الصفحة السابقة الصفحة التالية

جامع السعادات (ج3)

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب

ص 281

من اليهود والنصارى والصابئين. وإذا تلوت (الفاتحة) كذلك، فيشبه أن تكون ممن قال الله فيهم بما أخبر عنه النبي (ص): (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، نصفها لي، ونصفها لعبدي. يقول العبد: الحمد لله رب العالمين، فيقول الله عز وجل -: حمدني عبدي وأثنى علي. وهو معنى قوله: سمع الله لمن حمده...) إلى آخر الحديث. فإن لم يكن لك من صلاتك حظ سوى التذاذك بذكر الله في جلاله وعظمته، فناهيك به غنيمة، فكيف ما ترجوه من ثوابه وفضله. وكذلك ينبغي أن تفهم وتخرج الحقائق مما تقرأه من السورة، فلا تفعل عن أمره ونهيه، ووعده ووعيده، ومواعظه وأخبار أنبيائه، وذكر مننه وإحسانه، فكل واحد حق: فحق الأمر والنهي العزم، وحق الوعد الرجاء، وحق الوعيد الخوف، وحق الموعظة الاتعاظ، وحق أخبار الأنبياء الاعتبار، وحق ذكر المنة الشكر، وتكون هذه المعاني بحسب درجات الفهم، ويكون الفهم على حسب العلم وصفاء القلب، ودرجات ذلك لا تنحصر. والصلاة مفتاح القلوب، فيها تنكشف أسرار الكلمات. فهذا حق القراءة، وهو أيضا حق الأذكار والتسبيحات. واعلم أن الناس في القراءة ثلاثة: بعضهم يتحرك لسانه وقلبه غافل. وبعضهم يتحرك لسانه وقلبه يتبع اللسان، فيسمع ويفهم منه كأنه يسمعه من غيره، وهو درجة أصحاب اليمين. وبعضهم يسبق قلبه إلى المعاني أولا، ثم يخدم اللسان قلبه ويترجمه، وفرق بين أن يكون اللسان ترجمان القلب أو يكون معلم القلب، والمقربون ألسنتهم ترجمان تتبع القلب. ثم ينبغي أن تراعي الهيئة في القراءة، فترتل، ولا تسرد ولا تعجل، فإن ذلك أيسر للتأمل، وتفرق بين نعمائه في آية الرحمة والعذاب والوعد والوعيد، والتمجيد والتعظيم، كان بعضهم إذا مر بمثل قوله: (ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله) (31). يغض صوته، كالمستحي عن أن يذكره بكل شيء وروي: (أنه يقال يوم القيامة لصاحب القرآن: اقرأ وأرق، فكلما قرأ آية صعد درجة).

(هامش)

(31) المؤمنون، الآية: 92. (*)

ص 282

فصل الركوع

وأما الركوع، فينبغي أن تجدد عنه ذكر كبرياء الله، وترفع بذلك معظما له منبها على غاية عظمته وارتفاعه، وكونه أرفع من أن تصل إليه أيدي العقول والأوهام، ومستجيرا بعفوه من عقابه، وتستأنف بهويك للركوع ذلا وتواضعا وتجهد في ترقيق قلبك وتجديد خشوعك، وتستشعر ذلك وعزه، وضعفك وقوته، وعجزك وقدرته، واتضاعك وعلوه، وتستعين على تقرير ذلك في قلبك بلسانك، فتسبحه وتشهد له بالعظمة، وإنه أعظم من كل عظيم، وتكرر ذلك في قلبك لتترسخ عظمته وجلاله، ثم ترفع عن ركوعك راجيا أنه راحم ذلك، وتؤكد الرجاء في نفسك بقولك: (سمع الله لمن حمد): أي أجاب الله لمن شكره، وتتبع ذلك بالشكر المتقاضي للمزيد، فتقول: (الحمد لله رب العالمين)، ثم تزيد في التذلل والخشوع وتعظيم ربك وإجلاله، فتقول: (أهل الكبرياء والعظمة والجود والجبروت). روي (الصدوق) - رضوان الله عليه - عن أمير المؤمنين (ع): (أنه سئل عن معنى مد العنق في الركوع، فقال (ع): تأويله: آمنت بك ولو ضربت عنقي). وقال الصادق (ع): (لا يركع عبد لله ركوعا على الحقيقة، إلا زينه الله بنور بهائه، وأظله في ظل كبريائه وكساه كسوة أصفيائه. والركوع أول، والسجود ثان. فمن أتى بمعنى الأول صلح للثاني. وفي الركوع أدب، وفي السجود قرب، ومن لا يحسن الأدب لا يصلح للقرب. فاركع ركوع خاشع لله عز وجل بقلبه، متذلل وجل تحت سلطانه، خافض له بجوارحه خفض خائف حزن على ما يفوته من فائدة الراكعين) (1). وحكي: (أن ربيع بن خيثم، كان يسهر بالليل إلى الفجر في ركعة واحدة، فإذا هو أصبح، فزفر وقال: آه! سبق المخلصون وقطع بنا). واستوف ركوعك باستواء ظهرك، وانحط عن همتك في

(هامش)

(32) صححنا الحديث على الباب 15 من (مصباح الشريعة). وعلى (0 بحار الأنوار): 18 / 356، باب الركوع وآدابه من كتاب الصلاة. وعلى المستدرك): 1 / 325، باب نوادر ما يتعلق بالركوع من كتاب الصلاة أيضا (*)

ص 283

القيام بخدمته إلا بتأييده وعونه، وفر بقلبك من وساوس الشيطان وخداعه ومكائده، فإن الله يرفع عباده بقدر تواضعهم له، ويهديهم إلى أصول التواضع والخشوع بقدر اطلاع عظمته على سرائرهم.

فصل السجود

وإذا هويت إلى السجود، جدد على قلبك غاية الذل والعجز والانكسار إذ السجود أعلى درجات الاستكانة، فمكن أعز أعضائك وهو الوجه، لأذل الأشياء، وهو التراب، ولا تجعل بينهما حاجزا، بل اسجد على الأرض لأنه أجلب للخضوع، وأدل على الذل. فإذا وضعت نفسك موضع الذل وألقيتها على التراب، فاعلم أنك وضعتها موضعها، ورددت الفرع إلى أصله، فإنك من التراب خلقت، وإليه رددت. فعند هذا جدد على قلبك عظمة الله، وقل: (سبحان ربي الأعلى وبحمده) وأكده بالتكرار إذ المرة الواحدة ضعيفة الآثار، فإن رق قلبك، وطهر لبك، فليصدق رجائك في رحمة ربك، فإن رحمته تتسارع إلى موضع الذل والضعف، لا إلى محل التكبر والبطر. فارفع رأسك مكبرا ومستغفرا من ذنوبك، وسائلا حاجتك، ثم أكد التواضع بالتكرار، وعد إلى السجود ثانية كذلك. وسئل مولانا أمير المؤمنين (ع) عن معنى السجدة الأولى، قال: (تأويلها: اللهم إنك منها خلقتنا): يعني من الأرض، وتأويل رفع رأسك: (ومنها أخرجتنا)، والسجدة الثانية: (وإليها تعيدنا، ورفع رأسك: (ومنها تخرجنا تارة أخرى). وقال مولانا الصادق (ع): (ما خسر والله - تعالى - قط من أتى بحقيقة السجود، ولو كان في العمر مرة واحدة، وما أفلح من خلا بربه في مثل ذلك الحال شبيها بمخادع نفسه، غافل لاه عما أعد الله تعالى للساجدين من أنس العاجل وراحة الآجل، ولا بعد عن الله تعالى أبدا من أحسن تقربه في السجود، ولا قرب إليه أبدا من أساء أدبه، وضيع حرمته بتعليق قلبه بسواه في حال سجوده فاسجد سجود متواضع لله ذليل، علم أنه خلق من تراب يطأه الخلق، وإنه ركب من نطفة يستقذرها كل أحد، وكون ولم يكن، وقد جعل الله

ص 284

معنى السجود سبب التقرب إليه بالقلب والسر والروح، فمن قرب منه بعد من غيره، لا ترى في الظاهر أنه لا يستوي حال السجود إلا بالتواري عن جميع الأشياء، والاحتجاب عن كل ما تراه العيون؟ كذلك أراد الله تعالى أمر الباطن. فمن كان قلبه متعلقا في صلاته بشيء دون الله تعالى، فهو قريب من ذلك الشيء، بعيد عن حقيقة ما أراد الله منه في صلاته. قال الله تعالى: ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه) وقال رسول الله (ص): (قال الله عز وجل: ما أطلع على قلب عبد فأعلم فيه حب الإخلاص لطاعتي لوجهي وابتغاء مرضاتي، إلا توليت تقويمه وسياسته، ومن اشتغل في صلاته بغيري فهو من المستهزئين بنفسه، واسمه مكتوب في ديوان الخاسرين) (33).

فصل التشهد

إذا جلست للتشهد - بعد هذه الأفعال الدقيقة والأسرار العميقة، المشتملة على الأخطار الجسيمة - فاستشعر الخوف التام والرهبة والوجل والحياء، أن يكون جميع ما سلف منك غير واقع على وجهه، ولا محصلا لوظائفه وشرائطه، ولا مكتوبا في ديوان القبول. فاجعل يدك صفرا من فوائدها، وارجع إلى مبدأ الأمر، وأصل الدين، أعني كلمة التوحيد وحصن الله الذي من دخله كان آمنا، فاستمسك به إن لم تكن لك وسيلة غيره، فاشهد لربك بالوحدانية، واحضر رسوله الكريم ونبيه العظيم ببالك واشهد له بالعبودية والرسالة وصل عليه وآله، مجددا عهد الله بإعادة كلمتي الشهادة، متعرضا بهما لتأسيس مراتب العبادة، فإنهما أول الرسائل وأساس الفواضل، ومتوسلا إلى رسول الله بالصلاة عليه، مترقبا بذلك عشرا من صلاته (ص) عليك - كما ورد في الخبر -، ولو وصل إليك منها واحدة أفلحت أبدا. قال الصادق (ع): (التشهد ثناء على الله. فكن عبدا له في السر، خاضعا له في الفعل، كما إنك عبد له في القول والدعوى.

(هامش)

(33) صححنا الحديث على: الباب 16 من (مصباح الشريعة). وعلى (بحار الأنوار) 18 / 363، باب السجود وآدابه. (*)

ص 285

وصل صدق لسانك بصفاء صدق سرك، فإنه خلقك عبدا، وأمرك أن تعبده بقلبك ولسانك وجوارحك، وإن تحقق عبوديتك له وربوبيته لك وتعلم أن نواصي الخلق بيده، فليس لهم نفس ولا لحظة إلا بقدرته ومشيته وهم عاجزون عن إتيان أقل شيء في مملكته إلا بإذنه وإرادته. قال الله عز وجل: (وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحانه الله وتعالى عما يشركون) (34). فكن لله عبدا شاكرا بالقول والدعوة، وصل صدق لسانك بصفاء سرك، فإنه خلقك فعز وجل أن تكون إرادة ومشية لأحد إلا بسابق إرادته ومشيته، فاستعمل العبودية في الرضا بحكمته، وبالعبادة في أداء أوامره وقد أمرك بالصلاة على حبيبه محمد (ص)، فأوصل صلاته بصلاته، وطاعته بطاعته، وشهادته بشهادته، وانظر ألا تفوتك بركات معرفة حرمته فتحرم عن فائدة صلاته، وأمره بالاستغفار لك، والشفاعة فيك، إن أتيت بالواجب في الأمر والنهي والسنن والآداب، والتعلم الجليل مرتبته عند الله عز وجل) (35).

فصل التسليم

وإذا فرغت عن التشهد، فاحضر بحضرة سيد المرسلين، والملائكة المقربين، وبقية أنبياء الله وأئمته - عليهم السلام - والحفظة لك من الملائكة المحصين لأعمالك، وأحضرهم جميعا في بالك. فسلم أولا على نبيك الذي هو أفضل الكل، وواسطة هدايتك وإيمانك، بقولك: ((السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته). ثم توجه إلى الجميع، وسلم عليهم بقولك: (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته). ولا تطلق لسانك بصيغة الخطاب من غير حضور المخاطب في ذهنك، فتكون من العابثين واللاعبين، وكيف تسمع الخطاب لمن لا يقصد، لولا فضل الله في اجتزائه بذلك عن أصل الواجب وإن كان بعيدا عن درجات القبول، منحطا عن أوج القرب والوصول. وإن

(هامش)

(34) القصص، الآية: 68. (35) صححنا الحديث على (مصباح الشريعة): الباب 17. وعلى (بحار الأنوار): 18 / 403، باب التشهد وأحكامه. (*)

ص 286

كنت إماما لقوم، فاقصدهم بالسلام من تقدم من المقصودين، وليقصدوا هم الرد عليك أيضا، وإذا فعلتم ذلك فقد أديتم وظيفة السلام، واستحققتم من الله مزيد الاكرام. قال الصادق (ع): (معنى التسليم في دبر كل صلاة: الأمان، أي من أتى أمر الله وسنة نبيه (ص) خاضعا خاشعا منه، فله الأمان من بلاء الدنيا والبراءة من عذاب الآخرة. والسلام اسم من أسماء الله تعالى أودعه خلقه، ليستعملوا معناه في المعاملات والأمانات والانصافات وتصديق مصاحبتهم فيما بينهم، وصحة معاشرتهم. فإن أردت أن تضع السلام موضعه، وتؤدي معناه، فاتق الله ليسلم منك دينك وقلبك وعقلك ألا تدنسها بظلمة المعاصي، ولتسلم منك حفظتك ألا تبرمهم وتملهم وتوحشهم منك بسوء معاملتك معهم، ثم مع صديقك، ثم مع عدوك فإن من لم يسلم منه هو الأقرب إليه فالعبد أولى، ومن لا يضع السلام مواضعه هذه فلا سلام ولا إسلام ولا تسليم، وكان كاذبا في سلامه وأن أفشاه في الخلق) (36).

فصل إفاضة الأنوار على المصلي على قدر صفاته

إعلم أن تخليص الصلاة عن الآفات، وإخلاصها لوجه الله، وأدائها بالشروط الباطنة المذكورة، من الحضور والخشوع، والتعظيم، والهيبة، والحياء: سبب لحصول أنوار في القلب، تكون تلك الأنوار مفاتيح للعلوم الباطنة، وإنما يفيض منه على كل مصل على قدرة صفائه من كدورات الدنيا ويختلف ذلك بالقلة والكثرة، والقوة والضعف، والجلاء والخفاء، ويختلف أيضا بما ينكشف من العلوم فينكشف لبعضهم من صفات الله وجلاله، ولبعضهم من عجائب أفعاله، ولبعضهم من دقائق علوم المعاملة، ولبعضهم غير ذلك، وأولى بالظهور والإضافة لكل شخص ما يهمه ويكون في طلبه وإلى ما ذكرناه من ترتب الإفاضات العلوية على الصلاة الخالصة لوجه الله المؤداة بالشروط المذكورة، أشار النبي (ص) بقوله: (إن العبد إذا قام في الصلاة، رفع الله الحجاب بينه وبين عبده، وواجهه بوجهه وقامت الملائكة

(هامش)

(36) صححنا الحديث على (مصباح الشريعة): الباب 18 / 144. (*)

ص 287

من لدن منكبيه إلى الهواء، يصلون بصلاته ويؤمنون على دعائه، وإن المصلي لينشر عليه البر من أعنان السماء إلى مفرق رأسه، ويناديه مناد: لو علم المصلي من يناجي ما التفت. وإن أبواب السماء تفتح للمصلين، وإن الله يباهي ملائكته بصدق المصلي). فإن رفع الحجاب وفتح أبواب السماء كناية عن إفاضة العلوم الباطنة عليه. وورد في التوراة: (يا ابن آدم، لا تعجز أن تقوم بين يدي مصليا باكيا، فأنا الله الذي اقتربت من قلبك، وبالغيب رأيت نوري) وورد: (أن العبد إذا صلى ركعتين، عجبت منه عشرة صفوف من الملائكة، كل صف منهم عشرة آلاف، وباهى الله به مئة ألف). وذلك لأن العبد جمع في الصلاة بين القيام والقعود، والركوع والسجود، والذكر باللسان، وغير ذلك. وليس لملك من الملائكة هذا القسم من العبادة الجامعة بين الكل، بل هذه الأفعال موزعة عليهم، فبعضهم قائمون لا يركعون إلى يوم القيامة، وبعضهم ساجدون لا يرفعون إلى يوم القيامة، وهكذا الراكعون والقاعدون، فإن ما أعطي الملائكة من القرب والرتبة لازم لهم، مستمر على حالة واحدة، لا تزيد ولا تنقص، وليس لهم مرتبة الترقي من درجة إلى أخرى، وباب المزيد مسدود عليهم، ولذلك قالوا: (وما منا إلا له مقام معلوم)، بخلاف الإنسان، فإن له الترقي في الدرجات، والتقلب في أطوار الكمالات، ومفتاح مزيد الدرجات هي الصلاة، قال الله سبحانه: (قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون) فمدحهم بعد الإيمان بصلاة مخصوصة، وهي المقرونة بالخشوع، ثم ختم أوصاف المفلحين بالصلاة أيضا، فقال في آخرها: (والذين هم على صلاتهم يحافظون)، ثم قال في ثمرة تلك الصفات: (أولئك هم الوارثون، الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون) (37). فوصفهم في بالفلاح أولا، وبوارثة الفردوس آخرا. فالمصلون هم ورثة الفردوس وورثة الفردوس هم المشاهدون لنور الله بقربه ودنوه بالقلب. وكل عاقل يعلم أن مجرد حركة اللسان والجوارح مع غفلة القلب، لا تنتهي درجته إلى هذا الحد.

(هامش)

(37) المؤمنون، الآية: 9 / 11. (*)

ص 288

فصل ما ينبغي في إمام الجماعة

ينبغي لإمام الجماعة: أن يختص من بين القوم بمزيد صفاء القلب. وإقباله إلى الله، والخشوع والتعظيم، وغير ذلك من الشرائط الباطنة، لأنه القدرة والجاذب لنفوس الجماعة إلى الله، فما أقبح به أن يكون قلبه غافلا عن الله، أو واقعا في أودية الوساوس الباطلة في الصلاة، ويكون بعض من اقتدى به من القوم خاشعا حاضر القلب معظما لله سبحانه، وما أشنع به أن يكون التفات قلبه إلى من ورائه من الناس الذين لا يقدرون على شيء من النفع والضر أكثر من التفات قلبه إلى مالك الملك المحيط بالكل، الذي حدث بمجرد إرادته العوالم العلوية والسفلية والملك والملكوت، أو لا يستحي من علام الغيوب أن ينصب نفسه قدوة لأمة سيد الرسل (ص)، ويحمل محل رسول الله (ص) وأوصيائه الراشدين - عليهم السلام - وينوب عنهم، ويكون تغير قلبه وتأثر نفسه عن ضعفاء العوام الذين اقتدوا به أشد من أفعاله وتأثره من عظمة الله وجلاله؟! أو لا يخجل عند الله من تفاوت حاله بكثرة المأمومين وقلتهم؟ فينبغي لكل إمام قوم أن يمتحن نفسه، فإن لم تكن له هذه الصفات الخبيثة فليؤم، وإلا فليترك ولا يهلك نفسه، ويعرف ذلك بأن يكون فرحه بإمامة نفسه كفرحه بإمامة غيره من أمثاله وأقرانه بل إن كان قصده وفرحه بمجرد إقامة السنة، وإحياء رسوم الملة، فينبغي أن يكون فرحه بإمامة غيره ممن هو مرضي والاهتمام به أكثر من إمامة نفسه لحصول المقصود مع السلامة عن الغوائل المحتملة، ينبغي - أيضا - ألا يكون باعثه ومحركه إلى المسجد لإمامة القوم إلا القربة ورجاء الثواب، فلو كان في بعض زوايا قلبه باعث خفي من الشهرة والمنزلة في القلوب، أو الوصول إلى ما ينتظم به معاشه، فله الويل والثبور، ويكون ممن ظل وأظل وهلك وأهلك!

فصل ما ينبغي في صلاة الجمعة والعيدين

ينبغي للحاضر إلى صلاة الجمعة والعيدين: أن يستحضر أن هذه الأيام أيام شريفة عظيمة، وأعياد مباركة كريمة، قد خص الله بها هذه الأمة،

ص 289

وجعلها أوقاتا شريفة، لعباده ليقربهم من جواره، ويبعدهم من عذابه وناره وحثهم فيها على الإقبال بصالح الأعمال، وتلافي ما فرط منهم في بقية الأيام والشهور من الإهمال. فلا جرم وجب الاهتمام بصلاتها زيادة على سائر الصلوات من التهيؤ والاستعداد للقاء الله، والوقوف بين يديه، والمثول في حضرته، والفوز بمخاطبته. فليجتهد بعد الاتيان بالوظائف الظاهرة، من التنظيف والتطييب، والتعمم وحلق الرأس، وقص الشارب والأظفار وغير ذلك من السنن في تخليص النية، وإحضار القلب، وإكثار الخشوع والابتهال إلى الله تعالى في صلاته وينبغي أن يحضر قلبه في العيدين من قسمة الجوائز وتفرقة الرحمة، وإضافة المواهب فيها على من قبل صومه وقربانه وقام بوظائفهما، فليكبر في صلاتهما وقبلها وبعدها في قبول أعماله والعفو عن تقصيراته، وليستشعر الخجلة والحياء من خسران الرد، وخذلان الطرد، فتخسر صفقته، وتظهر بعد ذلك حسرته، فيفوز الفائزون، ويسبق السابقون، وينجو المخلصون، وهو يكون من الخائبين الخاسرين.

فصل ما ينبغي للمؤمن عند ظهور الآيات

إذا ظهرت الآيات، من الكسوف والخسوف والزلازل وغيرها، ينبغي لكل مؤمن من أن يستحضر عندها أهوال الآخرة وزلازلها، وتكور الشمس والقمر وظلمة القيامة، ووجل الخلائق، وخوفهم من الأخذ والنكال والعقوبة والاستيصال، فيكثر في صلاتها من الدعاء والابتهال بمزيد الخضوع والخشوع والهيبة والخوف في النجاة من تلك الشدائد ورد النور بعد الظلمة والمسامحة على الهفوة، وينبغي أن يكون منكسر النفس، مطرق الرأس، مستحيا من التقصير، مستشعرا بقلبه عظمة الله وجلاله. وبالجملة: حصول الخوف والخشية، والمبادرة إلى التضرع والابتهال، وأداء الصلاة بالاقبال والخشوع عند ظهور الآيات، من شعار أهل الإيمان. قال سيد الساجدين عليه السلام: (لا يفرغ للآيتين ولا يرهب، إلا من كان من شيعتنا، فإن كان ذلك منهما، فافزعوا إلى الله وراجعوه). وقال الرضا (ع) (إنما جعلت للكسوف صلاة لأنه من آيات الله تعالى، ولا يدري ألرحمة ظهرت

ص 290

أم لعذاب فأحب النبي (ص) أن يفزع أمته إلى خالقه وراحمه عند ذلك ليصرف عنهم شرها، ويقيهم مكروها، كما صرف عن قوم يونس (ع) حين تضرعوا إلى الله تعالى).

المقصد الثالث الذكر - فضيلة الأذكار - الدعاء

إعلم أنه ينبغي لكل مؤمن أن يكثر من الذكر والدعاء، لا سيما عقيب الصلاة المفروضة. وقد ورد في فضائلها من الآيات والأخبار ما يمكن إحصاؤه ولاشتهارها لا حاجة إلى ذكرها هنا.

فصل الذكر

أما الذكر فالنافع منه هو الذكر على الدوام، أو في أكثر الأوقات، مع حضور القلب، وفراغ البال، والوجه الكلي إلى الخالق المتعال، حتى يتمكن المذكور في القلب، ويتجلى عظمته الباهرة عليه، وينشرح الصدر بشروق نوره عليه، وهو غاية ثمرة العبادات، وللذكر أول وآخر، فأوله يوجب الأنس والحب، وآخره يوجبه الأنس والحب، والمطلوب منه ذلك الحب والأنس. فإن العبد في بداءة الأمر يكون متكلفا بصرف قلبه ولسانه عن الوساس والفضول إلى ذكر الله، فإن وفق للمداومة أنس به وانغرس في قلبه حب المذكور، ومن أحب شيئا أكثر ذكره، ومن أكثر ذكر شيء، وإن كان تكلفا، أحبه. ومن هنا قال بعضهم: (كاءدت القرآن عشرين سنة ثم تنعمت به عشرين سنة) ولا تصدر النعم من الأنس والحب، ولا يصدر الأنس والحب إلا من المداومة على المكاءدة والتكلف مدة طويلة، حتى يصير التكلف طبعا. وكيف يستبعد هذا وقد يتكلف الإنسان تناول طعام يستبشعه أولا، ويكائد أكله، ويواضب عليه، فيصير موافقا لطبعه حتى لا يصبر عنه؟ فالنفس تصير معتادة متحملة لما تكفلت: (هي النفس ما عودتها تتعود) ثم إذا حصل الأنس بذكر الله انقطع عن غير الله، وما سوى الله يفارقه عند الموت، ولا يبقى إلا ذكر الله، فإن كان قد أنس به تتمتع به وتلذذ بانقطاع العوائق الصارفة عنه، إذ ضرورات الحاجات في الحياة تصد عنه

ص 291

ذكر الله ولا يبقى بعد الموت عائق، فكأنه خلى بينه وبين محبوبه، فعظمت غبطته، وتخلص من السجن الذي كان ممنوعا فيه عما به أنسه، وهذا الأنس يتلذذ به العبد بعد موته إلى أن ينزل في جوار الله، ويترقى من الذكر إلى اللقاء، قال الصادق (ع): (من كان ذاكرا لله على الحقيقة فهو مطيع، ومن كان غافلا عنه فهو عاص، والطاعة علامة الهداية، والمعصية علامة الضلالة، وأصلها من الذكر والغفلة، فأجعل قلبك قبلة للسانك، ولا تحركه إلا بإشارة القلب، وموافقة العقل، ورضا الإيمان، فإن الله تعالى عالم بسرك وجهرك، وكن كالنازع روحه، أو كالواقف في العرض الأكبر، غير شاغل نفسك عما عناك مما كلفك به ربك في أمره ونهيه ووعده ووعيده، ولا تشغلها بدون ما كلفك به ربك. واغسل قلبك بماء الحزن ، وأجعل ذكر الله تعالى من أجل ذكره تعالى إياك، فإنه ذكرك وهو غني عنك، فذكره لك أجل وأشهى وأثنى وأتم من ذكرك له وأسبق، ومعرفتك بذكره لك تورثك الخشوع والاستحياء والانكسار، ويتولد من ذلك رؤية كرمه وفضله السابق، وتصغر عن ذلك طاعتك وإن كثرت في جنب منته، وتخلص لوجهه، ورؤيتك ذكرك له، يورثك الرياء والعجب والسفه والغلظة في خلقه، واستكثار الطاعة ونسيان فضله وكرمه، ولا تزداد بذلك من الله تعالى إلا بعدا، ولا تستجلب به على مضي الأيام إلا وحشة. والذكر ذكران: ذكر خالص بموافقة القلب، وذكر صارف لك ينفي ذكر غيره، كما قال رسول الله (ص): (أنا لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك). فرسول الله (ص) لم يجعل لذكره الله عز وجل مقدارا عند علمه بحقيقة سابقة ذكر الله عز وجل من قبل ذكره، ومن دونه أولى، فمن أراد أن يذكر الله تعالى، فليعلم أنه ما لم يذكر الله العبد بالتوفيق لذكره، لا يقدر العبد على ذكره) (38).

(هامش)

(38) الحديث مذكور في (مصباح الشريعة): الباب 5 / 136. وفي المستدرك: 401، كتاب الصلاة، أبواب الذكر. وفي الموضعين اختلاف يسير فصححناه على (مصباح الشريعة)، الموضع المذكور. (*)

ص 292

تتميم فضيلة الأذكار

الأذكار كثيرة، كالتهليل، والتسبيح، والتحميد، والتكبير، والحوقلة والتسبيحات الأربع، وأسماء الله الحسنى، وغير ذلك، وقد وردت في فضيلة كل منها أخبار كثيرة، والمواظبة على كل منها توجب صفاء النفس وانشراح الصدر، وكلما كانت أدل على غاية العظمة والجلال والعزة والكمال، فهي أفضل. ولذا صرحوا بأن أفضل الأذكار التهليل، لدلالته على توحده في الألوهية، واستناد الكل إليه. وربما كان بعض أسماء الله تعالى في مرتبته أدل، والعارف السالك إلى الله يعلم: أنه قد ينبعث في القلب من عظمة الله وجلاله وشدة كبريائه وكماله ما لا يمكن التعبير عنه بأسم.

فصل الدعاء

وأما الدعاء، فهو مخ العبادة، ولذا ورد في فضله ما ورد من الآيات والأخبار، ولا حاجة إلى ذكرها لاشتهارها. والأدعية المأثورة كثيرة مذكورة في كتب الدعوات، ولا يتصور مطلب من مطالب الدنيا والآخرة إلا وقد وردت به أدعية، فمن أراد شيئا منها فيأخذ من مواضعها. ومما ينبغي لكل داع، أن يراعي شرائط وآدابا في الدعاء، حتى يستجاب له، ويصل إلى فائدته، وتحصل لنفسه نورانية، وهي أن يترصد لدعائه الأوقات الشريفة، والأحوال الشريفة، والأماكن المتبركة المشرفة، وأن يدعو متطهرا، مستقبل القلبة، رافعا يديه بحيث يرى باطن إبطيه، وأن يخفض صوته بين الجهر والاخفات، ولا يتكلف السجع في الدعاء ويكون في غاية التضرع والخشوع والرهبة، وأن يجزم ويتيقن إجابة دعائه، ويصدق رجاءه فيه، وأن يلح في الدعاء، ويكرره ثلاثا، ويفتح الدعاء بذكر الله وتمجيده، ولا يبتدئ بالسؤال، وأن يتوب، ويرد مظالم العباد، ويقبل على الله بكنه الهمة، وهو السبب القريب للإجابة، وأن يكون مطعمه وملبسه من الحلال، وهو أيضا من عمدة الشرائط، وأن يسمي حاجته،

ص 293

ويعم في الدعاء، ويبكي عنده، وهو أيضا سيد الآداب وأن يتقدم في الدعاء قبل الحاجة إليه، وألا يعتمد في حوائجه على غير الله تعالى، قال الصادق (ع): (إحفظ أدب الدعاء، وانظر من تدعو، وكيف تدعو، ولماذا تدعو، وحقق عظمة الله وكبرياءه، وعاين بقلبك علمه بما في ضميرك، واطلاعه على سرك وما تكن فيه من الحق والباطل، وأعرف طرق نجاتك وهلاكك، كيلا تدعو الله بشيء عسى فيه هلاكك وأنت تظن أن فيه نجاتك قال الله تعالى: (ويدعو الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا) (39). وتفكر ماذا تسأل، ولماذا تسأل. والدعاء استجابة الكل منك للحق، وتذويب المهجة في مشاهدة الرب، وترك الاختيار جميعا، وتسليم الأمور كلها - ظاهرها وباطنها - إلى الله تعالى، فإن لم تأت بشرط الدعاء فلا تنتظر الإجابة، فإنه يعلم السر وأخفى، فلعلك تدعوه بشيء قد علم من سرك خلاف ذلك. واعلم أن لو لم يكن الله أمرنا بالدعاء، لكنا إذا أخلصنا الدعاء، تفضل علينا بالإجابة، فكيف وقد ضمن ذلك لمن أتى بشرائط الدعاء وسئل رسول الله (ص) عن اسم الله الأعظم فقال: (كل اسم من أسماء الله أعظم). ففرغ قلبك من كل ما سواه، وادعه بأي اسم شئت، فليس في الحقيقة لله اسم دون، بل هو الله الواحد القهار. وقال النبي (ص): (إن الله لا يستجيب الدعاء من قلب لاه). فإذا أتيت بما ذكرت لك من شرائط الدعاء، وأخلصت سرك لوجهه، فأبشر بإحدى ثلاث: إما أن يعجل لك بما سألت، وإما أن يدخر لك بما هو أفضل منه، وإما أن يصرف عنك من البلاء ما لو أرسله عليك لهلكت) (40). وسئل من الصادق (ع): ما لنا ندعوا ولا يستجيب لنا؟ فقال: (لأنكم تدعون من لا تعرفونه، وتسألون من لا تفهمونه، فالاضطرار عين الدين، وكثرة الدعاء مع العمى عن الله من علامة الخذلان، لأن من لم يعرف ذلة نفسه وقلبه وسره تحت

(هامش)

(39) الإسراء الآية: 11. (40) الحديث المذكور في (مصباح الشريعة) الباب 19 / 145 - 146 وفية اختلاف كثير عما هنا، فصححناه على المصباح، الموضع المذكور. (*)

ص 294

قدرة الله، حكم على الله بالسؤال، وظن أن سؤاله دعاء، والحكم على الله من الجرأة على الله تعالى).

المقصد الرابع تلاوة القرآن

إعلم أنه لا حد لثواب تلاوة القرآن، والأخبار الواردة في عظم أجره ووفور ثوابه لا تحصى كثرة، وكيف لا يعظم أجره وهو كلام الله، حامله روح الأمين إلى سيد المرسلين، فتأمل أن الكلام الصادر من الله بلا واسطة إذا كان من حيث اللفظ معجزة لغاية فصاحته، ومن حيث المعنى متضمنا لأصول حقائق المعارف والمواعظ والأحكام، ومخبرا عن دقائق صنع الله، وعن مغيبات الأحوال والقصص الواقعة في سوالف القرون والأعوام، كيف يكون تأثيره للقلوب وتصفيته للنفوس؟ وبالجملة: العقل والنقل والتجربة، شواهد متظاهرة على عظم ثواب تلاوة القرآن، والأخبار الواردة فيه مشهورة، فلا حاجة إلى ذكرها، فلنشر إلى بعض ما يتعلق بالتلاوة من الآداب الظاهرة والباطنة. أما الآداب الظاهرة، فالوضوء، والوقوف على هيئة الأدب، والطمأنينة إما قائما أو جالسا، مستقبل القلبة، مطرقا رأسه، غير متربع ولا متكأ. والترتيب والبكاء، والجهر المتوسط لو أمن من الرياء. وإلا فالسر أفضل، وتحسين القراءة وتنزيهها، ومراعاة حق الآيات، فإذا مر بآية السجود سجد، وإذا مر بآية العذاب استعاذ منه بالله، وإذا مر بآية الرحمة ونعيم الجنة سئل الله تعالى أن يرزقه، وإذا مر بآية تسبيح أو تكبير سبح وكبر، وإذا مر بآية دعاء أو استغفار دعا واستغفر، وافتتاح القراءة بقوله: (أعوذ بالله السميع العليم من من الشيطان الرجيم)، وأن يقول عند الفراغ من كل سورة: (صدق الله العلي العظيم وبلغ رسوله الكريم، اللهم أنفعنا به وبارك لنا فيه، والحمد لله رب العالمين). وأما الآداب والأعمال الباطنة: فمنها - فهم عظمة الكلام وعلوه، وفضل الله تعالى ولطفه بخلقه، في

ص 295

نزوله عن عرش جلاله إلى درجة أفهام خلقه: فلينظر كيف لطف بخلقه في إيصال معاني كلامه الذي هو صفة قائمة بذاته إلى أفهام خلقه، وكيف تجلت لهم تلك الصفة في طي حروف وأصوات هي صفات البشر، إذ يعجز البشر عن الوصول إلى فهم صفات الله إلا بوسيلة صفات نفسه، ولولا استتار كنه جمال كلامه بكسوة الحروف، لما ثبت لسماع كلامه عرش ولا ثرى، ولا شيء بينهما، من عظمة سلطانه وسبحات نوره، ولولا تثبيت الله موسى (ع) لما أطاق سماع كلامه، كما لم يطق الجبل مبادي تجلية حيث صار دكا، ولا يمكن تفهيم عظمة الكلام إلا بأمثلة على حد فهم الخلق، ولهذا عبر عنه بعض العارفين، فقال: (إن كل حرف من كلام الله في اللوح أعظم من جبل قاف، وإن الملائكة لو اجتمعت على الحرف الواحد أن ينقلوه ما أطاقوه، حتى يأتي إسرافيل، وهو ملك اللوح، فيرفعه. فنقله بأذن الله ورحمته، لا بقوته وطاقته). وإيصال معاني الكلام مع علو درجته إلى فهم الإنسان مع قصور رتبته، تشابه من درجة تصويت الإنسان البهائم والطيور. فإن الإنسان لما أراد تفهيم بعض الدواب والطيور ما يريد من إقبالها وإدبارها وتقديمها وتأخيرها، وكان تمييزها قاصرا عن فهم كلامه الصادر عن عقله مع حسنه وترتيبه وبديع نظمه، فينزل إلى درجة تمييز البهائم، ويوصل مقاصده إليها بأصوات لائقة بها، من النفير والصفير والأصوات القريبة من أصواتها، يطيقون حملها. وكذلك الناس، لما كانوا عاجزين عن حمل كلام الله بكنه وكمال صفاته، فتنزل من عرش العظمة والجلال إلى درجة إفهامه، فتجلى في مظاهر الأصوات والحروف، وقد يشرف الصوت لأجل الحكمة المحبوة فيه. فكما أن بدن البشر يكرم ويعزز لمكان الروح، فكذلك أصوات الكلام تشرف للحكمة التي فيها. والكلام عالي المنزلة، رفيع الدرجة، قاهر السلطان، نافذ الحكم في الحق والباطل، وهو القاضي العادل، يأمر وينهى، ولا طاقة للباطل أن يقوم قدام كلام الحكمة، فلا يستطيع الظل أن يقوم قدام شعاع الشمس، ولا طاقة للناس أن ينفذوا غور الحكمة، كما لا طاقة لهم أن ينفذوا بأبصارهم ضوء عين الشمس، ولكنهم ينالون منها ما تقدم به أبصارهم ويستدلون به على

ص 296

حوائجهم. فالكلام كالملك المحجوب الغائب وجهه، المشاهد أمره، فهو مفتاح الخزائن النفيسة، وشراب الحياة الذي من شرب منه لم يمت، ودواء الأسقام الذي من سقي منه لم يسقم. ومنها - تعظيم المتكلم: فينبغي للقارئ عند الابتداء بالتلاوة، أن يحضر في قلبه عظمة المتكلم، ويعلم أنه ليس من كلام البشر، بل هو كلام خالق الشمس والقمر، وفي تلاوة كلامه غاية الخطر، إذ كما لا ينبغي أن تمس جلده وورقه وحروفه البشرة المستقذرة بخبث أو حدث، فكذلك لا ينبغي أن تقرؤه الألسنة المستخبثة بقبائح الكلمات، وألا تحوم حول معناه القلوب المكدرة برذائل الأخلاق والصفات، فكما أنه لا يصلح لمس ظاهر خطه كل يد، بل هو محروس عن ظاهر بشرة اللامس، إلا إذا كان متطهرا، فكذلك لا يصلح لتلاوة حروفه كل لسان، ولا لنيل معانيه كل قلب، بل باطن معناه لعلوه وجلاله محجوب عن باطن القلوب، إلا إذا كانت منقطعة عن كل رجس، مستنيرة بنور التعظيم والتوقير. وبالجملة: ينبغي ألا يترك عند التلاوة تعظيم المتكلم له، ليتحقق تعظيم الكلام أيضا، إذ تعظيم الكلام بتعظيم المتكلم، ولو لم تحضره عظمة المتكلم لغفلة قلبه، فليرجع إلى التفكر في صفاته وأفعاله، ويستحضر أن المتكلم هو الذي أوجد وأظهر بمجرد أرادته كل ما يشاهده ويسمعه، من العرش والكرسي والسماوات والأرضين، وما فيها وما تحتها وما فوقها، وأنه الخالق والرازق للجميع، والكل في قبضة قدرته مسخر أسير، ومردد بين فضله ورحمته، وبين نقمته وسطوته، وجميع ذلك لا نسبة له إلى عوالم المجردات. فالتفكر في أمثال ذلك يوجب استشعار القلب لعظمة المتكلم والكلام. ولمثل هذا التعظيم كان بعضهم إذا نشر المصحف للتلاوة غشي عليه، ويقول: (هو كلام ربي، هو كلام ربي!). ومنها - الخضوع والرقة: قال الصادق (ع): (من قرأ القرآن، ولم يخضع ولم يرق قلبه، ولا ينشئ حزنا ووجلا في سره، فقد استهان بعظيم شأن الله تعالى، وخسر خسرانا مبينا، فقارئ القرآن محتاج إلى ثلاثة أشياء: قلب خاشع، وبدن فارغ، وموضع خال. فإذا خشع لله قلبه فر

ص 297

منه الشيطان الرجيم، قال الله تعالى: (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم) (41). فإذا تفرغ نفسه من الأسباب، تجرد قلبه للقراءة فلا يعرضه عارض فيحرمه بركة نور القرآن وفوائده. فإذا اتخذ مجلسا خاليا، واعتزل عن الخلق بعد أن أتى بالخصلتين: خضوع القلب وفراغ البدن، استأنس روحه وسره بالله عز وجل، ووجود حلاوة مخاطبات الله عز وجل عباده الصالحين، وعليم لطفه بهم ومقام اختصاصه لهم، بفنون كراماته، وبدائع إشاراته، فإن شرب كأسا من هذا المشرب حين إذ، لا يختار على ذلك الحال حالا، ولا على ذلك الوقت وقتا، بل يؤثره على كل طاعة وعبادة، لأن فيه المناجاة مع الرب بل واسطة. فانظر كيف تقرأ كتاب ربك ومنشور ولايتك، وكيف تجيب أوامره ونواهيه، وكيف تمثل حدوده: (وإنه لكتاب عزيز، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد) (42). فرتله ترتيلا، وقف عند وعده ووعيده، وتفكر في أمثاله ومواعظه، واحذر أن تقع من إقامتك حروفه في إضاعة حدوده) (43). ومنها - حضور القلب، وترك حديث النفس: وهو يترتب على التعظيم، فإن من يعظم شيئا، كلاما كان أو غيره، يستبشر ويستأنس به، ولا يغفل عنه. ولا ريب في أن القرآن يشتمل على ما يستأنس به القلب، وتفوح به النفس، أن كان التالي أهلا له. ومنها - التدبر: وهو زائد على حضور القلب، إذ التالي ربما لم يتفكر في غير القرآن، ولكنه أقتصر على سماعه من نفسه، ومن دون تدبر فيه. والمقصود من تلاوة القرآن التدبر فيه في الباطن، قال الله سبحانه: (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) (44).

(هامش)

(41) النحل، الآية: 98. (42) فصلت، الآية: 41 - 42. (43) صححنا الحديث على (مصباح الشريعة): الباب 14 / 142. (44) محمد - صلى الله عليه وآله -، الآية: 24. (*)

ص 298

وقال أمير المؤمنين (ع): (لا خير في عبادة لا فقه فيها، ولا في قراءة لا تدبر فيها). وإذا لم يتمكن من التدبر إلا بالترديد،، فليردد. ولذلك كان الأكابر كثيرا ما يكررون بعض الآيات مرات كثيرة للتدبر فيها، وربما يقفون عند آية مدة مديدة، وقال بعضهم: (لي في كل جمعة ختمة، وفي كل شهر ختمة، وفي كل سنة ختمة، ولي ختمة منذ ثلاثين ما فرغت منها بعد!)، وذلك بحسب درجات تدبره وتفتيشه. ومنها - التفهم: وهو أن يستوضح من كل آية ما يليق بها، إذ القرآن يشتمل على ذكر صفاته تعالى، وذكر أفعاله، وذكر الجنة والنار، وأحوال النشأة الآخرة، وذكر أحوال أنبيائه، وأحوال المكذبين، وأنهم كيف أهلكوا، وذكر أحكامه وأوامره ونواهيه وغير ذلك. فإن مر بآيات صفاته تعالى، كقوله: (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) (45). وكقوله تعالى: (الملك القدوس السلام...) إلى آخر الآية (46) وغير ذلك. فليتأمل في معاني هذه الأسماء والصفات، لتنكشف له أسرارها المكنونة تحتها، ولا تنكشف هذه الأسرار إلا للمؤيدين في فهم كتاب الله. قال أمير المؤمنين (ع): (ما أسر إلي رسول الله (ص) شيئا كتمه عن الناس، إلا أن يؤتي الله عز وجل عبدا فهما في كتابه). وإن مر بآيات الأفعال، أي الآيات الحاكية عن خلقه السماوات والأرض، وما فيهما من الملائكة والكواكب والجبال والحيوان والنبات، وما بينهما من السحب والغيوم والرياح والأمطار وغير ذلك، فليفهم التالي منها عظمة الله وجلاله. إذ الفعل يدل على الفاعل، فعظمته تدل على عظمته. وينبغي أن يشهد في الفعل الفاعل دون الفعل، إذ من عرف الحق رآه في كل شيء، إذ كل شيء منه وبه وإليه وله، فهو الكل في وحده، ومن لا يراه في كل ما يراه فكأنه ما عرفه، ومن عرفه عرف أن كل شيء ما خلا الله باطل، وأن كل شيء هالك إلا وجهه، وإن اعتبر من حيث هو، إذ مع قطع النظر عن الواجب

(هامش)

(45) الشورى، الآية: 11. (46) الحشر، الآية: 23. (*)

ص 299

وإيجاده، لا ذات ولا وجود، بل محض العدم وعدم المحض. فذات كل شيء ووجوده وثباته وبقاؤه بالله العلي العظيم. فإذا قرأ التالي آية تدل على شيء من عجائب صنعه وغرائب فعله، فليتأمل في تلك العجائب، ثم يترقى منها إلى أعجب العجائب، وهي الصفة التي صدرت منها هذه الأعاجيب. وإذا سمع وصف الجنة والنار وسائر أحوال الآخرة، فليتذكر أن ما في هذا العالم من النعم والنقم لا نسبة له إلى ما في عالم الآخرة، فلينتقل من ذلك إلى عظمة الله تعالى، وينقطع إليه باطنا، ليخلصه من عقوبات تلك النشأة، ويوصله إلى نعيمها ولذاتها. وإذا سمع أحوال الأنبياء عليهم السلام، من تكذيبهم وضربهم وقتلهم، فليفهم منه صفة الاستغناء لله تعالى من الرسل والمرسل إليهم، وأنه لو أهلك جميعهم لا يؤثر في ملكه وإذا سمع نصرتهم في الأمر، فليفهم قدرة الله وإرادته لنصرته لنصرة الحق. وأما أحوال المكذبين وما جرى عليهم من العقوبات وضروب النكال، فليستشعر الخوف من سطوته ونقمته، ويعتبر في نفسه، ويعلم أنه غفل وأساء الأدب، واغتر بما أمهل، فربما تدركه النقمة. وكذلك إذا سمع الوعد والوعيد والأمر والتهديد، فلا يمكن استقصاء ما يفهم من القرآن، لأنه لا نهاية له، إذ (لا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين) (قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفذ البحر قبل أن تنفذ كلمات ربي) (47). ولكل عبد منه بقدر استعداده ومقدار فهمه وصفاء نفسه. ومنها - التخلي عن موانع الفهم: وهي التقليد والتعصب لمذهب، فإن ذلك بمنزلة حجاب لمرآة النفس يمنعها عن انعكاس غير معتقدها فيها، والجمود على تفسير ظاهر، ظانا أن غيره تفسير بالرأي لا يجوز ارتكابه، وصرف الهمة والفهم إلى تحقيق الحروف وما يتعلق بها من الأمور المتداولة بين القراء، فإن قصر التأمل على ذلك مانع من انكشاف المعاني، والاصرار على الذنوب الظاهرة والباطنة، ومتابعة الشهوات المظلمة للقلب الموجبة للحرمان عن انكشاف الأسرار والحقائق فيه، وإشراق المعارف الحقة عليه.

(هامش)

(47) الكهف، الآية: 110.

ص 300

قال رسول الله (ص): - (إذا عظمت أمتي الدينار والدرهم تنزع منها هيبة الإسلام، وإذا تركوا الأمر بالمعروف، حرموا بركة الوحي). وقد شرط الله تعالى الإنابة في الفهم والتذكر، قال الله تعالى: (تبصرة وذكرى لكل عبد منيب) (48). وقال تعالى: (وما يتذكر إلا من ينيب) (49). وقال تعالى: (إنما يتذكر أولو الألباب) (50). ومنها - التخصيص: وهو أن يقدر أنه المقصود بكل خطاب في القرآن من الأمر والنهي والوعد والوعيد، حتى أنه لو سمع قصص الأولين يجزم بأن المقصود الاعتبار دون مجرد الحكاية والتشمر. فما من قصة في القرآن إلا وسياقها الفائدة في حق النبي وأمته، ولذلك قال سبحانه: (ما نثبت به فؤادك) (51). فإن القرآن جميعه هدى وشفاء ورحمة، ونور وموعظة وبصائر للعالمين فكل أحد إذا قرأه ينبغي أن تكون قراءة العبد كتاب مولاه الذي كتب إليه ليتأمله ويعمل بمقتضاه. قال بعض الأكابر: (هذا القرآن رسائل أتتنا من قبل ربنا عز وجل بعهوده، فنتدبرها في الصلوات، ونقف في الخلوات، وننفذها في الطاعات بالسنن المتبعات). ومنها - التأثر: وهو أن يتأثر قلبه بآثار مختلفة بحسب اختلاف الآيات، فيكون له بحسب كل فهم حال: من الخوف، والحزن والوجل، والوجد، والفرح، والارتياح، والرجاء، والقبض، والانبساط فإذا سمع الوعيد فليضطرب قلبه، ويتضائل من الخوف كأنه يموت، وإن سمع وسعه الرحمة ووعد المغفرة، فليفرح ويستبشر كأنه يطير من الابتهاج، وإذا سمع وصف الجنة، فلينبعث باطنه شوقا إليها وإذا سمع وصف النار، فلترتعد فرائصه خوفا منها، وإذا سمع صفات الله وأسماءه ونعوت جلاله، فليتطأطأ خضوعا لجلاله واستشعارا لعظمته وكبريائه، وإذا سمع ذكر الكفار ما يستحيل على الله من اتخاذ الولد وأمثاله، فليغض صوته وينكسر في باطنه حياء من

(هامش)

(48) ق، الآية: 8. (49) المؤمن، الآية: 13. (50) الرعد الآية: 21. الزمر، الآية: 9. (51) هود، الآية: 120. (*)

 

الصفحة السابقة الصفحة التالية

جامع السعادات (ج3)

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب