ص 141
فمنهم من يحبه بكل قلبه. ومنهم من لا يحبه بكل قلبه، بل يحب معه غيره أيضا من الأهل
والولد والمال، فلا جرم يكون فرحه بلقاء الله عند القدوم عليه على قدر حبه وكراهته
لفراق الدنيا عند الموت على قدر حبه لها، وإن كانت كراهته للموت لأجل إرادته
الاستعداد والتهيؤ للقاء الله، ومشاهدته بتحصيل زيادة العلم والعمل، لا لحب الأهل
والمال، ولا للتأسف على فراق الدنيا، فهو لا يدل ضعف الحب ولا ينافي أصله، وهو
كالمحب الذي وصل إليه خبر قدوم حبيبه، فأحب أن يتأخر قدومه ساعة ليعمر داره ويفرشها
ويهيأ أسبابها، ليلقاه فارغ القلب عن الشواغل، وعلامة ذلك الجد في العمل، واستغراق
الهم في تحصيل المعرفة، والاستعداد للآخرة. الثانية - أن يؤثر مراد الله - سبحانه -
على مراده، إذ المحب لا يخالف هوى محبوبه لهوى نفسه، كما قيل: أريد وصاله ويريد
هجري * فأترك ما أريد لما يريد فمن كان محبا لله: يمتثل أوامره ويجتنب نواهيه،
ويحترز عن اتباع الشهوات، ويدع الكسالة والبطالة، ولا يزال مواضبا على طاعته
وانقياده ويكون مبتهجا متنعما بالطاعة ولا يشغلها، ويسقط عنه تعبها. وقد روي: (أن
زليخا لما آمنت، وتزوج بها يوسف (ع)، انفردت عنه، وتخلت للعبادة، وانقطعت إلى الله
- تعالى -، وكان يوسف يدعوها إلى فراشه نهارا فتدافعه إلى الليل، وإذا دعاها ليلا
سوفت إلى النهار، فعاتبها في ذلك فقالت يا رسول الله! إنما كنت أحبك قبل أن أعرف
ربك، فأما إذ عرفته فلا أؤثر على محبته محبة من سواه، وما أريد به بدلا). ثم الحق
أن العصيان يضاد كمال المحبة لا أصلها، ولذا قد يأكل الرجل المريض ما يضره، ويزيد
في مرضه مع أنه يحب نفسه، ويحب صحته، والسبب ضعف المعرفة وغلبة الشهوة، فيعجز عن
القيام بحق المحبة. الثالثة - ألا يغفل عن ذكر الله - سبحانه -، بل يكون دائما
مستهترا بذكره، إذ من أحب شيئا أكثر ضرورة ذكره وذكر ما يتعلق به فمحب الله لا يخلو
عن ذكر الله وذكر رسوله وذكر القرآن وتلاوته، لأنه كلامه، ويكون محبا للخلوة ليتفرد
بذكره وبمناجاته، ويكون له كمال
ص 142
الأنس والالتذاذ بمناجاته، وفي أخبار داود: (كذب من ادعى محبتي وإذا جنه الليل نام
عني، أليس كل محب يحب لقاء حبيبه، فها أنا ذا موجود لمن طلبني). الرابعة - ألا يحزن
ولا يتألم عن فقد شيء، ولا يفرح بوجود شيء سوى ما يقربه إلى الله أو يبعده عنه، فلا
ينبغي أن يحزن ويجزع في المصائب، ولا يسر بنيل المقاصد الدنيوية، ولا يتأسف على ما
يفوته إلا على ما فات منه من طاعة مقربة إلى محبوبه، أو على صدور معصية مبعدة، أو
على ساعة خلت عن ذكر الله والأنس به. الخامسة - أن يكون مشفقا رؤفا على عباد الله،
رحيما على أولياءه وشديدا على أعداء الله، كارها لمن يخالفه ويعصيه، إذ مقتضى الحب
الشفقة والمحبة لإحياء المحبوب والمنسوبين إليه، والبغض لأعدائه ومخالفيه. السادسة
- أن يكون في حبه خائفا متذللا تحت سلطان العظمة والجلال، وليس الخوف مضادا للحب،
كما ظن، إذ إدراك العظمة يوجب الهيبة وإدراك الجمال يوجب الحب، ولخصوص المحبين خوف
الأعراض، وخوف الحجاب وخوف الإبعاد، وخوف الوقوف، وسلب المزيد وقال بعض العرفاء:
(من عبد الله بمحض المحبة من غير خوف هلك بالبسط والإدلال، ومن عبده من طريق الخوف
من غير محبة انقطع عنه بالبعد والاستيحاش ومن عبده عن طريقهما أحبه الله، فقربه
ومكنه وعلمه). السابعة - كتمان الحب والشوق من إظهاره ومن إظهار الوجد واجتناب
الدعوى، تعظيما للمحبوب وإجلالا له، وهيبة منه وغيرة على سره، فإن الحب سر من أسرار
المحبوب، فلا ينبغي إفشاؤه، ولأنه ربما يدخل في الدعوى ما يجاوز حد الواقع، فيكون
من الافتراء، والتعظم به العقوبة في العقبى والبلية في الدنيا. نعم، ربما غشيته
سكرة في حبه، حتى يدهش فيها، وتضطرب أحواله، فيظهر عليه حبه من دون اختيار وتمحل.
فمثله معذور، لأنه تحت سلطان المحبة مقهور ومن عرف أن حصول حقيقة المعرفة والمحبة
التي تنبغي أن تكون في حق الله يستحيل أن يحصل لأحد وأن يطلع على ما اعترف عظماء
الإنسان - أعني الأنبياء والأولياء - من
ص 143
العجز والقصور، وإن صنفا واحدا من الأصناف الغير المتناهية من ملائكته ملائكة بعدد
جميع ما خلق الله من شيء، هم أهل المحبة لله، ما خطر على قلوبهم مذ خلقهم الله -
وهو ثلاثمائة ألف سنة قبل خلق العالم - سوى الله - سبحانه -، وما ذكروا غيره،
لاستحيي منه حق الحياء أن يعد ما عليه من المعرفة والمحبة معرفة ومحبة، وخرس لسان
عن التظاهر بالدعوى. وروي في بعض الأخبار: (أن بعض أهل الله سأل بعض الصديقين أن
يسأل الله - تعالى - أن يعطيه ذرة من معرفته، ففعل ذلك، فحار عقله وذهل لبه، ووله
قلبه، وهام في الجبال، وبقي شاخصا سبعة أيام، لا ينتفع بشيء ولا ينتفع به شيء، فسأل
له الصديق ربه أن ينقص بعض الذرة من المعرفة التي أعطاه، فأوحى الله - تعالى -
إليه: (إنا أعطيناه جزءا من مئة ألف جزء من ذرة من المعرفة، وذلك أن مئة ألف عبد
سألوني شيئا من المحبة في الوقت الذي سألني هذا، فأخرت إجابتهم إلى أن شفعت أنت
لهذا، فلما أجبتك فيما سألت أعطيتهم كما أعطيتك، فقسمت ذرة من المعرفة بين مئة ألف
عبد، فهذا ما أصابه من ذلك). فقال: سبحانك سبحانك! أنقصه مما أعطيته، فأذهب الله
عنه جملة ما أعطاه، وأبقى فيه عشر معشاره وهو جزء من عشرة آلاف جزء من مئة ألف جزء
من ذرة، فاعتدل خوفه وحبه ورجاؤه، وسكن، وصار كسائر الكمل من العارفين) (38). والحق
أن حقائق الصفات الإلهية أجل وأعظم من إدراك العقول البشرية، ولا يطيق أحد من الكمل
أن يتحمل لفهم جزء من الأجزاء الغير المتناهية منها فالوصول إلى ما عليه الحضرة
الربوبية من العظمة والجلال وسائر صفات الكمال في حيز المحال، (وما قيل أو يقال
فيه) وهم أو خيال فأين يحصل لأحد ما يليق به من المعرفة والمحبة؟ فلو أمكن أن تدخل
أمثال هذه العوالم المخلوقة من السماوات والأرضين وما فوقهما وأضعافهما بقدر غير
متناه في جوف خردلة، لأمكن أن تدخل في أعظم العقول ذرة من عظمته وجلاله، وغاية
المعرفة أن يعرف عظمته وقدرته وجلاله وعزته وسائر أوصافه الكمالية بأمثال هذه
العنوانات وتمثيلات، وهي أيضا لو ضوعفت إلى
(هامش)
(38) صححنا الرواية على (إحياء العلوم): 4 / 288. (*)
ص 144
غير النهاية في أزمنة غير متناهية، لكانت بيانات قاصرة، بل وهمية خيالية، فسبحان من
لا سبيل إلى معرفته إلا بالعجز عن معرفته!. ومن علامات المحبة الأنس والرضا كما
يأتي. وقد جمع بعض العارفين علامات المحب في أبيات، فقال: لا تخدعن فللمحب دلائل *
ولديه من تحف الحبيب وسائل منها تنعمه بمر بلائه * وسروره في كل ما هو فاعل فالمنع
منه عطية مقبولة * والفقر أكرم وبر عاجل ومن الدلائل أن ترى من عزمه * طوع الحبيب
وإن ألح العاذل ومن الدلائل أن يرى متبسما * والقلب فيه من الحبيب بلابل ومن
الدلائل أن يرى متفهما * لكلام من يحظى لديه سائل ومن الدلائل أن يرى متقشفا *
متحفظا عن كل ما هو قائل ومن الدلائل أن تراه مشمرا * في خرقتين على شطوط الساحل
ومن الدلائل حزنه ونحيبه * خوف الظلام فما له من عاذل ومن الدلائل أن تراه باكيا *
أن قد رآه على قبيح فاعل ومن الدلائل أن تراه راضيا * بمليكه في كل حكم نازل ومن
الدلائل زهده فيما ترى * من دار ذل والنعيم الزائل ومن الدلائل أن تراه مسلما * كل
الأمور إلى المليك العادل ومن الدلائل ضحكه بين الورى * والقلب محزون كقلب الثاكل
ومن الدلائل أن تراه مسافرا * نحو الجهاد وكل فعل فاضل
فصل معنى حب الله لعبده 
إعلم
أن شواهد الكتاب والسنة ناطقة بأن الله سبحانه يحب العبد، كقوله تعالى: (يحبهم
ويحبونه) (39) وقوله تعالى -: (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله) (40). وقوله -
تعالى -: (إن الله يحب التوابين ويحب
(هامش)
(39) (المائدة، الآية: 57 (40) الصف الآية: 4 (*)
ص 145
المتطهرين) (41) وقوله - تعالى -: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله
ويغفر لكم ذنوبكم) (42). وقال رسول الله (ص): (إن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا
يحب ولا يعطي الإيمان إلا من يحب). وقال (ص): ((إذا أحب الله عبدا لم يضره ذنب).
وقال (ص): (إذا أحب الله عبدا ابتلاه، فإن صبر اجتباه، وإن رضي اصطفاه). وقال (ص):
(من أكثر ذكر الله أحبه الله). وقال (ص) حاكيا عن الله: (لا يزال العبد يتقرب إلي
بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه
الذي ينطق به). وقال (ص): (إذا أحب الله عبدا، جعل له واعظا من نفسه، وزاجرا من
قلبه، يأمره وينهاه)... وأمثال ذلك أكثر من أن تحصى. ثم حقيقة الحب - وهو الميل إلى
موافق ملائم - غير متصور في حق الله تعالى، بل هذا أنما يتصور في حق نفوس ناقصة،
والله سبحانه صاحب كل جمال وكمال وبهاء وجلال، وكل ذلك حاضر له بالفعل أزلا وأبدا،
إذ لا يتصور تجدده وزواله، فلا يكون له إلى غيره نظر من حيث أنه غير، بل ابتهاجه
بذاته وصفاته وأفعاله، وليس في الوجود إلا ذاته وصفاته وأفعاله ولذلك قال بعض
العرفاء - لما قرأ قوله - تعالى -: (يحبهم ويحبونه): (نحن نحبهم، فإنه ليس يحب إلا
نفسه)، على معنى أنه الكل، وإنه في الوجود ليس غيره، فمن لا يحب إلا ذاته، وصفات
ذاته، وأفعال ذاته، وتصانيف ذاته، فلا يجاوز حبه وذاته وتواضع ذاته من حيث هي
متعلقة بذاته، فهو إذن لا يحب إلا ذاته. وليس المراد من محبة الله لعبده هو
الابتهاج العام الذي له تعالى بأفعاله له، إذ المستفاد من الآيات والأخبار: أن له
تعالى خصوصية محبة لبعض عباده ليست لسائر العباد والمخلوقات، فمعنى هذه المحبة يرجع
إلى كشف الحجاب عن قلبه حتى يراه بقلبه، وإلى تمكينه إياه من القرب إليه، وإلى
إرادته ذلك به في الأزل، وإلى تطهير باطنه عن
(هامش)
(41) البقرة الآية: 222. (42)
آل عمران، الآية: 31
ص146
حلول الغير به، وتخليته عن عوائق تحول بينه وبين مولاه، حتى لا يسمع إلا بالحق ومن
الحق، ولا يبصر إلا به، ولا ينطق إلا به - كما في الحديث القدسي، فيكون تقربه
بالنوافل سببا لصفاء باطنه، وارتفاع الحجاب عن قلبه، وحصوله في درجة القرب من ربه،
وكل ذلك من فضل الله تعالى ولطفه به ثم قرب العبد من الله لا يوجب تغيرا وتجددا في
صفات الله تعالى إذ التغير عليه سبحانه محال، لأنه لا يزال في نعوت الكمال والجلال
والجمال على ما كان عليه في أزل الآزال، بل يوجب مجرد تغيير العبد بترقيه في مدارج
الكمال، والتخلق بمكارم الأخلاق التي هي الأخلاق الآلهية، فكلما صار أكمل صفة وأتم
علما وإحاطة بحقائق الأمور، وأثبت قوة في قهر الشياطين وقمع الشهوات، وأظهر نزاهة
عن الرذائل، وأقوى تصرفا في ملكوت الأشياء صار أقرب إلى الله، ودرجات القرب غير
متناهية، لعدم تناهي درجات الكمال، فمثل تقرب العبد إلى الله ليس كتقرب أحد
المتقاربين إلى الآخر، إذا تحركا معا، بل كتقرب أحدهما مع تحركه إلى الآخر الذي كان
ساكنا، أو كتقرب التلميذ في درجات الكمال إلى أستاذه، فإن التلميذ متحرك مترق من
حضيض الجهل إلى بقاء العلم، ويطلب القرب من أستاذه في درجات العلم والكمال،
والأستاذ ثابت واقف، وإن كان التلميذ يمكن أن يصل إلى مرتبة المساواة لأستاذه
لتناهي كمالاته، وأما العبد، كائنا من كان، لا يمكن أن يصل إلى كمال يمكن أن تكون
له نسبة إلى كمالاته سبحانه، لعدم تناهي كمالاته شدة وقوة وعدة وعلامة كون العبد
محبوبا عن الله: أن يكون هو محبا له تعالى، مؤثرا إياه على غيره من المحاب، وأن يرى
من بواطن أموره وظواهره أنه تعالى يهيئ له أسباب السعادة فيها، ويرشده إلى ما فيه
خيره ويصده عن المعاصي بأسباب يعلم حصولها منه سبحانه، وأنه تعالى يتولى أمره،
ظاهرة وباطنه، وسره وجهره، فيكون هو المشير عليه، والمدبر لأمره، والمزين لأخلاقه،
والمستعمل لجوارحه، والمسدد لظاهره وباطنه، والجاعل لهمومه هما واحدا، والمبغض
للدنيا في قلبه، والموحش له من غيره، والمؤنس له بلذة المناجاة في خلواته،
ص 147
والمكاشف له عن الحجب بينه وبين معرفته.
تذنيب
الحب في الله والبغض في الله

إعلم أن
الأخبار متظاهرة في مدح الحب في الله والبغض في الله وعظم فضيلته وثوابه، ومعناه لا
يخلو عن إبهام، فلا بد أن نشير إلى بعض هذه الأخبار، ثم نبين حقيقته ونكشف عن
معناه: أما الأخبار: كقول النبي (ص): (ود المؤمن في الله أعظم شعب الإيمان، ألا ومن
أحب في الله، وأبغض في الله، ومنع في الله، فهو من أصفياء الله). وقال (ص) لأصحابه:
(أي عرى الإيمان أوثق؟) فقالوا الله ورسوله أعلم فقال بعضهم: الصلاة، وقال بعضهم:
الزكاة، وقال بعضهم: الصيام وقال بعضهم: الحج والعمرة، وقال بعضهم الجهاد فقال رسول
الله (ص): (لكل ما قلتم فضل وليس به، ولكن أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في
الله، وتوالي أولياء الله والتبري من أعداء الله). وقال (ص): (المتحابون في الله
يوم القيامة على أرض زبرجدة خضراء في ظل عرشه عن يمينه - وكلتا يديه يمين - وجوههم
أشد بياضا وأضوأ من الشمس الطالعة، يغبطهم بمنزلتهم كل ملك مقرب وكل نبي مرسل، يقول
الناس: من هؤلاء؟ فيقال: هؤلاء المتحابون في الله). وقال سيد الساجدين (ع): (إذا
جمع الله عز وجل الأولين والآخرين، قام مناد فنادى ليسمع الناس، فيقول: أين
المتحابون في الله؟ قال: فيقوم عنق من الناس، فيقال لهم: إذهبوا إلى الجنة بغير
حساب. قال: فتلقاهم الملائكة فيقولون: إلى أين؟ فيقولون: إلى الجنة بغير حساب،
فيقولون: أي حزب أنتم من الناس فيقولون نحن المتحابون في الله. قال: فيقولون: وأي
شيء كانت أعمالكم؟ قالوا: كنا نحب في الله ونبغض في الله. قال: فيقولون: نعم أجر
العالمين). وقال الباقر (ع): (إذا أردت أن تعلم إن فيك خيرا، فانظر إلى قلبك، فإن
كان يحب أهل طاعة الله وبغض أهل معصيته ففيك خير والله يحبك، وإذا كان يبغض أهل
طاعة الله ويحب أهل معصيته فليس فيك خير والله يبغضك والمرء مع من أحبه) وقال (ع):
ص 148
(لو أن رجلا أحب رجلا لله، لأثابه الله على حبه إياه، وأن كان المحبوب في علم الله
من أهل النار، ولو أن رجلا أبغض رجلا لله، لأثابه الله على بغضه إياه، وإن كان
المبغض في علم الله من أهل الجنة). وقال الصادق (ع): (من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى
لله، فهو ممن كمل إيمانه). وقال (ع): (إن المتحابين في الله يوم القيامة على منابر
من نور، قد أضاء نور وجوههم ونور أجسادهم ونور منابرهم كل شيء، حتى يعرفوا به
فيقال: هؤلاء المتحابون في الله). وقال (ع): (وهل الإيمان إلا الحب في الله والبغض
في الله؟ ثم تلا هذه الآية: (حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر
والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون) (43) وقال (ع): (ما التقى المؤمنان قط إلا كان
أفضلهما أشدهما حبا لأخيه). وقال (ع): (من لم يحب على الدين ولم يبغض على الدين فلا
دين له) والأخبار بهذه المضامين كثيرة (44). وإذا عرفت ذلك، فلنشر إلى معنى الحب في
الله والبغض في الله فنقول: الحب الذي بين إنسانين، إما يحصل بمجرد الصحبة
الاتفاقية، كالصحبة بحسب الجوار، أو بحسب الاجتماع في سوق، أو مدرسة، أو سفر، أو
باب سلطان، أو أمثال ذلك، ومعلوم أن مثل هذا الحب ليس من الحب في الله بل هو الحب
بحسب الاتفاق، أو لا يحصل بمجرد ذلك، بل له سبب وباعث آخر، وهذا على أربعة أقسام:
الأول - أن يحب إنسان إنسانا لذاته، لا ليتوصل به إلى محبوب ومقصود وراءه، بأن يكون
هو في ذاته محبوبا عنده، بمعنى أنه يلتذ برؤيته ومعصيته ومشاهدة أخلاقه، لاستحسانه
له، فإن كل جميل لذيذ في حق من أدرك جماله، وكل لذيذ محبوب واللذة تتبع الاستحسان،
والاستحسان يتبع المناسبة والموافقة والملائمة بين الطباع. ثم ذلك المستحسن،
(هامش)
(43) الحجرات، الآية: 7 (44) صححنا الأحاديث كلها على (أصول الكافي): ج 2، باب الحب
في الله والبغض في الله وعلى (الوافي): 3 / 344، باب الحب في الله والبغض في الله.
(*)
ص 149
إما أن يكون جمال الصورة، وكمال العقل، وغزارة العلم، وحسن الأخلاق والأفعال، وكل
ذلك يستحسن عند الطباع السليمة، وكل مستحسن مستلذ به ومحبوب، ومن هذا القسم أن يحبه
لأجل مناسبة خفية معنوية بينهما، فإنه قد تستحكم المودة بين شخصين من غير حسن في
خلق وخلق. ومن دون ملاحة في صورة. ولا غيرها من الأعضاء، بل المناسبة باطنة توجب
الألفة والموافقة والمحبة، فإن شبه الشيء ينجذب إليه بالطبع، والأشياء الباطنة
خفية، ولها أسباب دقيقة ليس في قوة البشر أن يطلع عليها، وإلى هذا القسم من الحب
والموافقة أشار رسول الله (ص) بقوله: (الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منهما ائتلف،
وما تناكر منها اختلف). فالحب نتيجة التناسب الذي هو التعارف، والبغض نتيجة
التناكر. ومعلوم أن هذا القسم من الحب لا يدخل في الحب لله، بل هو حب الطبع وشهوة
النفس، لذا يتصور ممن لا يؤمن بالله، إلا أنه إن اتصل به غرض مذموم صار مذموما،
وإلا فهو مباح لا يوصف بمدح وذم. الثاني - أن يحبه لا لذاته، بل لينال منه محبوبا
وراء ذاته، وكانت لهذا المحبوب فائدة دنيوية. ولا ريب في أن كلما هو وسيلة إلى
المحبوب محبوب، وعدم كون هذا الحب من جملة الحب في الله ظاهر. الثالث - أن يحبه لا
لذاته، بل لغيره، وذلك الغير راجع إلى حظوظه في الآخرة دون الدنيا، وذلك كحب
التلميذ الأستاذ، لأن يتوصل به إلى تحصيل العلم وتحسين العمل، ومقصوده من العلم
والعمل سعادة الآخرة. وهذا الحب من جملة الحب في الله، وصاحبه من محبي الله، وكذلك
حب الأستاذ للتلميذ، لأنه يتلقف منه العلم، وينال بواسطته مرتبة التعليم، ويترقى به
إلى درجة التعظيم في ملكوت السماء. قال عيسى (ع): ((من علم وعمل وعلم، فذلك يدعى
عظيما في ملكوت السماء). ولا يتم التعليم إلا بمتعلم، فهو إذن آلة في تحصيل هذا
الكمال، فإن أحبه لأنه آلة إذ جعل صدره مزرعة لحرثه فهو محب لله. بل التحقيق: أن كل
من يحب أحدا لصنعته، أو فعله الذي يوجب تقربه إلى الله، فهو من جملة المحبين في
الله، كحب من يتولى له إيصال
ص 150
الصدقة إلى المستحقين، وحب طباخ يحسن صنعته في الطبخ لأجل طبخه لمن يضيفه تقربا إلى
الله، وحب من ينفق عليه ويواسيه بكسوته وطعامه ومسكنه وجميع مقاصده التي يقصده في
الدنيا، ومقصوده من ذلك الفراغ لتحصيل العلم والعبادة، وحب من يخدمه بنفسه من غسل
ثيابه وكنس بيته وطبخ طعامه وأمثال ذلك من حيث أنه يفرغه لتحصيل العلم والعمل...
وقس على ما ذكر أمثاله، والمعيار أن كل من أحب غيره من حيث توسله لأجله إلى فائدة
أخروية فهو محب لله وفي الله. الرابع - أن يحبه لله وفي الله، لا لينال منه علما أو
عملا، أو يتوسل به إلى أمر وراء ذاته، وذلك بأن يحبه من حيث أنه متعلق بالله ومنسوب
إليه، أما بالنسبة العامة التي ينتسب بها كل مخلوق إلى الله، أو لأجل خصوصية النسبة
أيضا، من تقربه إلى الله، وشدة حبه وخدمته له تعالى. ولا ريب في أن من آثار غلبة
الحب أن يتعدى من المحبوب إلى كل من يتعلق به ويناسبه، ولو من بعد، فمن أحب إنسانا
حبا شديدا، أحب محب ذلك الإنسان وأحب محبوبه ومن يخدمه ومن يمدحه ويثني عليه أو
يثني عليه محبوبه، وأحب من يتسارع إلى رضاء محبوبه، كما قيل: أمر على الديار ديار
ليلى * أقبل ذا الجدار وذا الجدارا وما حب الديار شغفن قلبي * ولكن حب من سكن
الديارا وأما البغض في الله، فهو أن يبغض إنسان إنسانا لأجل عصيانه لله ومخالفته له
تعالى، فإن من يحب في الله لا بد وأن يبغض في الله، فإنك إن أحببت إنسانا لأنه مطيع
لله ومحبوب عنده، فإن عصاه لا بد أن تبغضه، لأنه عاص فيه وممقوت عند الله، قال عيسى
(ع): (تحببوا إلى الله ببغض أهل المعاصي، وتقربوا إلى الله بالتباعد عنهم، والتمسوا
رضاء الله بسخطهم. وروي: (أنه تعالى أوحى إلى بعض أنبيائه: أما زهدك في الدنيا فقد
تعجلت الراحة، وأما انقطاعك إلي فقد تعززت بي، ولكن هل عاديت في عدوا، أو واليت
وليا؟). ثم للمعصية درجات مختلفة، فإنها قد تكون بالاعتقاد، كالكفر والشرك والبدعة،
وقد تكون بالقول والفعل، وهذا إما أن يكون مما يتأذى به
ص 151
غيره، كالقتل والغضب والضرب وشهادة الزور وسائر أنواع الظلم، أو لا يكون مما يتأذى
به غيره، وهذا إما يوجب فساد الغير، كالجمع بين الرجال والنساء، وتهيئة أسباب الشر
والفساد على ما هو دأب صاحب الماخور، أو لا يوجب فساد الغير، كالزنا وشرب الخمر،
وهذا أيضا إما كبيرة أو صغيرة. وإظهار البغض أيضا له درجات مختلفة، كالتباعد
والهجران، وقطع اللسان عن المكالمة والمحادثة والتغليظ في القول، والاستخفاف
والإهانة، وعدم السعي في طاعته، والسعي في إساءته وإفساد مآربه، وبعض هذا أشد من
بعض، كما أن درجات الفسق والمعصية أيضا كذلك. فينبغي أن يكون الأشد من درجات البغض
بإزاء الأشد من درجات المعصية والفسق، والوسط بإزاء الوسط، والأضعف بإزاء الأضعف.
وينبغي ألا يترك أولا النصيحة، والأمر بالمعروف. والنهي عن المنكر وتغليظ القول في
الوعظ والإرشاد، لا سيما إذا كان العاصي ممن بينه وبينه صحبة متأكدة. ثم العاصي إن
كان ممن له صفات محمودة، كالإيمان والعلم والسخاء والعبادة والطاعة أو أمثال ذلك،
ينبغي أن يكون مبغوضا لأجل معصيته ومحبوبا لأجل صفته المحمودة، وهذا كما أن من
وافقك في غرض وخالفك في آخر تكون معه على حالة متوسطة بين التردد إليه والتوحش عنه
فلا تبالغ في إكرامه مبالغتك في إكرام من يوافقك في جميع أغراضك ولا تبالغ في
إهانته مبالغتك في إهانة من خالفك في جميع أغراضك.
تتميم الوفاء في الحب

إعلم أن من
تمام الحب للأخوان في الله (الوفاء)، وهو الثبات على الحب ولوازمه وإدامته إلى
الموت وبعده مع أولاده وأصدقائه، وضده (الجفاء)، وهو قطع الحب أو بعض لوازمه في
أيام الحياة أو بعد الموت بالنسبة إلى أولاده وأحبته، ولولا الوفاء في الحب لما
كانت فيه فائدة، إذ الحب إنما يراد للآخرة، فإن انقطع قبل الموت لضاع السعي وحبط
العمل، ولذلك قال رسول الله في السبعة الذين يظلمهم الله يوم القيامة: (وأخوان
تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه). وروي: (أنه (ص) كان
ص 152
يكرم بعض العجائز كلما دخلت عليه، فقيل له في ذلك، فقال: إنها كانت تأتينا أيام
خديجة، وإن كرم العهد من الدين). فمن الوفاء مراعاة جميع الأصدقاء والأقارب
والمتعلقين، ومراعاتهم أوقع في القلب من مراعاة الأخ المحبوب في نفسه، فإن فرحه
بتفقد من يتعلق به أكثر من فرحه بتفقد نفسه، إذ لا تعرف قوة المحبة والشفقة إلا
بتعديها من المحبوب إلى كل من يتعلق به، حتى أن من قوي حبه لأخيه تميز في قلبه كلبه
الذي على باب داره من سائر الكلاب. ولا ريب في أن المحبة التي تنقطع - ولو بعد
الممات - لا تكون محبة في الله، إذ المحبة في الله دائمة لا انقطاع لها. فما قيل من
أن (قليل الوفاء بعد الوفاة خير من كثيره حال الحياة) إنما هو لدلالته على كون الحب
في الله. وبالجملة: الوفاء بالمحبة تمامها. ومن آثار الوفاء أن يكون شديد الجزع من
مفارقته، وألا يسمع بلاغات الناس عليه، وأن يحب صديقه وبغض عدوه، ليس من الوفاء
موافقة الأخ فيما يخالف الحق في أمر يتعلق بالدين، بل من الوفاء المخالفة له
وإرشاده إلى الحق. هذا وأما البعد والأنس، فقد عرفت أن الأنس عبارة عن استبشار
القلب بما يلاحظه من المحبوب بعد الوصول، والبعد خلافه، والأنس والخوف والشوق، كلها
من آثار المحبة، وكل واحد منها يرد على المحب بحسب نظره، ومما يغلب عليه في وقته،
فإذا غلب عليه التطلع من وراء حجب الغيب إلى منتهى الجمال، واستشعر قصوره من
الإطلاع على كنه الجلال، انبعثت النفس وانزعجت له، وهاجت إليه، فسميت هذه الحالة في
الانزعاج (شوقا)، وهو بالإضافة إلى أمر غايب، وإذا غلب عليه الفرح بالقرب ومشاهدة
الحضور بما هو حاصل من الكشف، وكان نظره مقصورا على مطالعة الجمال الحاضر المكشوف،
غير ملتفت إلى ما لم يدركه بعد، استبشر القلب بما يلاحظه فيه، فيسمى استبشاره
(أنسا)، وإن كان نظره إلى صفات العز والجلال والاستغناء وعدم المبالاة، واستشعر
إمكان الزوال والبعد، تألم قلبه بهذا الاستشعار، فيسمى تألمه (خوفا)، وهذه الأحوال
تابعة لهذه الملاحظات، فإن غلب الأنس وتجرد عن ملاحظة
ص 153
ما غاب عنه وما يتطرق إليه من خطر الزوال، عظم نعيمه ولذته، وغلب عليه الأنس بالله،
ولم تكن شهوته إلا في الانفراد والخلوة، وذلك لأن الأنس بالله يلازمه التوحش من غير
الله، بل كلما يعوق من الخلوة يكون أثقل الأشياء على القلب، كما روي: (أن موسى (ع)
لما كلمه ربه، مكث دهرا لا يسمع كلامه أحد من الخلق إلا أخذه الغشيان)، لأن الحب
يوجب عذوبة كلام المحبوب وعذوبة ذكره، فيخرج عن القلب عذوبة ما سواه فإن خالط الناس
كان كمنفرد في جماعة، ومجتمع في خلوة، وغريب في حضر، وحاضر في سفر، وشاهد في غيبة،
وغائب في حضور، ومخالط بالبدن، متفرد بالقلب المستغرق في عذوبة الذكر، قال أمير
المؤمنين (ع) في وصفهم: (هم قوم هجم بهم العلم على حقيقة الأمر، فباشروا روح
اليقين، واستلانوا ما استوعره المترفون، وأنسوا بما أستوحش منه الجاهلون، صحبوا
الدنيا بأبدان أرواحها متعلقة بالمحل الأعلى، أولئك خلفاء الله في أرضه، والدعاة
إلى دينه).
فصل الأنس بالله 
من أنكر وجود الحب والشوق أنكر وجود الأنس أيضا، ظنا
أنه يدل على التشبيه، وهو ناش عن الجهل بالابتهاجات العقلية واللذات الحقيقية وعن
القصور في طريق المعرفة، والجمود على أحكام الحس، والغفلة عن عالم العقل والبصيرة،
وقد ظهر ثبوت الأنس من بعض الأخبار السابقة، ويدل عليه ما ورد في أخبار داود: (إن
الله عز وجل أوحى إليه: يا داود! أبلغ أهل أرضي: إني حبيب لمن أحبني، وجليس لمن
جالسني، ومؤنس لمن أنس بذكري. وصاحب لمن صاحبني، ومختار لمن اختارني، ومطيع لمن
أطاعني، ما أحبني عبد أعلم ذلك يقينا من قلبه إلا قبلته لنفسي، وأحببته حبا لا
يتقدمه أحد من خلقي، من طلبني بالحق وجدني، ومن طلب غيري لم يجدني، فارفضوا يا أهل
الأرض ما أنتم عليه من غرورها، وهلموا إلى كرامتي ومصاحبتي ومجالستي، وآنسوا بي
أوانسكم، وأسارع إلى محبتكم). ج: 3
ص 154
فصل الأنس قد يثمر الإدلال 
قال أبو حامد الغزالي: (الأنس إذا دام وغلب واستحكم، ولم
يشوشه قلق الشوق، ولم ينغصه خوف البعد والحجاب، فإنه يثمر نوعا من الانبساط في
الأقوال والأفعال والمناجات مع الله سبحانه، وقد يكون منكرا بحسب الصورة، لما فيه
من الجرأة وقلة الهيبة، ولكنه محتمل ممن أقيم في مقام الأنس، ومن لم يقم في ذلك
المقام وتشبه بهم في الفعل والكلام، هلك وأشرف على الكفر. ومثاله مناجات (برخ
الأسود) الذي أمر الله تعالى كليمه موسى (ع) أن يسأله ليستسقي لبني إسرائيل، بعد أن
قحطوا سبع سنين، وخرج موسى في سبعين ألفا، فأوحى الله عز وجل إليه: كيف استجيب لهم
وقد أظلت عليهم ذنوبهم؟ سرائرهم خبيثة، يدعونني على غير يقين، ويأمنون مكري، إرجع
إلى عبد من عبادي يقال له (برخ)، فقل له: يخرج حتى أستجيب له. فسأل عنه موسى، فلم
يعرف، فبينما موسى ذات يوم يمشي في طريق، إذا بعبد أسود قد استقبله، بين عينيه تراب
من أثر السجود، في شملة قد عقدها على عنقه، فعرفه موسى بنور الله عز وجل، فسلم عليه
وقال له: ما اسمك؟ فقال: اسمي برخ، قال: فأنت طلبتنا منذ حين، أخرج فاستسقي لنا،
فخرج، فقال في كلامه: ما هذا من فعالك، ولا هذا من حلمك، وما الذي بدا لك؟ أتعصت
عليك غيومك؟ أم عاندت الرياح عن طاعتك؟ أم نفذ ما عندك؟ أم اشتد غضبك على المذنبين؟
ألست كنت غفارا قبل خلق الخاطئين؟ خلقت الرحمة وأمرت بالعفو، أم ترينا أنك ممتنع؟
أم تخشى الفوت فتعجل بالعقوبة؟!... قال: فما برح حتى اخضل بني إسرائيل بالمطر،
وأنبت الله عز وجل العشب في نصف يوم حتى بلغ الركب، ثم رجع (برخ)، فاستقبله موسى
فقال: كيف رأيت حين خاصمت ربي، كيف أنصفني؟! فهم به موسى، فأوحى الله إليه: إن برخا
يضحكني كل يوم ثلاث
ص 155
مرات))!! (45). ولا ريب في أن أمثال هذه الكلمات الصادرة عن الانبساط والإدلال
يحتمل من بعض العباد دون البعض، فمن انبساط الأنس قول موسى: (أن هي إلا فتنتك) (46)
وقوله في التعلل والاعتذار، لما قيل له: (إذهب إلى فرعون إنه طغى) (47): (ولهم علي
ذنب فأخاف أن يقتلون) (47). وقوله: (ويضيق صدري) (49). وقوله: (إننا نخاف أن يفرط
علينا أو أن يطغى) (50). وهذا من غير موسى سوء الأدب، لأن الذي أقيم مقام الأنس
يلاطف ويحتمل منه ما لا يحتمل من غيره، كيف ولم يحتمل من يونس النبي (ع) ما دون هذا
الحال، أقيم مقام القبض والهيبة، فعوقب بالسجن في بطن الحوت في ظلمات ثلاث، فنودي
عليه إلى يوم الحشر، لولا أن تداركته نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم، ونهي
نبينا أن يقتدي به، فقيل له: واصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو
مكظوم)) (1). وهذه الاختلافات بعضها لاختلاف المقامات والأحوال، وبعضها لما سبق في
الأزل من التفاضل والتفاوت في القسمة بين العباد، قال الله سبحانه: تلك الرسل فضلنا
بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات) (2) فالأنبياء والأولياء مختلفون
في الصفات والأحوال، ألا ترى أن عيسى
(هامش)
(45) هذا من عجائب المنقولات الخرافية، والغريب من (أبي حامد الغزالي) أن يركن إلى
مثله، وقد أشار المصنف - قدس سره - إلى بطلان ما نقله بقوله: (ولا ريب)). (46)
الأعراف، الآية: 154. (47) طه، الآية: 24 النازعات، الآية 17. (48) الشعراء، الآية:
14 (49) الشعراء الآية: (13) (50) طه، الآية: 45 (1) القلم، الآية:) 48 (2) البقرة،
الآية 253 (*)
ص 156
بن مريم (ع) كان في مقام الانبساط والإدلال، ولإدلاله له سلم على نفسه، فقال:
(والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا) (3). وهذا انبساط منه لما شاهد من
اللطف في مقام الأنس. وأما يحيى عليه السلام فإنه أقيم مقام الهيبة والحياء، فلم
ينطق حتى سلم عليه خالقه، فقال: (والسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا)
(4) وانظر كيف أحتمل لأخوة يوسف ما فعلوا به، وقد قال بعض العلماء: (قد عددت من أول
قوله تعالى): (إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا) (5). إلى رأس العشرين آية
من أخباره تعالى عنهم، فوجدت به نيفا وأربعين خطيئة، بعضها أكبر من بعض، وقد يجتمع
في الكلمة الواحدة الثلاث والأربع، فغفر لهم وعفا عنهم، ولم يحتمل لعزيز في مسألة
واحدة سأل عنها في القدر، حتى قيل: لئن عاد محي اسمه عن ديوان النبوة). ومن فوائد
هذه القصص في القرآن: أن تعرف بها سنة الله في عباده الذين خلوا من قبل، فما في
القرآن شيء إلا وفيه أسرار وأنوار يعرفها الراسخون في العلم.
تذنيب
العزلة

إعلم أن
من بلغ مقام الأنس، غلب على قلبه حب الخلوة والعزلة عن الناس، لأن المخالطة مع
الناس تشغل القلب عن التوجه التام إلى الله. فلا بد لنا من بيان أن الأفضل من
العزلة والمخالطة أيهما، فإن العلماء في ذلك مختلفون، والأخبار أيضا في ذلك مختلفة،
ولكل واحد منهما أيضا
(هامش)
(3) مريم، الآية: 33 (4) مريم، الآية: 14 (5) يوسف، الآية: 8 (*)
ص 157
فوائد ومفاسد، فنقول: الظاهر من جماعة: تفضيل العزلة على المخالطة مطلقا. والظاهر
من الأخرى: عكس ذلك. نظر الأولين إلى أطلاق ما ورد في مدح العزلة، وإلى فوائدها وما
ورد في مدحها، كقول النبي (ص): (أن الله يحب العبد التقي الخفي)، وقوله (ص): (أفضل
الناس مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله، ثم رجل معتزل في شعب من الشعاب)، وقوله
(ص) لمن سأله عن طريق النجاة: (ليسعك بيتك، وأمسك عليك دينك، وابك على خطيئتك)،
وقول الصادق (ع): (فسد الزمان، وتغير الأخوان، وصار الانفراد أسكن للفؤاد)، وقوله
(ع): (أقلل معارفك، وأنكر من تعرف منهم)، وقوله (ع): (صاحب العزلة متحصن بحصن الله
تعالى، ومحرس بحراسته، فيا طوبى لمن تفرد به سرا وعلانية! وهو يحتاج إلى عشر خصال:
علم الحق والباطل، وتحبب الفقر، واختيار الشدة، والزهد، واغتنام الخلوة، والنظر في
العواقب، ورؤية التقصير في العباد مع بذل المجهول، وترك العجب، وكثرة الذكر بلا
غفلة، فإن الغفلة مصطاد الشيطان ورأس كل بلية وسبب كل حجاب، وخلوة البيت عما لا
يحتاجه إليه في الوقت. قال عيسى بن مريم عليهما السلام: (أخزن لسانك لعمارة قلبك،
وليسعك بيتك، واحذر من الرياء وفضول معاشك، واستح من ربك، وابك على خطيئتك وفر من
الناس فرارك من الأسد والأفعى فإنهم كانوا دواء فصاروا اليوم داء ثم الق الله متى
شئت) قال ربيع بن خثيم: (إن استطعت أن تكون اليوم في موضع لا تعرف ولا تعرف فافعل
ففي العزلة صيانة الجوارح وفراغ القلب وسلامة العيش، وكثر سلاح الشيطان، والمجانبة
من كل سوء وراحة القلب، وما من نبي ولا وصي إلا واختار العزلة في زمانه، إما في
ابتدائه وإما في انتهائه) (6) وأما فوائد العزلة، فكالفراغ للعبادة، والذكر والفكر،
والاستيناس بمناجاة الله والاشتغال باستكشاف أسرار الله في ملكوت السماوات والأرض
(هامش)
(6) صححنا هذا القول، وكذا الحديث السابق على (مصباح الشريعة) باب 24، وعلى
(البحار): باب العزلة عن شرار الخلق -: مج 15 / 51 ط أمين الضرب (*)
ص 158
والتخلص عن المعاصي التي يتعرض الإنسان لها غالبا بالمخالطة: كالغيبة والرياء وسائر
آفات اللسان ومسارقة الطبع الأعمال الخفية، والأخلاق الردية من الناس والمداهنة في
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والاستخلاص من الفتن والخصومات وأخطارها أو من شر
الناس وإيذائهم قولا وفعلا وقطع طمعه عن الناس وقطع طمعهم عنه، والخلاص من مشاهدة
الظلمة، والفسقة والجهال والثقلاء والحمقى، ومقاسات أخلاقهم. ونظر الآخرين - أعني
القائلين بتفضيل المخالطة على العزلة - إلى إطلاق الظواهر الواردة في مدح المخالطة
والمؤالفة والمؤانسة وإلى فوائدها، أما ما ورد في مدحها، كقول النبي (ص): (المؤمن
ألف مألوف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف). وقوله (ص): (من فارق الجماعة مات ميتة
الجاهلية) وكالأخبار الواردة في ذم الهجرة عن الأخوان، وقوله (ص): (إياكم والشعاب
وعليكم بالعامة والجماعة والمساجد). وأما فوائد المخالطة: كالتعليم والتعلم وكسب
الأخلاق الفاضلة من مجالسة المتصفين بها واستماع المواعظ والنصائح ونيل الثواب
بحضور الجمعة والجماعة والجنازة وعيادة المرضى وزيارة الأخوان وقضاء حوائج
المحتاجين ورفع الظلم عن المظلومين وإدخال السرور على المؤمنين والاستيناس بالأخوان
وبأهل الورع والعبادة والتقوى وهو يروح القلب ويهيج داعية النشاط في العبادة وإيصال
النفع إلى المسلمين بالمال والجاه واللسان واستفادة مزيد الأجر والثواب بتحصيل
المعاش والكد على العيال وارتياض النفس بمقاساة الناس في تحمل أذاهم، وكسر النفس
وشهواتها وإدراك صفة التواضع لتوقفه على معاشرة الناس ومخالطتهم وعدم حصوله في
الوحدة، واستفادة التجارب والكياسة في مصالح الدنيا والدين فإنها لا تحصل إلا من
مخالطة الخلق ومشاهدة مجاري أحوالهم. هذه هي فوائد كل من العزلة والمخالطة، وفوائد
كل منهما مفاسد وغوائل للآخر. وأنت - بعد ما عرفت فوائد كل منهما وغوائله - تعلم أن
الحكم بترجيح أحدهما على الآخر على الإطلاق خطأ. كيف يجوز أن يقال: أن العزلة أفضل
لشخص جاهل لم يتعلم شيئا من أصوله وفروعه، ولم يقرع سمعه علم الأخلاق ولم يميز بين
فضائل الصفات ورذائلها
ص 159
فضلا عن أن تحصل له التخلية والتحلية ومع ذلك يمكن أن يحصل ذلك بالمخالطة مع
العلماء وأولي الأخلاق الفاضلة؟ وكيف يجوز أن يقال: أن المخالطة أفضل لمن حصل ما في
وسعه وقدرته من العلم والعمل، ووصل إلى مرتبة الابتهاج والالتذاذ بالطاعات
والمناجاة، ولم يترتب على مخالطته مع الناس شيء من الفوائد الدينية والدنيوية، بل
تترتب عليه المفاسد الكثيرة؟ فالصحيح أن يقال: إن الأفضلية فيهما تختلف بالنظر إلى
الأشخاص والأحوال والأزمان والأمكنة. فينبغي أن ينظر إلى كل شخص وحاله، وإلى خليطه
وإلى باعث مخالطته وإلى ما يحصل بمخالطته من فوائد المخالطة وما يفوت لأجلها من
فوائد العزلة ويوازن بين ذلك، حتى يظهر الأفضل والأرجح. ولاختلاف ذلك في حق الأشخاص
بملاحظة الأحوال والفوائد والآفات، بما يظهر - بعد التأمل - أن الأفضل لبعض الخلق
العزلة التامة ولبعضهم المخالطة ولبعضهم الاعتدال في العزلة والمخالطة وبما ذكر
يظهر أن الأفضل لمن بلغ مقام الأنس والاستغراق: الخلوة والعزلة إذ لا ريب في أن
المخالطة توجب السقوط عن مرتبة الشهود والأنس، ولا يتصور من فوائدها شيء يقاوم ذلك.
ولذلك كان المحبون المستأنسون بالله يعتزلون عن الخلق. يؤثرون الخلوة. قال أويس
القرني: (ما كنت أرى أحدا يعرف ربه فيأنس بغيره). وقال بعضهم: (إذا رأيت الصبح
أدركني استرجعت كراهية لقاء الناس). وقال بعضهم: (سرور المؤمن ولذته في الخلوة
بمناجاة ربه) وقال بعض الصالحين: (رأيت في بعض البلاد عابدا خرج من بعض قلل الجبال،
فلما رآني تنحى عني وتستر بشجرة، فقلت له: سبحان الله! أتبخل علي بالنظر إليك؟
فقال: يا هذا! إني قمت في هذا الجبل دهرا طويلا أعالج قلبي في الصبر عن الدنيا
وأهلها فطال في ذلك تعبي وفنى فيه عمري، فسألت الله - تعالى - أن يعطيني ذلك فسكن
قلبي عن الاضطراب وألف الوحدة والانفراد، فلما نظرت إليك خفت أن أوقع في الأول فإني
أعوذ من شرك برب العالمين وحبيب القانتين ثم صاح وقال: واغماه من طول المكث في
الدنيا! ثم حول وجهه عني وقال: سبحان من ذاق قلوب العارفين من لذة الخلوة وحلاوة
الانقطاع إليه! ما ألهى قلوبهم عن ذكر الجنان وعن الحور
ص160
الحسان). وقال بعض الأكابر،: إنما يستوحش الإنسان من نفسه لخلو ذاته عن الفضيلة
فبملاقاة الناس ومخالطتهم يفرح ويطرد الوحشة من نفسه فإذا كانت ذاته فاضلة طلب
الوحدة ليستعين بها على الفكرة، ويستخرج العلم والحكمة ومن هنا قيل: (الاستيناس
بالناس من علامات الافلاس). فمن تيسر له منزلة بدوام الذكر والأنس بالله، وبدوام
الفكر والتحقيق في معرفة الله، فالتجرد والخلوة أفضل له من كل ما يتعلق بالمخالطة،
فإن غاية العبادات وثمرة المجاهدة أن يموت الإنسان محبا لله عارفا بالله، ولا محبة
إلا بالأنس الحاصل بدوام الذكر، ولا معرفة إلا بدوام الفكر، وفراغ القلب شرط لكل
منهما، ولا فراغ مع المخالطة. فإن قلت: لا منافاة بين المخالطة مع الناس والأنس
بالله، ولذا كان الأنبياء مخالطين بالناس مع غاية استغراقهم في الشهود والأنس.
قلنا: لا يتسع للجمع بين مخالطة الخلق ظاهرا، والاقبال التام على الله سرا، إلا قوة
النبوة. فلا ينبغي أن يغتر كل ضعيف بنفسه، فيطمع في ذلك. ثم، بما ذكرناه يظهر وجه
الجمع بين الأخبار الواردة من الطرفين فإن ما ورد في فضيلة العزلة إنما هو بالنظر
إلى بعض الناس، وما ورد في فضيلة المخالطة أنما هو بالنظر إلى بعض آخر. ومنها:
• السخط
السخط فيما يخالف هواه من الواردات الإلهية والتقديرات الربانية، ويرادفه
الإنكار والاعتراض، وهو من شعب الكراهة لأفعال الله، وهو ينافي الإيمان والتوحيد.
وما للعبد العاجز الذليل المهين الجاهل بمواقع القضاء والقدر، والغافل عن موارد
الحكم والمصالح، والاعتراض والانكار والسخط لأفعال الخالق الحكيم العليم الخبير،
وأنى للعبد ألا يرضى بما يرضى به ربه، ولعمري! أن من يعترض على فعل الله فهو أشد
الجهلاء، ومن لم يرض بالقضاء فليس لحمقه دواء. وقد ورد في الخبر القدسي: (خلقت
الخير والشر، فطوبى لمن خلقته للخير وأجريت الخير على يديه، وويل لمن خلقته للشر
وأجريت الشر على يديه، وويل ثم ويل لمن قال لم
ص 161
وكيف!). وفي خبر قدسي آخر: (أنا الله لا إله إلا أنا، من لم يصبر على بلائي، ولم
يشكر على نعمائي، ولم يرض بقضائي، فليتخذ ربا، سواي). وفي مناجاة موسى: ((أي رب! أي
خلقك أحب إليك؟ قال: من إذا أخذت منه المحبوب سالمني. قال: فأي خلقك أنت عليه ساخط؟
قال: من يستخيرني في الأمر، فإذا قضيت له سخط قضائي). وفي الخبر القدسي : (قدرت
المقادير، ودبرت التدبير، وأحكمت الصنعة، فمن رضي فله الرضا مني حين يلقاني، ومن
سخط فله السخط مني حين يلقاني). وقال الباقر (ع): (من سخط القضاء مضى عليه القضاء،
وأحبط الله أجره). وقال الصادق (ع): (كيف يكون المؤمن مؤمنا، وهو يسخط قسمته، ويحقر
منزلته، والحاكم عليه الله، وأنا الضامن لمن لم يهجس في قلبه إلا الرضا أن يدعو
الله فيستجاب له) وفي بعض الأخبار: (أن نبيا من الأنبياء شكى إلى الله - عز وجل -
الجوع والفقر والعرى عشر سنين فما أجيب إليه، ثم أوحى الله - تعالى - إليه: كم
تشكو؟ وهكذا كان بدؤك عندي في أم الكتاب قبل أن أخلق السماوات والأرض، وهكذا سبق لك
مني، وهكذا قضيت عليك قبل أن أخلق الدنيا، أفتريد أن أعيد خلق الدنيا من أجلك؟ أم
تريد أن أبدل ما قدرته عليك، فيكون ما تحب فوق ما أحب، ويكون ما تريد فوق ما أريد؟
وعزتي وجلالي! لئن تلجلج هذا في صدرك مرة أخرى، لأمحونك من ديوان النبوة) (7). وروي
أنه: (أوحى الله - تعالى - إلى داود (ع): تريد وأريد وإنما يكون ما أريد، فإن أسلمت
لما أريد كفيتك ما تريد، وإن لم تسلم لما أريد أتعبتك فيما تريد ثم لا يكون إلا ما
أريد) (8). وبالجملة: من عرف أن العالم بجميع أجزائه، من الجواهر والأعراض صادرة
عنه على وجه الحكمة والخيرية، وإنها النظام الأصلح الذي لا يتصور
(هامش)
(7) صححنا هذا الحديث، وكذا الأخبار القدسية، السابقة، على (إحياء العلوم): 4 / 295
- 296 (8) صححنا هذا الحديث، وكذا ما روي قبله عن أهل البيت - عليهم السلام - على
(أصول الكافي): ج 2 - باب الرضا بالقضاء وعلى (سفينة البحار): 1 / 224 (*)
ص 162
فوقه نظام، ولو تغير جزء منه على ما هو اختلت الأصلحية والخيرية، وعرف الله
بالربوبية، وعرف نفسه بالعبودية، يعلم أن السخط والإعراض وعدم الرضا بالشئ مما يرد،
ويكون غاية الجهل والخطر، ولذلك لم يكون أحد من الأنبياء أن يقول قط في أمر: ليت
كان كذا، حتى قال بعض أصحاب النبي (ص): (خدمت رسول الله (ص) عشر سنين، فما قال لي
لشيء فعلته: لما فعلت، ولا لشيء لم أفعله لم لم تفعله، ولا قال في شيء كان: ليته لم
يكن، ولا في شيء لم يكن: ليته كان، وكان إذا خاصمني مخاصم من أهله، يقول: دعوه، لو
قضى شيء لكان). وروي: (أن آدم (ع) كان بعض أولاده الصغار يصعدون على بدنه وينزلون،
ويجعل أحدهم رجليه على أضلاعه كهيئة الدرج، فيصعد إلى رأسه، ثم ينزل على أضلاعه
كذلك وهو مطرق إلى الأرض لا ينطق، ولا يرفع رأسه، فقال له بعض ولده: يا أبت! أما
ترى ما يصنع هذا بك؟ لو نهيته عن هذا، فقال: يا بني! أني رأيت ما لم تروا، وعلمت ما
لم تعلموا، أني تحركت حركة واحدة فأهبطت من دار الكرامة إلى دار الهوان، ومن دار
الشقاء، فأخاف أن أتحرك حركة أخرى فيصيبني ما لا أعلم) (9).
فصل الرضا 
- فضيلة
الرضا - رضا الله - رد إنكار تحقق الرضا - هل يناقض الدعاء ونحوه الرضا - طريق
تحصيل الرضا - التسليم. ضد السخط (الرضا)، وهو ترك الاعتراض والسخط باطنا وظاهرا
قولا وفعلا، وهو من ثمرات المحبة ولوازمها، إذ المحب يستحسن كلما يصدر عن محبوبه،
وصاحب الرضا يستوي عنده الفقر والغنا، والراحة والعناء، والبقاء والفناء، والعز
والذل، والصحة والمرض، والموت والحياة ولا يرجح بعضها على بعض، ولا يثقل شيء منها
على طبعه، إذ يرى صدور الكل من الله - سبحانه -، وقد رسخ حبه في قلبه، بحيث يحب
أفعاله ويرجح على مراده مراده - تعالى -، فيرضى لكل ما يكون ويرد، وروي: (أن واحدا
من أرباب الرضا عمر سبعين سنة، ولم يقل
(هامش)
(9) صححنا الحديث على (إحياء العلوم): 4 / 295 (*)
ص 163
في هذه المدة لشيء كان: ليته لم يكن، ولا لشيء لم يكن: ليته كان). وقيل لبعضهم: (ما
وجدت من آثار الرضا في نفسك؟ فقال: ما في رائحة من الرضا، ومع ذلك لو جعلني الله
جسرا على جهنم، وعبر علي الأولون والآخرون من الخلائق ودخلوا الجنة، ثم يلقوني في
النار، وملأ بي جهنم لأحببت ذلك من حكمه، ورضيت به من قسمه، ولم يختلج ببالي أنه
لما كان كذا، وليت لم يكن كذا، ولم هذا حظي وذاك حظهم)). وصاحب الرضا في روح وراحة
وسرور وبهجة، لأنه يشاهد كل شيء بعين الرضا وينظر في كل شيء إلى نور الرحمة
الإلهية، وسر الحكمة الأزلية فكأن كل شيء حصل على وفق مراده وهواه. وفائدة الرضا،
عاجلا، فراغ القلب للعبادة والراحة من الهموم، وآجلا، رضوان الله والنجاة من غضبه -
تعالى -.
فصل فضيلة الرضا 
الرضا بالقضاء أفضل مقامات الدين وأشرف منازل المقربين،
وهو باب الله الأعظم من دخله دخل الجنة. قال الله - سبحانه -: (رضي الله عنهم ورضوا
عنه) (10) وعن النبي (ص): (أنه سئل طائفة من أصحابه: ما أنتم؟ فقالوا: مؤمنون و،
فقال: ما علامة إيمانكم؟ فقالوا: نصبر على البلاء ونشكر عند الرخاء ونرضى بمواقع
القضاء فقال: مؤمنون ورب الكعبة!)، وفي خبر آخر، قال: (حكماء علماء كادوا من فقههم
أن يكونوا أنبياء). وقال (ص): (إذا أحب الله عبدا ابتلاه، فإن صبر اجتباه، فإن رضي
اصطفاه). وقال (ص): (أعطوا الله الرضا من قلوبكم، تظفروا بثواب فقركم). وقال (ص):
(إذا كان يوم القيامة، أنبت الله - تعالى - لطائفة من أمتي أجنحة، فيطيرون من
قبورهم إلى الجنان، يسرحون فيها، ويتنعمون فيها كيف شاؤوا، فتقول لهم الملائكة: هل
رأيتم الحساب؟ فيقولون
(هامش)
(10) المائدة، الآية: 122 التوبة، الآية: 101
المجادلة، الآية: 22 البينة الآية: 8.
ص 164
ما رأينا حسابا، فنقول لهم: هل جزتم الصراط؟ فيقولون: ما رأينا صراطا، فتقول لهم:
هل رأيتم جهنم؟ فيقولون: ما رأينا شيئا، فتقول الملائكة: من أمة من أنتم؟ فيقولون:
من أمة محمد (ص)، فتقول: ناشدناكم الله! حدثونا ما كانت أعمالكم في الدنيا فيقولون:
خصلتان كانتا فينا، فبلغنا الله هذه المنزلة بفضل رحمته، فيقولون: وما هما؟
فيقولون: كنا إذا خلونا نستحي أن نعصيه، ونرضى باليسير مما قسم لنا، فتقول
الملائكة: يحق لكم هذا). وقال الصادق (ع): (أن الله بعدله وحكمته وعلمه، جعل الروح
والفرح في اليقين والرضا عن الله - تعالى - وجعل الهم والحزن في الشك والسخط).
وروي: (أن موسى (ع) قال: يا رب! دلني على أمر فيه رضاك. فقال - تعالى -: إن رضاي في
رضاك بقضائي). وروي: (أن بني إسرائيل قالوا له (ع): سل لنا ربك أمرا إذا نحن فعلناه
يرضى عنا، فقال موسى (ع): إلهي! قد سمعت ما قالوا، فقال: يا موسى! قل لهم يرضون عني
حتى أرضى عنهم) (11). وقال سيد الساجدين (ع): (الصبر والرضا رأس طاعة الله، ومن صبر
ورضي عن الله فيما قضى عليه فيما أحب أو كره، لم يقض الله - عز وجل - له فيما أحب
أو كره إلا ما هو خير له). وقال - صلوات الله عليه -: (الزهد عشرة أجزاء، أعلى درجة
الزهد أدنى درجة الورع، وأعلى درجة الورع أدنى درجة اليقين، وأعلى درجة اليقين أدنى
درجة الرضا). وقال الباقر (ع): (أحق خلق الله أن يسلم لما قضى الله - عز وجل -، من
عرف الله - عز وجل - ومن رضي بالقضاء، أتى عليه القضاء وعظم الله أجره). وقال
الصادق (ع): (أعلم الناس بالله أرضاهم بقضاء الله). وقال (ع): (قال الله - عز وجل
-: عبدي المؤمن، لا أصرفه في شيء إلا جعلته خيرا له، فليرض بقضائي، وليصبر على
بلائي وليشكر نعمائي اكتبه يا محمد من الصديقين عندي). وقال (ع): (عجبت للمرء
المسلم لا يقضي الله - عز وجل - له قضاء إلا كان خيرا له، أن قرض بالمقاريض كان
خيرا له، وأن ملك مشارق الأرض ومغاربها كان خيرا له). وقال (ع):
(هامش)
(11) صححنا الأحاديث على (إحياء العلوم): 4 / 295 - 296. (*)
ص 165
(إن فيما أوحى الله - عز وجل - إلى موسى بن عمران (ع): يا موسى ابن عمران! ما خلقت
خلقا أحب إلي من عبدي المؤمن، وأني إنما أبتليه لما هو خير له، وأعافيه لم هو خير
له، وأزوي عنه لما هو خير له، وأنا أعلم بما يصلح عليه عبد، فليصبر على بلائي،
وليشكر نعمائي، وليرض بقضائي، اكتبه في الصديقين عندي، إذا عمل برضاي وأطاع أمري).
وقيل له (ع): بأي شيء يعلم المؤمن أنه مؤمن؟ قال: (بالتسليم لله، والرضا فيما ورد
عليه من سرور أو سخط). وقال الكاظم (ع) (ينبغي لمن غفل عن الله، ألا يستبطئه في
رزقه، ولا يتهمه في قضائه) (12).
وصل رضاء الله 
قد ظهر من بعض الأخبار المذكورة: أن
رضا الله - سبحانه - من العبد يتوقف على رضا العبد عنه - تعالى -، فمن فوائد رضا
العبد بقضاء الله وثمراته رضا الله - سبحانه - عنه، وهو أعظم السعادات في الدارين،
وليس في الجنة نعيم فوقه، كما قال - سبحانه -: (ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من
الله أكبر) (13) وفي الحديث: (أن الله يتجلى للمؤمنين في الجنة، فيقول لهم: سلوني
فيقولون: رضاك يا ربنا!)، فسؤالهم الرضا بعد التجلي، يدل على أنه أفضل كل شيء. وورد
في تفسير قوله - تعالى -: (ولدينا مزيد): أنه يؤتى لأهل الجنة في وقت المزيد ثلاث
تحف من عند رب العالمين ليس في الجنان مثلها: إحداها هداية الله، ليس عندهم في
الجنان مثلها، وذلك قوله تعالى: (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين) (14)
والثانية: السلام عليهم من ربهم فتزيد ذلك على الهداية، وهو
(هامش)
(12) صححنا الأحاديث على (أصول الكافي) ج 2 - باب الرضا بالقضاء وعلى (سفينة
البحار): 1 / 524. (13) التوبة، الآية: 73 (14) السجدة الآية: 17 (*)
ص 166
قوله - تعالى -: (سلام قولا من رب رحيم) (15) والثالثة: يقول الله - تعالى -: (إني
عنكم راض)، وهو أفضل من الهدية والتسليم، وذلك قوله - تعالى -: (ورضوان من الله
أكبر) (16): أي من النعيم الذي هم فيه. ومعنى رضا الله عن العبد قريب من معنى حبه
له، إلا أنه في الآخرة سبب لدوام النظر والتجلي في غاية ما يتصور من اللقاء
والمشاهدة. ولهذا ليست رتبة في الجنة فوقه. ويروه أهل الجنة أقصى الأماني، وغاية
الغايات
فصل رد أنكار تحقق الرضا 
من الناس من أنكر إمكان تحقق الرضا في أنواع
البلاء وفيما يخالف الهوى، وقال المتمكن فيهما: هو الصبر دون الرضا، وهو إنما أتى
من ناحية إنكار المحبة، إذ بعد ثبوت إمكان الحب لله واستغراق الهم به لا يخفى
إيجابه للرضا بأفعال المحبوب. وذلك يكون من وجهين: أحدهما - أن يوجب الاستغراق في
الحب إبطال الاحساس بالألم، حتى يجري عليه المؤلم ولا يحس به، وتصيبه جراحة ولا
يدرك المها. ولا تستبعدن ذلك، فإن المحارب عند خوضه في الحرب، وعند شدة غضبه أو
خوفه، قد تصيبه جراحة وهو لا يحس بها فإذا رأى الدم استدل به على الجراحة، بل الذي
يعدو في شغل مهم قد تصيبه شوكة في قدمه، ولا يحس بألمها لشغل قلبه. والسر: أنا
القلب إذا صار مستغرقا بأمر من الأمور، لم يدرك ما عداه. فالعشق المستغرق الهم
بمشاهدة المعشوق أو بحبه قد يصيبه ما كان يتألم به أو يغتم، لولا عشقه، ولا يدرك
ألمه وغمه لاستيلاء الحب على قلبه، وهذا إذا أصابه من غير حبيبه، فكيف إذا أصابه من
حبيبه.
(هامش)
(15) يس، الآية: 58 (16) التوبة، الآية 73 (*)
ص 167
ولا ريب في أن حب الله - تعالى - أشد من كل حب، وشغل القلب به أعظم الشواغل، إذ
جمال الحضرة الربوبية وجلالها لا يقاس به جمال، فمن ينكشف له شيء منها، فقد يبهره
بحيث يدهش ويخشى عليه، ولا يحس بما يجري عليه. وثانيهما - - ألا يبلغ الاستغراق في
الحب بحيث لا يحس بالألم ولا يدركه، ولكن يكون راضيا به، بل راغبا فيه، مريدا له
بعقله، وإن كان كارها له بطبعه، كالذي يلتمس من الفصاد الفصد والحجامة، فإنه يدرك
ألمه، إلا أنه راض به وراغب فيه. فالمحب الخالص لله إذا أصابته بلية من الله، وكان
على يقين بأن ثوابها الذي ادخر له فوق ما فاته، رضي بها ورغب فيها، وأحبها وشكر
الله عليها. هذا إن كان نظره إلى الثواب والأجر الذي يجازى به على ابتلائه بالمصائب
والبلايا، وربما غلب الحب بحيث يكون حظ المحب ولذته وابتهاجه في مراد حبيبه ورضاه
لا لمعنى آخر فيكون مراد حبيبه ورضاه محبوبا عنده مطلوبا، وكل ذلك مشاهد محسوس في
حب الخلق، فضلا عن حب الخالق والجمال الأزلي الأبدي الذي لا منتهى لكماله المدرك
بعين البصيرة التي لا يعتريها الغلط والخطأ، فإن القلوب إذا وقفت بين جماله وجلاله،
فإذا لاحظوا جلاله هابوا، وإذا لاحظوا جماله تاهوا ويشهد بذلك حكايات المحبين، على
ما هو في الكتب مسطورة، وفي الألسنة والأفواه مذكور. فإن للحب عجائب من لم يذق
طعمها لا يعرفها. وقد روينا: أن أهل مصر مكثوا أربعة أشهر لم يكن لهم غذاء إلا
النظر إلى وجه يوسف الصديق (ع)، كانوا إذا جاعوا نظروا إلى وجهه، فشغلهم جماله عن
الاحساس بألم الجوع. بل في القرآن ما هو أبلغ من ذلك، وهو قطع النسوة أيديهن
لاستهتارهن بملاحظة جماله، حتى ما أحسسن بذلك. وروي (أن عيسى (ع) مر برجل أعمى
وأبرص، مقعد مفلوج، وقد تناثر لحمه من الجذام، وهو يقول: الحمد لله الذي عافاني مما
ابتلى به كثيرا من الناس فقال عيسى: يا هذا! أي شيء من البلاء تراه مصروفا عنك؟
فقال: يا روح الله! أنا خير ممن لم يجعل الله في قلبه ما جعل في قلبي من معرفة،
فقال: صدقت! هات يدك، فناوله يده، فإذا هو أحسن الناس وجها، وأفضلهم
ص 168
هيئة، قد أذهب الله عنه ما كان به، وصحب عيسى وتعبد به).
فصل هل يناقض الدعاء ونحوه
الرضا 
إعلم أن الدعاء غير مناقض للرضا، وكذلك كراهية المعاصي، ومقت أهلها، وحسم
أسبابها، والسعي في إزالتها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والخروج من بلد
ظهرت فيه المعاصي. وقد زعمت طائفة من أهل البطالة والغرور: إن جميع ذلك يخالف
الرضا. إذ كل ما يقصد رده بالدعاء وأنواع المعاصي والفجور والكفر من قضاء الله
وقدره، فيجب للمؤمن أن يرضى به. وقد رأوا السكوت على المنكرات مقاما من مقامات
الرضا، وسموه حسن الخلق، وهذا جهل بالتأويل، وغفلة من أسرار الشريعة ودقائقها. أما
الدعاء، فلا ريب في أنا قد تعبدنا به، وقد كثرت أدعية الأنبياء والأئمة، وكانوا على
أعلى مقامات الرضا، وتظاهرت الآيات وتواترت الأخبار في الأمر بالدعاء وفوائده وعظم
مدحه، وأثنى الله - سبحانه - على عباده الداعين، حيث قال: (ويدعوننا رغبا ورهبا)
(17). وقال (أدعوني أستجب لكم) (17). وقال: (أجيب دعوة الداع إذا دعان) (19). وهو
يوجب صفاء الباطن، وخشوع القلب، ورقة النظر، وتنور النفس وتجليها. وقد جعله الله -
تعالى - مفتاحا للكشف، وسببا لتواتر مزايا اللطف والاحسان. وهو أقوى الأسباب لإفاضة
الخيرات والبركات من المبادي العالية. فإن قيل: ما يرد على العبد من المكاره
والبلايا يكون بقضاء الله وقدره، والآيات والأخبار ناطقة بالرضا بقضاء الله مطلقا،
فالتشمر لرده في الدعاء يناقض الرضا. قلنا أن الله - سبحانه - بعظيم حكمته، أوجد
الأشياء على التسبيب
(هامش)
(17) الأنبياء، الآية: 90 (18) المؤمن، الآية 60 (19) البقرة الآية: 186 (*)
ص 169
والترتيب بينهما فربط المسببات بالأسباب، ورتب بعضها على بعض، وجعل بعضها سببا
وواسطة لبعض آخر، وهو مسبب الأسباب. والقدر عبارة عن حصول الموجودات في الخارج من
أسبابها المعينة بحسب أوقاتها، مطابقة لما في القضاء، والقضاء عبارة عن ثبوت صور
جميع الأشياء في العالم العقلي على الوجه الكلي، مطابقة لما في العناية الإلهية
المسماة بالعناية الأولى والعناية عبارة عن إحاطة علم الله - تعالى - بالكل على ما
هو عليه إحاطة تامة فنسبة القضاء إلى العناية كنسبة القدر إلى القضاء. ثم، من جملة
الأسباب لبعض الأمور الدعاء والتصدق وأمثالهما. فكما أن شرب الماء سبب رتبه مسبب
الأسباب لإزالة العطش، ولو لم يشربه لكان عطشه باقيا إلى أن يؤدي إلى هلاكه، وشرب
المسهل سبب لدفع الأخلاط الردية، ولو لم يشربه لبقيت على حالها، وهكذا في سائر
الأسباب، وكذلك الدعاء سبب رتبه الله - تعالى - لدفع البلايا ورفعها، ولو لم يدع
لنزل البلاء ولم يندفع. فلو قيل: لو كان في علم الله - تعالى - وفي قضائه السابق،
أن زيدا - مثلا - يدعو الله، أو يتصدق، عند ابتلائه ببلية كذا، وتندفع به بليته
لدعاء أو تصدق، ودفع بليته، ولو كان فيهما أنه لا يدعو الله ولا يتصدق ويبتلي بتلك
البلية، لم يدع الله ولم يتصدق، ولم تندفع عنه البلية. والحاصل: إن كل ما تعلقت به
العناية الكلية والقضاء الأزلي يحصل مقتضاه في الخارج وعالم التقدير، إن خيرا فخير،
وإن شرا فشر فأي فائدة في سعي العبد واجتهاده قلنا: هذه من جملة شبهات الجبرية على
كون العبد مجبورا في فعله ونفي الاختيار عنه، ولا مدخلية لها بكون الدعاء غير مناقض
للرضا، وكونه من جملة الأسباب المرتبة منه - تعالى - لحصول مسبباتها، كالتزويج
لتحصيل الولد، والأكل والشرب لدفع الجوع والعطش، ولبس الثياب لدفع الحر والبرد،
وغير ذلك. ثم الجواب من الشبهة المذكورة وأمثالها مذكور في موضوعها. وأما إنكار
المعاصي وكراهتها، والفرار من أهلها ومن البلد الذي شاعت فيه، فقد تعبد الله به
عباده وذمهم على الرضا بها، فقال:
ص 170
(ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها) (20). وقال: (رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع
الله على قلوبهم) (21) وفي بعض الأخبار: (من شهد منكرا ورضي به فكأنه قد فعله). وفي
آخر: (لو أن عبدا قتل بالمشرق ورضي بقتله آخر بالمغرب، كان شريكا في قتله). وفي
آخر: (أن العبد ليغيب عن المنكر ويكون عليه مثل وزر صاحبه)، قيل وكيف ذلك؟ قال
(فيبلغه فيرضى به). وأما بعض الكفار والفجار والفساق، ومقتهم والانكار عليهم، فما
ورد فيه من شواهد الكتاب والسنة أكثر من أن يحصى. قال الله سبحانه: (لا يتخذ
المؤمنون الكافرين أولياء) (22). وقال: ((يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود
والنصارى أولياء) (23). وفي الخبر: (إن الله أخذ الميثاق على كل مؤمن أن يبغض كل
منافق). وقال (ص): (أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله). وقد تقدمت جملة
من شواهد هذا في باب الحب في الله والبغض في الله. فإن قيل: المعاصي إن لم تكن
بقضاء الله وقدره فهو محال وقادح في التوحيد، وإن كانت بقضاء الله مطلقا فكراهتها
ومقتها كراهة لقضاء الله. والآيات والأخبار مصرحة بوجوب الرضا بقضاء الله مطلقا،
وذلك تناقض، فكيف السبيل إلى الجمع؟ وأنى يأتي الجمع بين الرضا والكراهة في شيء
واحد؟ قلنا: المقرر عند بعض الحكماء: أن الشرور الواقعة في العالم، من المعاصي
وغيرها، راجعة إلى الإعدام دون الموجودات، فلا تكون مراده له - تعالى -، ولا داخلة
في قضائه، وعند بعضهم أنها داخله في قضائه بالعرض لا بالذات، ولا ضيرة في كراهة ما
ليس في قضاء الله - تعالى - بالذات. وعند بعضهم: أنها شرور قليلة باعثة لخيرات
كثيرة. وعلى هذا
(هامش)
(20) يونس الآية: 7. (21) التوبة، الآية 88، 94 (22) آل عمران، الآية: 28 (23
المائدة، الآية: 54 (*)
ص 171
فينبغي أن تكون مكروهة من حيث ذاتها، وبهذه الحيثية لا تكون من قضاء الله والرضا
به، وفرضه من خبث كونها باعثة لخيرات كثيرة. والتحقيق: أن الأوصاف الثلاثة ثابتة
للشرور الواقعة في العالم، أعني أنها راجعة إلى الإعدام وداخلة في قضائه - تعالى -
بالعرض، وشرور قليلة باعثة لخيرات كثيرة. وعلى هذا فوجه الجمع أظهر. ثم لأبي حامد
الغزالي هنا وجه جمع آخر، لا يروي الغليل ولا يشفي العليل. فإن قيل: بعض أهل
المعاصي ومقتهم موقوف على ثبوت الاختيار لهم وتمكنهم من تركها، وإثبات ذلك مشكل.
قلنا: لا إشكال فيه، إذ البديهة قاضية بثبوت نوع اختيار للعباد في أفعالهم، لا سيما
فيما يتعلق به التكليف والخوض في هذه المسألة مما لا ينبغي. فالأولى فيها السكوت،
والتأدب بآداب الشرع، والرجوع إلى ما ورد من العترة الطاهرة. وما يمكن أن يقال فيها
قد ذكرناه في كتابنا المسمى ب (جامع الأفكار).
فصل طريق تحصيل الرضا 
الطريق إلى
تحصيل الرضا، أن يعلم أن ما قضى الله - سبحانه - له هو الأصلح بحاله، وإن لم يبلغ
فهمه إلى سيره فيه. مع أن السخط والكراهة لا يفيد شيئا ولا يتبدل به القضاء. فإن ما
قدر يكون، وما لم يقدر لم يكن، وحسرة الماضي وتدبير الآتي يذهبان بتركه الوقت بلا
فائدة، وتبقى تبعة السخط عليه. فينبغي أن يدهشه الحب لخالقه عن الاحساس بالألم، كما
للعاشق، وأن يهون عليه العلم بعظم التعب والعناء - كما للمريض والتاجر المتحملين
شدة الحجامة والسفر - فيفوض أمره إلى الله، إن الله بصير بالعباد.
تتميم
التسليم

إعلم أن التسليم، ويسمى تفويضا أيضا، قريب من الرضا، بل هو فوق الرضا، لأنه عبارة
عن ترك الإعراض في الأمور الواردة عليه، وحوالتها
ص 172
بأسرها إلى الله، مع قطع تعلقه عليها بالكلية، بمعنى ألا يكون طبعه متعلقا بشيء
منها. فهو فوق الرضا، إذ في مرتبة الرضا كلما يفعل الله به يوافق طبعه، فالطبع
ملحوظ ومنظور له، وفي مرتبة التسليم يجعل الطبع وموافقته ومخالفته كلها موكلة إلى
الله - سبحانه -، وفوق مرتبة التوكل أيضا، إذ التوكل - كما يأتي - عبارة عن
الاعتماد في أموره على الله، فهو بمنزلة توكيل الله في أموره، وكأنه يجعل الله -
تعالى - بمثابة وكيله، فيكون تعلقه بأموره باقيا، وفي مرتبة التسليم بقطع العلاقة
من الأمور المتعلقة به بالكلية ومنها:
• الحزن 
وهو التحسر والتألم، لفقد محبوب، أو
فوت مطلوب. وهو أيضا، كالاعتراض والانكار، ومترتب على الكراهة للمقدرات الإلهية.
والفرق: إن الكراهة في الاعتراض أشد من الكراهة في الحزن،
كما أن ضد الكراهة - أعني الحب في ضدهما - بعكس ذلك، أي ظهوره في السرور الذي ضد
الحزن أشد من ظهوره في الرضا الذي هو ضد الاعتراض. فإن الرضا هو منع النفس في
الواردات من الجزع مع عدم كراهة وفرح، والسرور هو منعها فيها عن الجزع مع الابتهاج
والانبساط. فالسرور فوق الرضا في الشرافة، كما أن الحزن تحت الاعتراض في الخسة
والرذالة، وسبب الحزن وشدة الرغبة في المشتهيات الطبيعية، والميل إلى مقتضيات قوتي
الغضب والشهوة، وتوقع البقاء للأمور الجسمانية. وعلاجه: أن يعلم أن ما في عالم
الكون والفساد من: الحيوان، والنبات، والجماد، والعروض، والأموال، في معرض الفناء
والزوال، وليس فيها ما يقبل البقاء وما يبقى ويدوم هو الأمور العقلية، والكمالات
النفسية المتعالية عن حيطة الزمان وحوزة المكان وتصرف الأضداد وتطرق الفساد. وإذا
تيقن بذلك زالت عن نفسه الخيالات الفاسدة، والأماني الباطلة. فلا يتعلق قلبه
بالأسباب الدنيوية، ويتوجه بشراشره إلى تحصيل الكمالات العقلية، والسعادات الحقيقية
الموجبة للاتصال بالجواهر النورية الباقية، والمجاورة للأنوار القادسة الثابتة،
فيصل إلى مقام البهجة والسرور، ولا تلحقه أحزان
ص 173
عالم الزور، كما أشير إليه في الكتاب الإلهي بقوله: (ألا إن أولياء الله لا خوف
عليهم ولا هم يحزنون) (24) وفي أخبار داود (ع): (يا داود! ما لأوليائي والهم
بالدنيا؟ إن الهم يذهب حلاوة مناجاتي من قلوبهم، إن محبي من أوليائي أن يكونوا
روحانيين لا يغتمون). والحاصل: أن حب الفانيات والتعلق بما من شأنه الفوات خلاف
مقتضى العقل، وحرام على العاقل أن يفرح بوجود الأمور الفانية، أو يحزن بزوالها.
ولقد قال سيد الأوصياء - عليه آلاف التحية والثناء -: (ما لعلي وزينة الدنيا؟ وكيف
أفرح بلذة تفنى، ونعيم لا يبقى؟!). بل ينبغي أن يرضي نفسه بالموجود، ولا يغتم
بالمفقود، ويكون راضيا بما يرد عليه من خير وشر. وقد ورد في الآثار: (إن الله -
تعالى - بحكمته وجلاله جعل الروح والفرح في الرضا واليقين)، ومن رضي بالموجود ولا
يحزن بالمفقود، فقد فاز بأمن بلا فزع، وسرور بلا جزع، وفرح بلا حسرة، ويقين بلا
حيرة، وما لطالب السعادة أن يكون أدون حالا من سائر طبقات الناس، فإن كل حزب بما
لديهم فرحون، كالتاجر بالتجارة، والزارع بالزراعة، بل الشاطر بالشطارة، والقواد
بالقيادة، مع أن ما هو السبب والموجب المفرح في الواقع ونفس الأمر ليس إلا لأهل
السعادة والكمال وما لغيرهم محض التوهم ومجرد الخيال. فينبغي لطالب السعادة أن يكون
فرحانا بما عنده من الكمالات الحقيقية والسعادات الأبدية، ولا يحزن على فقد الزخارف
الدنيوية، والحطام الطبيعية، ويتذكر ما خاطب الله به نبيه (ص): (ولا تمدن عينيك إلى
ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى) (25)
ومن تصفح فرق الناس، يجد أن كل فرقة منهم فرحهم بشيء من الأشياء، وبه اهتزازهم
وقوامهم ونظام أمرهم. فالصبيان فرحهم باللعب وتهيئة أسبابه، وهو في غاية القبح
والركاكة عند من جاوز مرتبتهم. والبالغون
(هامش)
(24) يونس، الآية: 62. (25) طه، الآية: 131 (*)
ص 174
حد الرجولة، بعضهم فرحان بالدرهم والدينار، وبعضهم بالضياع والعقار وأخر بالاتباع
والانصهار، وفرقة بالنسوان والأولاد، وطائفة بالحرف والصنايع، وبعضهم بالحسب
والنسب، والآخر بالجاه والمنصب، وبعضهم بالقوة الجسمانية، وأخر بالجمال الصوري،
وطائفة بالكمالات الدنيوية: كالخط والشعر، وحسن الصوت، والطب، والعلوم الغريبة،
وغير ذلك، حتى ينتهي إلى من لا يفرح إلا بالكمالات النفسية والرياسات المعنوية وهم
أيضا مختلفون، فبعضهم غاية فرحه بالعبادة والمناجاة، وآخر بمعرفة حقائق الأشياء،
حتى يصل إلى من ليس فرحه إلا بالأنس بحضرة الربوبية، والاستغراق في لجة أنواره،
وسائر المراتب عنده فيئ زائل وخيال باطل. ولا ريب في أن العاقل يعلم أن ما ينبغي أن
يفرح ويبتهج به حصول هذه المرتبة وسائر الأمور، كسراب بقيعة يحسبه الضمآن ماء. فلا
ينبغي للعاقل أن يحزن بفقدها ويفرح بوجودها. ثم من تأمل، يجد أن الحزن ليس أمرا
وجوديا لازما، بل هو أمر اختياري يحدثه الشخص في نفسه بسوء اختياره. إذ كلما يفقد
من شخص ويحزن لأجله ليس موجودا لكثير من الناس، بل ربما لم يملكوه في مدة عمرهم
أصلا، ومع ذلك لا تجدهم محزونين على هدمه، بل فرحون راضون، ولو كان الحزن لازما
لفقد هذا الأمر، لكان كل من فقده محزونا، وليس كذلك. وأيضا كل حزن يعرض لأجل مصيبته
يزول بعد زمان ويتبدل بالسرور، ولو كان الحزن لأجلها أمر ضروريا لازما لما زال
أصلا. ثم العجب من العاقل أن يحزن من فقد الأمور الدنيوية، مع أنه يعلم أن الدنيا
دار فناء، وزخارفها متنقلة بين الناس، ولا يمكن بقاؤها لأحد، وجميع الأسباب
الدنيوية ودائع الله ينتقل إلى الناس على سبيل التبادل والتناوب. ومثلها مثل شمامة
تدار في مجلس بين أهله على التناوب، يتمتع بها في كل لحظة واحد منهم، ثم يعطيها
غيره. فطامع البقاء للحطام الدنيوية كمن طمع في ملكية الشمامة واختصاصها به إذا
وصلت إليه نوبة الاستمتاع، وذا استردت منه عرض له الحزن والخجلة. وما المال
والأهلون إلا ودائع، ولا بد يوما أن ترد الودائع. فلا ينبغي للعاقل أن
ص 175
يغتم ويحزن لأجل رد الوديعة، كيف والحزن بردها كفران للنعمة؟ إذ أقل مراتب الشكر أن
ترد الوديعة إلى صاحبها على طيب النفس، لا سيما إذا استرد الأخس - أعني الخبائث
الدنيوية - وبقي الأشرف - أعني النفس وكمالاتها العلمية والعملية -، فينبغي لكل
عاقل ألا يعلق قلبه بالأمور الفانية، حتى لا يحزن بفقدها. قال سقراط: (إني لم أحزن
قط، إذ ما أحببت قط شيئا حتى أحزن بفوته، ومن سره ألا يرى ما يسوؤه، فلا يتخذ شيئا
يخاف له فقدا). ومنها:
• عدم الاعتماد 
أو ضعفه في أموره على الله، والوثوق بالوسائط،
والنظر إليها فيها. وسببه: إما ضعف اليقين أو ضعف القلب، أو كلاهما. فهو من رذائل
الإيمان، بل هو من شعب الشرك. ولذا ورد في ذمة من الآيات والأخبار ما ورد، قال الله
- سبحانه -: (إن الذين تدعون من دون الله عبادا أمثالكم) (26) وقال: (إن الذين
تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه) (27) وقال:
(ولله خزائن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون) (28) وفي أخبار داود (ع):
(ما اعتصم عبد من عبادي بأحد من خلقي عرفت ذلك من نيته، إلا قطعت أسباب السماوات من
يديه، وأسخطت الأرض من تحته، ولم أبال بأي واد هلك). وقال رسول الله (ص): من اغتر
بالعبيد أذله الله). وقيل (مكتوب في التوراة: ملعون من ثقته بإنسان مثله). فينبغي
للمؤمن أن يتخلى عنه باكتساب ضده، أعني التوكل، كما يأتي.
وصل التوكل 
- فضيلة
التوكل - درجات للتوكل - السعي لا ينافي التوكل - الأسباب التي لا ينافي السعي
إليها التوكل - اعقل وتوكل - درجات
(هامش)
(26) الأعراف، الآية: 193 (27) العنكبوت، الآية: 17. (28) المنافقون، الآية: 7. (*)
|