ص 301
قبح مقالتهم.. وقس على ذلك غيره من الآيات المختلفة. ومهما تمت المعرفة كانت الخشية
أغلب الأحوال على القلب، إذ التضيق غالب على آيات القرآن إذ لا ترى ذكر المغفرة
والرحمة إلا مقرونا بشروط يقصر الأكثرون عن نيلها، ولذلك كان في الخائفين من يصير
مغشيا عليه عند استماع آيات الوعيد، ومنهم من مات بمجرد استماعها. وبالجملة:
المقصود الأصلي من القرآن، استجلاب هذه الأحوال إلى القلب والعمل به وإلا فالمؤنة
بتحريك اللسان بحروفه خفيفة. وحق تلاوة القرآن أن يشترك فيها اللسان والعقل والقلب
فحظ اللسان تصحيح الحروف بالترتيل، وحظ العقل إدراك المعاني، وحظ القلب الاتعاض
والتأثر بالحالات المذكورة. فاللسان واعظ القلب، والعقل مترجم، والقلب متعظ. ومنها
- الترقي: وهو أن يترقى إلى أن يسمع الكلام من الله تعالى لا من نفسه. فدرجات
القراءة ثلاث: الأولى: وهي أدناها، أن يقدر العبد أنه يقرؤه على الله تعالى واقفا
بين يديه، وهو ناظر إليه ومستمع منه، فتكون حاله - على هذا التقدير - التملق
والسؤال والتضرع والابتهال. الثانية: أن يشهد بقلبه، كأن ربه يخاطبه باللطافة،
ويناجيه بإحسانه وإنعامه فمقامه الهيبة والحياء والتعظيم والاصغاء. الثالثة: أن يرى
في الكلام المتكلم ، وفي الكلمات الصفات، فلا ينظر إلى نفسه وإلى تلاوته، ولا إلى
تعلق الإنعام به من حيث أنه منعم عليه، بل يكون مقصود الهم على التكلم موقوف الفكر
عليه. كأنه مستغرق بمشاهدة المتكلم من غيره. وهذه درجة المقربين والصديقين، وما
قبله من درجات أصحاب اليمين وما خرج من ذلك فهو درجات الغافلين. وقد أخبر عن الدرجة
العليا سيد الشهداء - أرواحنا فداه - حيث قال (ع): (الذي تجلى لعباده في كتابه بل
في كل شيء، وأراهم نفسه في خاطبه، بل في كل نور). وأشار إليها الإمام أبو عبد الله
الصادق عليه السلام حيث قال: (والله لقد تجلى الله عز وجل بخلقه في كلامه! ولكن لا
يبصرون). وروي: (أنه لحقته حالة في الصلاة، حتى خر مغشيا عليه، فلما سرى عنه، قيل
له في ذلك، فقال (ع): ما زلت اردد الآية على قلبي، حتى سمعتها من المتكلم بها، فلم
يثبت جسمي لمعاينة قدرته). وفي مثل
ص 302
هذه الدرجة تشتد البهجة، وتعظم الحلاوة واللذة. ولذلك قال بعض الحكماء (كنت أقرأ
القرآن، فلا أجد له حلاوة، حتى تلوته كأني أسمعه عن رسول الله (ص) يتلوه على
أصحابه، ثم رفعت إلى مقام فوقه، فكنت اتلوه كأني أسمعه من جبرئيل يلقيه على رسول
الله (ص) فعندها وجدت لذة ونعيما لا أصبر عنه) وقال حذيفة: (لو طهرت القلوب، لم
تشبع من قراءة القرآن) وذلك لأنها بالطهارة تترقى إلى مشاهدة المتكلم في الكلام، بل
التوحيد الخالص للعبد، ألا يرى في كل شيء إلا الله، إذ لو رأى غيره، لا من حيث أنه
منه وله وبه وإليه، كان مشركا بالشرك الخفي. ومنها - التبري: وهو أن يتبرى من حوله
وقوته، ولا يلتفت إلى نفسه بعين الرضا والتزكية. فإذا قرأ آيات الوعد ومدح الأخيار،
فلا يشهد نفسه ولا يدخلها في زمرتهم، بل يشهد أهل الصدق واليقين، ويتشوق إلى أن
يلحقه الله بهم. وإذا قرأ آيات المقت والوعيد، وذم العصاة والمقصرين شهد نفسه هناك،
وقدر أنه المخاطب خوفا وإشفاقا. وإلى هذا أشار مولانا أمير المؤمنين (ع)، حيث قال
في وصف المتقين: (وإذا مروا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم، وظنوا أن
زفير جهنم في آذانهم) فإذا رأى القارئ نفسه بصورة التقصير في القراءة كانت رؤيته
سبب قربه. فإن من شهد البعد في القرب، لطف له بالخوف، حتى يسوقه إلى درجة أخرى في
القرب وراءها، ومن شهد القرب في البعد مكر به بالأمن الذي يفيضه إلى درجة أخرى في
البعد أسفل مما هو فيه. ومهما كان مشاهدا نفسه بعين الرضا، صار محجوبا بنفسه. فإذا
جاوز حد الالتفات إلى نفسه، ولم يشاهد إلا الله تعالى في قراءته، وكشف له سر
الملكوت بحسب أحواله، فحيث يتلو آيات الرحمة والرجاء، ويغلب على حاله الاستبشار،
وتنكشف له صورة الجنة، فيشاهدها كأنه يراها عيانا، وأن غلب عليه الخوف، كوشف
بالنار، حتى يرى أنواع عذابها، وذلك لأن كلام الله عز وجل يشتمل على السهل اللطيف،
والشديد العسوف، والمرجو والمخوف، وذلك بحسب أوصافه، إذ منها الرحمة واللطف. ومنه -
القهر والبطش والانتقام: فبحسب مشاهدة الكلمات والصفات
ص 303
ينقلب القلب في اختلاف الحالات، وبحسب كل حالة منها يستعد للمكاشفة بأمر يناسب تلك
الحالة، ويمتنع أن يكون حال المستمع واحدا والمسموع مختلفا، إذ فيه كلام راض وكلام
غضبان، وكلام منعم، وكلام منتقم، وكلام جبار متكبر لا يبالي، وكلام منان متعطف لا
يهمل.
المقصد الخامس الصوم

إعلم أن الصوم أجره عظيم، وثوابه جسيم، وما يدل على فضله
من الآيات والأخبار أكثر من أن تحصى، وهي معروفة مشهورة فلا حاجة إلى ذكرها، فلنشر
إلى ما يتعلق به من الأمور الباطنة:
فصل ما ينبغي للصائم

ينبغي للصائم أن يغض بصره
عن كل ما يحرم النظر إليه، أو يكرهه، أو يشغل القلب ويلهيه عن ذكر الله تعالى،
ويحفظ اللسان عن جميع آفاته المتقدمة، ويكف السمع عن كل ما يحرم أو يكره استماعه،
ويكف بطنه عن الحرام والشبهات، ويكف سائر جوارحه عن المكاره. وقد ورد في اشتراط
جميع ذلك في الصوم في ترتب كمال الثواب عليه أخبار كثيرة. وينبغي أيضا ألا يستكثر
من الحلال وقت الافطار بحيث يمتلئ، إذ ما من وعاء أبغض إلى الله عز وجل من بطن ملئ
من حلال، كيف والسر في شرع الصوم قهر عدو الله وكسر الشهوة والهوى، لتتقوى النفس
على التقوى، وترتقي من حضيض وحظوظ النفس البهيمية إلى ذروة التشبيه بالملائكة
الروحانية، وكيف يحصل ذلك إذا تدارك الصائم عند الافطار ما فاته ضحوة نهاره، لا
سيما إذا زيد عليه في ألوان الطعام، كما استمرت العادات في هذه الأعصار، وربما يؤكل
من الأطعمة في شهر رمضان ما لا يؤكل في عدة شهور. ولا ريب في أن المعدة إذا خليت من
ضحوة النهار إلى العشاء، حتى هاجت شهوتها وقويت رغبتها، ثم أطعمت من اللذات، وأشبعت
من ألوان المطاعم، وجمع ما كان يأكل ضحوة إلى ما يأكل ليلا، وأكل جميع في الليل مرة
أو مرتين أو أكثر زادت لذتها، وتضاعفت قوتها، وابعث من الشهوات ما عساها كانت راكدة
ص 304
لو تركت على عادتها، فلا يحصل ما هو المقصود من الصوم، أعني تضعيف القوى الشهوية
التي هي وسائل الشيطان، فلا بد من التقليل، وهو أن يأكل في مجموع الليلة أكلته التي
كان يأكلها كل ليلة لو لم يصم، من دون ضم مما يأكل في النهار إليه، حتى ينتفع
بصومه. والحاصل: إن روح الصوم وسره والغرض الأصلي منه: التخلق بخلق من أخلاق الله
تعالى، أعني الصمدية والاقتداء بالملائكة في الكف عن الشهوات بقدر الإمكان وهذا
إنما يحصل بتقليل الأكل عما يأكله في غير وقت الصوم، فلا جدوى لمجرد تأخير أكله
وجمع أكلتين عند العشاء، ثم لو جعل سر الصوم ما يظهر من بعض الظواهر من إدراك
الأغنياء ألم الجوع والانتقال منه إلى شدة حال الفقراء، فيبعثهم ذلك على مواساتهم
بالأموال والأقوات، فهو أيضا لا يتم بدون التقليل في الأكل .
فصل ما ينبغي للصائم
عند الافطار 
ينبغي لكل صائم أن يكون قلبه بعد الافطار مضطربا، معلقا بين الخوف
والرجاء، إذ ليس يدري أيقبل صومه فهو من المقربين أو يرد عليه فهو من الممقوتين،
وليكن الحال كذلك في آخر كل عبادة يفرغ منها. روي: (أن الإمام أبا محمد الحسن
المجتبى (ع) مر بقوم يوم العيد، وهم يضحكون، فقال (ع) إن الله تعالى جعل شهر رمضان
مضمارا لخلقه، يستبقون فيه لطاعته، فسبق أقوام ففازوا، وتخلف أقوام فخابوا، فالعجب
كل العجب للضاحك اللاعب في اليوم الذي فاز فيه المسارعون وخاب فيه المبطلون، أما
والله لو كشف الغطاء لاشتغل المحسن بإحسانه، والمسئ عن إساءته!)، أي كان سرور
المقبول يشغله عن اللعب، وحسرة المردود تسد عليه باب الضحك
فصل درجات الصوم 
للصوم
ثلاث درجات: الأولى - صوم العموم: وهو كف البطن والفرج عن قضاء الشهوة، وهذا لا
يفيد أزيد من سقوط القضاء والاستخلاص من العذاب.
ص 305
الثانية - صوم الخصوص: وهو الكف المذكور، مع كف البصر والسمع واللسان واليد والرجل
وسائر الجوارح عن المعاصي، وعلى هذا الصوم تترتب المثوبات الموعودة من صاحب الشرع.
الثالثة - صوم خصوص الخصوص -: وهو الكفان المذكوران، مع صوم القلب عن الهمم الدنية،
والأخلاق الردية، والأفكار الدنيوية، وكفه عما سواه بالكلية، ويحصل الفطر في هذا
الصوم بالفكر في ما سوى الله واليوم الآخر، وحاصل هذا الصوم إقبال بكنه الهمة على
الله، وانصراف عن غير الله وتلبس بمعنى قوله تعالى: (قل الله ثم ذرهم)، وهذا درجة
الأنبياء والصديقين والمقربين، ويترتب عليه الوصول إلى المشاهدة واللقاء، والفوز
بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب أحد. وإلى هذا الصوم أشار مولانا
الصادق (ع) حيث قال: (قال النبي (ص): الصوم جنة. أي ستر من آفات الدنيا وحجاب من
عذاب الآخرة، فإذا صمت فانو بصومك كف النفس عن الشهوات، وقطع الهمة عن خطرات
الشياطين، وأنزل نفسك منزلة المرضى، ولا تشتهي طعاما ولا شرابا، وتوقع في كل لحظة
شفاءك من مرض الذنوب، وطهر باطنك من كل كدر وغفلة وظلمة يقطعك عن معنى الإخلاص لوجه
الله قال رسول الله (ص): قال الله تعالى: الصوم لي وأنا أجزي به. والصوم يميت مراد
النفس وشهوة الطبع، وفيه صفاء القلب، وطهارة الجوارح، وعمارة الظاهر والباطن،
والشكر على النعم والاحسان إلى الفقراء، وزيادة التضرع والخشوع والبكاء، وحبل
الالتجاء إلى الله، وسبب انكسار الهمة. تخفيف الحساب، وتضعيف الحسنات، وفيه من
الفوائد ما لا يحصى ولا يعد، وكفى بما ذكرناه لمن عقله ووفق لاستعماله) (52) تتمم
من صام شهر رمضان إخلاصا لله وتقربا إليه، وطهر باطنه من ذمائم الأخلاق، وكف ظاهره
عن المعاصي والآثام، وأجتنب، عن الحرام، ولم يأكل إلا الحلال، ولم يفرط في الأكل،
وواظب على جملة من النوافل
(هامش)
(52) صححنا الحديث على مصباح الشريعة: الباب 20. وعلى المستدرك: 1 / 589 - 590،
كتاب الصوم. (*)
ص 306
والأدعية وسائر الآداب المسنونة فيه، استحق للمغفرة والخلاص عن عذاب الآخرة، بمقتضى
الأخبار المتواترة. ثم إن كل من العوام، حصل له من صفاء النفس ما يوجب استجابة
دعوته، وإن كان من أهل المعرفة، فعسى الشيطان لا يحوم على قلبه، فينكشف له شيء من
الملكوت، وسيما في ليلة القدر، إذ هي الليلة التي تنكشف فيها الأسرار، وتفيض القلوب
الطاهرة الأنوار، والمناط والعمدة في نيل ذلك تقليل الأكل بحيث يحسن ألم الجوع، إذ
من جعل بين قلبه وبين صدره مخلاة من الطعام، فهو محجوب عن عوالم الأنوار، ويستحيل
أن ينكشف له شيء من الأسرار.
المقصد السادس الحج 
إعلم أن الحج أعظم أركان الدين،
وعمدة ما يقرب العبد إلى رب العالمين، وهو أهم التكاليف الإلهية وأثقلها، وأصعب
العبادات البدنية وأفضلها، وأعظم بعبادة ينعدم بفقدها الدين، ويساوي تاركها اليهود
والنصارى في الخسران المبين. والأخبار التي وردت في فضيلته وفي ذم تاركه كثيرة
مذكورة في كتب الأخبار، والأحكام والشرائط الظاهرة له على عهدة الفقهاء، فلنشر إلى
الأسرار الخفية، والأعمال الدقيقة والآداب الباطنة ، التي يبحث عنها أرباب القلوب:
فصل الغرض من إيجاد الإنسان 
إعلم أن الغرض الأصلي من إيجاد الإنسان معرفة الله
والوصول إلى حبه والأنس به، والوصول إليه بالحب والأنس يتوقف على صفاء النفس
وتجردها. فكلما صارت النفس أصفى وأشد تجردا، كان أنسها وحبها بالله أشد وأكثر.
وصفاء النفس وتجردها موقوف على التنزه عن الشهوات والكف عن اللذات، والانقطاع عن
الحطام الدنيوية، وتحريك الجوارح وإيقاعها لأجله في الأعمال الشاقة، والتجرد لذكره
وتوجيه القلب إليه. ولذلك شرعت العبادات المشتملة على هذه الأمور إذ بعضها إنفاق
المال وبذله، الموجب للانقطاع عن الحطام الدنيوية، كالزكاة والخمس والصدقات
ص 307
وبعضها الكف عن الشهوات واللذات، كالصوم، وبعضها التجرد لذكر الله وتوجيه القلب
إليه، وارتكاب تحريك الأعضاء وتعبها، كالصلاة، والحج من بينها مشتمل على جميع هذه
الأمور مع الزيادة، إذ فيه هجران أوطان، وإتعاب أبدان، وإنفاق أموال، وانقطاع آمال،
وتحمل مشاق. وتجديد ميثاق، وحضور مشاعر، وشهود شعائر، ويتحقق في أعماله التجرد لذكر
الله، والإقبال عليه بضروب الطاعات والعبادات، مع كون أعماله أمورا لا تأنس بها
النفوس، ولا تهتدي إلى معانيها العقول، كرمي الجمار بالأحجار، والتردد بين الصفا
والمروة على سبيل التكرار، إذ بمثل هذه الأعمال يظهر كمال الرق والعبودية، فإن سائر
العبادات أعمال وأفعال يظهر وجهها للعقل، فللنفس إليها ميل، وللطبع بها أنس. وأما
بعض أعمال الحج، كرمي الجمار وترددات السعي، فلاحظ للنفس ولا أنس للطبع فيها ولا
اهتداء للعقل إلى معانيها، فلا يكون الإقدام عليها إلا لمجرد الأمر وقصد الامتثال
له من حيث أنه أمر واجب الاتباع، ففيها عزل العقل عن تصرفه، وصرف النفس والطبع عن
محل أنسه، فإن كل ما أدرك العقل معناه مال الطبع إليه ميلا ما، فيكون ذلك الميل
معينا للامتثال، فلا يظهر به كمال الرق والانقياد ولذلك قال النبي (ص) في الحج على
الخصوص: (لبيك بحجة حقا وتعبدا ورقا!)، ولم يقل ذلك في غيره من العبادات. فمثل هذه
العبادات - أي ما لم يهتد العقل إلى معناه ووجه - أبلغ أنواع العبادات في تزكية
النفوس وصرفها عن مقتضي الطبع والبغي إلى الاسترقاق، فتتعجب بعض الناس من هذه
الأفعال العجيبة مصدره الجهل بأسرار التعبدات، وهذا هو السر في وضع الحج، مع دلالة
كل عمل من أعماله على بعض أحوال الآخرة، أو في بعض أسرار أخر - كما يأتي - ما فيه
من اجتماع أهل العالم في موضع تكرر فيه نزول الوحي، وهبوط جبرئيل وغيره من الملائكة
المقربين على رسوله المكرم، ومن قبله على خليله المعظم - عليهما أفضل الصلاة - بل
لا يزال مرجعا ومنزلا لجميع الأنبياء، من آدم إلى خاتم، ومهبطا للوحي، ومحلا لنزول
طوائف الملائكة. وقد تولد فيه سيد الرسل (ص) وتوطأت أكثر
ص 308
مواضعه قدمه الشريفة وأقدام سائر الأنبياء، ولذلك سمي ب (البيت العتيق) وقد شرفه
الله تعالى بالإضافة إلى نفسه، ونصبه مقصدا لعباده، وجعل ما حواليه حرما لبيته،
وتفخيما لأمره وجعل عرفات كالميدان على فناء حرمه، وأكد حرمة الموضع بتحريم صيده،
وقطع شجره، ووضعه على مثال حضرة الملوك، فقصده الزوار من كل فج عميق، ومن كل أوب
سحيق، شعثاء غبراء، متواضعين لرب البيت، ومستكنين له، خضوعا لجلاله، واستكانة لعزته
وعظمته، مع الاعتراف بتنزهه عن أن يحومه بيت أو يكتنفه بلد. ولا ريب في أن الاجتماع
في مثل هذا الموضع، مع ما فيه من حصول الموالفة والمصاحبة، ومجاورة الأبدال
والأوتاد والأخيار المجتمعين من أقطار البلاد، وتظاهر الهمم، وتعاون النفوس على
التضرع والابتهال والدعاء الموجب لسرعة الإجابة بذكر النبي (ص) وإجلاله ونزول الوحي
عليه، وغاية سعيه واهتمامه في إعلاء كلمة الله ونشر أحكام دينه، فتحصل الرقة للقلب،
والصفاء للنفس. ثم لكون الحج أعظم التكليفات لهذه الأمة، جعل بمنزلة الرهبانية في
الملل السالفة، فإن الأمم الماضية إذا أرادوا العمل لأصعب التكاليف وأشقها على
النفس، انفردوا عن الخلق، وانحازوا إلى قلل الجبال، وآثروا التوحش عن الخلق بطلب
الأنس بالله، والتجرد له في جميع الحركات والسكنات، فتركوا اللذات الحاضرة، وألزموا
أنفسهم الرياضات الشاقة، طمعا في الآخرة وقد أثنى الله عليهم في كتابه، وقال: (ذلك
بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون) (53) وقال تعالى (ورهبانية ابتدعوها ما
كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله) (54). ولما اندرس ذلك، وأقبل الخلق على أتباع
الشهوات، وهجروا التجرد لعبادة الله تعالى، وفروا عنها، بعث الله تعالى من سرة
البطحاء محمد (ص)، لإحياء طريق الآخرة، وتجديد سنة المرسلين في سلوكها، فمسألة أهل
الملل من الرهبانية والسياحة في دينه فقال (ص): (أبدلنا بالرهبانية الجهاد،
(هامش)
(53) المائدة: الآية 85. (54) الحديد، الآية: 27. (*)
ص309
والتكبير على كل شرف - يعني الحج -، وأبدلنا بالسياحة الصوم). فأنعم الله على هذه
الأمة، بأن جعل الحج رهبانية لهم، فهو بأزاء أعظم التكاليف والطاعات في الملل
السابقة.
فصل ما ينبغي في الحاج 
ينبغي للحاج، عند توجهه إلى الحج، مراعاة أمور:
الأول - أن يجرد نيته لله، بحيث لا يشوبها شيء من الأغراض الدنيوية، ولا يكون باعثه
على التوجه إلى الحج إلا امتثال أمر الله ونيل ثوابه، والاستخلاص من عذابه، فليحذر
كل الحذر أن يكون له باعث آخر، مكنون في بعض زوايا قلبه، كالرياء والحذر عن ذم
الناس وتفسيقهم لولا يحج، أو الخوف من الفقر وتلف أموالهم لو ترك الحج، لما اشتهر
من أن (تارك الحج يبتلى بالفقر والإدبار)، أو قصد التجارة أو شغل آخر، فإن كل ذلك
يخرج العمل من الإخلاص، ويحجبه عن الفائدة وترتب الثواب الموعود، وما أجهل من تحمل
الأعمال الشاقة التي يمكن أن تحصل بها سعادة الأبد، لأجل خيالات فاسدة لا يترتب
عليها سوى الخسران فائدة فيجتهد كل الجهد أن يجعل عزمه خالصا لوجه الله، بعيدا عن
شوائب الرياء والسمعة ويتيقن أنه لا يقبل من قصده وعمله إلا الخالص، وأن من أفحش
الفواحش أن يقصد بيت الملك وحرمه والمقصود غيره، فليصحح في نفسه العزم، وتصحيحه
بإخلاصه باجتناب كل ما فيه رياء وسمعة. الثاني - أن يتوب إلى الله تعالى توبة
خالصة، ويرد المظالم، ويقطع علاقة قلبه عن الالتفات إلى ما وراءه، ليكون متوجها إلى
الله بوجه قلبه، ويقدر أنه لا يعود، وليكتب وصيته لأهله وأولاده، ويتهيأ لسفر
الآخرة، فإن ذلك بين يديه على قرب، وما تقدمه من هذا السفر تهيئة لأسباب ذلك السفر،
فهو المستقر وإليه المصير. فلا ينبغي أن يغفل عن ذلك عند الاستعداد لهذا، فليتذكر
عند قطعه العلائق لسفر الحج قطع العلائق لسفر الآخرة. الثالث - أن يعظم في نفسه قدر
البيت وقدر رب البيت، ويعلم أنه ترك الأهل والأوطان، وفارق الأحبة والبلدان، للعزم
على أمر رفيع شأنه،
ص 310
خطير أمره: أعني زيارة بيت الله الذي جعل مثابة للناس، فسفره هذا لا يضاهي أسفار
الدنيا. فليحضر في قلبه ماذا يريد، وأين يتوجه، وزيارة من يقصد، وإنه متوجه إلى
زيارة ملك الملوك في زمرة الزائرين إليه، الذين نودوا فأجابوا، وشوقوا فاشتاقوا،
ودعوا فقطعوا العلائق. وفارقوا الخلائق، وأقبلوا على بيت الله الرفيع قدره والعظيم
شأنه، تسليا بلقاء البيت عن لقاء صاحبه، إلى أن يرزقوا منتهى مناهم، ويسعدوا بالنظر
إلى مولاهم، فليحضر في قلبه عظم السفر، وعظمة البيت، وجلالة رب البيت، ويخرج معظما
لها، ناويا إن لم يصل وأدركته المنية في الطريق لقي الله وافدا إليه بمقتضى وعده.
الرابع - أن يخلي نفسه عن كل ما يشغل القلب، ويفرق الهم في الطريق، أو المقصود، من
معاملة أو مثلها، حتى يكون الهم مجردا لله، والقلب مطمئنا منصرفا إلى ذكر الله
وتعظيم شعائره، متذكرا عند كل حركة وسكون أمرا أخرويا يناسبه. الخامس - أن يكون
زاده حلالا، ويوسع فيه ويطيبه، ولا يغتم ببذله وإنفاقه، بل كان طيب النفس به، إذ
أنفاق المال في طريق الحج نفقة في سبيل الله، والدرهم منه بسبعمائة درهم، قال رسول
الله (ص): (من شرف الرجل أن يطيب زاده إذا خرج في سفر). وكان السجاد (ع) إذا سافر
إلى الحج، يتزود من أطيب الزاد، من اللوز والسكر والسويق المحمض والمحلى. وقال
الصادق (ع): (إذا سافرتم، فاتخذوا سفرة وتنوقوا فيها). وفي رواية: (إنه يكره ذلك في
زيارة الحسين (ع). نعم ينبغي أن يكون الإنفاق على الاقتصاد من دون تقتير ولا إسراف،
والمراد بالإسراف التنعم بأطائب الأطعمة، والترفة بصرف أنواعها على ما هو عادة
المترفين، وأما كثرة البذل على المستحقين، فلا إسراف فيه، إذ لا خير في السرف، ولا
سرف في الخير. وينبغي - أيضا - أن يكون له طيب النفس فيما أصابه من خسران ومصيبة في
مال وبدن، لأن ذلك من دلائل قبول حجه، فإن ذهاب المال في طريق الحج يعد الدرهم منه
سبعمائة في سبيل الله، فالمصيبة في طريق الحج بمثابة الشدائد في طريق الجهاد، فله
بكل
ص 311
أذى أحتمله وخسران أصابه ثواب، فلا يضيع منه شيء عند الله. السادس - أن يستحسن
خلقه، ويطيب كلامه، ويكثر تواضعه، ويجتنب سوء الخلق والغلظة في الكلام، والرفث
والفسوق والجدال، والرفث اسم جامع لكل فحش ولغو وخنى، والفسوق اسم جامع لكل خروج عن
طاعة الله، والجدال هو المبالغة في الخصومة والمماراة بما يورث الضغائن، ويفرق الهم
ويناقض حسن الخلق. قال رسول الله (ص): (الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) فقيل:
يا رسول الله، ما بر الحج؟ قال: (طيب الكلام وإطعام الطعام). فلا ينبغي أن يكون
كثير الاعتراض على رفيقه وجماله، وعلى غيرهما من أصحابه، بل يلين جانبه، ويخفض
جناحه للسائرين إلى بيت الله، ويلزم حسن الخلق، وليس حسن الخلق مجرد كف الأذى، بل
احتمال الأذى، وقيل: سمي السفر سفرا، لأنه يسفر عن أخلاق الرجال. السابع - أن يكون
أشعث أغبر، غير متزين ولا مائل إلى أسباب التفاخر والتكاثر، فيكتب في المتكبرين
ويخرج عن حزب الضعفاء والمساكين، ويمشي أن قدر خصوصا بين المشاعر. وفي الخبر: (ما
عبد الله بشيء أفضل من المشي). وينبغي ألا يكون الباعث للمشي تقليل النفقة، بل
التعب والرياضة في سبيل الله، ولو كان القصد تقليل النفقة مع اليسار، فالركوب أفضل.
وكذا الركوب أفضل لمن ضعف بالمشي، وساء خلقه، وقصر في العمل، ففي الخبر: (تركبون
أحب إلي، فإن ذلك أقوى على الدعاء والعبادة). وكان الحسين بن علي عليهما السلام
يمشي وتساق معه المحامل والرحال. وإذا حضرت الراحلة ليركبها، فليشكر الله تعالى
بقلبه على تسخيره له الدواب، للتحمل عنه الأذى، وتخف عنه المشقة. وينبغي أن يرفق
بها، فلا يحملها ما لا تطيق.
فصل الميقات 
إذا خرج عن وطنه، ودخل إلى البادية،
متوجها إلى الميقات، وشاهد العقبات، فليتذكر فيها ما بين الخروج من الدنيا بالموت
إلى الميقات يوم القيامة، وما بينهما من الأهوال والمطالبات، وليتذكر من هول قطاع
الطريق
ص 312
هو منكر ونكير، ومن سباع البوادي وحياتها وعقاربها حيات القبر وأفاعيها وعقاربها
وديدانها، ومن انفراده عن أهله وأقاربه وحشة القبر ووحدته وكربته، وليكن في هذه
المخاوف في أعماله وأقواله متزودا لمخاوف القبر.
فصل ما ينبغي في الميقات 
إذا دخل
الميقات، ولبس ثوبي الاحرام، فليتذكر عند لبسها لبس الكفن ولفه فيه، وأنه سيلقى
الله ملفوفا في ثياب الكفن لا محالة، فكما لا يلقى بيت الله إلا بهيئة وزي يخالف
عادته، فكذلك لا يلقى الله بعد الموت إلا في زي يخالف زي الدنيا وهذا الثوب قريب من
ذلك الثوب، إذ ليس مخيطا، كما أن الكفن أيضا ليس مخيطا. وإذا أحرم وتلبى، فليعلم أن
الاحرام والتلبية إجابة نداء الله، فليرج أن يكون مقبولا، وليخش أن يكون مردودا،
فيقال: لا لبيك ولا سعديك! فليكن بين الخوف والرجاء مترددا، وعن حوله وقوته متبرأ،
وعلى فضل الله وكرمه متكلا. فإن وقت التلبية هو بداية الأمر، وهو محل الخطر. وقد
روي: (أن علي بن الحسين - عليهما السلام - لما أحرم، واستوت به راحلته، أصفر لونه
وانتقص، ووقعت عليه الرعدة، ولم يستطع أن يلبي. فقيل له: لم لا تلبي؟ فقال: أخشى أن
يقول ربي: لا لبيك ولا سعديك! فلما لبى غشي عليه وسقط من راحلته، فلم يزل يعتريه
ذلك حتى قضى حجه) فليتذكر الملبي عند رفع الأصوات في الميقات خائفا راجيا، أنه
إجابة لنداء الله تعالى: إذ قال تعالى: (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا) (55).
ويتذكر من هذا النداء نداء الخلق بنفخ الصور، وحشرهم من القبور وازدحامهم في عرصات
القيامة لنداء الله، فمنقسمين إلى مقربين ومبعدين، ومقبولين ومرددين في أول الأمر
بين الخوف والرجاء، مثل تردد الحاج في الميقات، حيث لا يدرون أيتيسر لهم إتمام الحج
وقبوله أم لا.
(هامش)
(55) الحج، الآية: 27. (*)
ص 313
فصل ما ينبغي عند دخول مكة 
ينبغي أن يتذكر عند دخوله مكة: إنه قد انتهى إلى حرم من
دخله كان آمنا، وليرج عنده أن يأمن بدخوله من عقاب الله، وليضطرب قلبه من ألا يكون
أهلا للقرب والقبول فيكون بدخول الحرم خائبا مستحقا لمقت، وليكن رجاؤه في جميع
الأوقات غالبا، إذ شرف البيت عظيم، ورب البيت كريم، والرحمة واسعة، والفيوضات
نازلة، وحق الزائر منظور، واللائذ المستجير غير مردود. وإذا وقع البصر على البيت،
فليحضر في قلبه عظمته، ويقدر كأنه مشاهد لرب البيت لشدة تعظيمه، وليرج أن يرزقه
لقاءه كما رزقه لقاء بيته، وليشكر الله على تبليغه إياه إلى بيته، وإلحاقه إياه
بزمرة الوافدين إليه، ويتذكر عند ذلك إيصال الخلائق إلى جهة الجنة آمنين لدخولها
كافة، ثم انقسامهم إلى مأذونين في الدخول ومصروفين عنها، انقسام الحاج إلى مقبولين
ومردودين.
فصل ما ينبغي عند الطواف.
وينبغي عند الطواف أن يمتلئ قلبه من التعظيم
والمحبة والخوف والرجاء ويعلم أنه في الطواف متشبه بالملائكة المقربين الطائفين حول
العرش، وليعلم أن المقصود طواف قلبه بذكر رب البيت، دون مجرد طواف جسمه بالبيت
فليبتدأ الذكر به ويختم به، كما يبتدأ الطواف من البيت ويختم بالبيت فروح الطواف
وحقيقته هو طواف القلب بحضرة الربوبية، والبيت مثال ظاهر في عالم الشهادة لتلك
الحضرة التي لا تشاهد بالبصر، وهو عالم الغيب وعالم الملك والشهادة، مدرجة إلى عالم
الغيب والملكوت لمن فتح له الباب وما ورد من البيت المعمور في السماوات بأزاء
الكعبة، وأن طواف الملائكة بها كطواف الإنس بهذا البيت، ربما كان إشارة إلى ما
ذكرناه من المماثلة، ولما قصرت رتبة الأكثرين عن مثل ذلك الطواف، أمروا بالتشبه بهم
بقدر الإمكان، ووعدوا بأن من تشبه بقوم فهو منهم.
ص 314
فصل ما ينبغي عند استلام الحجر 
ينبغي أن يتذكر عند استلام الحجر الأسود، أنه بمنزلة
يمين الله في أرضه، وفيه مواثيق العباد. قال رسول الله (ص): (استلموا الركن، فإنه
يمين الله في خلقه، يصافح بها خلقه مصافحة العبد أو الدخيل، ويشهد لمن استلمه
بالموافاة) ومراده (ص) بالركن: الحجر الأسود لأنه موضوع فيه، وإنما شبه باليمين
لأنه واسطة بين الله وبين عباده في النيل والوصول والتحبب والرضا، كاليمين حين
التصافح. وقال الصادق (ع) (إن الله تبارك وتعالى لما أخذ مواثيق العباد، أمر الحجر
فالتقمها، فلذلك يقال: أمانتي أديتها، وميثاقي عاهدته، لتشهد لي بالموافاة). وقال
(ع) (الركن اليماني باب من أبواب الجنة لم يغلقه الله منذ فتحه). وقال (ع) (الركن
اليماني بابنا الذي يدخل منه الجنة، وفيه نهر من الجنة تلقى فيه أعمال العباد)،
قيل: إنما شبه بباب الجنة لأن استلامه وسيلة إلى وصولها وبالنهر، لأنه تغسل به
الذنوب ثم لتكن النية في الاستلام والالتصاق بالمستجار، بل المماسة لكل جزء من
البيت، طلب القرب حبا وشوقا للبيت ولرب البيت، وتمسكا وتبركا بالمماسة ورجاء للتحصن
عن النار في كل جزء لا في البيت، ولتكن نيته في التعلق بأستار البيت الالحاح في طلب
المغفرة وسؤال الأمان، كالمقصر المتعلق بثياب من قصر في حقه، المتضرع إليه في عفوه
عنه المظهر له أنه لا ملجأ منه إلا إليه، ولا مفزع إلا عفوه وكرمه، وإنه لا يفارق
ذيله حتى يعفو عنه، ويعطيه الأمان في المستقبل.
فصل السعي 
السعي بين الصفا والمروة
في فناء البيت يضاهي تردد العبد بفناء دار الملك جائيا وذاهبا مرة بعد أخرى، إظهار
للخلوص في الخدمة، ورجاء للملاحظة بعين الرحمة، كالذي دخل على الملك وخرج، وهو لا
يدري ما الذي يقضي به الملك في حقه من قبول أو رد، فلا يزال يتردد على فناء الدار
مرة بعد
ص 315
أخرى، ويرجو أن يرحمه في الثانية إن لم يرحمه في الأولى، وليتذكر عند تردده التردد
بين الكفتين، ناظرا إلى الرجحان والنقصان، مرددا بين العذاب والغفران.
فصل ما ينبغي
عند الوقوف بعرفات 
وأما الوقوف بعرفات، فليتذكر بما يرى من ازدحام الخلق، وارتفاع
الأصوات، واختلاف اللغات، واتباع الفرق أئمتهم في التردد على المشاعر عرصات يوم
القيامة وأهوالها، وانتشار الخلائق فيها حيارى، واجتماع الأمم مع الأنبياء والأئمة،
واقتفاء كل أمة نبيهم، وطمعهم في شفاعته لهم وتحيرهم في ذلك الصعيد الواحد بين الرد
والقبول. وإذا تذكر ذلك، فليتضرع إلى الله تعالى ويبتهل إليه، ليقبل حجه ويحشره في
زمرة الفائزين المرحومين وينبغي أن يحقق رجاءه إذ اليوم شرف والموقف عظيم والنفوس
من أقطار الأرض فيه مجتمعة، والقلوب إلى الله سبحانه منقطعة والهمم على الدعاء
والسؤال متظاهرة، وبواطن العباد على التضرع والابتهال متعاونة، وأيديهم إلى حضرة
الربوبية مرتفعة، وأبصارهم إلى باب فيضه شاخصة، وأعناقهم إلى عظيم لطفه وبره ممتدة،
ولا يمكن أن يخلو الموقف عن الأخبار والصالحين وأرباب القلوب والمتقين، بل الظاهر
حضور طبقات الأبدال وأوتاد الأرض فيه، فلا تستبعدن أن تصل الرحمة من ذي الجلال
بواسطة القلوب العزيزة والنفوس القادسة الشريفة، إلى كافة الخليقة ولا تظنن أنه
يخيب آمال الجميع، ويضيع سعيهم ولا يرحم غربتهم وانقطاعهم عن الأهل والأوطان فإن
بحر الرحمة أوسع من أن يظن به في مثل هذه الحالة، ولذا ورد: أنه من أعظم الذنوب أن
يحضر عرفات ويظن أن الله لم يغفر له.
فصل المشعر 
وإذا فاض من عرفات ودخل المشعر،
فليتذكر عند دخوله فيه: إن الله سبحانه قد أذن له في الدخول حرمه بعد أن كان خارجا
عنه، إذ المشعر من
ص 316
جملة الحرم، وعرفات خارجة عنه، فليتفاءل من دخول الحرم بعد خروجه عنه، بأن الله
سبحانه قربه إليه وكساه خلع القبول، وأجاره وآمنه من العذاب والعبد وجعله من أهل
الجنة والقرب.
فصل ما ينبغي عند الرمي والذبح

وإذ ورد منى، وتوجه إلى رمي الجمار،
فليقصد به الانقياد والامتثال، إظهارا للرق والعبودية، وتشبيها بالخليل الجليل (ع)،
حيث عرض له إبليس اللعين في هذا الموضع ليفسد حجه، فأمره الله تعالى أن يرميه
بالحجارة طردا له وقطعا لأصله. وينبغي أن يقصد أنه يرمي الحصا إلى وجه الشيطان،
ويقصم به ظهره، ويرغم به أنفه، إذ امتثال أمر الله تعالى تعظيما له يقصم ظهر اللعين
ويرغم به أنفه. وإذا ذبح الهدي، فليستحضر أن الذبح إشارة إلى أنه بسبب الحج قد غلب
وعلى الشيطان والنفس الأمارة وقتلهما، وبذلك استحق الرحمة والغفران، ولذا ورد أنه:
يعتق بكل جزء من الهدي جزء منه النار. فليجتهد في التوبة والرجوع عما كان عليه قبل
ذلك من الأعمال القبيحة، حتى يصير حاله أحسن من سابقه، ليصدق عليه إذلاله الشيطان
والنفس الأمارة في الجملة، ولا يكون في عمله من الكاذبين. ولذلك ورد: أن علامة قبول
الحج: أن يصير حاله بعد الحج: أحسن مما كان عليه قبله. وفي الخبر: أن علامة قبول
الحج ترك ما كان عليه من المعاصي، وأن يستبدل بإخوانه البطالين أخوانا صالحين،
وبمجالس اللهو والغفلة مجالس الذكر واليقظة.
تتميم
أسرار الحج
قد ورد عن مولانا
الصادق (ع) خبر يتضمن عمدة أسرار الحج ودقائقه فلنذكره تيمنا بكلماته الشريفة: قال
(ع): (إذا أردت الحج، فجرد قلبك لله عز وجل، من قبل عزمك، من كل شغل شاغل وحجب كل
حاجب، وفوض أمورك كلها إلى
ص 317
خالقك، وتوكل عليه في جميع ما يظهر من حركاتك وسكناتك، وسلم لقضائه وحكمه وقدره،
وودع الدنيا والراحة والخلق، وأخرج من حقوق يلزمك من جهة المخلوقين، ولا تعتمد على
زادك وراحلتك وأصحابك وقوتك وشبابك ومالك، مخافة أن يصير ذلك عدوا ووبالا، فإن من
ادعى رضا الله، واعتمد على شيء ما سواه، صيره عليه عدوا ووبالا، ليعلم أنه ليس له
قوة ولا حيلة ولا لأحد إلا بعصمة الله تعالى وتوفيقه، واستعد استعداد من لا يرجو
الرجوع، وأحسن الصحبة، وراع أوقات فرائض الله تعالى وسنن نبيه (ص)، وما يجب عليك من
الأدب، والاحتمال، والصبر، والشكر، والشفقة، والسخاوة، وإيثار الزاد على دوام
الأوقات، ثم أغسل بماء التوبة الخالصة ذنوبك، والبس كسوة الصدق والصفاء والخضوع
والخشوع ، وأحرم من كل شيء يمنعك عن ذكر الله عز وجل ويحجبك عن طاعته، ولب بمعنى
إجابة صافية خالصة زاكية لله عز وجل في دعوتك له، متمسكا بالعروة الوثقى، وطف بقلبك
مع الملائكة حول العرش كطوافك مع المسلمين بنفسك حول البيت. وهرول هرولة فرا من
هواك، وتبرأ من جميع حولك وقوتك، واخرج من غفلتك وزلاتك بخروجك إلى منى، ولا تتمن
ما لا يحل لك ولا تستحقه، واعترف بالخطأ بالعرفات، وجدد عهدك عند الله تعالى
بوحدانيته، وتقرب إليه، واتقه بمزدلفة، واصعد بروحك إلى الملأ الأعلى بصعودك على
الجبل، واذبح حنجرة الهوى والطمع عند الذبيحة، وارم الشهوات والخساسة والدناءة
والأفعال الذميمة عند رمي الجمرات، وأحلق العيوب الظاهرة والباطنة بحلق شعرك، وأدخل
في أمان الله وكنفه وستره وكلاءته من متابعة مرادك بدخول الحرم، وزر البيت متحققا
لتعظيم صاحبه ومعرفته وجلاله، واستلم الحجر رضى بقسمته وخضوعا لعظمته، وودع ما سواه
بطواف الوداع، وصف روحك وسرك للقاء الله تعالى يوم تلقاه بوقوفك على الصفا، وكن ذا
مرة من الله بفناء أوصافك عند المروة، واستقم على شروط حجتك، ووفاء عهدك الذي عاهدت
ربك، وأوجبت له إلى يوم القيامة، وأعلم بأن الله لم يفترض الحج، ولم يخصه من جميع
الطاعات بالإضافة إلى نفسه بقوله تعالى:
ص 318
(ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) (56). ولا شرع نبيه (ص) سنة في
خلال المناسك على ترتيب ما شرعه، إلا للاستعداد والإشارة إلى الموت والقبر والبعث
والقيامة، وفضل بيان السبق من دخول الجنة أهلها ودخول النار أهلها، بمشاهدة مناسك
الحج من أولها إلى آخرها، لأولي الألباب وأولي النهى) (57).
خاتمة
زيارة المشاهد

في
الإشارة إلى بعض الأمور الباطنة المتعلقة بزيارة المشاهد. إعلم أن النفوس القوية
القدسية، لا سيما نفوس الأنبياء والأئمة - عليهم السلام -، إذا نفضوا أبدانهم
الشريفة، وتجردوا عنها، وصعدوا إلى عالم التجرد، وكانوا في غاية الإحاطة والاستيلاء
على هذا العالم، فأمور هذا العالم عندهم ظاهرة منكشفة، ولهم القوة والتمكن على
التأثير والتصرف في مواد هذا العالم، فكل من يحضر مقابرهم لزيارتهم يطلعون عليه، لا
سيما ومقابرهم مشاهد أرواحهم المقدسة العلية، ومحال حضور أشباحهم البرزخية النورية،
فإنهم هناك يشهدون. (بل أحياء عند ربهم يرزقون) (58). وبما آتاهم الله من فضله
فرحون. فلهم تمام العلم والاطلاع بزائري قبورهم، وحاضري مراقدهم، وما يصدر عنهم من
السؤال والتوسل والاستشفاع والتضرع، فتهب عليهم نسمات ألطافهم، وتفيض عليهم من
رشحات أنوارهم، ويشفعون إلى الله في قضاء حوائجهم، وإنجاح مقاصدهم، وغفران ذنوبهم،
وكشف كروبهم. فهذا هو السر في تأكد استحباب زيارة النبي والأئمة - عليهم السلام -
مع ما فيه من صلتهم وبرهم وإجابتهم، وإدخال السرور عليهم، وتجديد عهد ولايتهم.
وإحياء أمرهم، وإعلاء كلمتهم، وتبكيت أعدائهم. وكل واحد من هذه الأمور مما لا يخفى
عظيم أجره وجزيل ثوابه. وكيف لا تكون زيارتهم أقرب القربات، وأشرف الطاعات
(هامش)
(57) صححنا الحديث على مصباح الشريعة): الباب 21. (58) آل عمران، الآية: 169. (*)
ص319
مع أن زيادة المؤمن - من جهة كونه مؤمنا فحسب - عظيم الأجر جزيل الثواب، وقد ورد به
الحث والتوكيد والترغيب الشديد من الشريعة الطاهرة، ولذلك كثر تردد الأحياء إلى
قبور أمواتهم للزيارة، وتعارف ذلك بينهم، حتى صارت لهم سنة طبيعية، وأيضا قد ثبت
وتقرر جلالة قدر المؤمن عند الله، وثواب صلته وبره وإدخال السرور عليه. وإذا كان
الحال في المؤمن من حيث أنه مؤمن فما ظنك بمن عصمه الله من الخطأ، وطهره من الرجس،
وبعثه الله إلى الخلائق أجمعين، وجعله حجة على العالمين، وارتضاه إماما للمؤمنين،
وقدوة للمسلمين، ولأجله خلق السماوات والأرضين، وجعله صراطه وسبيله، وعينه ودليله،
وبابه الذي يؤتى منه ونوره الذي يستضاء به، وأمينه على بلاده، وحبله المتصل بينه
وبين عباده، من رسل وأنبياء وأئمة وأولياء. ثم، الأخبار الواردة في فضيلة زيارة
النبي والأئمة - عليهم السلام - مما لا تحصى كثرة. قال رسول الله (ص): (من زار قبري
بعد موتي. كان كمن هاجر إلي في حياتي، فإن لم تستطيعوا فابعثوا إلي بالسلام، فإنه
يبلغني) وقال (ص) لأمير المؤمنين (ع): (يا أبا الحسن، إن الله تعالى جعل قبرك وقبر
ولدك بقاعا من بقاع الجنة، وعرصة من عرصاتها، وإن الله جعل قلوب نجباء من خلقه
وصفوة من عباده، تحن إليكم، وتحتمل المذلة والأذى فيكم، فيعمرون قبوركم، ويكثرون
زيارتها، تقربا منهم إلى الله، ومودة منهم لرسوله، أولئك يا علي المخصوصون بشفاعتي،
والواردون حوضي، وهم زواري وجيراني غدا في الجنة. يا علي، من عمر قبورهم وتعاهدها،
فكأنما أعان سليمان بن داود على بناء بيت المقدس، ومن زار قبوركم عدل ذلك سبعين حجة
بعد حجة الإسلام، وخرج من ذنوبه حتى يرجع من زيارتكم كيوم ولدته أمه. فأبشر، وبشر،
أولياءك ومحبيك من النعيم وقرة العين، بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على
قلب بشر، ولكن حثالة من الناس يعيرون زوار قبوركم، كما تعير الزانية بزناها، أولئك
شرار أمتي، لا تنالهم شفاعتي، ولا يردون
ص 320
حوضي ) (59). وقال الصادق (ع): (لو أن أحدكم حج دهره، ثم لم يزر الحسين بن علي -
عليهما السلام -، لكان تاركا حقا من حقوق رسول الله (ص). لأن حق الحسين (ع) فريضة
من الله واجبة على كل مسلم). وقال الرضا (ع): (إن لكل إمام عهدا في عنق أوليائه
وشيعته، وإن من تمام الوفاء بالعهد وحسن الأداء زيارة قبورهم، فمن زارهم رغبة في
زيارتهم، وتصديقا بما رغبوا فيه، كان أئمته شفعاءه يوم القيامة). والأخبار في فضل
زيارة النبي والأئمة المعصومين، لا سيما زيارة سيد الشهداء وأبي الحسن الرضا -
عليهم أفضل التحية والثناء -، وفضل زيارتهما على الحج والعمرة والجهاد، أكثر من أن
تحصى وهي مذكورة في كتب المزار لأصحابنا فلا حاجة إلى إيرادها هنا.
فصل ما ينبغي
للزائر عند دخول المدينة المنورة 
وإذا عرفت فضل زيارتهم وسرها، وعظم قدرهم وجلالة
شأنهم، فينبغي أن تكثر التواضع والتخضع والانكسار عن الدخول في بلادهم، ومراقدهم
المنورة، ومشاهدهم المكرمة، وتستحضر في قلبك عظمتهم وجلالهم، وتعرف عظيم حقهم،
وغاية جدهم وسعيهم في إرشاد الناس وإعلاء كلمة الله. فإذا قربت المدينة المنورة،
ووقع بصرك على حيطانها، تذكر أنها البلدة التي اختارها الله لنبيه (ص) وجعل إليها
هجرته، وأنها البلدة التي فيها شرع فرائض ربه وسننه، وجاهد عدوه، وأظهر بها دينه،
ولم يزل قاطنا بها إلى أن توفاه الله، وجعل تربته فيها. ثم مثل في نفسك أقدام رسول
الله (ص) عند تردداتك فيها، وتذكر أنه ما من موضع قدم تطأه إلا وهو موضع قدمه
العزيز، فلا تضع قدمك عليه إلا على سكينة ووجل، وكن متذكرا لمشيه وتخطيه في سككها،
وتصور سكينته ووقاره، وخشوعه وتواضعه لعظمة ربه، وما استودع الله في قلبه من عظيم
معرفته ورفعة ذكره، حتى قرنه بذكر نفسه، وأنزل عليه كلامه العزيز، وأهبط عليه روح
الأمين وسائر ملائكته المقربين، وأحبط
(هامش)
(59) صححنا الحديث على مستدرك
الوسائل: 2 / 195 - 196، كتاب الحج، 10، أبواب المزار وما يناسبه.
ص 321
عمل من هتك حرمته، ولو برفع صوته فوق صوته. ثم تذكر ما من الله به على الذين أدركوا
صحبته، وسعدوا بمشاهدته واستماع كلامه، وأعظم تأسفك على ما فاتك من صحبته، وتضرع
إلى الله ألا تفوتك صحبته في الآخرة، ولتعظم رجائك في ذلك، بعد أن رزقك الله
الإيمان، وأشخصك من أرضك لأجل زيارته، محبة له، وتشوقا إليه. ثم إذا دخلت مسجده،
فتذكر أن أول موضع أقيمت فيه فرائض الله تلك العرصة، وأنها تضمنت أفضل خلق الله حيا
وميتا، فارج الله غاية الرجاء أن يرحمك بدخولك إياه خاشعا معظما، وما أجدر ذلك
المكان بأن يستدعي الخشوع من قلب كل مؤمن. ثم إذا أتيته للزيارة، فينبغي أن تقف بين
يديه خاضعا خاشعا خائفا، وتزوره ميتا كما تزوره حيا، ولا تقرب من قبره إلا كما تقرب
من شخصه الكريم لو كان حيا، إذ لا فرق بين ميته وحيه، ولو وجدت التفرقة في قلبك لما
كنت مؤمنا، ولتعلم أنه عالم بحضورك وقيامك وزيارتك، وإنه يبلغه سلامك وصلواتك. فمثل
صورته الكريمة في خيالك، جالسا على سرير العظمة بحذائك، وأحضر عظيم رتبته في قلبك،
وقد ورد أن الله تعالى وكل بقبره ملكا يبلغه سلام من سلم عليه من أمته. وهذا في حق
من لم يحضر قبره، فكيف بمن فارق الأهل والوطن، وقطع البوادي شوقا إلى لقائه، واكتفى
وقنع بمشاهدته مشهده المنور، إذ فاتته مشاهدة طلعته البهية، وغرته الكريمة. وقد قال
(ص)،: (من صلى علي مرة، صليت عليه عشرا). فهذا جزاؤه عليه في الصلاة عليه بلسانه،
فكيف بالحضور لزيارته ببدنه؟ وإذا فرغت من زيارته،، فأت المنبر وامسحه بيدك، وخذ
برمانتيه، وامسح بهما وجهك وعينيك، وتضرع إلى الله، وابتهل إليه، واسأل حاجتك.
وتوهم صعود النبي (ص) المنبر، ومثل في قلبك طلعته البهية، قائما على المنبر، وقد
أحدق به المسلمون من المهاجرين والأنصار، وهو يحمد الله بأفصح الكلمات واللغات،
ويحث الناس على طاعة الله. واسأل الله ألا يفرق في القيامة بينه وبينك، ويجعلك في
جواره، ويعطيك منزلا
ص 322
في قرب داره.
فصل ما ينبغي للزائر عند دخول النجف وكربلاء

وإذا دخلت أرض النجف
لزيارة أمير المؤمنين وسيد الوصيين (ع)، تذكر أنها وادي السلام، ومجمع أرواح
المؤمنين، وقد شرفها الله وجعلها أشرف البقاع، وجنة المؤمنين. فما من مؤمن خالص إلا
وبعد الموت يأتي روحه إليها، ويتنعم فيها مع سائر المؤمنين، إلى أن يدخلوا دار
كرامته العظمى في القيامة الكبرى. وقد أكد شرافتها وعظم قدرتها، بأن جعلها مدفن وصي
رسوله، بعد أن كانت مدفن آدم أبي البشر، ونوح شيخ المرسلين - عليهما السلام -.
فأسأل الله أن يأتي بروحك إليها، ويدخلك في زمرة المؤمنين، ويجعلها محل دفنك،
لتنالك شفاعة مولاك (ع)، ولا يحشرك مع الكفار والعصاة في وادي برهوت. وإذا أتيت
لزيارته، تذكر عظيم مرتبته عند الله وعند رسوله، وراع الآداب التي ذكرناها في زيارة
رسول الله (ص). وإذا أردت أرض كربلاء، لزيارة سيد الشهداء (ع)، فتذكر أن هذه الأرض
هي التي قتل فيها سبط الرسول وأولاده وأقاربه وأجناده، وأسرت فيها أهاليه وأهل
بيته، فجدد الحزن على قلبك، وأدخلها أشعث أغبر، منكسر الحال، محزون القلب، كئيبا
حزينا باكيا، وأحضر في قلبك حرمة هذه الأرض وشرافتها، فإنها الأرض التي في تربتها
شفاء، ولا يرد فيها الدعاء، وقد يجعلها الله يوم القيامة أرفع بقاع الجنة، فتردد
فيها على سكينة ووجل. ثم إذا دخلت الحائر للزيارة، ووقع بصرك على ضريحه المنور، ثم
على ضريح أصحابه المستشهدين معه، المجتمعين في موضع واحد في جواره، فمثل في قلبك
أشخاصهم، وتذكر وقائعهم وما جرى عليهم من البلايا والمحن واحضر في نفسك أبا عبد
الله الحسين (ع) واقفا في عرصة كربلاء، ويأتي أصحابه واحدا واحدا يستأذن منهم
للجهاد، قائلا: السلام عليك يا أبا عبد الله وهو يأذن له، ويلقي نفسه في الميدان
على الجم الغفير، فيقتل في سبيله،
ص 323
وإذا أيس من حياته، ينادي بأعلى صوته: أدركني يا أبا عبد الله! هو (ع) يسرع إليه
كالصقر المنقض، ويأخذ جثته من الميدان،، ويلحقه بسائر أخوانه الشهداء. فمثل في نفسك
أمثال ذلك، وجدد عليهم الحزن والبكاء، وتمن كونك معهم في تلك العرصة، وقل: يا ليتني
كنت معهم فأفوز فوزا عظيما! ثم راع الآداب الباطنة لزيارته (ع) وقس على ذلك زيارة
كل واحد من الأئمة - عليهم السلام -، فإنه ينبغي لك أن تستحضر، عند حضورك كل واحد
منهم، وجلال شأنه، وعظمة قدرته، وعظيم حقه، وتتذكر ما يناسب حاله، وما جرى عليه، ثم
تستشعر في قلبك ما يترتب عليه، من التعظيم، والاجلال، والخوف *، والحزن، والفرح،
وأمثال ذلك. هذا آخر كتاب (جامع السعادات)، والحمد لله على إتمامه، وأسأل الله أن
يجعلنا من العاملين به، وينفع به جميع عباده السالكين إليه. وقد وقع الفراغ من جمعه
وتأليفه، في سلخ شهر ذي القعدة الحرام سنة ستة وتسعين ومائة بعد الألف من الهجرة
النبوية، على مهاجرها ألف ألف سلام وتحية.
هذا آخر ما كتبه المصنف (قدس سره)
|