلب): (وهو عندنا باطل): إذ الرؤية بالعين محال في حق الله تعالى،
سواء كانت في الدنيا أو في الآخرة، فكما لا تجوز رؤية الله سبحانه في الدنيا بالعين
والبصر، فكذلك لا تجوز في الآخرة، وكما تجوز رؤيته في الآخرة بالعقل والبصيرة لأهل
البصائر - أعني غاية الانكشاف والوضوح بحيث تتأدى إلى المشاهدة واللقاء - فكذلك
تجوز رؤيته في الدنيا بهذا المعنى، والحجاب بينه وبين خلقه ليس إلا الجهل وقلة
المعرفة دون الجسد، فإن العارفين وأولياء الله يشاهدونه في الدنيا في جميع أحوالهم
ومنصرفاتهم،
ص 134
وإن كان الحاصل في الآخرة أزيد انكشافا وأشد انجلاء بحسب زيادة صفاء النفوس وزكائها
وتجردها عن العلائق الدنيوية - كما تقدم مفصلا -، وقد ثبت ذلك من أئمتنا الراشدين
العارفين بأسرار النبوة، روى شيخنا الأقدم (محمد بن يعقوب الكليني) وشيخنا الصدوق
(محمد بن علي بن بابويه) رحمهما الله بإسنادهما الصحيح عن الصادق (ع): (أنه سئل عما
يرون من الرؤية، فقال: الشمس جزء من سبعين جزء من نور الكرسي، والكرسي جزء من سبعين
جزء من نور العرش، والعرش جزء من سبعين جزء من نور الحجاب، والحجاب جزء من سبعين
جزء من نور الستر، فإن كانوا صادقين فليملأوا أعينهم من نور الشمس ليس دونها سحاب).
وبإسنادهما عن أحمد بن إسحاق قال: (كتبت إلى أبي الحسن الثالث (ع) أسأله عن الرؤية
وما أختلف فيه الناس، فكتب: لا تجوز الرؤية ما لم يكن بين الرائي والمرئي هواء
ينفذه البصر فإذا انقطع الهواء عن الرائي والمرئي لن تصح الرؤية وكان في ذلك
الاشتباه، لأن الرائي متى ساوى المرئي فالسبب الموجب بينهما في الرؤية وجب
الاشتباه، وكان ذلك التشبيه لأن الأسباب لا بد من اتصالها بالمسببات). وعن أبي بصير
عن الصادق (ع) قال (قلت له: أخبرني عن الله - عز وجل - هل يراه المؤمنون يوم
القيامة؟ قال: نعم! وقد راوه قبل يوم القيامة. فقلت: متى؟ قال: حين قال لهم ألست
بربكم، قالوا بلا... ثم سكت ساعة، ثم قال: وإن المؤمنين ليرونه في الدنيا قبل يوم
القيامة، ألست تراه في وقتك هذا؟! قال أبو بصير فقلت له: جعلت فداك! فأحدث بهذا
عنك؟ فقال: لا! فإنك إذا حدثت به فأنكره منكر جاهل بمعنى ما تقوله، ثم قدر أن ذلك
تشبيه كفر، وليست الرؤية بالقلب كالرؤية بالعين، تعالى الله عما يصفه المشبهون
والملحدون). وسئل أمير المؤمنين (ع): (هل رأيت ربك حين عبدته؟ فقال: ويلك! ما كنت
اعبد ربا لم أره. قيل: وكيف رأيته؟ قال: ويلك! لا تدركه العيون في مشاهدة الأبصار،
ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان) (32). وقال سيد
(هامش)
(32) صححنا الأحاديث كلها على أصول (الكافي): الجزء الأول، باب إبطال الرؤية. وعلى
(الوافي): 1 / 69، باب إبطال الرؤيا. (*)
ص 135
الشهداء (ع): (كيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك أيكون لغيرك من الظهور ما
ليس لك حتى يكون هو المظهر لك، متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك، ومتى بعدت حتى
تكون الآثار هي التي توصل إليك ، عميت عين لا تراك عليها رقيبا، وخسرت صفقة عبد لهم
تجعل من حبك نصيبا). وقال (ع) أيضا: (تعرفت لكل شيء فما جهلك شيء) وقال: (وأنت الذي
تعرفت إلي في كل شيء، فرأيتك ظاهرا في كل شيء، وأنت الظاهر لكل شيء) (33). وأمثال
ذلك مما ورد عنهم - عليهم السلام - أكثر من أن تحصى.
فصل الطريق إلى الرؤية واللقاء
الطريق إلى تحصيل محبة الله وتقويتها ثم استعداد الرؤية واللقاء أمران أحدهما -
تطهير القلب من شواغل الدنيا وعلائقها، والتبتل إلى الله بالذكر والفكر، ثم إخراج
حب غير الله من القلب، إذ القلب مثل الإناء الذي لا يسع الماء - مثلا - ما لم يخرج
منه الخل. وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه، وكمال الحب في أن يحب الله بكل
قلبه، وما دام يلتفت إلى غيره فزاوية من قلبه مشغولة بغيره، وبقدر ما يشتغل بغير
الله ينقص منه حب الله إلى أن يكون التفاته إلى الغير من حيث أنه صنع الله - تعالى
وفعله ومظهر من مظاهر أسماء الله - تعالى -، وإلى التجريد والتفريد الإشارة بقوله
تعالى: (قل الله ثم ذرهم) (34) وثانيهما - تحصيل معرفة الله وتقويتها وتوسيعها
وتسليطها على القلب والأول، أعني قطع العلائق، بمنزلة تنقية الأرض من الحشائش،
والثاني أي المعرفة، بمنزلة البذر فيها، ليتولد منه شجر المحبة. ثم لتحصيل المعرفة
طريقان: أحدهما - الأعلى، وهو الاستدلال بالحق على الخلق، وذلك بأن
(هامش)
(33) صححنا فقرات دعاء عرفة على (مفاتيح الجنان): ص 272 - 274 طبعة الكراوري (34)
الأنعام، الآية: 91 (*)
ص 136
يعرف الله بالله، وبه يعرف غيره، أي أفعاله وآثاره. وإلى هذا أشير في الكتاب الإلهي
بقوله: (أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد) (35) وهذا الطريق غامض، وفهمه صعب على
الأكثرين. وقد أشرنا إلى كيفيته في بعض كتبنا الإلهيات. وثانيهما - وهو الأدنى،
الاستدلال بالخلق على الحق - سبحانه - وهذا الطريق في غاية الوضوح، وأكثر الأفهام
يتمكن من سلوكه، وهو متسع الأطراف، ومتكثر الشعوب والأكناف، إذ ما من ذرة من أعلى
السماوات إلى تخوم الأرضين إلا وفيها عجائب آيات وغرائب آيات وغرائب بينات تدل على
وجود الواجب وكمال قدرته وغاية حكمته ونهاية جلاله وعظمته، وذلك مما لا يتناهى. (قل
لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي) (36) وعدم وصول
بعض الأفهام من هذا الطريق إلى معرفة الله مع وضوحه، إنما للإعراض عن التفكير
والتدبر والاشتغال بشهوات الدنيا وحظوظ النفس. ثم سلوك هذا الطريق، أي الاستدلال
على الله - تعالى - وعلى كمال قدرته وعظمته، بالتفكر في الآيات الآفاقية والأنفسية،
خوض في بحار لا ساحل لها، إذ عجائب ملكوت السماوات والأرض مما لا يمكن أن تحيط به
الأفهام، فإن القدر الذي تبلغه أفهامنا القاصرة من عجائب حكمته الباهرة تنقضي
الأعمار دون إيضاحه ولا نسبة لما أحاط به علمنا إلى ما أحاط به علم العلماء، ولا
نسبة له إلى ما أحاط به علم الأنبياء، ولا نسبة له إلى ما أحاط به علم الخلائق
كلهم، ولا نسبة له إلى ما استأثر الله بعلمه، بل كلما عرفه الخلائق جميعا لا يستحق
أن يسمى علما في جنب علم الله، ونحن قد أشرنا إلى لمعة يسيرة من عجائب حكمته
المودعة في بعض مخلوقاته في مبحث التفكر.
(هامش)
(35) فصلت، الآية: 53. (36) الكهف، الآية: 110 (*)
ص 137
فصل تفاوت المؤمنين في محبة الله 
إعلم أن المؤمنين جميعا مشتركون في أصل محبة الله
لاشتراكهم في أصل الإيمان، ولكنهم متفاوتون في قدرها، وسبب تفاوتهم أمران: أحدهما -
اختلافهم في المعرفة وحب الدنيا فإن أكثر الناس ليس لهم من معرفة الله إلا ما قرع
أسماعهم من كونه متصفا بصفات كذا وكذا، من دون وصول إلى حقيقة معناها، وإلى
اعتقادهم بأن الموجودات المشاهدة صادرة عنه، من غير تدبر في عجائب القدرة وغرائب
الحكمة المودعة فيها. وأما العارفون: فلهم الخوض في بحر التفكر والتدبر في أنواع
المخلوقات، واستخراج ما فيها من الحكم الخفية، والمصالح العجيبة، التي كل واحد منها
كمشعلة في إزالة ظلمة الجهل، والهداية إلى كمال عظمة الله، ونهاية جلاله وكبريائه،
فمثل الأكثرين كمثل عامي أحب عالما بمجرد استماعه أنه حسن التصنيف، من دون علم
ودراية بما في تصانيفه، فتكون له معرفة مجملة ويكون له بحسنه ميل مجمل، ومثل
العارفين كمثل عالم فتش عن تصانيفه وأطمع على ما فيها من دقائق المعاني وبلاغة
العبارات. ولا ريب في أن العالم بجملته صنع الله وتصنيفه، فمن عرف ذلك مجملا تكون
له بحسبه محبة مجملة، ومن وقف على ما فيه من عجائب القدرة ودقائق الحكمة تكون له
غاية الحب، وكلما ازدادت معرفته بوجوه الحكم والمصالح المودعة في كل مخلوق ازداد
حبه فمن اعتقد أن ما تبنيه النحل من البيوت المسدسة إنما هو بإلهام الله - تعالى -
إياها، من غير استعداد لفهم الحكمة في اختيار الشكل المسدس على سائر الأشكال، لا
يكون في معرفة الله وإدراك عظمته وحكمته كمن يفهم ذلك ويتيقنه. ثم، كما إن دقائق
الحكم وعجائب القدرة غير متناهية، ولا يمكن لأحد أن يحيط بها، وإنما ينتهي كل إلى
ما يستعد له، فينبغي أن تكون مراتب الحب أيضا غير متناهية، وكل عبد ينتهي إلى مرتبة
تقتضيها معرفته. وثانيهما - اختلافهم في الأسباب المذكورة للحب، فإن من يحب الله
لكونه منعما عليه ومحسنا إليه، ضعفت محبته لتغيرها بتغير الإنعام والاحسان
ص 138
ولا يكون حبه في حالة البلاء كحبه في حالة الرخاء والنعماء. وأما من يحبه لذاته، أو
بسبب كماله وجماله ومجده وعظمته، فإنه لا يتفاوت حبه بتفاوت الإحسان إليه.
فصل
الواجب أظهر الموجودات 
عجبا لأقوام عميت قلوبهم عن معرفة الله - سبحانه -، مع أن
الله - تعالى - أظهر الموجودات وأجلاها، لأن البديهة العقلية قاضية بأنه يجب أن
يكون في الوجود موجود قائم بذاته، أي ما هو صرف الوجود، ولولاه لم يتحقق موجود
أصلا، يتحقق صرف الوجود القائم بذاته المقوم لغيره أظهر وأجلى من تحقق كل موجود
بغيره عند البصيرة الصافية، قال الله - سبحانه -: (الله نور السماوات والأرض) (37)
والنور هو الظاهر لنفسه المظهر لغيره، ومبدأ الإدراك من المدرك إنما هو الوجود،
فكلما أدركته إنما تدرك أولا وجوده، وإن لم تشعر بذلك. ولا ريب في أن الظاهر لنفسه
أظهر من الظاهر بغيره، وأيضا كل موجود سوى الله - سبحانه - يعلم وجوده بقليل من
الآثار، فإن وجود الحياة لزيد - مثلا - لا يدل عليه إلا حركته وتكلمه وبعض أخر من
إعراض نفسه، ولا يدل عليه شيء آخر من سائر الموجودات، وكذا وجود السماء - مثلا - لا
يدل عليه سوى وجود ظهور جسمها وحركتها، ولا يدل عليه شيء آخر من الموجودات التي
تحتها وفوقها. وأما وجود الواجب - تعالى - فيدل عليه كل شيء إذ ليس الوجود مدرك
محسوس أو معقول، وحاضر أو غائب، إلا وهو شاهد ومعرف لوجوده فالسبب في خفائه مع كونه
أجلى وأظهر من كل شيء غاية وضوحه وظهوره، فإن شدة ظهور الشيء قد يكون سببا لخفائه،
لأنه يكل المدارك ويحسرها، فشدة ظهوره - سبحانه - بلغت حدا بهرت العقول وأدهشتها
(هامش)
(37) النور الآية 35 (*)
ص 139
فضعفت عن إدراكه. وهذا كما إن الخفاش يبصر بالليل ولا يبصر بالنهار، لا لخفاء
النهار واستتاره، بل لشدة ظهوره وضعف بصر الخفاش، فإن بصره ضعيف يبهره نور الشمس
إذا أشرق، فتكون قوة ظهوره مع ضعف بصره سببا لامتناع أبصاره فلا يرى شيئا إلا إذا
امتزج بالضوء الظلام وضعف ظهوره، فكذلك عقولنا ضعيفة، وجمال الحضرة الإلهية في
نهاية الاشراق والاستنارة، وفي غاية الاستغراق والشمول، حتى لم تشذ عن ظهوره ذرة من
ملكوت السماوات والأرض، فصار ظهوره سبب خفائه، فسبحان من احتجب بإشراق نوره، واختفى
عن العقول والبصائر بشدة ظهوره! ولا تتعجب من اختفاء شيء بسبب شدة ظهوره، فإن
الأشياء إنما تستبان بأضداده، وما عم وجوده حتى لا ضد له عسر إدراكه، فلو اختلفت
الأشياء، فدل بعضها على الله - تعالى - دون بعض، أدركت التفرقة على قرب، ولما
اشتركت في الدلالة على نسق واحد، أشكل الأمران، ومثاله نور الشمس المشرق على الأرض،
فإنا نعلم أنه عرض من الأعراض يحدث في الأرض، ويزول عند غيبة الشمس، فلو كانت الشمس
دائمة الاشراق لا غرب لها، لكنا نظن أن لا هيئة في الأجسام إلا ألوانها، وهي السواد
والبياض وغيرهما، وأما الضوء فلا ندركه وحده لكن لما غابت الشمس واظلمت المواضع
أدركنا تفرقة بين الحالتين، فعلمنا أن الأجسام قد استضاءت بضوء فارقها عند الغروب،
فعرفنا وجود النور بعدمه وما كنا نطلع عليه لولا عدمه إلا بعسر شديد، وذلك
لمشاهدتنا الأجسام متشابهة غير مختلفة في النور والظلام. وهذا مع أن النور أظهر
المحسوسات، إذ به تدرك سائر المحسوسات، فما هو ظاهر في نفسه مظهر لغيره انظر كيف
استبهم أمره بسبب ظهوره لولا طريان ضده، فإذن واجب الوجود لذاته هو أظهر الأشياء
وبه ظهرت الأشياء كلها ولو كان له عدم أو غيبة أو تغير، لانهدت في السماوات والأرض
وبطل الملك والملكوت، وأدركت التفرقة بين الحالتين، ولو كان بعض الأشياء موجودا به،
وبعضها موجودا بغيره، لأدركت التفرقة بين الشيئين في الدلالة، ولكن دلالته عامة في
الأشياء على نسق واحد، ووجوده دائم في الأحوال يستحيل خلافه، فلا جرم أورثت شدة
ظهوره خفاء كما قيل:
ص140
خفي لإفراط الظهور تعرضت * لإدراكه أبصار قوم أخافش وحظ عيون الزرق من نور وجهه *
لشدته حظ العيون العوامش قال أمير المؤمنين (ع): (لم تحط الأوهام، بل تجلى لها بها،
وبها امتنع منها) وقال (ع): (ظاهر في غيب، وغائب في ظهور). وقال (ع): (لا تجنه
البطون عن الظهور، ولا تقطعه الظهور عن البطون، قرب فنأى وعلا فدنا، وظهر فبطن وبطن
فعلن، ودان ولم يدن): أي ظهر وغلب، ولم يغلب. ومن هناك قيل: (عرفت الله بجمعه بين
الأضداد).
فصل علائم محبة الله 
محبة العبد لله - سبحانه - له علامات: الأولى - أن
يحب لقاؤه بطريق المشاهدة والعيان في دار السلام، ولتوقفه على الموت يحب الموت
ويتمناه، إذ كل من يحب شيئا يحب لقاؤه ووصله، وإذا علم أنه يمتنع الوصول إليه إلا
بالارتحال من الدنيا بالموت لأحب الموت لا محالة، وكيف يثقل على المحب أن يسافر من
وطنه إلى مستقر محبوبه ليتنعم بمشاهدته، ولذا قال (حذيفة عند موته: (حبيب جاء على
فاقة، لا أفلح اليوم من ندم). قال بعض الأكابر: (لا يكره الموت إلا مريب، لأن
الحبيب لا يكره لقاء الحبيب على كل حال). ثم من يكره الموت، فإن كانت كراهته له لحب
الدنيا والتأسف على فراق الأهل والأولاد والأموال، وكان حبه للدنيا وتأسفه على
مفارقتها في غاية الكمال، بحيث لم يحب الموت ولم يسر قلبه أصلا بما يترتب عليه من
لقاء الله - تعالى -، ولم يجد في قلبه شوقا إليه مطلقا فلا ريب في كون مثل هذه
الكراهة منافيا لأصل الحب، ولو لم يكن حبه للدنيا في غاية الكمال، بحيث لم يجد في
قلبه ميلا إلى ما يترتب على الموت من لقاء الله، بل كان محبا للدنيا إلا أنه كان له
شوق إلى لقاء الله - تعالى - أيضا أو كان لذلك كراهته للموت ضعيفة، فمثل هذا الحب
للدنيا ينافي كمال حب الله، لأن الحب الكامل هو الذي يستغرق كل القلب، ولا يبعد أن
تكون معه شائبة ضعيفة من حب الله، فإن الناس متفاوتون في حب الله،