الصفحة السابقة الصفحة التالية

جامع السعادات (ج3)

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب

ص 71

من المعاصي، ولا يترك شيئا من الواجبات ليتوجه عليه اللوم والندامة وقت المحاسبة. هذا هو المعنى الظاهر للمحاسبة والمراقبة، ويأتي اعتبار أمور وأعمال أخر فيه عرفا.

فصل حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا

إعلم أن الكتاب والسنة وإجماع الأمة دالة على ثبوت المحاسبة يوم القيامة، وحصول التدقيق والمناقشة في الحساب، والمطالبة بمثاقيل الذر من الأعمال والخطرات واللحظات، قال الله سبحانه: (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيء وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين) (27) وقال: (يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه والله على كل شيء شهيد) (28). وقال: (ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا) (29). وقال: (يوم إذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم، فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) (30). وقال: (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا) (31). وقال: (ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون) (32). وقال: (فوربك لنسئلنهم أجمعين عما كانوا يعملون) (33). وقال رسول الله (ص): (ما منكم من أحد إلا ويسأله رب العالمين، ليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان). وورد بطرق متعددة: أن كل أحد في يوم القيامة لا يرفع قدما عن قدم حتى يسأل عن عمرة فيما أفناه، وعن

(هامش)

(27) الأنبياء، الآية: 47. (28) المجادلة، الآية: 6 (29) الكهف، الآية: 50 (30) الزلزال، الآية: 6 - 8 (31) آل عمران، الآية: 30 (32) البقرة، الآية: 281. لا عمران، الآية: 161. (33) الحجر، الآية: 92. (*)

ص 72

جسده فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه. والآيات والأخبار الواردة في محاسبة الأعمال والسؤال عن القليل والكثير والنقير والقطمير أكثر من أن تحصى، وبإزائها أخبار دالة عن الأمر بالمحاسبة والمراقبة في الدنيا والترغيب عليها، وعلى كونها سببا للنجاة والخلاص عن حساب الآخرة. وخطره ومناقشته. فمن حاسب نفسه قبل أن يحاسب، وطالبها في الأنفاس والحركات، وحاسبها في الخطرات واللحظات، ووزن بميزان الشرع أعماله وأقواله: خف في القيامة حسابه وحضر عند السؤال جوابه، وحسن منقلبه ومآبه. ومن لم يحاسب نفسه: دامت حسراته، وطالت في عرصات القيامة وقفاته، وقادته إلى الخزي سيئاته قال الله سبحانه: (ولتنظر نفس ما قدمت لغد) (34). والمراد بهذا النظر: المحاسبة على الأعمال وقال رسول الله (ص): (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا). قال الصادق (ع): (إذا أراد أحدكم ألا يسأل ربه شيئا إلا أعطاه فلييأس من الناس كلهم، ولا يكون له رجاء إلا من عند الله - تعالى - فإذا علم الله - تعالى - ذلك من قلبه لم يسأله شيئا إلا أعطاه فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا عليها فإن للقيامة خمسين موقفا. وكل موقف ألف سنة ثم تلا: (في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) (35) وتفريع المحاسبة على الأمر باليأس عن الناس والرجاء من الله، يدل على أن الإنسان أنما يرجو الناس من دون الله في عامة أمره وهو غافل عن ذلك، وإن عامة المحاسبات إنما ترجع إلى ذلك، وذكر الوقوف في مواقف يوم القيامة على الأمر بمحاسبة النفس يدل على أن الوقفات هناك إنما تكون للمحاسبات، فمن حاسب نفسه في الدنيا يوما فيوما لم يحتج إلى تلك الوقفات في ذلك اليوم، وقال (ع): (لو لم يكن للحساب مهول إلا حياء العرض على الله - تعالى - وفضيحة هتك الستر على المخفيات، لحق للمرء ألا يهبط من رؤوس الجبال، ولا يأوي إلى عمران، ولا يأكل، ولا يشرب، ولا ينام إلا

(هامش)

(34) الحشر، الآية: 18. (35) المعارج، الآية: 4. (*)

ص 73

عن اضطرار متصل بالتلف: ومثل ذلك يفعل من يرى القيامة بأهوالها شدائدها قائمة في كل نفس، ويعاين بالقلب الوقوف بين يدي الجبار، حينئذ يأخذ نفسه بالمحاسبة، كأنه إلى عرصاتها مدعو وفي غمراتها مسؤل، قال الله - تعالى -: (وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين) (36). (37). وقال الكاظم (ع): (ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم، فإن عمل حسنة استزاد الله - تعالى - وإن عمل سيئة استغفر الله منها وتاب إليه). وفي بعض الأخبار: ينبغي أن يكون للعاقل أربع ساعات: ساعة يحاسب فيها نفسه..

فصل مقامات مرابطة العقل للنفس

إعلم أن العقل بمنزلة تاجر في طريق الآخرة، ورأس ماله العمر، وقد استعان في تجارته هذه بالنفس، فهي بمنزلة شريكه أو غلامه الذي يتجر في ماله، وربح هذه التجارة تحصيل الأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة الموصولة إلى نعيم الأبد وسعادة السرمد، وخسرانها المعاصي والسيئات المؤدية إلى العذاب المقيم في دركات الجحيم، أو نقول: رأس مال العبد في دينه الفرائض وربحه النوافل والفضائل، وخسرانه المعاصي، وموسم هذه التجارة مدة العمر، وكما أن التاجر يشارط شريكه أولا، ويراقبه ثانيا، ويحاسبه ثالثا وإن قصر في التجارة - بالخيانة والخسران وتضييع رأس المال - يعاتبه ويعاقبه ويأخذ منه الغرامة، كذلك العقل يحتاج في مشاركة النفس إلى أن يرتكب هذه الأعمال، ومجموع هذه الأعمال يسمى ب‍ (المحاسبة والمراقبة) تسمية الكل باسم بعض أجزائه، وقد يسمى (مرابطة) أيضا.

فأول الأعمال في المرابطة (المشارطة):

وهي أن يشارط النفس ويأخذ منها العهد والميثاق في كل يوم وليلة مرة ألا يرتكب المعاصي، ولا

(هامش)

(36) الأنبياء الآية: 47. (37) صححنا الحديث على مصباح الشريعة: باب 85، ص 186. (*)

ص 74

يصدر منها شيء يوجب سخط الله، ولا يقصر في شيء من الطاعات الواجبة، ولا يترك ما تيسر له من الخيرات والنوافل. والأولى أن يكون ذلك بعد الفراغ عن فريضة الصبح وتعقيباتها، فيخاطب النفس ويقول لها: يا نفس مالي بضاعة سوى العمر، ومهما فنى رأس المال، ووقع اليأس عن التجارة وطلب الربح، وهذا اليوم الجديد، وقد أمهلني الله فيه بعظيم لطفه ولو توفاني لكنت أتمنى أن يرجعني إلى الدنيا يوما واحدا لأعمل صالحا فاحسبي أنك توفيت ثم رددت، فإياك أن تضيعي هذا اليوم، فإن كل نفس من أنفاس العمر جوهرة نفسية لا عوض لها، يمكن أن يشتري بها كنزا من الكنوز لا يتناهى نعيمها أبدا الآباد. ويتذكر ما ورد في بعض الأخبار: من أن كل عبد خلقة له بأزاء كل يوم وليلة من عمره أربع وعشرون خزانة مصفوفة. فإذا مات تفتح له هذه الخزائن، ويشاهد كل واحد منها ويدخلها، فإذا فتحت له خزانة خلقت بإزاء الساعة التي أطاع الله فيها، يراها مملوءة نورا من حسناته التي عملها في تلك الساعة، فيناله من الفرح والاستبشار بمشاهدة تلك الأنوار التي هي وسائل عند الملك الجبار ما لو وزع على أهل النار لأدهشهم ذلك الفرح عن الاحساس بألم النار، وإذا فتحت له خزانة خلقت بإزاء الساعة التي عصى الله فيها، يراها سوداء مظلمة يفوح نتنها ويتغشأ ظلامها، فيناله من الهول والفزع ما لو قسم على أهل الجنة لينقص عليهم نعيمها، فإذا فتحت له خزانة بإزاء الساعة التي نام فيها أو غفل أو اشتغل بشيء من مباحات الدنيا لم يشاهد فيها ما يسره ولا ما يسوؤه، وهكذا يعرض عليه عدد ساعات عمره الخزائن، وعند ذلك يتحسر العبد على إهماله وتقصيره، ويناله من الغبن ما لا يمكن وصفه، وبعد هذا التذكر يخاطب نفسه ويقول: اجتهدي اليوم في أن تعمري خزائنك، ولا تدعيها فارغة عن كنوزك التي هي أسباب ملكك ولا تركني إلى الكسل والبطالة فيفوتك من درجات العليين ما يدركه غيرك فتدركك الحسرة والغبن يوم القيامة إن دخلت الجنة، إذ ألم الغبن والحسرة وانحطاط الدرجة مع وجود ما فوقها من الدرجات الغير المتناهية التي نال إليها أبناء نوعك مما لا يطاق، ثم يستأنف لها وصية في أعضائه السبعة: أعني العين، والأذن، واللسان، والفرج، والبطن، واليد، والرجل، ويسلمها

ص 75

إليها، لأنها رعايا خادمة لها في التجارة ولا يتم أعمالها هذه التجارة إلا بها، فيوصيها بحفظ هذه الأعضاء عن المعاصي التي تصدر عنها، وبأعمال كل منها فيما خلق لأجله، ثم يوصيها بالاشتغال بوظائف الطاعات التي تتكرر عليه في اليوم والليلة، وبالنوافل والخيرات التي تقدر عليها، وهذه شروط يفتقر إليها كل يوم، لكن إذا اعتادت النفس بتكرار المشارطة والمراقبة بالعمل بها والوفاء بحقها استغنى عن المشارطة فيها، وإن اعتادت بالعمل في بعضها لم تكن حاجة إلى المشارطة فيه، وبقيت الحاجة إليها في الباقي، وكل من يشتغل بشيء من أعمال الدنيا: من ولاية أو تجارة أو تدريس، أو أمثال ذلك: لا يخلو كل يوم منه من مهم جديد، وواقعة حادثة لها حكم جديد، ولله عليه فيها حق، فعليه أن يجدد الاشتراط على نفسه بالاستقامة عليها والانقياد للحق في مجاريها، وينبغي أن يوصلها بالتدبر في عاقبة كل أمر يرتكبه في هذا اليوم والليلة. وهذه الوصية عمدت الوصايا ورأسها، وقد روي: (أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وآله وقال: يا رسول الله أوصني، فقال له: فهل أنت مستوص إن أنا أوصيتك؟ - حتى قال له ذلك ثلاثا، وفي كلها يقول الرجل نعم يا رسول الله! فقال له رسول الله (ص): إذا هممت بأمر فتدبر عاقبته، فإن يك راشدا فامضه وإن يك غيا فانته). ويظهر من هذا الخبر: إن التأمل في عاقبة كل أمر أعظم ما يحصل به النجاة، فينبغي أن يؤكد العهد والميثاق في ذلك على النفس ويحذرها عن الإهمال، ويعضها كما يوعظ العبد المتمرد الآبق، فإن النفس بالطبع متمردة عن الطاعات، مستعصية عن العبودية ولكن الوعظ والتأديب يؤثر فيها (وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين) فهذا وما يجري مجراه هو المشارطة، وهو أول مقامات المرابطة.

وثانيها (المراقبة):

وهو أن يراقب نفسه عند الخوض في الأعمال، فيلاحظها بالعين الكالئة، فإنها إن تركت طغت وفسدت، ثم يراقب في كل حركة وسكون، بأن يعلم أن الله تعالى مطلع على الضمائر، عالم بالسرائر، رقيب على أعمال العباد، قائم على كل نفس بما كسبت، وأن سر القلب في حقه مكشوف، كما أن ظاهر البشرة للخلق مكشوف، بل أشد من ذلك، قال الله سبحانه:

ص 76

(إن الله كان عليكم رقيبا) (36). وقال: (ألم يعلم بأن الله يرى) (37). وقال رسول الله (ص): (الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تراه فإنه يراك). وفي الحديث القدسي: ((إنما يسكن جنات عدن، الذين إذا هموا بالمعاصي ذكروا عظمتي فراقبوني، والذين انحنت أصلابهم من خشيتي، وعزتي وجلالي! إني لأهم بعذاب أهل الأرض، فإذا نظرت إلى أهل الجوع والعطش من مخافتي صرفت عنهم العذاب). وحكي: (أن زليخا لما خلت بيوسف، فقامت وغطت وجه صنمها، فقال يوسف: مالك؟ أتستحيين من مراقبة جماد ولا أستحيي من مراقبة الملك الجبار؟!). وهذه المعرفة - أعني معرفة اطلاع الله على العباد وأعمالهم وسرائرهم وكونه رقيبا عليهم - إذا صارت يقينا - أي خلت عن الشك - ثم استولت على القلب سخرت القلب وقهرته على مراعات جانب الرقيب وصرفت الهمة إليه، والموقنون بهذه المعرفة مراقبتهم على درجتين: إحداهما مراقبة المقربين، وهي مراقبة التعظيم والاجلال، وهي أن يصير القلب مستغرقا بملاحظة الجلال، ومنكسرا تحت الهيبة، فلا يبقى فيه متسع للالتفات إلى الغير، وهذا هو الذي صار همه هما واحدا، وكفاه سائر الهموم، وأخراهما مراقبة الورعين من أصحاب اليمين، وهم قوم غلب عليهم يقين اطلاع الله على ظهورهم وبواطنهم، ولكن لا تدهشهم ملاحظة الجلال والجمال بل بقيت قلوبهم على حد الاعتدال متسعة للالتفات إلى الأحوال والأعمال والمراقبة فيها، وغلب عليهم الحياء من الله، فلا يقدمون ولا يجمعون إلا بعد التثبت، ويمتنعون عن كل ما يفتضحون به في القيامة، فإنهم يرون الله مطلعا عليهم، فلا يحتاجون إلى انتظار القيامة. ثم ينبغي للعبد ألا يغفل عن مراقبة نفسه والتضييق عليها في لحظة من حركاتها وسكناتها وخطراتها وأفعالها. وحالاته لا تخلو عن ثلاثة، لأنه إما أن تكون في طاعة، أو معصية، أو مباح. فمراقبته في الطاعة، بالقربة، والاخلاص، والحضور، والاكمال

(هامش)

(36) النساء، الآية: 1 (37) العلق الآية: 14. (*)

ص 77

وحراستها عن الآفات، ومراعاة الأدب. ومراقبته في المعصية: بالتوبة، والندم، والاقلاع، والحياء، والاشتغال بالتكفير. ومراقبته في المباح: بمراعاة الأدب، بأن يأكل بعد التسمية، وغسل اليدين، وسائر الآداب المقررة في الشرع للأكل، ويقعد مستقبل القبلة، وينام بعد الوضوء على اليد اليمنى مستقبل القبلة، وبالصبر عند ابتلائه ببلية ومصيبة، وبالشكر عند كل نعمة، ويتذكر عند شهود المنعم وحضوره، ويكف النفس عن الغضب وسوء الخلق عند حدوث أمر تميل النفس عنده إلى الغضب والتضجر والتكلم بما لا يحسن من الأقوال، فإن لكل واحد من أفعاله وأقواله حدودا لا بد من مراعاتها بدوام المراقبة، ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه. وينبغي ألا يخلو عند اشتغاله بالمباحات عن عمل هو الأفضل، كالذكر والفكر وتخليص النية، فإن الطعام الذي يتناوله من عجائب صنع الله، فلو تفكر فيه وتدبر في فوائده وحكمه وما فيه من غرائب قدرة الله لكان ذلك أفضل من كثير من أعمال الجوارح، والناس عن الأكل على أقسام: (قسم) ينظرون فيه بعين التبصر والاعتبار، فينظرون في عجائب صنعته وكيفية ارتباط قوام الحيوانات به، وكيفية تقدير الله لأسبابها وخلق الشهوة الباعثة عليها وخلق الآلات المسخرة للشهوة وأمثال ذلك، وهؤلاء هم أولو الألباب. (وقسم)، ينظرون فيه بعين المقت والكراهة، ويلاحظون وجه الاضطرار إليها ويتمنون الاستغناء عنه، وعدم كونهم مقهورين مسخرين بشهوته، وهؤلاء هم الزهاد. (وقسم) يرون فيه خالقه، ويشاهدون في الصنع الصانع ويترقون منه إلى صفات الخالق، من حيث أن كل معلول أثر العلة، ورشحة من رشحات ذاته وصفاته، فمشاهدته تذكر العلة بل التأمل يرشدك إلى أن دلالة كل ذرة ترى من ذرات العالم على ربك وخالقك وإيجابها لحضوره عندك وظهوره لديك وتوجهه إليك وقربه منك أشد وأقوى من دلالة مشاهدتك بدن زيد وصورته وحركاته وسكناته على وجوده وحضوره عندك، وسر ذلك ظاهر واضح. وهؤلاء المشاهدون الصانع في كل مصنوع، والخالق في كل مخلوق، هم العرفاء المحبون، إذ المحب إذا رأى صنعة حبيبه وتصنيفه وآثاره وما ينتسب إليه اشتغل قلبه

ص 78

بالمحبوب، وكل ما يتردد العبد فيه وينظر إليه من الموجودات هو صنع الله تعالى، فله في النظر منها إلى الصانع مجال إن فتحت له أبواب الملكوت. (وقسم) ينظرون فيه بعين الحرص والشهوة، وليس نظرهم إلى الطعام إلا من حيث يوافق شهوتهم وتلتذ به ذائقتهم، ولذلك يذمونه لو لم يوافق هواهم، وهؤلاء أكثر أهل الدنيا.

وثالثها - أي ثالث مقامات المرابطة وأعمالها - هو (المحاسبة)

بعد العمل، فإن العبد كما يختار وقتا في أول كل يوم ليشارط في النفس على سبيل التوصية بالحق، ينبغي له أن يختار وقتا آخر كل يوم ليطالب النفس فيه بما أوصى به، ويحاسبها على جميع حركاتها وسكناتها، كما يفعل التجار في آخر كل سنة مع الشركاء. وهذا أمر لازم على كل سالك لطريق الآخرة معتقد للحساب في يوم القيامة، وقد ورد في الأخبار: أن العاقل ينبغي أن يكون له أربع ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يتفكر في صنع الله، وساعة يخلو فيها للمطعم والمشرب. ولذلك كان الصدر الأول من الخائفين ومن تقدمنا من سلفنا الصالحين في غاية السعي والاهتمام في محاسبة النفس بحيث كانت عندهم من الطاعات الواجبة: وكانوا أشد محاسبة لنفوسهم من سلطان غاشم: ومن شريك شحيح، ويعتقدون أن العبد لا يكون من أهل التقوى والورع حتى يحاسب نفسه أتم من محاسبة شريكه وأن من لا يحاسب نفسه إما معتوه أحمق أو لا يعتقد بحساب يوم القيامة، إذ العاقل المعتقد به مع أهواله وشدائده وما يوجبه من الخجلة والحياء والافتضاح، إذا علم أن محاسبة النفس في الدنيا تسقطه أو توجب خفته، كيف يجوز له أن يتركها؟ ثم كيفية المحاسبة بعد العمل: أن يطالب نفسه أولا بالفرائض التي هي بمنزلة رأس ماله، فإن أدتها على وجهها شكر الله عليه ورغبها في مثلها، وإن فوتتها من أصلها طالبها بالقضاء، وإن أدتها ناقصة كلفها بالجبران بالنوافل، وإن ارتكب معصية أشتغل بعتابها وتعذيبها ومعاقبتها، واستوفى منها ما يتدارك به ما فرط به، كما يصنع التاجر بشريكه. وكما أنه يفتش في حساب الدنيا عن الحبة والقيراط والنقير والقطمير، فيحفظ مداخل الزيادة

ص 79

والنقصان حتى لا يغبن في شيء منها، كذلك ينبغي أن يفتش عن أفعال النفس ويضيق عليها وليتق غائلتها وحيلتها، فإنها خداعة مكارة ملبسة، فليطالبها أولا بتصحيح الجواب عن جميع ما تكلم به طول نهاره، وليتكفل بنفسه من الحساب قبل أن يتولاه غيره في صعيد القيامة، ثم بتصحيح الجواب عن جميع أفعاله وأحواله: من نظره، وقيامه، وقعوده، ونومه، وأكله، وشربه، حتى عن سكوته لم سكت، وعن سكونه لما سكن، وعن خواطره، وأفكاره، وصفاته النفسية، وأخلاقه القلبية، فإن خرجت عن عهدة الجواب عن الجميع، بحيث أدت الحق في الجميع، ولم تترك شيئا مما يجب عليها، ولم ترتكب شيئا من المعاصي: حصل لها الفراغ من حساب هذا اليوم، ولم يكن شيئا باقيا عليها، وإن أدت الحق في البعض دون البعض، كان قدر ما أدت الحق فيه محسوبا لها، ويبقى غيره باقيا عليها فيثبته عليها، وليكتب على صحيفة قلبه كما يكتب الباقي على شريكه على قلبه وعلى جريدته، ثم النفس غريم يمكن أن تستوفى منها الديون، أما بعضها فبالغرامة والضمان، وبعضها برد عينه، وبعضها بالعقوبة لها على ذلك، ولا يمكن شيئا من ذلك إلا بعد تحقق الحساب وتمييز الباقي من الحق الواجب عليه، فإذا حصل ذلك أشتغل بعده بالمطالبة والاستيفاء.

ورابعها - وهو آخر مقامات المرابطة - (معاتبة النفس)

ومعاقبتها على تقصيرها، والمجاهدة بتكليفها الطاعات الشاقة، وإلزامها الرياضات الشديدة، فإنه إذا حاسب نفسه، فوجدها خائنة في الأعمال، مرتكبة للمعاصي، مقصرة في حقوق الله، متوانية بحكم الكسل والبطالة في شيء من الفضائل، فلا ينبغي أن يهملها، إذ لو أهملها سهل عليه مقارفة المعاصي، وأنس بها بحيث عثر بعد ذلك فطامها عنها. فينبغي للعاقل أن يعاتبها أولا، ويقول: أف لك يا نفس! هلكتيني وعن قريب تعذبين في النار مع الشياطين والأشرار، فيا أيتها النفس الأمارة الخبيثة! أما تستحين وعن عيبك لا تنتهين؟! فما أعظم جهلك وحماقتك! أما تعرفين أن بين يديك الجنة والنار وأنت صائرة إلى إحداهما عن قريب؟ فما لك تضحكين وتفرحين وباللهو والعصيان تشتغلين؟ أما علمت أن الموت يأتي بغتة من غير إخبار، وهو

ص 80

أقرب إليك عن كل قريب؟ فما لك لا تستعدين له؟ أما تخافين من جبار السماوات والأرض، ولا تستحيين منه؟ تعصين بحضرته وأنت عالمة بأنه مطلع عليك؟! ويحك يا نفس! جرأتك على معصية الله إن كانت لاعتقادك أنه لا يراك فما أعظم كفرك، وإن كانت مع علمك باطلاعه عليك فما أشد وقاحتك وأقل حياؤك، وما أعجب نفاقك، وكثرة دعاويك الباطلة! فإنك تدعين الإيمان بلسانك، وأثر النفاق ظاهر عليك! فتنبهي عن رقدتك وخذي حذرك! لو أن يهوديا أخبرك في ألذ أطعمتك بأنه يضرك لصبرت وتركتيه! ولو أخبرك طفل بعقرب في ثوبك نزعتيه! فقول الله وقول أنبيائه المؤيدين بالمعجزات وقول الأولياء والحكماء والعلماء أقل تأثيرا عندك من قول يهودي أو طفل؟!... فلا يزال يكرر عليها أمثال هذه المواعظ والتوبيخات والمعاتبات، ثم يعاقبها ويلزمها ما يشق عليها من وظائف العبادات والتصدق بما يحبه، جبرا لما فات منها وتداركا لما فرط فيها، فإذا أكل لقمة مشتبهة ينبغي أن يعاقب البطن بالجوع، وإذا نظر إلى غير محرم يعاقب العين بمنع النظر، وإذا اغتاب مسلما يعاقب اللسان بالصمت والذكر مدة كثيرة، وكذلك يعاقب كل عضو من أعضائه إذا صدرت منه معصية بمنعه من شهواته، وإذا استخف بصلاة ألزم نفسه بصلاة كثيرة بشرائطها وآدابها، وإذا استهان بفقير أعطاه صفو ماله، وهكذا الحال في سائر المعاصي والتقصيرات. وطريق العلاج في إلزام النفس - بعد تقصيرها في العمل على هذه العقوبات وربطها على تلك الطاعات الشاقة والرياضات - أمران: الأول - تذكر ما ورد في الأخبار من فضيلة رياضة النفس ومخالفتها، والاجتهاد في الطاعة والعبادة ووظائف الخيرات، قال الصادق (ع): (طوبى لعبد جاهد في الله نفسه وهواه! ومن هزم جند هواه ظفر برضاء الله، ومن جاوز عقله نفسه الأمارة بالسوء بالجهد والاستكانة والخضوع على بساط خدمة الله تعالى فقد فاز فوزا عظيما، ولا حجاب أظلم وأوحش بين العبد وبين الله تعالى من النفس والهوى، وليس لقتلهما وقطعهما سلاح وآلة مثل الافتقار إلى الله، والخشوع، والجوع والظماء بالنهار، والسهر

ص 81

بالليل، فإن مات صاحبه مات شهيدا، وإن عاش واستقام أداه عاقبته إلى الرضوان الأكبر، قال الله عز وجل: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين) (38). وإذا رأيت مجتهدا أبلغ منك في الاجتهاد، فوبخ نفسك ولمها وعيرها، تحثيثا على الازدياد عليه، واجعل لها زماما من الأمر، وعنانا من النهي، وسقها كالرابض للفارة الذي لا يذهب عليه خطوه من خطواته إلا وقد صح أولها وآخرها، وكان رسول الله (ص) يصلي حتى تورمت قدماه، ويقول: (أفلا أكون عبدا شكورا)، أراد أن يعتبر به أمته. فلا تغفلوا عن الاجتهاد والتعبد والرياضة بحال. ألا وإنك لو وجدت حلاوة عبادة الله، ورأيت بركاتها واستضأت بنورها، لم تصبر عنها ساعة واحدة ولو قطعت أربا أربا، فما أعرض عنها من أعرض إلا بحرمان فوائد السلف من العصمة والتوفيق) (39). قيل لربيع بن خيثم: ما لك لا تنام بالليل؟ قال: (لأني أخاف البيات). والأخبار الواردة في فضل السعي والاجتهاد ومخالفة النفس والهوى أكثر من أن تحصى. الثاني - مصاحبة أهل السعي، والاجتهاد في العبادة، ومجالسة المجاهدين المرتاضين الذين لا ينفكون ساعة من مشاق الطاعات والعبادات وإلزام نفوسهم على ضروب النكال والعقوبات، فملاحظة أحوالهم ومشاهدة أعمالهم أقوى باعث للاقتداء بآثارهم وأفعالهم، حتى قال بعضهم: (إذا اعترتني فترة في العبادات، نظرت إلى بعض العباد واجتهاده في العبادة فكنت بعد ذلك أعمل أسبوعا)، إلا أن ذلك غير مرجو في أمثال زماننا، إذ لم يبق في عباد الله من يجتهد في العباد ة اجتهاد الأولين، وليس فينا من تقرب عبادته عبادة أدنى رجل من سلفنا الصالحين. فينبغي أن يعدل من المشاهدة إلى سماع أحوالهم، ومطالعة حكاياتهم وأخبارهم، ومن لاحظ حكاياتهم وسمع أحوالهم وأطلع على كيفية اجتهادهم في طاعة الله، يعلم أنهم

 (هامش)

(38) العنكبوت، الآية 69. (39) الحديث بطوله مروي عن (مصباح الشريعة): باب 81 ص 184، مع اختلاف يسير هنا، فصححناه عليه كما كان هناك. (*)

ص 82

عباد الله وأحباؤه وأنهم ملوك الجنة، قال بعض أصحاب أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام: (صلينا خلفه الفجر، فلما سلم انتقل إلى يمينه وعليه كآبة، فمكث حتى طلعت الشمس، ثم قلب يديه وقال: والله لقد رأيت أصحاب محمد (ص) وما أرى اليوم شيئا شبههم، وكانوا يصبحون شعثا غبرا صفرا، فقد باتوا لله سجدا وقياما، يتلون كتاب الله عز وجل، ويراوحون بين أقدامهم وجباههم، وكانوا إذا ذكروا الله مادوا كما يميد الشجر في يوم الريح، وهملت أعينهم حتى تبل ثيابهم، وكأن القوم باتوا غافلين). وكان أويس القرني يقول في بعض الليالي: (هذه ليلة الركوع) فيحيي الليل كله في ركعة، ويقول في بعضها: (هذه ليلة السجود) فيحيي كله في سجدة. وقال ربيع بن خثيم: (أتيت أويسا فوجدته جالسا قد صلى الفجر، فجلست موضعا، وقلت: لا أشغله عن التسبيح. فمكث مكانه حتى صلى الظهر ولم يقم حتى صلى العصر، ثم جلس موضعه حتى صلى المغرب، ثم ثبت حتى صلى العشاء، ثم ثبت مكانه حتى صلى الصبح، ثم جلس فغلبته عيناه، فقال: اللهم إني أعوذ بك من عين نوامة وبطن لا تشبع). وروي: (أن رجلا من العباد كلم امرأة ووضع يده على فخذاها، ثم ندم فوضع يده في النار حتى نشت (40) عقوبة لها. وبعضهم نظر إلى امرأة فجعل على نفسه ألا يشرب الماء البارد طول حياته، فكان يشرب الماء الحار لينغص على نفسه العيش. ومر بعضهم بغرفة فقال: متى بنيت هذه الغرفة؟ ثم أقبل على نفسه وقال: تسألين عما لا يعنيك؟! لأعاقبنك بصوم سنة، فصامها) وروي: (أن أبا طلحة الأنصاري شغل قلبه في الصلاة طين في الحائطة، فتصدق بالحائطة جبرا لما فاته من الحضور في الصلاة). وكان بعضهم اعتلت إحدى قدميه فيصلي على قدم واحدة حتى يصلي الصبح بوضوء العشاء. وكان بعضهم يقول: (ما أخاف من الموت إلا من حيث يحول بيني وبين صلاة الليل). وحكى رجل: (أنه *(هامش) (40) النشيش: صوت غليان الماء.

ص 83

نزل بعض أهل الله عندنا بالمحصب (41) وكان له أهل وبنات، وفي كل ليل يقوم ويصلي إلى السحر، فإذا كان السحر ينادي بأعلى صوته: أيها الركب المعرسون! (42) أكل هذا الليل تنامون فكيف ترحلون؟ فيسمع صوته كل من كان بالمحصب، فيتواثبون بين باك وداع، وقارئ ومتوضئ وإذا طلع الفجر نادى بأعلى صوته عند الصباح يحمد القوم السري). وهكذا كان عمل عمال الله وسلوك سالكي طريق الآخرة، وحكاياتهم غير محصورة خارجة عن الاحصاء، أشرنا إلى أنموذج منها ليعلم الطالبون كيفية سيرة الرجال في مرابطة النفس ومراقبتها، ويعلمون أن عباد الله ليسوا أمثالنا، بل هم قوم آخرون. قال بعض الحكماء: (أن لله عبادا أنعم عليهم فعرفوه وشرح صدورهم فأطاعوه، وتوكلوا عليه فسلموا الخلق والأمر إليه، فصارت قلوبهم معادن لصفاء اليقين، وبيوتا للحكمة، وتوابيت للعظمة وخزائن للقدرة، فهم بين الخلائق مقبلون ومدبرون، وقلوبهم تجول في الملكوت، وتلوز (43) بحجب العيوب، ثم ترجع ومعها طوائف من طوائف الفوائد ما لا يمكن لواصف أن يصفها، فهم في باطن أمورهم كالديباج حسنا، وفي الظاهر مناديل مبذولون لمن أرادهم تواضعا، وطريقهم لا يبلغ إليها بالتكلف وإنما هو فضل الله يؤتيه من يشاء). فعليك يا حبيبي بمطالعة أحوالهم وحكاياتهم، لينبعث نشاطك وتزيد رغبتك، وإياك أن تنظر إلى أهل عصرك ولعمري! قل في أمثال زماننا من يذكر الله رؤيته، ويعينك في طريق الدين صحبته، فإن تطع أكثر من في بلدي وعصرك يضلوك عن سبيل الله. ومنها:

• الغفلة

وهي فتور النفس عن الالتفات والتوجه إلى ما فيه غرضها ومطلبها، إما عاجلا أو آجلا. وضدها: النية، وترادفها: الإرادة والقصد، وهي انبعاث

(هامش)

(41) المحصب - بالمهملتين وضم الميم وتشديد الصاد -: موضع بمكة على طريق منى، ويسمى (بطحاء). (42) التعريس نزول المسافر آخر الليل للنوم والاستراحة، من أقوالهم: عرس القوم. (43) في القاموس: اللوز - بالزاي: الملاذ والملجأ. (*)

ص 84

النفس وميلها وتوجهها إلى ما فيه غرضها ومطلبها حالا أو مآلا والموافق لغرض النفس إن كان خيرا لها وسعادة في الدنيا أو الدين، فالغفلة عنه وعدم انبعاث النفس إلى تحصيله رذيلة، والنقصان والنية له والقصد إليه فضيلة وكمال، وإن كان شرا وشقاوة، فالغفلة عنه وكف النفس منه فضيلة، والنية له وإرادته رذيلة. ثم باعث النفس إلى النية أو الغفلة والكف، أن كان من القوة الشهوية كانت النية أو الغفلة متعلقة بها فضيلة أو رذيلة، وإن كان من قوة الغضب كانت النية أو الغفلة متعلقة بهذه القوة كذلك. فالنية والعزم على التزويج متعلقة بالقوة الشهوية، وعلى دفع كافر يؤذي المسلمين متعلقة بقوة الغضب والنية في العبادات مع انضمام التقرب إليها تسمى إخلاصا. ثم المتبادر من الموافق للغرض والمطلوب لما كان ما هو كذلك عند العقلاء وأرباب البصيرة، فيكون المراد منه ما هو مرغوب ومطلوب في نفس الأمر وما تحصيله خير وسعادة، وبهذا الاعتبار تكون الغفلة بإطلاقها مذمومة والنية ممدوحة، فلو ذمت الغفلة بإطلاقها ومدحت النية كذلك، كان بهذا الاعتبار والآيات والأخبار الواردة في ذم الغفلة خارجة بهذا الاعتبار، كما وصف الله الغافلين وقال: (إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا) (44). وقال: (أولئك هم الغافلون) 45. (تنبيه): الغفلة بالمعنى المذكور أعم من أن يكون فتور النفس وخمودها عن الانبعاث إلى ما يراه موافقا للغرض مع الجهل بالمواقف والملائم، أو مع العلم به ومع النسيان عنه، أو مع التذكر له، وربما خص في عرف أهل النظر بصورة الذهول وعدم التذكر. ثم الكسالة والبطالة قريب من الغفلة بالمعنى العام، وربما فرق بينهما ببعض الاعتبارات.

تتميم الغفلة موجبة للحرمان

الغفلة والكسالة عما ينبغي تحصيله من أمور الدنيا والدين توجب الحرمان

(هامش)

(44) الفرقان الآية: 44. (45) الأعراف، الآية: 178

ص 85

عن سعادة الدارين، وتؤدي إلى شقاوة النشأتين، إذ الإهمال في رعاية أمر المعيشة ومصالحها يؤدي إلى هلاكة الشخص وانقطاع النوع، والغفلة عن اكتساب المعارف والأخلاق الفاضلة وعن أداء الفرائض والنوافل تنجر إلى إبطال غاية الايجاد - أعني بلوغ كل شخص إلى كماله المستعد له - وهو مع كونه - صريح المضادة والمنازعة لخالق العباد يوجب الهلاكة والشقاوة أبد الآباد.

وصل ضد الغفلة النية

- تأثير النية على الأعمال - النية روح الأعمال والجزاء بحسبها - عبادة الأحرار والاجراء والعبيد - نية المؤمن من العمل - النية غير اختيارية - الطريق في تخليص النية. * * * قد عرفت أن ضد الغفلة النية، وهي انبعاث النفس وتوجهها إلى ما يراه موافقا لغرضها، وقد عرفت أيضا أن النية والإرادة والقصد عبارات متواردة على معنى واحد، وهي واسعة بين العلم والعمل، إذ ما لم يعلم أمر لم يقصد وما لم يقصد لم يفعل، فالعلم مقدم على النية وشرطها، والعمل ثمرتها وفرعها إذ كل فعل وعمل يصدر عن فاعل مختار فإنه لا يتم إلا بعلم وشوق وإرادة وقدرة، إذ كل إنسان خلق بحيث يوافقه بعض الأمور ويلائم غرضه ويخالفه بعض الأمور، فاحتاج إلى جلب الموافق ودفع المخالف المنافي، وهو موقوف على إدراك الملائم النافع والمنافي الضار، إذ ما لم يعرف الشيء لم يعقل طلبه أو الهرب عنه، وهو العلم، وعلى الميل والرغبة والشهوة الباعثة عليه، وهو الشوق إذ من أدرك الغذاء أو النار لا يكفيه ذلك للتناول والهرب، ما لم يكن شوق إلى التناول والهرب، وعلى القصد والشروع والتوجه إليه، وهو النية، إذ كم شاهد للطعام راغب فيه شائق إليه لا يريده لكونه مؤذيا أو حراما أو لعذر آخر، وعلى القدرة المحركة للأعضاء إليه - أي إلى جلب الملائم أو دفع المضار - وبها يتم الفعل فهي الجزء الأخير للعلة التامة التي بها يتم فعل الفاعل المختار فالأعضاء لا تتحرك إلى جانب الفعل ولا توجده إلا بالقدرة والقدرة تنتظر النية، والنية تنتظر الداعية الباعثة - أعني الشوق - والشوق ينتظر العلم أو الظن بكون ما يفعل موافقا له، فإن كان الشوق صادرا عن القوة

ص 86

البهيمية، بأن يكون الفعل مما تقتضيه هذه القوة: كأكل، وشرب، وجماع وكسب مال، وأمثال ذلك من الالتذاذات الشهوية، كانت النية والقصد أيضا متعلقة بهذه القوة معدودة من فضائلها أو رذائلها، وإن كان مما تقتضيه القوة السبعية: من دفع مؤذ، أو طلب الاستعلاء، أو تفوق، وأمثال ذلك كانت النية أيضا متعلقة بهذه القوة معدودة من فضائلها أو رذائلها. وقد ظهر بما ذكر: إن المحرك الأول هو الغرض المطلوب - أعني المقصود المنوي بعد تعلق العلم به - وهو الباعث الأول وينبعث منه الشوق وهو الباعث الثاني ويتولد منه القصد والنية وهو الباعث الثالث المحرك للقدرة الباعث لانتهاضها على تحريك الأعضاء إلى جانب العمل.

فصل تأثير النية على الأعمال

العمل غرضه الباعث، أي باعثه الأول، إما واحد: كالقيام للإكرام، أو للهرب من السبع المتهجم عليه، أو متعدد مع استقلال كل واحد بالباعثية متساويا أو متفاوتا: كالتصدق للفقر والقرابة بالنظر إلى من ينتهض فيه كل واحد بانفراده سببا للاعطاء، أو بدون استقلال واحد لو انفرد، بل المستقل المجموع، كالمثال المذكور بالنظر إلى من يعطي ماله قريبه الفقير ويمتنع عند الانفراد، أي لا يعطيه قريبه الغني، ولا الأجنبي الفقير، أو مع استقلال بعض دون بعض: بأن يكون للثاني تأثير بالإعانة والتسهيل دون البعث والتحصيل، ثم يتعدد الجزاء بتعدد البواعث، إن خيرا فخير: كالدخول في المسجد لزيارة الله، ولانتظار الصلاة، والاعكتاف والانزواء والتجرد للذكر. وترك الذنوب، وملاقاة الأتقياء وإخوانه المؤمنين واستماع المواعظ وأحكام الدين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن شر فشر: كالقعود فيه للتحدث بالباطل، وملاحظة النساء، والمناظرة للمباهاة والمراءاة، وربما كان بعض البواعث خيرا وبعضها شرا: كالتصدق للثواب والرياء، ودخول المسجد لبعض البواعث الأول، وبعض البواعث الثانية، والعمل الذي باعثه من هذا القسم قد ظهر حكمه في باب الإخلاص. ثم باعث

ص 87

العمل المباح إن كان خيرا بجعله عبادة، كالتطيب يوم الجمعة لإقامة السنة، وتعظيم المسجد واليوم، ودفع الأذى بالنتن، والأكل لقوة العبادات، والجماع للولد وتطييب خاطر الزوجة: والترفه بنومة أو دعابة مباحة لرد نشاط الصلاة، وإن كان شرا بجعله معصية، كالتطيب للتفاخر بإظهار الثروة والتزين للزنا، ولا يؤثر في الحرام، فلا يباح شرب الخمر لموافقة الأقران، والإخوان، فالمعاصي لا تتغير موضوعاتها بالنية، بخلاف الطاعات والمباحات فإنها بالنية الصحيحة تصير أقرب القربات، وبالمفاسدة تصير أعظم المهلكات فما أعظم خسران من يغفل عن النية، ويتعاطى الأعمال تعاطي البائن المهملة على قصد حظوظ النفس أو على السهو والغفلة، وقد كانت غاية سعي السلف أن يكون لهم في كل شيء نية صحيحة، حتى في أكلهم وشربهم ونومهم ودخولهم الخلاء. ولا ريب في إمكان تصحيح النية في كل مباح، بحيث يترتب عليه الثواب، بل يمكن تصحيح النية في كل نقصان مالي وعرضي، فإن من تلف له مال، فإن قال: هو في سبيل الله، كان له أجرا، وإن سرقه أحد أو غصبه يمكن أن ينوي كونه من ذخائر الآخرة، وإذا بلغه اغتياب غيره له فيمكن أن يطيب خاطره بأنه سيحمل عليه سيئاته وينقل إلى ديوان حسناته فإياك أن تستحقر شيئا من نياتك وخطرات قلبك، ولا تقدم على عمل إلا بالنية صحيحة، فإن لم تحضرك النية توقف، إذ النية لا تدخل تحت الاختيار، وقد قيل: (إن من دعا أخاه إلى طعام بدون رغبة باطنة في اجتنابه، فإن أجابه فعليه وزران: النفاق، وتعريضه أخاه لما يكرهه لو علمه، وإن لم يجبه ولم يأكل فعليه وزر واحد هو النفاق!). فلا بد للعبد من خالص النية في كل حركة وسكون، لأنه إذا لم يكن كذلك غافلا، والغافلون قد وصفهم الله - تعالى - فقال: (إن هم إلا كالانعام بل هم أضل سبيلا) (46). وصاحب خالص النية صاحب القلب السليم، قال الصادق (ع):

(هامش)

(46) الفرقان، الآية: 44. (*)

ص 88

((صاحب النية الصادقة صاحب القلب السليم، لأنه سلامة القلب من هواجس المحذورات بتخليص النية لله في الأمور كلها، قال الله - عز وجل -: (يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم) (47). ثم النية تبدو من القلب على قدر صفاء المعرفة وتختلف على حسب اختلاف الأوقات في معنى قوته وضعفه، وصاحب النية الخالصة نفسه وهواه مقهورتان تحت سلطان تعظيم الله - تعالى - والحياء منه، وهو من طبعه وشهوته ومنيته نفسه، في تعب، والناس منه في راحة) ((48).

فصل النية روح الأعمال، والجزاء بحسبها

النية روح الأعمال وحقيقتها، والجزاء يكون حقيقة عليها، فإن كانت خالصة لوجه الله - تعالى - كانت ممدوحة، وكان جزاؤها خيرا وثواب، وأن كانت مشوبة بالأغراض الدنيوية كانت مذمومة، وكان جزاؤها شرا وعقابا، قال الله - سبحانه -: (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه) (49). والمراد بالإرادة: النية، لترادفهما - كما تقدم -. وأوحى الله إلى داود: (يا داود! لا تطاول على المريدين، لو علم أهل محبتي منزلة المريدين عندي لكانوا لهم أرضا يمشون عليها، يا داود! لئن تخرج مريدا من كربة هو فيها تستعده، كتبتك عندي حميدا، ومن كتبته حميدا لا يكون عليه وحشة ولا فاقة إلى المخلوقين). وقال رسول الله (ص): (أنما الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى الدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه)، وأنما قال ذلك حين قيل له: أن بعض المهاجرين

(هامش)

(47) الشعراء الآية: 88 / 89. (48) هذا بعض الحديث المذكور في مصباح الشريعة / الباب الرابع ص 135 -، وفي البحار - الجزء الثاني من المجلد الخامس عشر، باب النية وشرائطها ومراتبها، ص 77، ط أمين الضرب -. لكن المذكور في البحار فيه اختلاف يسير عما في المصباح، / فصححناه على البحار، لكون المذكور في البحار أصح مما في المصباح. (49) الأنعام، الآية: 52. (*)

ص 89

إلى الجهاد ليست نيته من تلك الهجرة إلا أخذ الغنائم من الأموال والسبايا أو نيل الصيت عند الاستيلاء، فبين (ص): أن كل أحد ينال في عمله ما يبغيه، ويصل إلى ما ينويه، كائنا ما كان، دنيويا كان أو أخرويا وهذا الخبر مما يعده المحدثون من المتواترات وهو أول ما يعلمونه أولادهم، وكانوا يقولون: إنه نصف العلم. وقال (ص): (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم، وأنما ينظر إلى القلوب لأنها مظنة النية). وقال (ص): (إن العبد ليعمل أعمالا حسنة فتصعد بها الملائكة في صحف مختتمة، فتلقى بين يدي الله - تعالى -، فيقول: ألقوا هذه الصحيفة، فإنه لم يرد بما فيها وجهي، ثم ينادي الملائكة: اكتبوا له كذا وكذا، فيقولون: يا ربنا! إنه لم يعمل شيئا من ذلك، فيقول الله - تعالى -: إنه نواه) وقال (ص): (الناس أربعة: رجل آتاه الله - عز وجل - علما ومالا فهو يعمل بعلمه في ماله، فيقول رجل: لو آتاني الله - تعالى - مثل ما آتاه لعملت كما يعمل، فهما في الآجر سواء، ورجل آتاه الله مالا ولم يؤته علما، فهو يتخبط بجهله في ماله فيقول الرجل: لو آتاني الله مثل ما آتاه لعملت كما يعمل، فهما في الوزر سواء، ألا ترى كيف شاركه بالنية في محاسن عمله ومساويه؟!) ولما خرج (ص) إلى غزوة تبوك، قال: (إن بالمدينة أقواما، ما قطعنا واديا، ولا وطأنا موطئا يغيظ الكفار، ولا أنفقنا نفقة، ولا أصابتنا مخمصة، لا شاركونا في ذلك وهم في المدينة)، قالوا وكيف ذلك يا رسول الله وليسوا معنا؟! فقال (حسبهم العذر، فشاركونا بحسن النية). وفي الخبر: (أن رجلا من المسلمين قتل في سبيل الله بأيدي الكفار، وكان يدعي بين المسلمين قتيل الحمار، لأنه قاتل رجلا من الكافرين نية أن يأخذ حمارة وسلبه، فقتل على ذلك فأضيف إلى نيته. وهاجر رجل إلى الجهاد مع أصحاب النبي (ص)، وكانت نيته من المهاجرة أن يأخذ امرأة كانت في عساكر الكفار ويتزوجها - وتسمى أم قيس - فأشتهر هذا الرجل عند أصحاب النبي بمهاجر أم قيس). وفي أخبار كثيرة: (من هم بحسنة ولم يعملها كتب له حسنة) كما تقدم، وقد ورد: أنه إذا التقى المسلمان

ص 90

بسيفهما، فالقاتل في النار، وكذا المقتول، لأنه أراد قتل صاحبه. وقال - صلى الله عليه وآله -: (إذا التقى الصفان نزلت الملائكة تكتب الخلق على مراتبهم: فلا يقاتل للدنيا، لأن يقاتل حمية، فلا يقاتل عصبية ألا فلا تقولوا قتل فلان في سبيل الله إلا لمن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا) وقال (ص): (من تزوج امرأة على صداق وهو لا ينوي أداءه فهو زان، ومن استدان دينا وهو لا ينوي قضاءه فهو سارق، ومن تطيب لله تعالى جاء يوم القيامة وريحه أطيب من المسك، ومن تطيب لغير الله جاء يوم القيامة وريحه أنتن من الجيفة (50)، وكل ذلك مجازات على حساب النية. وقال الصادق (ع): (إن العبد المؤمن الفقير ليقول: يا رب! أرزقني حتى أفعل كذا وكذا من البر ووجوه الخير، فإذا علم الله - عز وجل - ذلك منه بصدق النية كتب له من الأجر مثلما يكتب له لو عمله، إن الله واسع كريم،). وسئل (ع) عن حد العبادة التي إذا فعلها فاعلها كان مؤديا، فقال: (حسن النية بالطاعة). وقال (ع): (وإنما خلد أهل النار في النار لأن نياتهم كانت في الدنيا أن لو خلدوا فيها أن يعصوا الله - تعالى - أبدا، وأنما خلد أهل الجنة في الجنة لأن نياتهم كانت في الدنيا أن لو بقوا فيها أن يطيعوا الله أبدا، فبالنيات خلد هؤلاء وهؤلاء، ثم تلا قوله - تعالى -: (قل كل يعمل على شاكلته) (1). قال: على نيته) (2) وأمثال هذه الأخبار أكثر من أن تحصى، وأي شبهة في أن عماد الأعمال النيات، والعمل مفتقر إلى النية ليصير خيرا، والنية في نفسها خير وإن تعذر العمل، وعون الله - تعالى - للعبد على قدر النية فمن تمت نيته تم عون الله له، وإن نقصت نقص بقدره، فرب عمل صغير تعظمه، النية، ورب عمل كبير تصغره النية وكذلك كان السلف يتعلمون النية للعمل كما يتعلمون العمل، ونقل: (أن بعض المرتدين يطوف على العلماء ويقول: من يدلني على عمل لا أزال فيه عاملا لله - تعالى -، فإني لا أحب أن

(هامش)

(50) صححنا النبويات كلها على إحياء العلوم: 4 / 310، 311، 317، باب فضيلة النية. (1) الإسراء الآية: 84. (2) صححنا الأخبار كلها على أصول الكافي - الجزء الثاني، باب النية -. (*)

ص 91

تأتي علي ساعة من ليل أو نهار ألا وأنا عامل من عمال الله - تعالى -. فقال له بعض العلماء: أنت قد وجدت حاجتك، فاعمل الخير ما استطعت، فإذا فترت أو تركته فهم بعمله، إذ من هم بعمل الخير كمن يعمل به). ثم السر في مجازاة الأعمال على حسب النية، وكون النية حقيقة العمل وعمادا وروحا له: إن العمل من حيث هو عمل لا فائدة فيه، وإنما فائدته للأثر الذي يصل منه إلى النفس من النورانية والصفاء ولا يزال يتكرر وصول هذا الأثر من الأعمال إليها حتى تحصل لها غاية الضياء والصفاء، فيحصل لها التجرد التام وينخرط في سلك الملائكة، ولا ريب في أن وصول هذا الأثر من الأعمال إنما هو مع صحة النية وخلوصها، وكونها لله - سبحانه - من دون شوب الأغراض، بل التأمل يعطي أن هذا الأثر إنما هو حقيقة من محض النية، وإن كانت حادثة لأجل العمل.

فصل عبادة الأحرار والاجراء والعبيد

قد ظهر مما ذكر: أنه لا يحسب من عبادة الله ولا يعد من طاعة الله بحيث يترتب عليه الأجر في الآخرة إلا ما يراد التقرب إلى الله والدار الآخرة أي يراد به وجه الله من حيث هو، من دون غرض آخر من الأغراض الدنيوية، أو يراد به التوصل إلى ثوابه، أو الخلاص من عقابه، فمن أراد بعبادته محض وجه الله وأخلصها له لكونه أهلا للعبادة، ولمحبته له لما عرفه بجلاله وجماله وعظمته ولطف فعاله، فأحبه واشتاق إليه، ولا يريد سواه ولا يبتهج بغير حبه وأنسه والاستغراق في لجة شهوده، فيفرح بعبادته وتوجيه قلبه إليه بطاعته: فجزاءه أن يحبه الله ويجتبيه، ويقربه إلى نفسه وبدنه قربا معنويا ودنوا روحانيا، كما قال في حق بعض من هذا صفته: (وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب) (3). وإلى هذه المرتبة أشار أمير المؤمنين (ع) بقوله: (إلهي ما عبدتك خوفا من نارك ولا طمعا في جنتك، ولكن وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك).

(هامش)

(3) ص، الآية: 25، 40. (*)

ص 92

وأما من غرضه نيل الثواب والخلاص من العقاب، نظرا إلى أنه لم يعرف من الله سوى كونه إلها صانعا للعالم قادرا قاهرا عالما، وإن له جنة ينعم بها المطيعين، ونارا يعذب بها العاصين، فعبده ليفوز بجنته أو يتخلص من ناره: فجزاءه بمقتضى نيته أن يدخل جنته، وينجيه من ناره، لأن جزاء الأعمال حسب النيات، كما أخبر الله - تعالى - عنه في غير موضع من كتابه، فإن لكل امرء ما نوى، ولا تصغي إلى قول من ذهب إلى بطلان العبادة إذا قصد بفعلها الثواب أو الخلاص من العقاب زعما منه أن هذا القصد منافي للخلاص الذي هو أراد وجه الله وحده، أن من قصد ذلك أنما قصد جلب النفع إلى نفسه، ودفع الضرر عنها، لا وجه الله - سبحانه -، فإن هذا قول من لا معرفة له بحقائق التكاليف ومراتب الناس فيها، بل ولا معرفة له بمعنى النية وحقيقتها، فإن حقيقة النية عبارة من انبعاث النفس وميلها وتوجهها إلى ما فيه غرضها ومطلبها، إما عاجلا أو آجلا، لا مجرد قول الناوي عند العبادة: أفعل كذا قربة إلى الله، ومجرد تصور هذا القول بخاطره وملاحظته بقلبه وأن لم يكن لنفسه انبعاث إلى التقرب، هيهات هيهات! أنما هذا تحريك لسان وحديث نفس، وما ذلك إلا كقول الشبعان: أشتهي هذا الطعام، قاصدا حصول الاشتهاء، وهذا الانبعاث إذا لم يكن حاصلا للنفس لا يمكنها اختراعه واكتسابه لمجرد القول والتصور، وأكثر الناس تتعذر منهم العباد ابتغاء لوجه الله وتقربا إليه، لأنهم لا يعرفون من الله - تعالى - إلا المرجو والمخوف، فغاية مرتبتهم أن يتذكروا النار ويحذروا أنفسهم عقابا، ويتذكروا الجنة ويرغبوا أنفسهم ثوابها، وخصوصا من كان ملتفتا إلى الدنيا، فإنه قل ما تنبعث له داعية إلى فعل الخيرات لينال بها ثواب الآخرة، فضلا عن عبادته على نية أجلال الله - تعالى - لاستحقاقة الطاعة والعبودية، فإنه قل من يفهمها فضلا عمن يتعاطاها، فلو كلف بها لكان تكليفا بما لا يطاق، وليس معنى الإخلاص في العبادة إلا عدم كونها مشبوهة بشوائب الدنيا والحضور العاجلة للنفس، كمدح الناس، ونيل المال، والخلاص من النفقة لعتق العبد ونحو ذلك، وظاهر أنه لا تنافيه إرادة الجنة والخلاص من النار بما وعد في الآخرة، وإن

ص 93

كان من جنس المألوف في الدنيا، ولو كان مثل هذه النيات مفسدة للعبادات لكان الترغيب والترهيب والوعد والوعيد عبثا، إذ كل ما وعد به الجنة وأوعد عليه النار مما رغب ووعد به ورهب وأوعد عليه، وما ورد في الترغيب والترهيب والوعد والوعيد من الآيات والأخبار أكثر من أن يحصى قال الله - سبحانه -: (ويدعوننا رغبا ورهبا) (4). ثم كيف يمكن للعبد الضعيف الذليل المهين الذي لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ولا موتا ولا حياة ولا شيئا مما ينفعه ويؤذيه، أن يستغني عن جلب النفع لنفسه أو دفع الضرر عنها من مولاه. ومن تأمل يجد أن القائل ببطلان العبادة بإحدى النيتين ترجع النية الصحيحة في عبادته إلى إحداهما وهو لا يشعر به. ومما يدل صريحا على ما ذكرناه قول الصادق (ع): (العباد ثلاثة: قوم عبدوا الله - عز وجل - خوفا، فتلك عبادة العبيد. وقوم عبدوا الله - تبارك وتعالى - طلب الثواب، فتلك عبادة الأجراء. وقوم عبدوا الله - عز وجل - حبا له فتلك عبادة الأحرار، وهي أفضل العبادة) (5). وهذا يدل على أن العبادة على الوجهين الأولين لا تخلو من فضل أيضا، فضلا عن أن تكون صحيحة. نعم لا ريب في أن العبادة على الوجه الأخير لا نسبة لمنزلتها ودرجتها إلى درجة العبادة على الوجهين الأولين، فإن من تنعم بلقاء الله والنظر إلى وجهه الكريم، يسخر ممن يلتفت إلى وجه الحور العين كما يسخر المتنعم بالنظر إلى وجه الحور العين بالملتفت إلى الصور المصنوعة من الطين، وكما يسخر المتنعم بالنظر إلى وجه النساء الجميلة بالخنفساء التي تعرض عن النظر إلى وجوههن وتلتفت إلى صاحبتها وتألف بها، بل هذه أمثلة أوردناها من باب الاضطرار، إذ التفاوت بين جمال الحضرة الربوبية وجمال الحور العين أو النسوان الجميلة أعظم كثيرا من التفاوت بين جمال الحور العين والصور المصنوعة من الطين وبين جمال

(هامش)

الأنبياء، الآية: 90. (5) صححنا الرواية على أصول الكافي: الجزء الثاني، باب العبادة (*)

ص 94

النسوان الجميلة والخنفساء، كيف والتفاوت في الثاني متناه وفي الأول غير متناه، وأي نسبة للمتناهي إلى غير المتناهي؟

فصل نية المؤمن خير من العمل

لما عرفت أن النية روح العمل وحقيقته، وتوقف نفع العمل عليها دون العكس، وكون الغرض الأصلي من العمل تأثير القلب بالميل إلى الله تعالى وتوقفه على النية، فهي خير من العمل، بمعنى أن العمل إذا حلل إلى جزئية يكون جزؤه القلبي - أعني النية - خيرا من جزئه الجسماني - أعني ما يصدر من الجوارح -، والثواب المترتب عليه أكثر من الثواب المترتب عليه، ولذا قال الله - سبحانه: (لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم) (6). فإن المقصود من إراقة دم القربان ميل القلب عن حب الدنيا، وبذلها إيثارا لوجه الله، دون مجرد الدم واللحم، وميل القلب إنما يحصل عند جزم النية والهم، وإن عاق عن العمل عائق، (فلن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم)، والتقوى صفة القلب، ولذا ترى أن المجامع امرأته على قصد أنها غيرها آثم، بخلاف المجامع غيرها على أنها امرأته، ولذا ورد: أن من هم بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة، لأن هم القلب هو ميله إلى الخير وانصرافه عن الهوى، وهو غاية الأعمال الحسنة، وإنما الإتمام بالعمل يزيدها تأكيدا. وبما ذكر ظهر معنى الحديث المشهور: (نية المؤمن خير من عمله، ونية الكافر شر من عمله). وكل عامل يعمل على نيته. وحاصله: إن كل طاعة تتضمن نية وعملا، وكل منهما من جملة الخيرات، وله أثر في المقصود، وتكون النية خيرا من العمل وأثرها أكثر من أثره. والغرض: أن للمؤمن اختيارا في النية وفي العمل، فهما عملان، والنية من الجملة خيرهما، أي النية التي هي جزء من طاعته خير من عمله الذي هو جزؤها الآخر.

(هامش)

(6) الحج، الآية: 37. (*)

ص 95

فإن قيل: ما ذكرت لا يفيد أزيد من أن العمل إذا كان مع النية يكون كل من العمل والنية خيرا وذا ثواب، وإذا كان بدونها لا يكون خيرا ولا يكون له ثواب، والمقصود كون النية خيرا من العمل في الصورة الأولى وكون ثوابها أعظم، ولم يظهر وجه الخيرية مما ذكرت. قلت: ذلك وإن ظهر إجمالا، إلا أنه لا بد لتوضيحه لتظهر جلية الحال، فنقول: الوجه في كون النية خيرا من العمل وراجحة عليه في الثواب: أنه لا ريب في أن المقصود من الطاعات شفاء النفس وسعادتها في الآخرة وتنعمها بلقاء الله - سبحانه -، والوصول إلى اللقاء موقوف على معرفة الله وحبه وأنسه، وهي موقوفة على دوام الفكر والذكر الموجبين لانقطاع النفس من شهوات الدنيا وتوجهها إلى الله - سبحانه -، فإذا حصل بمجرد المعرفة الحاصلة من الفكر ميل وتوجه إلى الله - تعالى - كان ضعيفا غير راسخ وإنما يترسخ ويتأكد بالمواظبة على أعمال الطاعات وترك المعاصي بالجوارح لأن بين النفس وبين الجوارح علاقة يتأثر لأجلها كل واحد منها عن الآخر، فيرى أن العضو إذا أصابته جراحة تتألم بها النفس، وإن النفس إذا تألمت بعلمها بموت عزيز أو بهجوم أمر مخوف تأثرت الأعضاء وارتعدت الفرائص، فالطاعات التي هي فعل الجوارح إنما شرعت للتوصل بها إلى صفة النفس - أعني التوجه والميل إلى الله سبحانه -، فالنفس هو الأصل المتبوع والأمير، والجوارح كالخدم والأتباع، وصفات القلب هي المقصود لذاتها، وأفعال الجوارح هي المطلوبة بالعرض، لكونها مؤكدة وموجبة لرسوخ النفس - أعني الميل والنية والتوجه - ولا ريب في أن ما هو المقصود بالذات خير مما هو مقصود بالعرض، وثوابه أعظم من ثوابه. ومن المعاني الصحيحة للحديث: إن المؤمن بمقتضى إيمانه ينوي خيرات كثيرة لا يوفق لعملها، إما لعدم تمكنه من الوصول إلى أسبابها، أو لعدم مساعدة الوقت على عملها، أو لممانعة رذيلة نفسانية عنها بعد الوصل إلى أسبابها، كالذي ينوي إن آتاه الله مالا ينفقه في سبيله، ثم لما آتاه يمنعه البخل عن الإنفاق، فهذا نيته خير من عمله، وأيضا المؤمن ينوي دائما أن

ص 96

تقع عباداته على أحسن الوجوه، لأن إيمانه يقتضي ذلك، ثم إذا اشتغل بها لا يتيسر له ذلك، ولا يأتي بها كما يريد، فما ينويه دائما خير مما يعمل به في كل عبادة. وإلى هذا أشار الباقر (ع) حيث قال: (نية المؤمن خير من عمله وذلك لأنه ينوي الخير ما لا يدركه، ونية الكافر شر من عمله، وذلك لأن الكافر ينوي الشر ويأمل من الشر ما لا يدركه). وقيل للصادق (ع): سمعتك تقول: نية المؤمن خير من عمله، فكيف تكون النية خير من العمل؟ قال عليه السلام: (لأن العمل إنما كان رياء للمخلوقين، والنية خالصة لرب العالمين، فيعطي - عز وجل - على النية ما لا يعطي على العمل)، ثم قال: (إن العبد لينوي من نهاره أن يصلي بالليل فتغلبه عينه فينام، فيثبت الله له صلاته ويكتب نفسه تسبيحا ويجعل نومه صدقة). وبعض الأخبار المتقدمة يعضد ذلك ويؤكده أيضا. وقيل: معنى الحديث: (إن النية بمجردها خير من العمل بمجرده بلا نية). وفيه: إن العمل بدون النية لا يتصف بالخيرية أصلا، فلا معنى للترجيح في الخيرية، وقيل: سبب الترجيح: (إن النية سر لا يطلع عليه إلا الله، والعمل ظاهر، وفعل السر أفضل) وهذا وإن كان في نفسه صحيحا، إلا أنه ليس مرادا من الحديث، لأنه لو نوى أحد أن يذكر الله - تعالى - بقلبه أو يتفكر في مصالح المؤمنين، كانت نيته بمقتضى عموم الحديث خيرا من العمل الذي هو الذكر والتفكر مع اشتراك النية والعمل في السرية، وبداهة كون الذكر والتفكر خيرا من نيتهما.

فصل النية غير اختيارية

النية غير داخلة تحت الاختيار، وذلك لما عرفت من أنها انبعاث النفس وتوجهها وميلها إلى ملائم ظهر لها أن فيه غرضها إما عاجلا أو آجلا، وهذا الميل إذا لم يكن حاصلا للنفس لم يكن اختراعه واكتسابه بمجرد الإخطار بالبال والاجراء على اللسان، بل ذلك كقول الشبعان: نويت أن أشتهي الطعام وأميل إليه، أو قول الفارغ: نويت أن أعشق فلانا وأحبه، فلا طريق إلى اكتساب صرف القلب إلى الشيء وميله إليه وتوجهه نحوه، إلا باكتساب أسبابه،

ص 97

وذلك مما قد يقدر عليه وقد لا يقدر عليه، وأنما قد تنبعث النفس إلى الفعل إجابة للغرض الباعث، الموافق للنفس الملائم لها، وما لم يعتقد الإنسان أن غرضه منوط بفعل من الأفعال فلا يتوجه قصده نحوها، وذلك مما لا يقدر على اعتقاده دائما، وإذا أعتقد فإنما يتوجه القلب إذا كان فارغا غير مصروف عنه بغرض شاغل أقوى منه، وذلك لا يمكن في كل وقت، والدواعي والصوارف لها أسباب كثيرة بها، تجتمع وتختلف ذلك بالأشخاص والأحوال والأعمال فإذا غلبت شهوة النكاح ولم يعتقد غرضا صحيحا في الولد لم يمكنه أن يتزوج على نية الولد، بل لا يمكن إلا على نية قضاء الشهوة، إذ النية إجابة الباعث، ولا باعث إلا الشهوة فكيف ينوي الولد، ولذا كان أهل السلوك من السلف كثيرا ما يمتنعون عن جملة من الطاعات إذا لم تحضرهم النية، وكانوا يقولون: ليس تحضرني نية، وذلك لعلمهم بأن النية روح الأعمال وقوامها، وإن العمل بغير نية صادقة رياء وتكلف وسبب مقت لا سبب قرب وروي: (أنه أتى الصادق (ع) مولى له، فسلم عليه وجلس، فلما انصرف (ع) انصرف معه الرجل، فلما انتهى إلى باب داره دخل وترك الرجل فقال له ابنه إسماعيل يا أبة! ألا كنت عرضت عليه الدخول؟ فقال: لم يكن من شأني إدخاله، قال: فهو لم يكن يدخل، قال: يا بني! إني أكره أن يكتبني الله عراضا).

تتميم الطريق في تخليص النية

الطريق في تخليص النية في الطاعات تقوية أيمانه بالشرع، وتقوية أيمانه بعظم ثواب الطاعات مع خلوص النية، وإذا قوي إيمانه فربما انبعث من نفسه رغبة إلى فعل الطاعة مع خلوص النية مثلا من لم تكن له نية الولد في النكاح بل كانت نيته فيه مجرد قضاء الشهوة فينبغي له أن يقوي أيمانه بعظم ثواب من سعى في تكثير أمة محمد (ص)، ويدفع عن نفسه جميع المنفرات عن الولد، كثقل المؤونة وطول المتعب وغيره، وإذا فعل ذلك انبعث من نفسه رغبة إلى تحصيل الولد للثواب.

ص 98

ومنها:

الكراهة

وهي نفرة الطبع عما لا يخلو عن إيلام وأتعاب، فإذا قويت سميت مقتا. وضدها الحب، وهو ميل الطبع إلى الشيء الملذ، فإن تأكد ذلك الميل وقوي سمي عشقا. إعلم أن عدم الرغبة والغفلة والكراهة والبعد أمور متناسبة مترتبة بعضها على بعض، وكذا أضدادها - أعني الشوق والنية والحب والأنس - أمور متناسبة يترتب بعضها على بعض، فنحن هنا نشير إجمالا إلى معانيها والفرق بينها، ثم نذكرها مفصلة على الترتيب. فنقول: قد عرفت أن الغفلة والنية ضدان، وهما عبارتان عن عدم انبعاث النفس وانبعاثها إلى ما فيه غرضها الملائم إما عاجلا أو آجلا، وأما عدم الرغبة والشوق فهما أيضا ضدان ومبدآن للغفلة والنية. بيان ذلك: إن معنى عدم الرغبة ظاهر، والشوق عبارة عن الرغبة إلى الشيء الذي لم يصل إليه وكان مفقودا عنه بوجه، فالشوق لا يخلو عن ألم المفارقة، ولو زالت المفارقة وحصل الوصال انتفى الشوق. ثم فرق الشوق عن النية ظاهر، فإن الشوق مجرد الرغبة إلى الشيء من دون اعتبار انبعاث النفس إلى طلبه في مفهومه، والنية هي الانبعاث المذكور، فالشوق مبدأ النية، والنية مترتبة عليه، وبذلك يظهر الفرق بين ضديهما أيضا - أعني عدم الرغبة والغفلة. وأما (الكراهة والحب): فقد عرفت أنهما عبارتان عن نفرة الطبع عن المؤلم، وعن ميله إلى الملذ، سواء انبعثت النفس عن طلبه أم لا، وبهذا يفترق الحب عن النية، فإن النية هي انبعاث النفس، وهو مغاير لمجرد الميل بل الميل منشأ للانبعاث، وسواء حصل الوصول إلى الملذ أم لا، وبهذا يفترق عن الشوق فإن الشوق يعتبر في مفهومه عدم الوصول، فالشوق والنية والإرادة لا ينفكان عن الحب والحب يكون مقارنا لهما البتة، فإذا حصل الوصول إلى المطلوب زال الشوق والإرادة وبقي الحب بدونهما. وبما ذكر يظهر الفرق بين الكراهة وبين عدم الرغبة والغفلة. وأما (الأنس): فهو عبارة عن استبشار النفس بما يلاحظ من المطلوب المحبوب بعد الوصول واستحكامه ورسوخه والبعد عبارة عن عدم

ص 99

الوصول إلى المحبوب أو الوصول إلى ما لا يستبشر ولا يبتهج بملاحظته، لعدم الرغبة إليه أو للتنفر عنه، فالحب منشأ الأنس، والأنس يترتب عليه وهو غاية المحبة فلا يخلو أنس عن المحبة والمحبة قد تكون بدونه، ثم المطلوب المحبوب قد يكون مطلوبا للقوة العاقلة، كالعلم بحقائق الأشياء، وقد يكون مطلوبا للقوة الغضبية، كالاستيلاء والغلبة، وقد يكون مطلوبا للقوة الشهوية كالمال والأزواج، وعلى كل تقدير تكون الأمور - أعني عدم الرغبة والغفلة والكراهة والبعد - وأضدادها - أعني الشوق والإرادة والحب والأنس - متعلقة بتلك القوة، معدودة من رذائلها أو فضائلها. ثم المحبوب إن كان مما يستحسن حبه وطلبه شرعا وعقلا، كان ما يتعلق به من الشوق والإرادة والحب والأنس من الفضائل وأضدادها من الرذائل، إن كان مما يذم حبه وطلبه شرعا وعقلا كان بالعكس.

فصل الشوق

- أفضل مراتب الشوق الشوق إلى الله - تعلق الحب بجميع القوى - أقسام الحب بحسب مباديه - لا محبوب حقيقة إلا الله - الشهود التام هو نهاية درجات العشق - سريان الحب في الموجودات - رد المنكرين لحب الله - معرفة الله أقوى سائر اللذات - تحقيق رؤية الله في الآخرة ولذة لقائه - الطريق إلى الرؤية واللقاء - تفاوت المؤمنين في محبة الله - الواجب أظهر الموجودات - علائم محبة الله - معنى حب الله لعبده - الحب في الله والبغض في الله - الوفاء في الحب - الأنس - الأنس قد يثمر الإدلال. قد تقدم تفصيل الكلام في النية والغفلة. * * * وأما الشوق، فنقول في بيانه: قد عرفت أن الشوق عبارة عن الميل والرغبة إلى الشيء عند غيبته، فإن الحاصل الحاضر لا يشتاق إليه، إذ الشوق طلب يسوق إلى نيل أمر، والموجود لا يطلب، فالشوق لا يتصور إلا إلى شيء أدرك من وجه ولم يدرك من وجه، فما لا يدرك أصلا لا يشتاق إليه، إذ لا يتصور أن يشتاق أحد إلى شخص لم يره ولم يسمع وصفه، وما أدرك بكماله لا يشتاق إليه أيضا، إذ المداوم لمشاهدة المحبوب والواصل إليه من

ص 100

جميع الوجوه لا يتصور أن يكون له شوق، فالشوق يختص تعلقه بما أدرك من وجه دون وجه، وهذا إنما يكون بأحد وجهين: (أحدهما) أن يتضح الشيء اتضاحا ما، ولم يستكمل الوضوح، فاحتاج إلى استكماله فيكون الشوق إلى ما بقي من المطلوب مما لم يحصل. مثال ذلك: إن من غاب عنه معشوقه، وبقي في قلبه خياله، يشتاق إلى استكمال خياله بالرؤية، ومن رأى معشوقه في ظلمة، بحيث لا تنكشف له حقيقة صورته، يشتاق إلى استكمال رؤيته بإشراق الضوء عليه، فلو رآه بتمام الرؤية انتفى الشوق، كما إنه لو انمحى عن قلبه ذكره وخياله ومعرفته حتى نسيه لم يعقل وجوده. (وثانيهما) أن يدرك بعض كمالات المحبوب، ووصل إليه، وعلم إجمالا أن له كمالات أخر، ولم يدركها ولم يصل إليها، فيكون له شوق إلى إدراك تلك الكمالات. مثال ذلك: أن يرى وجه محبوبه، ولا يرى شعره ولا سائر أعضائه، فيشتاق إلى رؤية ذلك.

فصل أفضل مراتب الشوق الشوق إلى الله

أفضل مراتب الشوق هو الشوق إلى الله - سبحانه - وإلى لقائه، وهي المضنة إلى الوصول إليه، وإلى حبه وأنسه والتقرب لديه، وهو رأس مال السالكين، ومفتاح أبواب السعادة للطالبين، والوجهان الموجبان للشوق متصوران في حق الله، بل هما ثابتان وملازمان لجميع العارفين، فلا يخلو عارف من الشوق إلى الله: أما الوجه الأول، فلأن ما اتضح للعارفين مع الأمور الآلهية وأن بلغ غاية الوضوح، فكأنه من وراء ستر رقيق، فلا يكون متضحا غاية الاتضاح بل يكون مشوبا بشوائب التخيلات المكدرة للمعلومات والمانعة عن ظهورها اليقيني، (لا) سيما إذا انضاف إليها شواغل الدنيا، فكمال الوضوح في الأمور الآلهية إنما هو بالمشاهدة وإشراق التجلي، ولا يكون ذلك في هذا العالم، بل يكون في الآخرة، فهذا أحد الموجبين لشوق العارفين إلى الله

ص 101

- سبحانه - وهو الشوق إلى استكمال الوضوح فيما اتضح اتضاحا ما. وأما الثاني، فلأن الأمور الإلهية لا نهاية لها، وإنما ينكشف لكل عارف، بعضها، وتبقى أمور متناهية خفية عنه، والعارف إجمالا وجودها وكونها معلومة لله - تعالى - ويعلم أن ما غاب عن علمه من المعلومات أكثر مما حضر، فلا يزال متشوقا إلى أن يحصل له من المعلومات المتعلقة بعظمة الله وجلاله وصفاته وأفعاله بما لا يعرفها أصلا، لا مع الوضوح ولا مع الإبهام والاجمال. والشوق الأول ربما انتهى في الآخرة إذا حصل الشهود واللقاء المعنوي لأجل استخلاص النفس من موانع الطبيعة وقشوراتها وحصول التجرد التام لها، وأما الشوق الثاني فلا يمكن أن ينتهي في الدنيا ولا في الآخرة، إذ نهاية ذلك أن ينكشف للعبد في الآخرة من عظمة الله وكبريائه وجلاله وصفاته وأحكامه وأفعاله ما هو معلوم لله - تعالى - وهو محال، إذ معلومات الله المتعلقة بذاته وصفاته وأفعاله غير متناهية قوة وشدة وعدة، فتمتنع إحاطة الإنسان بها، فلا يزال العبد عالما بأنه قد بقي من جلال الله وعظمته ومن صفته وفعله ما لم يتضح له، فلا يسكن قط شوقه وما من عبد إلا ويرى فوق درجته درجات كثيرة لا نهاية لها فيشتاق إليها ألبتة، وإذا كان أصل الوصال واللذة حاصلا، فربما كان الشوق إلى المراتب التي فوق مرتبتها شوقا لذيذا لا يظهر فيه ألم، وربما كانت لطائف الكشف والبهجة ودرجاتهما متوالية إلى غير نهاية وتحصل للعبد هذه الدرجات في الآخرة على التدريج، فلا يزال العبد يتصاعد ويترقى إليها، ولا يزال النعيم واللذة تتزايد له أبد الآباد من غير انقطاع له، وتكون لذة ما يتجدد من لطائف النعيم شاغلا له عن الاحساس بالشوق إلى ما لم يحصل له ألمه، فإن أمكن في الآخرة حصول الكشف فيما لم يحصل فيه كشف في الدنيا، لكان حصول المعارف والابتهاجات والأنوار وتجددها في الآخرة ممكنا، وإن لم يكتسب أصلها في الدنيا فيتجدد ويتوارد على العبد في الآخرة على الدوام والاستمرار من دون أن ينتهي إلى حد. وربما كان قوله - تعالى -: (نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا) (7): إشارة إلى هذا المعنى، ويكون المراد به إتمام النور في عين ما استنار

(هامش)

(7) التحريم، الآية: 8. (*)

ص 102

في الآخرة استنارة محتاجة إلى الظهور، ثم إلى زيادة الاستكمال والإشراق وأن أختص حصول نعم للآخرة وأنوارها وابتهاجاتها على النعم التي تزود من أصلها ولم يحصل للعبد ما لم يكتسب في الدنيا أصله من الأنوار والابتهاجات، فيكون ترقي العبد في الآخرة في ازدياد الابتهاج والإشراق فيما حصل له أصله، وعلى هذا، فربما انتهى إلى حد ووقف هناك ولا يتضاعف، وقوله تعالى: (نورهم يسعى... إلى آخر الآية) يحتمل لهذا المعنى أيضا، بأن يكون المراد طلب إتمام نور تزود من الدنيا أصله. (قيل): وقوله تعالى: (أنظرونا نقتبس من نوركم قيل أرجعوا وراءكم فالتمسوا نورا) (8): يدل على أن الأنوار لا بد أن يتزود أصلها في الدنيا، ثم يزداد في الآخرة إشراقا، فأما أن يتجدد نور لم يكتسب أصله في الدنيا فلا. ثم لا يخفى أن تعيين الأصل والفرع الأنوار والابتهاجات ومراتب الآخرة عندنا مشكل، وليس لنا طريق إلى القطع بأن أي شيء أصل لأي نور وبهجة، وربما كان المضنون عندنا: إن أصل كل نور وسعادة وبهجة هو اليقين القطعي الإجمالي بأن الواجب سبحانه في غاية العظمة والجلال والقدرة والكمال، وأنه تام فوق التمام، وكل ما سواه من المهيات الموجودة صادرة عنه على أشرف أنحاء الصدور وأقواها وأدلها على العظمة، وأنه لا موجود ولا شيء إلا الواجب وصفاته وأفعاله، وإن ذاته الأقدس ذات لا يمكن أن يكون لذهن من الأذهان العالية، ولا لمدرك من المدارك المتعالية عقلا كان أو نفسا أو غيرهما، لو أمكن أن يكون مدركا، أن يدرك في لحاظ التعقل ذاتا يمكن أن تكون فوقه أو مثله، بل كلما تصور أجمالا فهو فوقه، وكذا صفاته الكمالية وأفعاله، وأن صفاته الكمالية: من عظمته، وجلاله، وقدرته، وجماله، وعلمه، وحكمته، وغير ذلك غير متناهية، وليس لها حد وغاية، وما تعلق به علمه من مخلوقاته لا نهاية له كثرة وقوة وكمالا، وأن له من المراتب الغير متناهية من العظمة والجلال ما لا يطيق أشرف الموجودات وأقواها لإدراك أولها، فمن عرف ذلك وتيقن به، وعلم

(هامش)

(8) الحديد، الآية: 13. (*)

ص 103

إن هذا العالم وما فيه لا نسبة له إلى عالم الآخرة وما فيه ، وأن ألطافه ومزاياه إلى عباده الذين عرفوا نسبتهم إليه ، وتيقنوا بأن لا شرافة ولا كمال للنفوس والعقول فوق معرفة ربهم والتقرب إليهم والوصول إلى حبه وأنسبه ، فقد وصل إلى أصل كل سعادة ونور وبهجة ، لا سيما إذا دفع عن نفسه ذمائم الأخلاق واتصف بفضائله . وقد ظهر مما ذكر : أنه لا ريب في ثبوت الشوق للعباد إلى الله سبحانه . والعجب ممن أنكر حقيقة الشوق إلى الله سبحانه لإنكاره المحبة له كما يأتي ، إذ لا يتصور الشوق إلا إلى المحبوب ، وقد عرفت ثبوته من حيث النظر والاعتبار . ولا ريب في ثبوته أيضا من الآيات والأخبار : قال الله سبحانه : ( فمن كان يرجو لقاء ربه . . . ) إلى آخر الآية ( 9 ) . فإن الرجاء لا ينفك عن الشوق . وقال رسول الله ( ص ) في دعاءه : ( اللهم إني أسئلك الرضاء بعد القضاء ، وبرد العيش بعد الموت . ولذة النظر إلى وجهك الكريم ، وشوقا إلى لقائك ) . وفي بعض الكتب السماوية : ( طال شوق الأبرار إلى لقائي ، وأنا إلى لقائهم لأشد شوقا ) . وفي أخبار داود ( ع ) : ( إني خلقت قلوب المشتاقين من نوري ، ونعمتها بجلالي ) . وفيها أيضا : ( أنه تعالى أوحى إلى داود : يا داود ! إلى كم تذكر الجنة ولا تسألني الشوق إلي ؟ قال : يا رب ! من المشتاقون إليك ؟ قال : أن المشتاقين إلي الذين صفيتهم من كل كدر ، ونبهتهم بالحذر ، وخرقت من قلوبهم إلي خرقا ينظرون إلي ، وإني لأحمل قلوبهم بيدي فأضعها على سمائي ، ثم أدعو بملائكتي ، فإذا اجتمعوا سجدوني ، فأقول : إني لم أجمعكم لتسجدوني ، ولكن دعوتكم لأعرض عليكم قلوب المشتاقين إلي ، وأباهي بهم إياكم ، فإن قلوبهم لتضئ في سمائي لملائكتي كما تضئ الشمس لأهل الأرض ، يا داود ! إني خلقت قلوب المشتاقين من رضواني ، ونعمتها بنور وجهي فاتخذتهم لنفسي محدثين ، وجعلت أبدانهم موضع نظري إلى الأرض ، وقطعت من قلوبهم طريقا ينظرون به إلي ، يزدادون في كل يوم شوقا ) . وأوحى الله إليه أيضا : ( يا داود ! لو يعلم المدبرون عني كيف

(هامش)

( 9 ) الكهف ، الآية : 111 . ( * )

ص 104

انتظاري لهم ورفقي بهم وشوقي إلى ترك معاصيهم ، لماتوا شوقا إلي ، وتقطعت أوصالهم عن محبتي ) . وفي بعض الأخبار القدسية : ( إن لي عبادا يحبونني وأحبهم ، ويشتاقون إلي وأشتاق إليهم ، ويذكرونني وأذكرهم وأول ما أعطيتهم أن أقذف من نوري في قلوبهم ، فيخبرون عني كما أخبر عنهم ، ولو كانت السماوات والأرض وما فيهما في موازينهم لاستعد بها لهم ، وأقبل بوجهي عليهم ، لا يعلم أحد ما أريد أن أعطيه ) . وقال الصادق عليه السلام : ( المشتاق لا يشتهي طعاما ، ولا يلتذ شرابا ، ولا يستطيب رقادا ، ولا يأنس حميا ، ولا يأوي دارا ، ولا يسكن عمرانا ، ولا يلبس ثيابا ، ولا يقر قرار ، ويعبد الله ليلا ونهارا راجيا بأن يصل إلى ما يشتاق إليه ، ويناجيه بلسان الشوق معبرا عما في سريرته ، كما أخبر الله تعالى عن موسى بن عمران في ميعاد ربه بقوله : ( وعجلت إليك رب لترضى ) ، وفسر النبي ( ص ) عن حاله : ( إنه ما أكل ولا شرب ولا نام ، ولا اشتهى شيئا من ذلك في ذهابه ومجيئه أربعين يوما شوقا إلى ربه ) ، فإذا دخلت ميدان الشوق ، فكبر على نفسك ومرادك من الدنيا ، وودع جميع المألوفات ، واصرفه عن سوى مشوقك ، ولب بين حياتك وموتك : لبيك اللهم لبيك ! أعظم الله أجرك ، ومثل المشتاق مثل الغريق ، ليس له همة إلا خلاصه ، وقد نسي كل شئ دونه ) ( 10 ) . وما ورد في الأدعية المعصومية من طلب الشوق أكثر من أن يحصى ، والظواهر الآتية المثبتة للمحبة والأنس تثبت الشوق أيضا . وأما ( الكراهة والبغض وضدهما أعني الحب ) فنقول : قد عرفت أن الكراهة والبغض عبارة عن نفرة الطبع عن المؤلم المتعب ، والحب الذي هو ضدهما عبارة عن ميل الطبع إلى الملائم الملذ . وتوضيح ذلك : أنه لا يتصور حب إلا بعد معرفة وإدراك ، وكذلك لا يتصف بالحب جماد ولا يحب الإنسان ما لا يعرفه ولم يدركه ، فالحب من خاصية الحي الدراك ، بعد حصول الإدراك بالفعل . ثم لما كانت المدركات منقسمة إلى ما يوافق طبع المدرك ويلذه ، وإلى

(هامش)

( 10 ) صححنا الحديث على مصباح الشريعة : باب 99 ، ص 193 - 194 . ( * )

ص 105

ما يخالفه ويؤلمه ، وإلى ما لا يؤثر فيه بالذاذ وإيلام ، فالقسم الأول يكون مرغوبا عند المدرك ، ويسمى رغبة ، وميله إليه حبا ، والقسم الثاني يكون منفورا عنده ، وتسمى نفرته عنه كراهة وبغضا ، والثالث لا يوصف بميل وكراهة ، فلا يوصف بكونه محبوبا ، ولا مكروها . ثم اللذة لما كانت عبارة عن إدراك الملائم الملذ ونيله ، فالحب الذي هو الميل والرغبة إليه لا يخلو عن لذة محققة أو خيالية ، وعلى هذا فيمكن أن تعرف المحبة بأنها ابتهاج النفس بإدراك الملائم ونيله ، هذا فإنك قد عرفت أن المدرك إن كان مما يستحسن حبه شرعا وعقلا ، كان كراهته وبغضه من الرذائل وحبه من الفضائل وإن كان مما يذم حبه ، كان بالعكس من ذلك .

فصل تعلق الحب بجميع القوى

والحب والكراهة لما كانا تابعين للادراك ، فينقسمان بحسب انقسام القوة المدركة ، التي هي الحواس الظاهرة ، والحواس الباطنة ، والقوة العاقلة . فمن الحب ما يتعلق بالحواس الظاهرة ، بمعنى أن المحبوب مما هو مدرك وملذ عندها ، كالصور الجميلة المرئية ، والنغمات الموزونة ، والروائح الطيبة ، والمطاعم النفيسة ، والملبوسات اللينة بالنظر إلى الخمس الظاهرة . ومنه ما يتعلق بالحواس الباطنة ، بمعنى أن المحبوب مما هو مدرك وملذ عندها ، كالصور الملائمة الخيالية ، والمعاني الجزئية الملائمة بالنسبة إلى المتخيلة والواهمة . ومنه ما يتعلق بالعاقلة ، بمعنى أن المحبوب مما هو مدرك وملذ عندها ، كالمعاني الكلية ، والذوات المجردة . ولا ريب في أن العقلي من الحب واللذات أقوى اللذات وأبلغها ، إذ البصيرة الباطنة أقوى من البصيرة الظاهرة والعقل أقوى إدراكا وأشد غوصا ونفوذا في حقائق الأشياء وبواطنها من الحس ، وجمال المعاني المدركة بالعقل أعظم من جمال الصورة الظاهرة الحسنة ، فتكون لذة العقل وحبه بما يدركه من الأمور الشريفة الإلهية التي جلت عن إدراك الحواس أتم وأبلغ ، ولذا جعل رسول الله ( ص ) الصلاة أبلغ المحبوبات عنده في الدنيا ، حيث قال : ( حبب إلي من دنياكم ثلاث : ج : 3

 

الصفحة السابقة الصفحة التالية

جامع السعادات (ج3)

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب