ص 28
ولم يرد مثل هذا الكلام في حق غير علي. فما ذنبنا إن قلنا بأن عليا هو المتعين
للإمامة حتى لو كان الأمر موكولا إلى الأمة، حتى لو كان الأمر مفوضا إلى اختيار
الناس؟ كان عليهم أن يختاروا عليا، لأن هذه هي الضوابط التي قرروها في علم الكلام،
وقالوا: بأن هذه الصفات هي صفات مجمع على اعتبارهم في الإمام. وحديث أقضاكم علي
تجدونه في: 1 - صحيح البخاري. 2 - مسند أحمد. 3 - المستدرك. 4 - سنن ابن ماجة. 5 -
الطبقات الكبرى. 6 - الإستيعاب. 7 - سنن البيهقي. 8 - مجمع الزوائد. 9 - حلية
الأولياء. 10 - أسد الغابة. 11 - الرياض النضرة.
ص 29
وفي غيرها من الكتب. هذا فيما يتعلق - باختصار - بكلمات رسول الله التي يروونها هم،
وفيها شهادة رسول الله أو إخبار رسول الله بمقامات علي، وبأنه المتمكن من إقامة
الحجج، إقامة البراهين، ودفع الشبه، إن عليا هو المرجع من قبل رسول الله في رفع
الخلافات، هو المبين لما اختلف فيه المسلمون بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم). كلمات الصحابة في المقام العلمي للإمام علي (عليه السلام): وأما كلمات
الصحابة فما أكثرها، وإني أنقل لكم نصا من أحد كبار الحفاظ بترجمة أمير المؤمنين
(عليه السلام)، يشتمل هذا النص على شهادات من كبار الصحابة والتابعين في حق علي
(عليه السلام) من حيث مقامه العلمي. يقول الحافظ النووي في كتاب تهذيب الأسماء
واللغات حيث يترجم لعلي (عليه السلام): أحد العلماء الربانيين والشجعان المشهورين
والزهاد المذكورين، وأحد السابقين إلى الإسلام... إلى أن قال: أما علمه، فكان من
العلوم في المحل العالي، روى عن
ص 30
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خمسمائة حديث وستة وثمانين حديثا، اتفق
البخاري ومسلم منها على عشرين، وانفرد البخاري بتسعة، ومسلم بخمسة عشر، روى عنه
بنوه الثلاثة الحسن والحسين ومحمد بن الحنفية، وروى عنه: ابن مسعود، وابن عمر، وابن
عباس، وأبو موسى، وعبد الله بن جعفر، وعبد الله بن الزبير، وأبو سعيد، وزيد بن
أرقم، وجابر بن عبد الله، وروى عنه من التابعين خلائق مشهورون. ونقلوا عن ابن مسعود
قال: كنا نتحدث أن أقضى المدينة علي. قال ابن المسيب: ما كان أحد يقول: سلوني غير
علي. وقال ابن عباس: أعطي علي تسعة أعشار العلم، ووالله لقد شاركهم في العشر
الباقي. قال ابن عباس: وإذا ثبت لنا الشيء عن علي لم نعدل إلى غيره. ثم يقول
النووي: وسؤال كبار الصحابة - متى قالوا كبار الصحابة فمقصودهم المشايخ الثلاثة
وغيرهم من العشرة المبشرة، هذه الطبقة - ورجوعهم إلى فتاواه وأقواله في المواطن
الكثيرة والمسائل
ص 31
المعضلات، مشهور (1). فإذا كان كبار الصحابة يرجعون إلى علي في معضلاتهم، ويأخذون
بقوله ولم نجد - ولا موردا واحدا - رجع فيه علي إلى واحد منهم، أو احتاج إلى الأخذ
عن أحدهم، فماذا يحكم عقلنا؟ وكيف تحكمون؟ عدم رجوع الإمام علي إلى أحد من الصحابة:
ويشهد بعدم رجوع علي إلى أحد منهم، ورجوع غير واحد منهم إلى علي في المعضلات كما نص
النووي، يشهد بذلك موارد كثيرة - يذكرها ابن حزم الأندلسي في كلام له طويل - فيها
جهل الصحابة وكبار الأصحاب بمسائل الدين، ورجوعهم إلى غيرهم، وليس في ذلك الكلام
الطويل لابن حزم - ولا مورد واحد - يذكر رجوع علي إلى أحد من القوم. يقول ابن حزم:
ووجدناهم - أي الصحابة - يقرون ويعترفون بأنهم لم يبلغهم كثير من السنن، وهكذا
الحديث المشهور عن أبي هريرة - لاحظوا
(هامش)
(1) تهذيب الأسماء واللغات: 1 / 344 - 346 - دار الكتب العلمية - بيروت. (*)
ص 32
هذا الحديث المشهور عن أبي هريرة - يقول: إن إخواني من المهاجرين كان يشغلهم الصفق
بالأسواق، وإن إخواني من الأنصار كان يشغلهم القيام على أموالهم. وعلي ما شغله
الصفق في الأسواق، ولم يشغله القيام بأمواله، وإنما لازم رسول الله ليلا ونهارا.
يقول ابن حزم: وهذا أبو بكر لم يعرف فرض ميراث الجدة وعرفه محمد بن مسلمة والمغيرة
بن شعبة [فاحتاج مثل أبي بكر إلى المغيرة بن شعبة في حكم شرعي!!] وهذا أبو بكر سأل
عائشة في كم كفن كفن رسول الله (صلى الله عليه وسلم). وهكذا يذكر موارد أخرى عنه،
حيث جهل القضايا ورجع إلى غيره. ثم يقول: وهذا عمر يقول في حديث الاستئذان: أخفي
علي، ألهاني الصفق في الأسواق، وقد جهل أيضا أمر إملاص المرأة وعرفه غيره، وغضب على
عيينة بن حصن حتى ذكره الحر بن قيس، وخفي عليه أمر رسول الله بإجلاء اليهود، وخفي
على أبي بكر قبله، وخفي على عمر أمره بترك الإقدام على الوباء وعرف ذلك
ص 33
وعبد الرحمن بن عوف، وسأل عمر أبا واقد الليثي عما كان يقرأ به رسول الله [وهذا
طريف جدا] في صلاتي الفطر والأضحى، هذا وقد صلاهما رسول الله أعواما كثيرة. صلى
رسول الله الفطر والأضحى أعواما كثيرة، وعمر جهل إن رسول الله أي سورة كان يقرأ في
هاتين الصلاتين وسأل أبا واقد الليثي!! ثم يقول ابن حزم: ولم يدر [أي عمر] ما يصنع
بالمجوس حتى ذكره عبد الرحمن بأمر رسول الله، ونسي قبوله الجزية من مجوس البحرين
وهو أمر مشهور، ولعله قد أخذ من ذلك المال حظا كما أخذ غيره، ونسي أمره بتيمم الجنب
فقال: لا يتيمم أبدا ولا يصلي ما لم يجد الماء، وذكره بذلك عمار، وأراد قسمة مال
الكعبة حتى ذكره بعض الصحابة. ثم ينتقل ابن حزم إلى عثمان وغيره فيقول: وهذا
عثمان...، وهذه عائشة...، وهذه حفصة...، وهذا ابن عمر...، وهذا زيد بن ثابت....
وليس - ولا مورد واحد - يذكره كشاهد على جهل علي بمسألة فيكون محتاجا إلى غيره،
ليسأله عن تلك المسألة.
ص 34
هذا النص تجدونه في إحكام الأحكام (1). لولا علي لهلك عمر: وأما كلمة عمر بن
الخطاب: لولا علي لهلك عمر، فإن هذه الكلمة جرت مجرى الأمثال، سمع بها الكل حتى
الأطفال. وكذا قوله: لا أبقاني الله لمعضلة لست لها يا أبا الحسن وروى كلمة: لولا
علي لهلك عمر في واقعة: 1 - عبد الرزاق بن همام. 2 - عبد بن حميد. 3 - ابن المنذر.
4 - ابن أبي حاتم. 5 - البيهقي. 6 - ابن عبد البر. 7 - المحب الطبري. 8 - المتقي
الهندي في كنز العمال (1).
(هامش)
(1) الإحكام في أصول الأحكام المجلد الأول الجزء 2 / 151 - 153 - دار الجيل - بيروت
1407. (2) الإستيعاب في معرفة الأصحاب 3 / 1103، الرياض النضرة في مناقب العشرة 4 /
(*)
ص 35
وفي مورد آخر أيضا قال هذه الكلمة - لولا علي لهلك عمر - وذلك المورد قضية المرأة
المجنونة التي زنت فهم عمر برجمها، وتلك القضية رواها 1 - عبد الرزاق. 2 - البخاري.
3 - الدارقطني. وغيرهم من كبار الأئمة (1). وقد قالها في موارد أخرى، لا نطيل
بذكرها. ولا بأس بذكر كلمة المناوي بهذا الصدد، يقول المناوي في شرح قوله (صلى الله
عليه وآله وسلم): علي مع القرآن والقرآن مع علي لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، وهذا
حديث أيضا وارد عن رسول الله، يقول: أخرج أحمد: إن عمر أمر برجم امرأة، فمر بها علي
فانتزعها، فأخبر عمر، فقال عمر: ما فعله إلا لشيء، فأرسل إليه فسأله، فقال علي: أما
سمعت رسول الله يقول: رفع القلم عن ثلاث.... قال: نعم، فقال عمر: لولا علي لهلك
عمر. قال المناوي:
(هامش)
(1) 194 فيض القدير 4 / 357. (*)
ص 36
واتفق له مع أبي بكر نحوه - أي اتفق إن أبا بكر أيضا هم بمثل هذه القضية وعلي منعه
واستسلم لقول علي - وربما قال: لولا علي لهلك أبو بكر (1). كما أنا وجدنا في بعض
المصادر موردا عن عثمان قال فيه: لولا علي لهلك عثمان (2). إذن، من المتمكن من
إقامة الحجج والبراهين ودفع الشبه؟ نحن الآن في القرن الرابع عشر أو في القرن
الخامس عشر، ومن أين نعرف حالات علي وأحوال أبي بكر، ونحن نريد أن نختار أحدهما
للإمامة على مسلك القوم؟. أليس من هذه الطرق؟ أليس طريقنا ينحصر بالاطلاع على هذه
القضايا لنعرف من الذي توفر فيه الشرط الأول، الشرط الأول المتفق عليه، المجمع عليه
بين العلماء من المسلمين، فهذا علي وهذه قضاياه، وهذه هي الكلمات الواردة في حقه،
وهذا رجوع غيره إليه، وعدم رجوعه إلى غيره، أي إنه كان مستغنيا عن الغير وكان
الآخرون محتاجين إليه.
(هامش)
(1) فيض القدير 4 / 357. (2) زين الفتى في سورة هل أتى 1 / 317 رقم 225. (*)
ص 37
انتشار العلوم الإسلامية بالبلاد بواسطة الإمام علي وتلامذته:
ولذا نرى أن العلوم
الإسلامية كلها قد انتشرت بالبلاد الإسلامية بواسطة علي وتلامذته من كبار الصحابة،
وهذا أمر قد حققناه في موضعه في بحث مفصل، لأن البلاد الإسلامية في ذلك العصر كانت:
المدينة المنورة، مكة المكرمة، البصرة، الكوفة، اليمن، الشام. وقد دققنا النظر
وحققنا في الأمر، ورأينا أن العلوم انتشرت في جميع هذه البلدان عن علي (عليه
السلام). أما في المدينة والكوفة، فقد عاش علي في هاتين المدينتين وأفاد فيهما
الناس بعلومه. أما الكوفة فقبل مجئ علي إليها كان فيها عبد الله بن مسعود. والشام
كان عالمها الأكبر أبو الدرداء، وأبو الدرداء تلميذ عبد الله بن مسعود، وعبد الله
بن مسعود تلميذ علي (عليه السلام). وأما البصرة ومكة المكرمة، فانتشرت العلوم في
هاتين البلدتين أو هذين القطرين بواسطة عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عباس تلميذ
علي عليه الصلاة والسلام.
ص 38
وهنا نصوص سجلتها فيما يتعلق بهذا الموضوع من ذلك البحث الذي حققت فيه هذه القضية،
ولكن لا أريد أن أقرأ تلك النصوص لئلا يطول بنا المجلس. وأما اليمن، فقد سافر إليها
علي (عليه السلام) بنفسه أكثر من مرة، وقبيلة همدان أسلمت على يده. فكان حديث مدينة
العلم، وحديث أنا دار الحكمة، وغير هذين الحديثين، وما ورد في تفسير قوله تعالى:
(وتعيها أذن واعية) وشهادات كبار الصحابة، وشهادات كبار العلماء في القرون
المختلفة، وأيضا انتشار العلوم بواسطة علي، كل هذه الأمور كانت أدلة على أن المبرز
في هذا الميدان هو علي (عليه السلام)، فالشرط الأول إنما توفر في علي دون غيره.
ولدلالة هذه الأمور على تقدم علي على غيره من الأصحاب، يضطر القوم إلى التحريف
والتكذيب، فإنكم إذا راجعتم صحيح الترمذي لا تجدون حديث أنا مدينة العلم وعلي
بابها، مع رواية غير واحد من الحفاظ الأعلام كابن الأثير والسيوطي وابن حجر هذا
الحديث عنه! وهكذا يضطر ابن تيمية أن يكذب كل هذه الأمور، حتى أن كون ابن عباس
تلميذا لعلي يكذبه ابن تيمية، حتى أخذ عبد الله بن
ص 39
مسعود عن علي يكذبه، وحديث مدينة العلم يكذبه، وهكذا الأحاديث الأخرى التي ذكرت
بعضها. يقول بالنسبة إلى حديث: هو الأذن الواعية يقول: إنه حديث موضوع باتفاق أهل
العلم. وحديث أقضاكم علي يكذبه ابن تيمية، حتى يقول: هذا الحديث لم يثبت، وليس له
إسناد تقوم به الحجة، لم يروه أحد في السنن المشهورة، ولا المسانيد المعروفة، لا
بإسناد صحيح ولا ضعيف (1). وقد ذكرنا أنه في البخاري، وفي سنن النسائي، وسنن ابن
ماجة، وفي الطبقات لابن سعد، وفي مسند أحمد، وغيرها من الكتب. وتكذيب ابن تيمية هو
الآخر دليل على ثبوت هذه القضايا، وعلى تقدم علي في هذا الشرط على غيره. وتلخص، أنه
إذا كان العلم بالأصول والفروع، وإذا كان التمكن من إقامة الحجج والبراهين ودفع
الشبه، هو الشرط الأول المتفق عليه بين المسلمين في الإمام الذي يريد المسلمون أن
(هامش)
(1) منهاج السنة 7 / 512. (*)
ص 40
يختاروه على مسلك الإختيار، فهذا الشرط موجود في علي دون غيره. فأي حديث يروونه في
حق أبي بكر في مقابل هذه الأدلة وغيرها؟ يروون حديثا يقول (صلى الله عليه وآله
وسلم) - أي ينسبونه إلى رسول الله - ما صب الله في صدري شيئا إلا وصببته في صدر أبي
بكر. إن كان هذا الحديث صدقا، فلماذا يقول ابن حزم جهل كذا فرجع إلى فلان، جهل كذا
فرجع إلى فلان، جهل كذا فرجع إلى فلان. ولكن هذا الحديث أدرجه ابن الجوزي في كتاب
الموضوعات ونص على أنه كذب (1). ولا يوجد حديث آخر في باب العلم يروونه بحق أبي بكر
سوى هذا الحديث الذي ذكرته. فكيف تحكمون؟ قال الله تعالى: (فكيف تحكمون).
(هامش)
(1) كتاب الموضوعات لابن الجوزي 1 / 219، الأخبار الموضوعة: 454 للملا علي القاري -
المكتب الإسلامي - بيروت - 1406. (*)
ص 41
الصفة الثانية: العدالة 
ننتقل الآن إلى الشرط الثاني، وهو العدالة، وأيضا: نجد
الأحاديث الكثيرة المتفق عليها بين المسلمين بين الطرفين المتخاصمين في هذه
المسألة، تلك الأحاديث شاهدة على أن عليا (عليه السلام) كان أعدل القوم. أذكر لكم
حديثين فقط: أحدهما: قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): كفي وكف علي في العدل سواء
هذا الحديث يرويه: 1 - ابن عساكر في تاريخ دمشق. 2 - الخطيب البغدادي في تاريخ
بغداد. 3 - المتقي الهندي في كنز العمال. 4 - صاحب الرياض النضرة في مناقب العشرة
المبشرة
ص 42
وغير هؤلاء (1). الثاني: قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي: يا علي أخصمك
بالنبوة ولا نبوة بعدي، وتخصم الناس بسبع ولا يخصمك فيها أحد من قريش: أنت أولهم
إيمانا بالله، وأوفاهم بعهد الله، وأقومهم بأمر الله، وأقسمهم بالسوية، وأعدلهم في
الرعية، وأبصرهم بالقضية، وأعظمهم عند الله مزية. فهذا ما يقوله رسول الله، ويرويه:
1 - أبو نعيم في حلية الأولياء (1). 2 - وصاحب الرياض النضرة. 3 - ابن عساكر، حيث
يرويه عن عمر بن الخطاب نفسه حيث يقول: كفوا عن ذكر علي...، ويذكر هذه القطعة من
الحديث أيضا. وأنتم تعرفون قضية ما كان بين عقيل وعلي (عليه السلام)، لعدالته،
وتعرفون أيضا قضايا أخرى كثيرة من عدله (عليه السلام) في كتب الفريقين، مما لا نطيل
بذكرها هذا البحث.
(هامش)
(1) ترجمة علي (عليه السلام) من تاريخ دمشق 2 / 438 رقم 945 و946، تاريخ بغداد 8 /
77، وفيه يدي ويد علي في العدل سواء، كنز العمال 11 / 604 رقم 32921، الرياض النضرة
2 / 120، وفيه كفي وكف علي في العدد سواء. (2) حلية الأولياء 11 / 65 - دار الكتاب
العربي - 1405 - بيروت.
ص 43
الصفة الثالثة: الشجاعة
وأما الشرط الثالث الذي هو الشجاعة، قال في شرح المواقف:
إنما اعتبر هذا الشرط ليقوى على الذب عن الحوزة والحفظ لبيضة الإسلام بالثبات في
المعارك. فراجعوا الأخبار والتواريخ وأنباء الحروب والغزوات، ليظهر لكم من كان
الذاب عن الحوزة والحافظ لبيضة الإسلام والثابت أو ذو الثبات في المعارك؟ من كان؟
لقد علم الموافق والمخالف أن عليا (عليه السلام) كان أشجع الناس، وأن بسيفه ثبتت
قواعد الإسلام، وتشيدت أركان الإيمان، وكانت الراية بيده في كافة الغزوات، وما
انهزم (عليه السلام) في موطن من المواطن قط. هذه الأمور أعتقد أنها قد تجاوزت حد
الرواية وبلغت إلى حد الدراية، فتلك مواقفه في بدر، وأحد، وخيبر، وحنين، والخندق -
ص 44
الأحزاب - وغير ذلك من الحروب والغزوات، من ذا يشك في أشجعية علي ومواقفه مع رسول
الله؟ نعم، يشك في ذلك مثل ابن تيمية، لاحظوا ماذا يقول، يقول في جواب العلامة
الحلي حيث يقول: إن عليا كان أشجع الناس، يقول: هذا كذب، فأشجع الناس رسول الله
(1). وهل كان البحث عن شجاعة رسول الله؟ وهل كان من شك في أشجعية رسول الله؟ إنما
الكلام بين علي وأبي بكر! كلامنا في الإمامة بعد رسول الله، كلامنا في الخلافة بعد
رسول الله. لاحظوا كيف يغالط؟ ولماذا يغالط؟ لأنه ليس عنده جواب، يعلم ابن تيمية -
ويعلم كلهم - بأن الشيخين قد فرا في أكثر من غزوة، وأنهما لم يقتلا ولا واحدا في
سبيل الله. يقول العلامة الحلي: إن عليا قتل بسيفه الكفار. فيقول في جوابه ابن
تيمية: قوله: إن عليا قتل بسيفه الكفار، فلا ريب أنه لم يقتل إلا بعض الكفار. وهل
قال العلامة الحلي: إن عليا قتل كل الكفار! فلا ريب أنه لم يقتل إلا بعض الكفار.
(هامش)
(1) منهاج السنة 8 / 76. (*)
ص 45
يقول ابن تيمية: وكذلك سائر المشهورين بالقتال من الصحابة، كعمر والزبير وحمزة
والمقداد وأبي طلحة والبراء بن مالك وغيرهم. يقول: ما منهم من أحد إلا قتل بسيفه
طائفة من الكفار. فإذا سئل ابن تيمية: أين تلك الطائفة من الكفار الذين قتلهم عمر؟
يقول في الجواب: القتل قد يكون باليد كما فعل علي وقد يكون بالدعاء... القتال يكون
بالدعاء كما يكون باليد. بالنص عبارته - والله - راجعوا كتاب منهاج السنة فإنه
موجود (1). إذن، قتل عمر طائفة من الكفار بالدعاء، ولا بأس!! وأي مانع من هذا!!
وإذا سألنا ابن تيمية عن شجاعة أبي بكر - أليس الشرط الثالث: الشجاعة؟ - إذا سألناه
عن شجاعة أبي بكر، يقول في الجواب بنص عبارته - بلا زيادة ونقيصة -: إذا كانت
الشجاعة المطلوبة من الأئمة شجاعة القلب، فلا ريب أن أبا بكر كان أشجع
(هامش)
(1) منهاج السنة 4 / 482. (*)
ص 46
من عمر، وعمر أشجع من عثمان وعلي وطلحة والزبير، وكان يوم بدر مع النبي في العريش
(1). إذن، تكون شجاعة أبي بكر بقوة القلب فقط، وقد جاهد وقاتل بقوة القلب. فالشجاعة
على قسمين أو لها معنيان: الشجاعة التي يفهمها كل عربي، ومعنى آخر يراد من الشجاعة:
قوة القلب، وأبو بكر كان قوي القلب!!. وهكذا يجيب ابن تيمية عن توفر هذا الشرط في
علي دون الشيخين، يجيب عن ذلك بجواب لا تجدونه في أي كتاب من الكتب، فيجعل عمر
مقاتلا، لكن لا باليد بل بالدعاء، والقتال بالدعاء كالقتال باليد، ويجعل أبا بكر
شجاعا، لكن شجاعة القلب وهي المطلوبة في الأئمة!! وكأن عليا كانت عنده الشجاعة
البدنية ولم تكن عنده شجاعة قلبية!! وكل هذا من ابن تيمية ينفعنا في يقيننا بصحة
استدلالاتنا، وإلا فأي معنى لتفسير القتال والجهاد في سبيل الله وقتل طائفة من
الكفار بالدعاء؟
(هامش)
(2) منهاج السنة 8 / 79. (*)
ص 47
ثم لو كانا واجدين لقوة القلب - كما يقول ابن تيمية - فلماذا فرا؟ لا ريب في أنهما
قد فرا في أحد، وقد روى الخبر أئمة القوم، منهم: 1 - أبو داود الطيالسي. 2 - ابن
سعد صاحب الطبقات. 3 - أبو بكر البزار. 4 - الطبراني. 5 - ابن حبان. 6 - الدارقطني.
7 - أبو نعيم. 8 - ابن عساكر. 9 - الضياء المقدسي. وغيرهم من الأئمة الأعلام.
راجعوا كنز العمال (1)، أعطيكم بعض الأوقات بعض الأرقام، لأن القضايا حساسة فأضطر
إلى إعطاء المصدر.
(هامش)
(1) كنز العمال 10 / 424. (*)
ص 48
أما في خيبر، فقد روى فرارهما: 1 - أحمد. 2 - ابن أبي شيبة. 3 - ابن ماجة. 4 -
البزار. 5 - الطبري. 6 - الطبراني. 7 - الحاكم. 8 - البيهقي. 9 - الضياء المقدسي.
10 - الهيثمي. وجماعة غيرهم. راجعوا أيضا كنز العمال، يروي عن كل هؤلاء (1). وأما
في حنين، فالذي صبر مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هو علي فقط، كما في
الحديث الصحيح عن ابن عباس، وهذا الحديث في المستدرك (2).
(هامش)
(1) كنز العمال 10 / 461. (2) المستدرك على الصحيحين 3 / 111. (*)
ص 49
أما في الخندق فالكل يعلم كلمة رسول الله: لضربة علي في يوم الخندق أفضل من عبادة
الثقلين (1)، أو أفضل من عبادة الأمة إلى يوم القيامة (2).
(هامش)
(1) شرح المواهب 8 / 371. (2) المستدرك على الصحيحين 3 / 32. (*)
ص 51
خاتمة المطاف
ففي من توفرت هذه الشروط: العلم، العدالة، الشجاعة...، هذه الشروط
والصفات المتفق على ضرورة وجودها في شخص حتى يصلح ذلك الشخص لانتخاب الناس إياه
واختياره للإمامة بعد رسول الله على مسلك الاختيار؟ هذه الشروط إنما توفرت في علي
(عليه السلام)، وليست بمتوفرة في غيره، وعلى فرض وجودها في غيره أيضا، أعني أبا بكر
وعمر، فقد أمكننا أن نعرف على ضوء الأدلة الواردة في الكتب الموثوقة المعتمدة، أن
نعرف الذي كانت تلك الصفات موجودة فيه على الوجه الأتم الأفضل، وقد ثبت أن عليا
(عليه السلام) - على فرض وجود هذه الصفات في غيره - هو الأولى، فثبت أنه الأفضل،
وثبت أنه الأحق، (أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى).
ص 52
إذا كان الرجل والرجلان يجهلان المسألة والمسألتين، ومسائل فرعية في الأحكام
الشرعية، ويجهل الرجل ماذا كان رسول الله يقرأ في صلاتي الفطر والأضحى، كيف نجعل
هذا الشخص قائما مقام رسول الله، متمكنا من إقامة الحجج والبراهين، والذب عن دين
الله وعن شريعة سيد المرسلين، متى ما جاءت شبهة أو توجهت هجمة فكرية عن خارج البلاد
الإسلامية؟ فما لهم كيف يحكمون. مسألة تقدم المفضول على الفاضل: نعم، لا مناص لمن
يقول بقبح تقدم المفضول على الفاضل كابن تيمية - ابن تيمية ينص في أكثر من موضع من
منهاج السنة على قبح تقدم المفضول على الفاضل - فحينئذ لا بد وأن يلتزم بإمامة علي.
إلا أنه يضطر إلى تكذيب الثوابت، ولا مناص له من التكذيب، حتى لو كان الحديث موجودا
في الصحيحين وفي غير الصحيحين من الصحاح وفي غير الصحاح من الكتب المعتبرة بأسانيد
صحيحة، لأن النصب والعداء لأمير المؤمنين (عليه السلام) يمنعه من الاعتراف بالحق
والالتزام به، إلا أنا نوضح هذه الحقائق ونستدل
ص 53
عليها، عسى أن يرجع بعض الناس عن تقليده واتباعه، ولا أقل من إقامة الحجة، ليهلك من
هلك عن بينة. نعم، هناك من يعترف بصحة هذه الأحاديث، إلا أنه ينفي قبح تقدم المفضول
على الفاضل. فيدور الأمر عند القائلين بإمامة أبي بكر وعمر، بين نفي قبح تقدم
المفضول على الفاضل وقبول الأحاديث والآثار والأخبار هذه لصحتها، وبين قبول قبح
تقدم المفضول على الفاضل وتكذيب هذه الأحاديث والآثار والقضايا الثابتة. وقد مشى
على الطريق الثاني ابن تيمية، وعلى الطريق الأول الفضل ابن روزبهان، وكلاهما في
مقام الرد على العلامة الحلي في استدلالاته على إمامة أمير المؤمنين، فابن روزبهان
يقول بعدم ضرورة كون الإمام أفضل من غيره وأنه لا يقبح تقدم المفضول على الفاضل
وحكم على خلاف حكم العقلاء من الأولين والآخرين، وابن تيمية يوافق على هذا الحكم
العقلي، إلا أنه يكذب الأحاديث الصحيحة ويتصرف في معنى الشجاعة ومعنى القتل ومعنى
الجهاد. والفضل ابن روزبهان لا يضطر إلى هذه التصرفات القبيحة الشنيعة الرديئة، إلا
أنه ينكر أن يكون تقدم المفضول على الفاضل قبيحا، وهذا رأي على خلاف حكم العقل
وبناء العقلاء.
ص 54
وإذا ما رجعتم إلى كتاب المواقف، شرح المواقف، شرح المقاصد، وغير هذه الكتب، ترونهم
مضطربين، لا يعلمون ما يقولون، لا يفهمون بما يحكمون، فما لهم كيف يحكمون؟ راجعوا
شرح المواقف وشرح المقاصد وغيرهما من كتب القوم: فتارة يوافقون على قبح تقدم
المفضول على الفاضل، وهذه الأحاديث صحيحة. وتارة يتأملون وكأنهم لا يعلمون أن تقديم
المفضول على الفاضل قبيح أو لا، ويتركون البحث على حاله؟ وقد نقلت هنا عبارة كتاب
المواقف للقاضي الإيجي، الذي ذكر في هذه المسألة الخلاف في تقدم المفضول وعدم تقدم
المفضول، وأنه قبيح أو لا، وهو ساكت لا يختار أحد القولين، لأنه لا يدري ماذا يقول؟
يبقى متحيرا، يبقى مضطربا، لأن الأمر يدور بين الأمرين كما ذكرت. وإذا سألت القاضي
الإيجي عن أن أبا بكر أفضل من علي أو لا، وتريد منه الكلام الصريح والفتوى الواضحة
في هذه المسألة، والإفصاح عن رأيه؟ يقول: بأن الأفضلية لا يمكننا أن ندركها ونتوصل
إليها! ثم إن الصحابة قدموا أبا بكر وعمر وعثمان على علي، وجعلوا أولئك
ص 55
أفضل من علي، وحسن الظن بهم - أي بالصحابة - يقتضي أن نقول بقولهم ونوكل الأمر إلى
الله سبحانه وتعالى. وهكذا يريد الفرار من هذه المسألة، والخروج عن عهدة هذه
القضية، وإلقاء المسؤولية على الصحابة. فأقول للقاضي الإيجي: إذن، لماذا أتعبت
نفسك؟ إذن، لماذا بحثت عن هذه المسألة؟ ولماذا طرحت هذه القضية في كتابك الذي أصبح
أهم متن من الكتب الكلامية؟ وكان عليك من الأول أن تقول: بأن الصحابة كذا فعلوا،
ونحن كذا نقول، وإنا على آثارهم مقتدون، وكذلك يفعلون. وإنا لله وإنا إليه راجعون،
وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين.