ص 2
بسم الله الرحمن الرحيم
بقية المقام الرابع ومنها (1)
• الغرور 
معنى الغرور - ذمة -
طوائف المغرورين من الكفار والعصاة والفساق من المؤمنين - المغترون - أهل العلم
وفرقهم - المغترون من الوعاظ كثيرون - المغرورون من أهل العبادة فرق كثيرة - المغترون من المتصوفة أكثر - المغترون من الأغنياء أكثر من سائر الطوائف - ضد
الغرور والفطانة والعلم والزهد. وهو سكون النفس إلى ما يوافق الهوى، ويميل إليه
الطبع عن شبهة وخدعة من الشيطان. فمن اعتقد أنه على خير إما في العاجل أو في الآجل
عن شبهة فاسدة، فهو مغرور. ولما كان أكثر الناس ظانين بأنفسهم خيرا، ومعتقدين بصحة
ما هم عليه من الأعمال والأفعال وخيريته، مع أنهم مخطئون فيه فهم مغرورون، مثلا من
يأخذ المال الحرام وينفقها في مصارف الخير، كبناء المساجد والمدارس والقناطر والرباطات وغيرها، يظن أن هذا خير له وسعادة، مع أنه محض الغرور، حيث خدعه الشيطان
وأراه ما هو شر له خيرا، وكذا الواعظ الذي غرضه الجاه والقبول من موعظته، يظن أنه
في طاعة الله، مع إنه في المعصية بغرور الشيطان وخدعته. ثم لا ريب في أن سكون النفس
إلى ما يوافق الهوى، ويميل الطبع إليه عن شبهة ومخيلة، مركب من أمرين (أحدهما)
اعتقاد النفس بأن هذا خير له مع كونه خلاف الواقع، (وثانيهما) حبا وطلبها باطنا
لمقتضيات الشهوة أو الغضب. فإن الواعظ إذا قصد بوعظه طلب الجاه والمنزلة معتقدا أنه
يجلب به الثواب، تكون له رغبة إلى الجاه واعتقاد بكونه خيرا له، إذ الغني إذا أمسك
ماله ولم ينفقه في مصارفه اللازمة، وواظب على العبادة معتقدا أن مواظبته على
العبادة تكفي لنجاته وإن كان له حب
(هامش)
(1) أي من الرذائل المتعلقة باثنتين من القوى الثلاث أو يجمعها: وهي القوة العاقلة
والغضبية والشهوية، وهذه الرذيلة (الواحدة والعشرون) منها (*)
ص 3
للمال واعتقاد بأنه على الخير ثم الاعتقاد المذكور راجع إلى نوع معين من الجهل
المركب، وهو الجهل الذي يكون المعتقد فيه شيئا يوافق الهوى، فيكون من رذائل القوة
العاقلة، والحب والطلب للجاه والمال من رذائل قوتي الغضب والشهوة. فالغرور يكون من
رذائل القوى الثلاث، أو من رذائل العاقلة مع أحدهما.
فصل ذم الغرور 
الغرور والغفلة
منبع كل هلكة وأم كل شقاوة، ولذا ورد فيه الذم الشديد في الآيات والأخبار، قال الله
- سبحانه -: (فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور) (2). وقال - عز
وجل (ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم
بالله الغرور) (3). وقال رسول الله (ص): (حبذا نوم الأكياس وفطرهم، كيف يغبنون سهر
الحمقى واجتهادهم، ولمثقال ذرة من صاحب تقوى ويقين أفضل من ملء الأرض من المغترين).
وقال الصادق (ع): (المغرور في الدنيا مسكين، وفي الآخرة مغبون، لأنه باع الأفضل
بالأدنى، ولا تعجب من نفسك، فربما اغتررت بمالك وصحة جسدك أن لعلك تبقى. وربما
اغتررت بطول عمرك وأولادك وأصحابك لعلك تنجو بهم. وربما اغتررت بجمالك ومنيتك
وإصابتك مأمولك وهواك، فظننت أنك صادق ومصيب. وربما اغتررت بما ترى من الندم على
تقصيرك في العبادة، ولعل الله يعلم من قلبك بخلاف ذلك. وربما أقمت نفسك على العبادة
متكلفا والله يريد الإخلاص. وربما افتخرت بعلمك ونسبك. وأنت غافل عن مضمرات ما في
غيب الله تعالى. وربما توهمت أنك تدعو الله وأنت تدعو سواه. وربما حسبت أنك ناصح
للخلق وأنت تريدهم لنفسك أن يميلوا إليك وربما
(هامش)
(2) لقمان، الآية: 33 فاطر، الآية: 5 (3) الحديد، الآية: 14 (*)
ص 4
ذممت نفسك وأنت تمدحها على الحقيقة (4)
فصل طوائف المغرورين 
إعلم أن فرق المغترين
كثيرة، وجهات غرورهم ودرجاته مختلفة، وما من طائفة في العالم مشتركين في وصف
مجتمعين على أمر، إلا ويوجد فيهم فرق من المغترين. إلا أن بعض الطوائف كلهم مغترون،
كالكفار والعصاة والفساق، وبعضهم يوجد فيهم المغرور وغير المغرور، وإن كان معظم كل
طائفة أرباب الغرور. ونحن نشير إلى مجاري الغرور، وإلى غرور كل طائفة، ليتمكن طالب
السعادة من الاحتراز عنه، إذ من عرف مداخل الآفات والفساد ومجاريهما يمكنه أن يأخذ
منها حذره ويبني على الجزم والبصيرة أمره. فنقول:
الطائفة الأولى
الكفار

وهم
مغرورون بأسرهم، وهم ما بين من غرته الحياة الدنيا، وبين من غره الشيطان بالله،
وأما الذين غرتهم الحياة الدنيا، فباعث غرورهم قياسان نظمهما الشيطان في قلوبهم
(أولهما) أن الدنيا نقد والآخرة نسيئة، والنقد خير من النسيئة (وثانيهما) أن لذات
الدنيا يقينية ولذات الآخرة مشكوكة فيها،. اليقيني خير من المشكوك، فلا يترك به.
وهذه أقيسة فاسدة، تشبه قياس إبليس، حيث قال: (أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من
طين) (5) وعلاج هذا الغرور - بعد تحصيل اليقين بوجود الواجب تعالى وبحقية النبي
(ص)، وهو في غاية السهولة لوضوح الطرق والأدلة - إما أن يتبع مقتضى إيمانه ويصدق
الله تعالى في قوله: (ما عندكم ينفذ وما عند الله باق) (6). وفي قوله تعالى
(والآخرة خير
(هامش)
(4) صححناه على مصباح الشريعة: الباب 36. (5) الأعراف الآية: 11، ص الآية 76 (6)
النحل الآية: 96 (*)
ص 5
وأبقى (7). وقوله (وما عند الله خير وأبقى) (8). وقوله: (وما الحياة الدنيا إلا
متاع الغرور) (9). وقوله تعالى: (فلا تغرنكم الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور) (10.
وإما أن يعرف بالبرهان فساد القياسين، حتى يزول عن نفسه ما تأديا إليه من الغرور.
وطريق معرفة الفساد في (القياس الأول): أن يتأمل في أن كون الدنيا نقدا والآخرة
نسيئة صحيح، إلا أن كون كل نقد خير من النسيئة غير صحيح، بل هو محل التلبيس، إذ
المسلم خيرية النقد على النسيئة إن كان مثلها من المقدار والمنفعة والمقصود
والبقاء، وأما إن كان أقل منها في ذلك وأدون، فالنسيئة خير، ألا ترى أن هذا المغرور
إذا حذره الطبيب من لذائذ الأطعمة يتركها في الحال خوفا من ألم المرض في الاستقبال
ويبذل درهما في الحال ليأخذ درهمين نسيئة، ويتعب في الأسفار ويركب في الحال لأجل
الراحة والربح نسيئة. وقس عليه جميع أعمال الناس وصنائعهم في الدنيا: من الزراعة
والتجارة والمعاملات، فإنهم يبذلون فيها المال نقدا ليصلوا إلى أكثر منه نسيئة، فإن
كان عشرة في ثاني الحال خيرا من واحد في الحال، فانسب لذة الدنيا من حيث الشدة
والمدة والعدة إلى لذة الآخرة من هذه الحيثيات، فإن من عرف حقيقة الدنيا والآخرة،
يعلم أنه ليس للدنيا قدر محسوس بالنسبة إلى الآخرة، على أن لذة الدنيا مكدرة مشوبة
بأنواع المنغصات، ولذة الآخرة صافية غير ممتزجة بشيء من المكدرات وأما طريق معرفة
فساد (القياس الثاني) بأصليه: هو أن يعرف أن كون لذة الآخرة مشكوكا فيها خطأ، وأن
كل يقتني خير من المشكوك غلط: (أما الأول) فلأن الآخرة يقينية قطعية عند أهل
البصيرة. وليقينهم مدركان: - أحدهما - ما يدركه عموم الخلق، وهو اتفاق عظماء الناس
(هامش)
(7) الأعلى، الآية: 17 (8) القصص الآية: 60 الشورى الآية: 36 (9) آل عمران، الآية:
185. الحديد الآية 20 (10) لقمان، الآية: 33، فاطر الآية: 5 (*)
ص 6
من الأنبياء والأولياء والحكماء والعلماء، فإن ذلك يورث اليقين والطمأنينة بعد
التأمل، كما أن المريض الذي لا يعرف دواء علته إذا أتفق جميع أرباب الصناعة على أن
دواءه كذا، فإنه تطمئن نفسه إلى تصديقهم ولا يطالبهم بتصحيح ذلك بالبراهين، بل يثق
بقولهم ويعمل به، وإن كذبهم صبي أو معتوه أو سوادي. ولا ريب في أن المنكرين للآخرة
المغترين بالحياة الدنيا من الكفار والبطالين بالنظر إلى المخبرين عن أحوال الآخرة
المشاهدين لها من الأنبياء والأولياء أدون حالا وأقل رتبة من صبي أو معتوه أو سوادي
فالنظر إلى أطباء بلد أو مملكة. - وثانيهما - ما لا يدركه إلا الأنبياء والأولياء،
وهو الوحي والإلهام، فالوحي للأنبياء والإلهام والكشف للأولياء فإنه قد كشفت لهم
حقائق الأشياء كما هي عليها، وشاهدوها بالبصيرة الباطنة كما تشاهد أنت المحسوسات
بالبصر الظاهر، فيخبرون عن مشاهدة لا عن سماع وتقليد، ولا تظنن أن معرفة النبي (ص)
لأمر الآخرة ولأمور الدين مجرد تقليد لجبرئيل بالسماع منه، كما أن معرفتك لها تقليد
للنبي، هيهات! فإن الأنبياء يشاهدون حقائق الملك والملكوت، وينظرون إليها بعين
البصيرة واليقين، وإن أكد ذلك بإلقاء الملك والسماع منه. وأما المغرورون بالله، وهم
الذين يقدرون في أنفسهم ويقولون بألسنتهم: أن كان لله معاد فنحن فيه أوفر حظا وأسعد
حالا من غيرنا كما أخبر الله - سبحانه - عن قول الرجلين المتحاورين، إذ قال: (وما
أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا) (11) وباعث ذلك: ما
ألقى الشيطان في روعهم من نظرهم مرة إلى نعم الله عليهم في الدنيا فيقيسون عليها
نعمة الآخرة وينظرون إلى تأخير الله العذاب عنهم فيقيسون عليه عذاب الآخرة، كما قال
الله - تعالى -: (ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول حسبهم يصلونها فبئس
المصير) (12). ومرة ينظرون إلى المؤمنين وهم فقراء محتاجون، فيقولون: لو أحبهم الله
لأحسن إليهم في الدنيا ولو لم يحبنا لما أحسن إلينا فيها، فلما لم يحسن
(هامش)
(11) الكهف، الآية: 37. (12) المجادلة الآية: 8 (*)
ص 7
إليهم في الدنيا وأحسن إلينا فيها فيكون محبا لنا ولا يكون محبا لهم، فيكون الأمر
في الآخرة كذلك، كما قال الشاعر: كما أحسن الله فيما مضى * كذلك يحسن فيما بقي ولا
ريب في أن كل ذلك خيالات فاسدة وقياسات باطلة، فإن من ظن أن النعم الدنيوية دليل
الحب والاكرام فقد أغتر بالله، إذ ظن أنه كريم عند الله، بدليل لا يدل على الكرامة
بل يدل عند أولي البصائر على الهوان والخذلان، لأن نعيم الدنيا ولذاتها مهلكات
ومبعدات من الله، وأن الله يحمي أحباءه الدنيا كما يحمي الوالد الشفيق ولده المريض
لذائذ الأطعمة، ومثل معاملة الله - سبحانه - مع المؤمن الخالص والكافر والفاسق، حيث
يزوي الدنيا عن الأول ويصيب نعمها ولذاتها على الثاني، مثل من كان له عبدان صغيران
يحب أحدهما ويبغض الآخر، فيمنع الأول من اللعب ويلزمه المكتب ويحبسه فيه ليعلمه
الأدب ويمنعه من لذائذ الأطعمة والفواكه التي تضره ويسقيه الأدوية البشعة التي
تنفعه، ويهمل الثاني ليعيش كيف يريد ويلعب ويأكل كلما يشتهي، فلو ظن هذا العبد
المهمل أنه محبوب كريم عند سيده لتمكنه من شهواته ولذاته، وأن الآخر مبغوض عنده
لمنعه عن مشتهياته، كان مغرورا أحمق، فقد كان الخائفون من ذوي البصائر إذا أقبلت
عليهم الدنيا حزنوا وقالوا: ذنب عجلت العقوبة، وإذا أقبل عليهم الفقر قالوا: مرحبا
بشعار الصالحين! وأما المغرورون فعلى خلاف ذلك، لظنهم أن إقبال الدنيا عليهم كرامة
من الله وأن إدبارها عنهم هوان لهم، كما أخبر الله - تعالى - عنه بقوله: (فأما
الإنسان إذ ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن، وأما إذا ما ابتلاه فقدر
عليه رزقه فيقول ربي أهانن) (13). وعلاج هذا الغرور: أن يعرف أن أقبال الدنيا دليل
الهوان والخذلان دون الكرامة والاحسان، والتجرد منها سبب الكرامة والقرب إلى الله -
سبحانه - والطريق إلى هذه المعرفة: إما ملاحظة أحوال الأنبياء والأولياء
(هامش)
(13) الفجر الآية: 15 - 16 (*)
ص 8
وغيرهما من طوائف العرفاء وفرق الأتقياء، أو التدبر في الآيات والأخبار. قال الله -
سبحانه -: (أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون)
(14). وقال الله - سبحانه - (سنستدرجهم من حيث لا يعلمون) (15) وقال تعالى: (فلما
نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغية
فإذا هم مبلسون) (16). وقال - تعالى -: (إنما نملي لهم ليزدادوا إثما) (7).. إلى
غير ذلك من الآيات والأخبار. ومنشأ هذا الغرور: الجهل بالله وبصفاته، فإن من عرفه
لا يأمن مكره ولا يغتر به بأمثال هذه الخيالات الفاسدة، وينظر إلى قارون وفرعون
وغيرهما من الملوك والجبابرة، كيف أحسن الله إليهم ابتداء ثم دمرهم تدميرا، وقد حذر
الله عباده عن مكره واستدراجه فقال: (فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون) (18)
وقال: (ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين) (19).
الطائفة الثانية
العصاة والفساق
من المؤمنين
وسبب غرورهم وغفلتهم: أما بعض بواعث غرور الكافرين - كما تقدم - أو
ظنهم أن الله - تعالى - كريم ورحمته واسعة ونعمته شاملة، وأين معاصي العباد في جنب
بحار رحمته، ويقولون: إنا موحدون ومؤمنون، فكيف يعذبنا مع التوحيد والإيمان،
ويقررون ظنهم بما ورد في فضيلة الرجاء - كما تقدم -. وربما أغتر بعضهم بصلاح آبائهم
وعلو رتبتهم، كاغترار بعض العلويين بنسبهم مع مخالفتهم سيرة آبائهم الطاهرين في
الخوف
(هامش)
(14) المؤمنون، الآية: 56 - 57 (15) الأعراف، الآية: 181، القلم الآية: 44 (16)
الأنعام، الآية: 44 (17) آل عمران، الآية: 187 (18) الأعراف، الآية: 99 (19) لا
عمران، الآية: 54 (*)
ص 9
والورع. علاج هذا الغرور: أن يعرف الفرق بين الرجاء الممدوح والتمني المذموم، ويعلم
أن غروره ليس رجاء ممدوحا، بل هو تمن مذموم، كما قال رسول الله (ص): (الكيس من دان
نفسه وعمل لما بعد الموت، والأحمق من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله). فإن الرجاء
لا ينفك عن العمل، إذ من رجا شيئا طلبه ومن خاف شيئا هرب منه، وكما أن الذي يرجو في
الدنيا ولدا وهو لم ينكح، أو نكح ولم يجامع، أو جامع ولم ينزل، فهو مغرور أحمق،
كذلك من رجا رحمة الله وهو لم يؤمن، أو آمن ولم يترك المعاصي، أو تركها ولم يعمل
صالحا، فهو مغرور جاهل كيف وقد قال الله - سبحانه -: (إن الذين آمنوا والذين هاجروا
وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله) (20) يعني أن الرجاء يليق بهم دون
غيرهم وذلك، لأن ثواب الآخرة أجر وجزاء على الأعمال، كما قال - تعالى -: (جزاء بما
كانوا يعملون) (21). وقال: (وإنما توفون أجوركم يوم القيامة) (22). وقال: (وأن ليس
للانسان إلا ما سعى، وإن سعيه سوف يرى) (23) وقال: (كل نفس بما كسبت رهينة) (24).
أفترى أن من استؤجر على صلاح أوان وشرط له أجرة عليها، وكان الشارط كريما يفي بوعده
وشرطه، بل كان بحيث يزيد على ما وعده وشرطه، فجاء الأجير وكسر الأواني وأفسدها
جميعا، ثم جلس ينتظر الأجر زعما منه أن المستأجر كريم، أفيراه العقلاء في انتظاره
راجيا أو مغرورا متمنيا؟ وبالجملة: سبب هذا الغرور الجهل بين الرجاء والعزة،
فليعالجه بما ذكر هنا وفيما سبق. ثم إن المغرور بعلو رتبة آبائه، ظانا أن الله
تعالى يحب آباءه، ومن
(هامش)
(20) البقرة، الآية: 218 (21) السجدة الآية: 17، الأحقاف
الآية: 14. الواقعة، الآية 24 (22) آل عمران، الآية: 185. (23) النجم الآية: 39 -
40 (24) المدثر الآية: 38
ص 10
أحب إنسانا أحب أولاده، أشد حمقا من المغرور بالله، لأن الله - سبحانه - يحب المطيع
ويبغض العاصي من غير ملاحظة لآبائهما، فكما أنه لا يبغض الأب المطيع ببغضه للولد
العاصي فكذلك لا يحب الولد العاصي بحبه للأب المطيع، وليس يمكن أن يسري من الأب إلى
الابن شيء من الحب والبغض والمعصية والتقوى، إذ لا تزر وازرة أخرى، فمن زعم أنه
ينجو بتقوى أبيه، كان كمن زعم أنه يشبع بأكل أبيه، أو يصير عالما بتعلم أبيه، أو
يصل إلى الكعبة بمشي أبيه، فهيهات هيهات! إن التقوى فرض عين على كل أحد، فلا يجزى
والد عن ولده شيئا، وعند الجزاء يفر المرء من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، ولا
ينفع أحد أحدا إلا على سبيل الشفاعة، بعد تحقيق شرائطها. ثم العصاة المغرورن، أما
ليست لهم طاعات، فتمنيهم المغفرة غاية الجهل - كما مر -، أو لهم طاعات ولكن معاصيهم
أكثر، وهم عالمون بأكثرية المعاصي، ومع ذلك يتوقعون المغفرة وترجح حسناتهم على
سيئاتهم، وهو أيضا غاية الجهل، إذ مثله مثل من وضع عشرة دراهم على كفة ميزان وفي
الكفة الأخرى ألفا أو الفين، وتوقع أن تميل الكفة الثقيلة بالخفيفة، ومن الذين
معاصيهم أكثر من يظن أن طاعاته أكثر من معاصيه، لأنه لا يحاسب نفسه ولا يتفقد
معاصيه، وإذا عمل طاعة حفظها واعتد بها، كالذي يحج طول عمره حجة ويبني مسجدا، ثم لا
يكون شيء من عباداته على النحو المطلوب، ولا يجتنب من أخذ أموال المسلمين، فينسى
ذلك كله ويكون حجه وما بناه من المسجد في ذكره، ويقول: كيف يعذبني الله وقد حججت
وبنيت مسجدا وكالذي يسبح الله كل يوم مئة مرة ثم يغتاب المسلمين ويمزق أعراضهم
ويتكلم بما لا يرضاه الله طول نهاره من غير حصر وعدد، ويكون نظره إلى عدد سبحته مع
غفلته عن هذيانه طول نهاره الذي لو كتبه لكان مثل تسبيحه مائة مرة، وقد كتبه الكرام
الكاتبون، فهو يتأمل دائما في فضيلة التسبيحات، ولا يلتفت إلى ما ورد في عقوبة
الكذابين والمغتابين والنمامين والفاحشين، ولو كان كتبة أعماله يطلبون منه أجرة
الزايد من هذيانه على تسبيحاته، لكان عند ذلك يسعى في كف لسانه
ص 11
عن آفاته وموازنتها بتسبيحاته، حتى لا يكون لها زيادة عليها ليؤخذ منه أجرة نسخ
الزائد. فيا عجبا لمن يحاسب نفسه ويحتاط خوفا أن يفوته مقدار قيراط ولا يحتاط خوفا
من فوت العليين ومجاورة رب العالمين!
الطائفة الثالثة
أهل العلم
والمغترون منهم
فرق: (فمنهم) من أقتصر من العلم على علم الكلام والمجادلة ومعرفة آداب المناظرة،
ليتفاخر في أندية الرجال ويتفوق على الأقران والأمثال، من غير أن يكون له في
العقائد قدم راسخ أو مذهب واحد، فليختار تارة ذاك وتارة هذا، وتكون عقيدته كخيط
مرسل في الهواء تفيئه الريح مرة هكذا ومرة هكذا، ومع ذلك يظن بغروره أنه أعرف الناس
وأعلمهم بالله وبصفاته. و(منهم) من أقتصر من العلم على علم النحو واللغة، أو الشعر
أو المنطق، واغتر به وأفنى عمره فيها، وزعم أن علم الشريعة والحكمة موقوف عليها،
ولم يعلم أن ما ليس مطلوبا لذاته ويكون وسيلة إلى ما هو مقصود لذاته يجب أن يقتصر
عليه بقدر الضرورة، والتعمق فيه إلى درجات لا تتناهى فضول مستغنى عنها، وموجب
للحرمان عما هو مقصود لذاته. و(منهم) من أقتصر على فن المعاملات من الفقه، المتضمن
لكيفية الحكم والقضاء بين الناس، واشتغل بإجراء الأحكام، وأعرض عن علم العقائد
والأخلاق، بل عن فن العبادات من الفقه، وأهمل تفقد قلبه ليتخلى عن رذائل الأخلاق
ويتحلى بفضائل الملكات وتفقد جوارحه وحفظها عن المعاصي وإلزامها الطاعات. و(منهم)
من حصل فن العبادات أيضا، بل أحكم العلوم الشرعية بأسرها وتعمق فيها واشتغل، ولكن
ترك العلم الإلهي وعلم الأخلاق، ولم يحفظ الباطن والظاهر عن المعاصي، ولم يعمرها
بالطاعات. و(منهم) من أحكم جميع العلوم من العقلية والشرعية، وتعمق فيها واشتغل
بها، إلا أنه أهمل العمل رأسا، أو واضب على الطاعات الظاهرة
ص 12
وأهمل صفات القلب، وربما تفقد صفات القلب وأخلاق النفس أيضا، وجاهد نفسه في التبري
عنها، وقلع من قلبه منابتها الجلية القوية، ولكن بقيت في زوايا قلبه خفايا من مكائد
الشيطان، وخبايا وتلبيسات النفس ما دق وغمض مدركه فلا يتفطن بها. وجميع هؤلاء
غافلون مغرورون، إذا كان اعتقادهم أنهم على خير وسعادة، وأن كان بينهم تفاوت من حيث
الضعف والشدة، إذ سعادة النفس وخلاصها من العذاب لا تحصل إلا بمعرفة الله - تعالى -
ومعرفة صفاته وأفعاله وأحواله النشأة الآخرة، والعمل برذائل الأخلاق وشرائفها، ثم
تهذيب الباطن بفضائل الأخلاق وعمارة الظاهر بصوالح الطاعات والأعمال، فكل من يعلم
بعض العلوم وترك ما هو المهم من العلم - أعني معرفة سلوك الطريق وقطع عقبات النفس
التي هي الصفات المذمومة المانعة عن الوصول إلى الله - وظن أنه على خير كان مغرورا،
إذا مات ملوثا بتلك الصفات كان محجوبا عن الله، فمن ترك العلم المهم واشتغل بغيره،
فهو كمن له مرض خاص مهلك فاحتاج إلى تعلم الدواء واستعماله، فأشتغل بتعلم مرض آخر
يضاد مرضه في المعالجة، كما أن من أحكم العلوم بأسرها وترك العمل، مثل المريض الذي
تعلم دواء مرضه وكتبه، وهو يقرأه ويعلمه المرضى ولا يستعمله قط لنفسه، فإنه لا ريب
في أن مجرد تعلم الدواء لا يشفيه، بل لو كتب منه ألف نسخة وعلمه ألف مريض حتى شفي
جميعهم وكرره كل ليلة ألف مرة لم ينفعه ذلك من مرضه شيئا، حتى يشتري هذا الدواء
ويشربه كما تعلم في وقته، ومع شربه واستعماله يكون على خطر من شفائه، فكيف إذا لم
يشربه أصلا، فلو ظن أن مجرد تعلم الدواء يكفيه ويشفيه فهو مغرور، فكذلك من أحكم علم
الطاعات ولم يعملها، وأحكم علم المعاصي ولم يجتنبها، وأحكم علم الأخلاق ولم يزل
نفسه عن رذائلها ولم يتصف بفضائلها، فهو في غاية الغرور، إذ قال الله تعالى: (قد
أفلح من زكاها) (25)
(هامش)
(25) الشمس الآية: 9 (*)
ص 13
ولم يقل: قد أفلح من علم طريق تزكيتها. ثم من هذه الطائفة فرقة متصفة برذائل
الأخلاق والغرور، أدى بهم إلى حيث ظنوا أنهم منفكون عنها، وأنهم أرفع عند الله من
أن يبتليهم بها، وإنما يبتلي بها العوام دون من بلغ مبلغهم في العلم. ثم إذا ظهرت
عليه مخايل الكبر والرئاسة وطلب العلو والشرف قال: ما هذا تكبرا، إنما هو طلب إعزاز
الدين، وإظهار شرف العلم، وإرغام أنف المخالفين. ومهما ظهرت منه آثار الحسد، وأطلق
لسانه بالغيبة في أقرانه ومن رد عليه شيئا من كلامه، لم يظن بنفسه أن ذلك حسد، بل
يقول: أن هذا غضب للحق ورد على المبطل في عداوته وظلمه، مع أنه لو طعن في غيره من
أهل العلم، ورد عليه قوله، ومنع من منصبه، لم يكن غضبه مثل غضبه الآن، بل ربما يفرح
به، ولو كان غضبه للحق لا للحسد على أقرانه وخبث باطنه، لاستوى غضبه في الحالين.
وإذا خطر له خاطر الرياء قال: غرضي من إظهار العلم والعمل اقتداء الخلق بي، ليهتدوا
إلى دين الله ويتخلصوا من عقاب الله. ولا يتأمل المغرور أنه ليس يفرح باقتداء الناس
بغيره كما يفرح باقتدائهم به، ولو كان غرضه صلاح الخلق لفرح بصلاحهم على يد من كان،
وربما يتذكر هذا ومع ذلك لا يخليه الشيطان، بل يقول: إنما ذلك لأنهم إذا اهتدوا بي
كان الأجر والثواب لي، ففرحي إنما هو بثواب الله لا بقبول الخلق، هذا ما يظن بنفسه،
والله مطلع على سريرته، إذ ربما كان باطنه في الخباثة بحيث لو علم قطعا بأن ثوابه
في الخمول وإخفاء العلم والعمل أكثر من ثوابه في الإظهار، لاحتال مع ذلك في إظهار
رئاسة، من تدريس أو وعظ أو إمامة أو غير ذلك. وإذا كان بحيث يدخل على السلاطين
والأمراء الظلمة ويثني عليهم ويتواضع لهم، وخطر له أن مدحهم والتواضع لهم حرام، قال
له الشيطان: أن ذلك عند الطمع في مالهم، وغرضك من الدخول عليهم دفع الضرر عن
المسلمين دون الطمع، والله يعلم من باطنه أنه لو ظهر لبعض أقرانه قبول عند ذلك
السلطان، وكان بحيث يقبل شفاعته في كل أحد، وهو لا يزال يستشفع ويدفع الضرر عن
المسلمين، يثقل ذلك عليه، بحيث لو قدر أن يقبح حاله عند السلطان لفعل. وربما انتهى
الغرور في بعضهم
ص 14
إلى أن يأخذ من أموالهم المحرمة، وإذ خطر له أنها حرام، قال له الشيطان: هذا مال
مجهول المالك يجب أن يتصدق به أمام المسلمين وأنت إمامهم وعالمهم، وبك قوام دين
الله، فيحل لك أن تأخذ منها قدر حاجتك وتصرف الباقي على مصالح المسلمين، فيغتر بهذا
التلبيس، ولا يزال يأخذها من غير أن يبذل شيئا منها في مصرف غيره. وربما انتهى
الغرور في بعضهم إلى حيث أنه إذا حضرت مائدتهم وأكل طعامهم وقيل له: إن هذا لا يليق
بمثلك. قال: الأكل جائز بل واجب، إذ هذا مال لا يعلم مالكه، فيجب التصدق له على
الفقراء، ويجب على مثلي بقدر القوة والاستطاعة أن يجتهد في استخلاصه من يد الظالم
وإيصاله إلى أهله - أعني الفقراء - وأكلي منها نوع قدرة على استخلاصه، فآكل منه
وأتصدق بقيمته على الفقراء، والله يعلم من باطنه أنه لا يتصدق بقيمته ولا يعتقد
بحقيقة ما يقول، وإنما هو تلبيس ألقاه الشيطان في روعه، لئلا يضعف اعتقاد العامة في
حقه، وربما كان بحيث لا يبالي من أخذ مالهم وأكل طعامهم خفية، ولو علم أنه يطلع
عليه واحد من صويلح العامة المعتقدين به، امتنع منه غاية الامتناع. وربما كان بعضهم
في الباطن مائلا إلى الدخول على السلاطين والأمراء وتاركا له في الظاهر، وكان
الباعث في ذلك طلب المنزلة في قلوب العامة، ومع ذلك يظن أن الاجتناب عنهم عين ورعه
وتقواه. وربما كان بعضهم إمام قوم يظن أنه على خير وباعث لترويج الدين وإعلاء
الكلمة ومقيم بشعار الإسلام، ومع ذلك لو أم غيره ممن هو أعلم وأورع منه في مسجده،
أو يتخلف بعض من يقتدي به عن الاقتداء به، قامت عليه القيامة، وربما لم يكن باعثه
على الحركة إلى المسجد للإمامة مجرد التقرب والامتثال لأمر الله، بل كان الباعث محض
حب الجاه والرياسة واعتقاد العامة، أو مركبا منه ومن نية الثواب. وربما أتخذ بعضهم
الإمامة شغلا ووسيلة لأمر المعاش، ومع ذلك يظن أنه مشتغل بأمر الخير، والظاهر في
أمثال زماننا ندور الإمام الذي كان قصده من الإمامة مجرد التقرب إلى الله، من دون
وجود شيء من حب طلب المنزلة في القلوب، أو تحصيل المال، أو دفع بعض الشرور عن نفسه
في زوايا قلبه، ولو وجد مثله فهو القدوة الذي يجب أن تشد
ص 15
الرحال من المواضع البعيدة إليه ليقتدي به، ومثله كلما وجد في نفسه قصد التقرب
والثواب في الذهاب إلى المسجد للإمامة ذهب ولو لم يجد ذلك من نفسه تخلف، وصلى
منفردا، وهو الذي يستوي عنده اقتداء الناس به وعدمه، ويستوي عنده كثرة المقتدين
وقلتهم، بل يكون حاله عند صلاته وهو إمام لجم غفير كحاله عند صلاته منفردا، من دون
أن يجد في نفسه تفاوتا في الحالين. وبالجملة: أصناف غرور أهل العلم - (لا) سيما في
هذه الأعصار - كثيرة، والتأمل يعلم أن الغرور أو التلبيس أو غيرهما من ذمائم
الأفعال انتهى في بعضهم إلى أن وجودهم مضر بالإسلام والمسلمين وموتهم أنفع للإيمان
والمؤمنين، لأنهم دجالو الدين وقوامو مذهب الشياطين، ومثلهم كما قال عيسى ابن مريم
(ع): (العالم السوء كصخرة وقعت في فم الوادي فلا هي تشرب الماء ولا هي تترك الماء
يتخلص إلى الزرع).
الطائفة الرابعة
الوعاظ
والمغترون منهم كثيرون: (فمنهم) من يتكلم
في وعظه في أخلاق، النفس وصفات القلب، من الخوف، والرجاء، والتوكل، والرضاء،
والصبر، والشكر، ونظائرها، ويظن أنه إذ ا تكلم بهذه الصفات ودعا الخلق إليها صار
موصوفا بها، وهو منفك عنها في الواقع، إلا عن قدر يسير لا ينفك عنه عوام المسلمين،
ويزعم أن غرضه إصلاح الخلق دون أمر آخر، ومع ذلك لو أقبل الخلق على أحد من أقرانه
وصلحوا على يديه، وكان أقوى منه في الإرشاد والاصلاح لمات غما وحسدا، ولو أثنى أحد
المترددين عليه على بعض أقرانه، لصار أبغض خلق الله إليه. و(منهم) من أشتغل بالشطح
والطامات، وتلفيق كلمات خارجة عن قانون الشرع والعقل، وربما كلف نفسه بالفصاحة
والبلاغة، وتصنع التشبيهات والمقدمات، وشغف بطيارات النكت وتسجيع الألفاظ وتلفيقها،
طلبا للأعوان والأنصار، وشوقا إلى تكثر البكاء والرقة والتواجد والرغبات
ص 16
في مجلسه، والتذاذا بتحريك الرؤوس على كلامه والبكاء عليه، وفرحا بكثرة الأصحاب
والمستفيدين والمعتقدين به، وسرورا بالتخصيص بهذه الخاصة من بين سائر الأقران،
وربما لم يبال بالكذب في نقل الأخبار والآثار، ظنا منه أنه أوقع في النفوس وأشد
تأثيرا في رقة العوام وتواجدهم. ولا ريب في أن هؤلاء شر الناس، بل شياطين الإنس،
ظلوا وأظلوا عن سواء السبيل، إذ الأولون أن لم يصلحوا أنفسهم، فقد أصلحوا غيرهم
وصححوا كلامهم ووعظهم، وأما هؤلاء فإنهم يصدون عن سبيل الله، ويجرون الخلق إلى
الغرور بالله، لأن سعيهم في ذكر ما يسر به العامة، ليصلوا به منهم إلى أغراضهم
الفاسدة، فلا يزالون يذكرون ما يقوي الرجاء، ويزيدهم جرأة على المعاصي ورغبة في
الدنيا، (لا) سيما إذا كان هذا الواعظ أيضا ممن يرغب في الدنيا، ويسر بوصول المال
إليه، ويتزين في الثياب الفاخرة والمراكب الفارهة، وغيرهما من زينة الدنيا. فمثله
ممن يضل ويكون إفساده أكثر من إصلاحه، ومع ذلك يظن أنه مروج الشرع والدين ومرشد
الضالين، فهو أشد المغرورين والغافلين. و(منهم) من هذب أخلاقه، وراقب قلبه، وصفاه
عن جميع الكدورات، وصغرت الدنيا في عينه، وانقطع طمعه عن الخلق فلم يلتفت إليهم،
ودعته الرحمة والشفقة على عباد الله إلى نصحهم واستخلاصهم عن أمراض المعاصي بالوعظ،
فلما أستقل به وجد الشيطان مجال الفتنة، فدعاه إلى الرئاسة دعاء خفيا - أخفى من
دبيب النملة - لا يشعر به، ولم يزل ذلك في قلبه يربو وينمو حتى دعاه إلى التصنع
والتزين للخلق: بتحسين الألفاظ والنغمات والحركات، والتصنع في الزي والهيئة
والشمائل، وأقبل الناس إليه يعظمونه ويوقرونه توقيرا يزيد على توقير الملوك، إذ
رأوه شافيا لأمراضهم بمحض الرحمة والشفقة من غير طمع، فآثروه بأبدانهم وأموالهم،
وصاروا له كالخدم والعبيد، فعند ذلك انتشر طبعه وارتاحت نفسه، وذاق لذة يا لها من
لذة، وأصاب من الدنيا شهوة يستحقر معها كل شهوة، فوقع في أعظم لذات الدنيا بعد قطعه
بأنه تاركا للدنيا، فقد غره الشيطان على ما لا يشعر به. وعلامة ثوران حب الرئاسة في
باطنه: أنه لو ظهر من أقرانه
ص 17
من مالت القلوب إلى قبوله، وزاد أثر كلامه في القبول على كلامه، شق ذلك عليه، إذ
لولا أن النفس قد استبشرت واستلذت بالرئاسة لكان يغتنم ذلك. وعلى هذا فينبغي ألا
يشتغل أحد بالنصح والوعظ إلا إذا وجد من نفسه أنه ليس له قصد سوى هدايتهم إلى الله
- تعالى -، وكان يسره غاية السرور ظهور من يعينه على إرشادهم أو اهتدائهم من عند
أنفسهم، وانقطع طمعه بالكلية عن ثنائهم وأموالهم، واستوى عنده حمدهم وذمهم، ولم
يبالي بذمهم إذا كان الله يمدحه، ولم يفرح بمدحهم إذا لم يقترن به مدح الله، ونظر
إليهم كما ينظر إلى من هو أعلم منه وأورع، حيث لا ينكر عليه ويراه خيرا من نفسه،
لدلالة الظاهر على ذلك وجهله بالخاتمة وإلى البهائم من حيث انقطاع طمعه عن طلب
المنزلة في قلوبهم، فإنه لا يبالي كيف يراه البهائم، فلا يتزين لها، إذ راعي
الماشية إنما غرضه رعايتها ودفع الذئب عنها، دون نظر الماشية إليه بعين المدح
والثناء. ثم لو ترقى الواعظ، وعلم بهذه المكيدة من الشيطان، واشتغل بنفسه وترك
النصح، أو نصح مع رعاية شرط الصدق والاخلاص، لخيف عليه الاعجاب بنفسه في فراره عن
الغرور، فيكون إعجابه بنفسه في الفرار عن الغرور غاية الغرور، وهو المهلك الأعظم من
كل ذنب، ولذلك قال الشيطان: (يا ابن آدم! إذا ظننت أنك بعملك تخلصت مني فبجهلك قد
وقعت في حبائلي). ثم لو دفع عن نفسه العجب، وعلم أن ذلك من الله تعالى لا منه، وأن
مثله لا يقوى على دفع الشيطان عنه إلا بتوفيق الله، وأنه ضعيف عاجز لا يقدر على شيء
أصلا، فضلا عن دفع الشيطان، لخيف عليه الغرور بفضل الله والثقة بكرمه والأمن من
مكره، حتى يظن أنه يبقى على هذه الوتيرة في المستقبل. ولا ريب أن الآمن من مكر الله
خاسر مغرور، فسبيل النجاة بعد تهذيب النفس وخلوص القصد والانقطاع عن الدنيا
ولذاتها، أن يرى ذلك كله من فضل الله، وكان خائفا على نفسه من سلب حاله في كل لحظة،
وغير آمن من مكر الله، وغير غافل عن خطر الخاتمة. وهذا خطر لا محيص عنه وخوف لا
نجاة منه، إلا بمجاوزة الصراط والدخول في الجنة، ولذلك
ص 18
لما ظهر الشيطان لبعض الأولياء في وقت النزع - وكان قد بقي له نفس - قال: (أفلت مني
يا فلان!؟)، فقال: (لا! بعد).
الطائفة الخامسة
أهل العبادة والعمل
والمغرورون منهم
فرق كثيرة: (فمنهم) من غلبت عليه الوسوسة في إزالة النجاسة وفي الوضوء، فيبالغ فيه
ولا يرتضي الماء المحكوم بالطهارة في فتوى الشرع، ويقدر الاحتمالات البعيدة الموجبة
للنجاسة، وإذا آل الأمر إلى الأكل وأخذ المال قدر الاحتمالات الموجبة للحل، بل ربما
أكل الحرام المحض وقدر له محملا بعيدا لحله ولو انقلب هذا الاحتمال من الماء إلى
الطعام لكان أشبه بسيرة أكابر الأولياء. ثم من هؤلاء من يخرج إلى الإسراف في صبه
الماء وربما بالغ عند الوضوء في التخليل وضرب إحدى يديه على وجهه أو يده الأخرى ولا
يدري هذا المغرور أن هذا العمل أن كان مع اليقين بحصول ما يلزم شرعا فهو تضييع
للعمر الذي هو أعز الأشياء فيما له مندوحة عنه، وإن كان بدونه بل يحتاط في التخليل
ليحصل الجزم بوصول الماء إلى البشرة، فما باله يتيقن بوصول الماء إلى البشرة في
الغسل بدون هذه المبالغة والاحتياط مع أن حصول القطع بإيصال الماء إلى البشرة في
الغسل ألزم وأوجب. ثم ربما لم يكن له مبالغة واحتياط في الصلاة وسائر العبادات،
وانحصر احتياطه ومبالغته بالوضوء، زاعما أن هذا يكفي لنجاته، فهو مغرور في غاية
الغرور. و(منهم) من أغتر بالصلاة فغلبت عليه الوسوسة في نيتها فلا يدعه الشيطان حتى
يعقد نية صحيحة، بل يشوش عليه حتى تفوته الجماعة أو فضيلة الوقت، وقد يوسوس في
التكبير حتى يغير صيغتها لشدة الاحتياط فيه، يفعل ذلك في أول صلاته ثم يغفل في جميع
صلاته، ولا يحضر قلبه، ويغتر بذلك، ويظن أنه إذا أتعب نفسه في تصحيح النية فهو على
خير. وربما غلبت على بعضهم الوسوسة في دقائق القراءة، وإخراج حروف الفاتحة وسائر
الأذكار عن مخارجها، فلا يزال يحتاط في التشديدات وتصحيح المخارج
ص 19
والتمييز بين مخارج الحروف المتقاربة من غير اهتمام فيما عدا ذلك، من حضور القلب
والتفكير في معاني الأذكار، ضنا منه أنه إذا صحت القراءة فالصلاة مقبولة، وهذا أقبح
أنواع الغرور. و(منهم) من أغتر بالصوم، وربما صام الأيام الشريفة، بل صام الدهر،
ولم يحفظ لسانه عن الغيبة، ولا بطنه عن الحرام عند الافطار، ثم يظن بنفسه الخير،
وذلك في غاية الغرور. (ومنهم) من اغتر بالحج، فيخرج إلى الحج من غير خروج عن
المظالم وقضاء الديون وطلب الزاد الحلال، ويضيع في الطريق الصلاة، ويعجز عن طهارة
الثوب والبدن، ثم يحضر البيت بقلب ملوث برذائل الأخلاق وذمائم الصفات، ومع ذلك يظن
أنه على خير. فهو في غاية الغرور. و(منهم) من أغتر بقراءة القرآن، فيهذ هذا، وربما
يختم في اليوم والليلة مرة، فيجري به لسانه، وقلبه مرددا في أودية الأماني، وربما
أسرع في القراءة غاية السرعة، ويظن أن سرعة اللسان من الكمالات، ويتفاخر به على
الأمثال والأقران. (ومنهم) من أغتر ببعض النوافل، كصلاة الليل، أو مجرد غسل الجمعة
أو أمثال ذلك، من غير اعتداد بالفرائض، زاعما أن المواظبة على مجرد هذه النافلة
ينجيه في الآخرة، فهو أيضا من المغرورين. (ومنهم) من تزهد وقنع بالدون من المطعم
والملبس والمسكن، ظانا أنه أدرك رتبة الزهاد، ومع ذلك راغب في الرئاسة باشتهاره
بالزهد، فهو ترك أهون المهلكين بأعظمها، إذ حب الجاه أشد فسادا من حب المال. ولو
ترك الجاه وأخذ المال لكان أقرب إلى السلامة، فهو مغرور إذ ظن أنه من الزهاد، ولم
يعرف أن منتهى لذات الدنيا الرئاسة، وهو يحبها، فكيف يكون زاهدا؟
الطائفة السادسة
المتصوفة
والمغترون فيهم أكثر من أن يحصى: (فمنهم) أرباب البوقات، وهم القلندرية
الذين لا يعرفون معنى
ص 20
التصوف ولا شيئا من مراسم الدين، وصرفوا أوقاتهم في التكدي والسؤال من الناس،
ويظنون أنهم تاركون للدنيا مقبلون على الآخرة، مع أنهم لو ظفروا بشيء من أمور
الدنيا لأخذوه بجميع جوارحهم، فهؤلاء أرذل الناس بوجوه كثيرة لا تخفى. (ومنهم) من
أغتر بالزي، والمنطق وليس الصوف، وإطراق الرأس وإدخاله في الجيب. وخفض الصوت، وتنفس
الصعداء، وتحريك البدن في الطول والعرض، والسقوط إلى الأرض، (لا) سيما إذا سمعوا
كلاما في الوحدة والعشق، مع عدم اطلاعهم على حقيقة شيء منها. وربما تجاوز بعضهم من
ذلك إلى الرقص والتصفيق، وإبداء الشهيق والنهيق، واختراع الأذكار، والتغني
بالأشعار... وغير ذلك من الحركات القبيحة والهيئات الشنيعة، ويظن أن العبد بهذه
الحركات والأفعال يصل إلى الدرجات العالية، ولم يعلم المغرور أنها تقرب العبد إلى
سخط الله وعذابه. (ومنهم) من وقع في الإباحة، وطوى بساط الشرع والأحكام، وترك الفصل
بين الحلال والحرام، يتكالب على الحرام والشبهات، ولا يحترز عن أموال الظلمة
والسلاطين. وربما قال: المال مال الله والخلق عيال الله، فهم فيه سواء. وربما قال:
أن الله مستغن عن عملي، فأي حاجة إلى أن أتعب نفسي فيه؟ وربما قال: لا وزن لأعمال
الجوارح، وإنما النظر إلى، القلوب، وقلوبنا والهة إلى حب الله واصلة إلى معرفة
الله. وربما خاضوا في الشهوات الدنيوية، وقالوا: إنها لا تصدنا عن طريق الله. لقوة
نفوسنا وقوة أقدامنا فيها، وإنما يحتاج العوام إلى تهذيب النفس بالأعمال. البدنية،
ونحن مستغنون عنه. فهؤلاء يرفعون درجتهم عن درجة الأنبياء عليهم السلام إذ كانوا
يصرحون بأن ارتكاب الأمور المباحة فضلا عن الخطايا والمعاصي يصدهم عن طريق الله،
حتى يبكون سنين متوالية على ترك الراجح وفعل المرجوح، فهم أشد الناس غرورا، وأعظم
الخلق حماقة وجهلا. (ومنهم) من يدعي غاية المعرفة واليقين والوصول إلى درجات
المقربين، ومشاهدة المعبود، ومجاورة المقام المحمود، والملازمة في عين الشهود،
وتلقف من الطامات كلمات يرددها، ويظن أنه يتكلم عن الوحي
ص 21
ويخبر عن السماء، وينظر إلى العباد والفقهاء والمحدثين وسائر أصناف العلماء بعين
الحقارة والازدراء، يقول في العباد: إنهم أجراء مبعوثون، وفي العلماء: إنهم بالحديث
عن الله لمحجوبون، ويدعي لنفسه من الكرامات ما لا يدعيه نبي ولا ولي، ويدعي كونه
واصلا إلى الحق فارغا عن أعباء التكليف، لا علما أحكم ولا عملا هذب، لم يعرف من
المعارف إلا أسماء يتفوه بها عند الأغنياء للوصول إلى بعض حطامهم الخبيثة، فهو عند
الله من الفخار المنافقين، وعند أرباب القلوب من الحمقى الجاهلين مع ظنه أنه من
المقربين، فهو أشد الغافلين المغرورين. و(منهم) ملامية يرتكبون قبائح الأعمال
وشنائع الأفعال الموجبة للعبد عن طريق المروة، ظنا منهم أن هذا موجب لكسر النفس
وإزالة ذمائم الأخلاق، ولم يعلموا أن هذه الأفعال من الذمائم، وقد نهى صاحب الشرع
عنه. ومنهم (من أشتغل بالرياضة والمجاهدة، فقطع بعض المنازل، ووصل إلى بعض المقامات
على قدر سعيه ومجاهدته، إلا أنه لم يتم سلوكه وانقطع عن سائر المقامات إما لاعتراض
مفسد في أثناء السلوك، أو لوقوعه في الأثناء ظنا منه أنه وصل إلى الله ولم يصل بعد،
فإن لله سبعين حجابا من نور، ولا يصل السالك إلى حجاب من تلك الحجب في الطريق إلا
ويظن أنه قد وصل، وإليه الإشارة في حكاية الخليل، حيث رأى أولا كوكبا، فقال: (هذا
ربي)، ثم انتقل إلى القمر، ثم عنه إلى الشمس، فإنه ليس المراد بالكوكب والقمر
والشمس هذه الأجسام المضيئة، فإن شأن مثل الخليل أعظم من أن يظن كونها آلهة، بل هذا
ينافي شأنه ورتبته، فالمراد بها الأنوار التي هي من حجب الله، ويراها السالك في
الطريق، ولا يتصور الوصول إلى الله إلا بالوصول إلى هذه الحجب، وهي حجب من النور
بعضها أعظم من بعض، فاستعير لفظ الكوكب لصغره لأقل مراتبها، والقمر لأوسطها، والشمس
لأعظم مراتبها، والخليل (ع) لم يزل عند سيره في الملكوت يصل إلى نور بعد نور،
ويتخيل إليه في أول ما يلقاه أنه قد وصل، ثم انكشف له أن وراءه أمر، فيترقى إليه
حتى وصل إلى
ص 22
الحجاب الأقرب، فقال: هذا أكبر، فلما ظهر أنه مع عظمته غير خالي عن الهوى في حضيض
النقص والانحطاط عن ذروة الكمال، قال: (لا أحب الآفلين. إني وجهت وجهي...) (26).
فسالك هذا الطريق قد يغتر في الوقوف على بعض هذه الحجب، وربما يغتر بالحجاب الأول،
وأول الحجاب بين الله وبين العبد هو قلبه، فإنه أيضا أمر رباني ونور من أنوار الله،
تتجلى فيه حقيقة الحق كله، حتى يتسع لجملة العالم ويحيط به وتتجلى فيه صورة الكل،
وعند ذلك يشرق نوره إشراقا عظيما، إذ يظهر فيه الوجود كله على ما هو عليه، وهو في
أول الأمر كان محجوبا، فإذا تجلى نوره وانكشف فيه جماله بعد إشراق نور الله - تعالى
- ربما التفت صاحب القلب إلى القلب، فيرى من جماله الفائق ما يدهشه، فربما يسبق
لسانه في الدهشة، فيقول: أنا الحق! فإن لم يتضح له ما وراء ذلك، اغتر به ووقف عليه
وهلك، وكان قد اغتر بكوكب صغير من أنوار الحضرة الإلهية، ولم يصل بعد إلى القمر،
فضلا عن الشمس، فهو مغرور. وهذا محل الالتباس، إذ المتجلى يلتبس بالمتجلى فيه، كما
يلتبس لون ما يتراءى في المرآة فيظن أنه لون المرآة، وكما يلتبس ما في الزجاج
بالزجاج فيظن أنه لون الزجاج، كما قيل: رق الزجاج ورقت الخمر فتشابها وتشاكل الأمر
فكأنما خمر ولا قد وكأنما قدح ولا خمر وبهذه العين نظر النصارى إلى المسيح، فرأوا
إشراق نور الله قد تلألأ فيه، فغلطوا فيه، كمن يرى كوكبا في مرآة أو في ماء، فيظن
أن الكوكب في المرآة أو في الماء، فيمد اليد إليه، فهو مغرور. وأنواع الغرور في
طريق السلوك إلى الله كثيرة لا تخفى على أرباب البصيرة. ثم أكثر المتلبسين بلباس
العارفين - مع كذبهم فيما يدعونه، ونقصانهم في طريق السلوك، وجهلهم بحقيقية الأمر،
وعدم قطعهم جل المقامات - يتشبهون بالصادقين من العرفاء في زيهم وهيأتهم وآدابهم
ومراسمهم وألفاظهم، ظانين أنهم بهذا التشبه يصلون إلى مراتبهم، فهيهات هيهات! إن
الوصول إلى درجة
(هامش)
(26) الأنعام، الآية: 76 و79 (*)
ص 23
كل أحد إنما تحصل بالاتصاف بأوصافه الباطنة والتخلق بأخلاقه النفسية دون التشبه به
في حالاته الظاهرة، وقد شبههم بعض الأكابر بامرأة عجوز سمعت أن الشجعان من
المقاتلين تثبت أسمائهم في الديوان ويقطع لكل واحد منهم قطر من أقطار المملكة فتاقت
نفسها إلى أن تكون مثلهم، فلبست درعا، ووضعت على رأسها مغفرا، وتعلمت من رجز
الأبطال أبياتا وتعلمت كيفية جولانهم في الميدان، وتلقفت جميع شمائلهم في الزي
والمنطق والحركات والسكنات، وتوجهت إلى المعسكر ليثبت اسمها في ديوان الشجعان، فلما
وصلت إليه، انفذت إلى ديوان العرض، وأمرت بأن تجرد عن المغفر والدرع وينظر إلى
حقيقتها وتمتحن بالمبارزة مع بعض الشجعان ليعرف قدر شجاعتها فلما جردت فإذا هي عجوز
ذات منة ضعيفة لا تقدر على شيء فقيل لها: أجئت للاستهزاء بالملك وأهل حضرته؟ خذوها
وألقوها قدام الفيل، فداسها ونحتها فهكذا يكون حال المدعين للتصوف والعرفان في
القيامة، إذا كشف عنهم الغطاء وصفاته. وعرضوا إلى القاضي الحق الذي لا ينظر إلى
الزي واللباس بل إلى سر القلب
الطائفة السابعة
الأغنياء وأرباب الأموال
والمغترون
فيهم أكثر من المغترين من سائر الطوائف: (فمنهم) من يحرص على بناء المساجد والمدارس
والرباطات والقناطر وسائر ما يظهر للناس بالأموال المحرمة، وربما غصب أرض المساجد
والمدارس وربما صير لها موقوفات أخذها من غير حلها، ولا باعث له على ذلك سوى الرياء
والشهوة ولذا يسعى في كتابة اسمه على أحجارها ليتخلد ذكره ويبقى بعد الموت أثره،
ويظن المسكين أنه قد استحق المغفرة بذلك، وإنه مخلص فيه، ولم يدر أنه تعرض لسخط
الله في كسب هذه الأموال وفي إنفاقها، وكان الواجب عليه الامتناع عن أخذها من أهله،
وإذا عصى الله وأخذها، كان الواجب عليه التوبة وردها إلى أهلها، فإن لم يبقى من
أخذها منهم ولا ورثته، كان الواجب أن يتصدق بها على المساكين مع إنه ربما كان في
بلده أو في جواره
ص 24
مسكين يكون في غاية الفقر والمسكنة ولا يعطيه درهما. و(منهم) من ينفق الأموال في
الصدقات، إلا أنه يطلب الفقراء الذين عادتهم الشكر والإفشاء للمعروف، ويكره التصدق
في السر، بل يطلب المحافل الجامعة ويتصدق فيها، وربما يكره التصدق على فقراء بلده
ويرغب أن يعطي أهل البلاد الأخر مع أكثرية استحقاق فقراء بلده، طلبا لاشتهاره
بالبذل والعطاء في البلاد الخارجة البعيدة، وربما يصرف كثيرا منه إلى رجل معروف في
البلاد وإن لم يكن مستحقا، ليشتهر ذلك في البلاد، ولا يعطي قليلا منه إلى فقير له
غاية الاستحقاق إذا كان، خامل الذكر، يفعل هذا ويظن أنه يجلب بذلك الأجر والثواب،
ولم يدر المغرور أن هذا القصد أحبط عمله وأضاع ثوابه. ومنهم) من يجمع مالا من غير
حله، ولا يبالي بأخذ المال من أي طريق كان، ثم يمسكه غاية الامساك، إلا أنه لا
يبالي بصرف بعضه في طريق الحج، إما لنفسه فقط، أو لأولاده وأزواجه أيضا، إما
للاشتهار، أو لما وصل إليه: إن تارك الحج يبتلى بالفقر و(منهم) من غلب عليه البخل،
فلا تسمح نفسه بإنفاق شيء من ماله، فيشتغل بالعبادة البدنية من الصوم والصلاة، ظنا
منه أن ذلك يكفي لنجاته، ولم يدر أن البخل صفة مهلكة لا بد من إزالتها، وعلاجه: بذل
المال دون العبادات البدنية. ومثله مثل من دخلت في ثوبه حية، وقد أشرف على الهلاك،
وهو مشغول بطبخ السكنجبين لسكن الصفراء، وغافل بأن الحية تقتله الآن ومن قتلته
الحية فأي حاجة له إلى السكنجبين؟
وصل ضد الغرور الفطانة والعلم والزهد 
قد عرفت أن
الغرور مركب من الجهل وحب مقتضيات الشهوة والغضب فضده الفطانة والعلم والزهد فمن
كان فطنا كيسا عارفا بربه ونفسه وبالآخرة والدنيا وعالما بكيفية سلوك الطريق إلى
الله وبما يقربه إليه وبما يبعده عنه، وعالما بآفات الطريق وعقباته وغوائله، لاجتنب
عن الغرور ولم يغره الشيطان في شيء من الأمور، إذ من عرف نفسه بالذل والعبودية
وبكونه غريبا في هذا العالم أجنبيا من هذه الشهوات البهيمية، عرف كون هذه الشهوات
مضرة له
ص 25
وإن الموافق له طبعا هو معرفة الله والنظر إلى وجهه، فلا يسكن نفسه إلى شهوات
الدنيا ومن عرف الدنيا والآخرة ولذاتهما وعدم النسبة بينهما ثار في قلبه حب الله
والرغبة إلى دار الآخرة والانزجار عن الدنيا ولذاتها، وإذا غلبت هذه الإرادة على
قلبه صحت نيته في الأمور كلها، فإن أكل - مثلا أو اشتغل بقضاء الحاجة كان قصده منه
الاستعانة على سلوك طريق الآخرة، واندفع عنه كل غرور منشأه تجاذب الأعراض والنزوع
إلى الدنيا وإلى الجاه والمال، وما دامت الدنيا أحب إليه من الآخرة وهوى نفسه أحب
إليه من رضاء الله، لم يمكنه الخلاص من الغرور. فالأصل في علاج الغرور: أن يفرغ
القلب من حب الدنيا، ويغلب عليه حب الله، حتى تتقوى به الإرادة وتصح به النية
ويندفع عنه الغرور. قال الصادق (ع): (واعلم أنك لن تخرج من ظلمات الغرور والتمني
إلا بصدق الإنابة إلى الله، والإخبات له، ومعرفة عيوب أحوالك من حيث لا يوافق العقل
والعلم، ولا يحتمله الدين والشريعة. وسنن القدوة وأئمة الهدى، وإن كنت راضيا بما
أنت فيه فما أحد أشقى بعملك منك وأضيع عمرا، فأورثت حسرة يوم القيامة). (27) ومنها:
• طول الأمل 
معنى طول الأمل ومرجعه - علاجه - ضد قصر الأمل - اختلاف الناس في طول
الأمل - ذكر الموت مقصر للأمل - التعجب ممن ينسى الموت - الموت أعظم الدواهي -
مراتب الناس في ذكر الموت. وهو أن يقدر ويعتقد بقاءه إلى مدة متمادية، مع رغبته في
جميع توابع البقاء: من المال والأهل والدار وغير ذلك، وهو من رذائل قوتي العاقلة
والشهوة إذ الاعتقاد المذكور راجع إلى الجهل المتعلق بالعاقلة، وحبه لجميع توابع
البقاء وميله إليه من شعب حب الدنيا. وجهله راجع إلى تعويله: أما على شبابه،
فيستبعد قرب الموت مع الشباب، ولا يتفكر المسكين في أن مشايخ بلده لو عدوا لكانوا
أقل من عشر عشير أهل البلد، وإنما قلوا لأن الموت في الشباب أكثر، وإلى أن يموت شيخ
يموت ألف صبي وشاب،
(هامش)
(27) صححناه على مصباح الشريعة - الباب 36. (*)
ص 26
أو على صحته وقوته، ويستبعد مجئ الموت فجأة، ولا يتأمل في أن ذلك غير بعيد ولو سلم
بعده فالمرض فجأة غير بعيد، إذ كل مرض إنما يقع فجأة، وإذا مرض لم يكن الموت بعيدا.
ولو تفكر هذا الغافل، وعلم أن الموت ليس له وقت مخصوص، من شباب وشيب وكهولة، ومن
شتاء وخريف وصيف وربيع، وليل ونهار، وحضر وسفر، لكان دائما مستشعرا غير غافل عنه،
وعظم اشتغاله بالاستعداد له، لكن الجهل بهذه الأمور وحب الدنيا بعثاه على الغفلة
وطول الأمل، فهو أبدا يظن أن الموت بين يديه، ولا يقدر نزوله ووقوعه فيه، ويشيع
الجنائز ولا يقدر أن تشيع جنازته، لأن هذا قد تكرر عليه، وألفه بتكرر مشاهدة موت
غيره. وأما موت نفسه، فلم يألفه ولا يتصور أن يألفه، لأنه لم يقع، وإذا وقع لا يقع
دفعة أخرى بعده، فهو الأول وهو الآخر! وأما حبه لتوابع البقاء: من المال والدار
والمراكب والضياع والعقار، فراجع إلى الأنس بها والالتذاذ بها في مدة مديدة، فيثقل
على قلبه مفارقتها، فيمنع قلبه عن التفكر في الموت الذي هو سبب مفارقتها، إذ كل من
كره شيئا يدفعه عن نفسه. والانسان لما كان مشغوفا بالأماني الباطلة، وبالدنيا
وشهواتها ولذاتها وعلائقها، فتتمنى نفسه أبدا ما يوافق مراده، ومراده البقاء في
الدنيا فلا يزال يتوهمه ويقرره في نفسه، ويقدر توابع البقاء من أسباب الدنيا، فيصير
قلبه عاكفا على هذا الفكر موقوفا عليه، فيلهو عن ذكر الموت ولا يقدر قربه، فإن خطر
له في بعض الأحيان أمر الموت والحاجة إلى الاستعداد له، سوف ووعد نفسه إلى أن يكبر
فيتوب. وإذا كبر أخر التوبة إلى أن يصير شيخا وإذا صار شيخا يؤخرها إلى أن يفرع من
عمارة هذه الضيعة أو يرجع من سفر كذا أو يفرغ من تدبير هذا الولد وجهازه وتدبير
مسكن له، ولا يزال يسوف ويؤخر إلى أن يخطفه الموت في وقت لا يحتسبه، فتعظم عند ذلك
بليته وتطول حسرته، وقد ورد أن أكثر أهل النار صياحهم من سوف، يقولون واحزناه من
سوف! والمسوف المسكين لا يدري إن الذي يدعوه إلى التسويف اليوم هو معه غدا، وإنما
يزداد بطول المدة قوة ورسوخا، إذ الخائض في الدنيا
ص 27
لا يتصور له الفراغ منها قط، إذ ما قضى من أخذ لبانته، وإنما فرغ منها من أطرحها.
فصل علاج طول الأمل 
لما عرفت أن طول الأمل منشأه الجهل وحب الدنيا، فينبغي أن يدفع
الجهل بالفكر الصافي من شوائب العمى، وبسماع الوعظ من النفوس الطاهرة، فإن من تفكر
يعلم أن الموت أقرب إليه من كل شيء، وإنه لا بد أن تحمل جنازته ويدفن في قبره، ولعل
اللبن الذي يغطي به لحده قد ضرب وفرغ منه، ولعل أكفانه قد خرجت من عند القصار وهو
لا يدري به، وأما حب الدنيا فينبغي أن يدفع من القلب بالتأمل في حقارة الدنيا
ونفاسة الآخرة، وما ورد في الأخبار من الذم والعقاب في حب الدنيا والرغبة إليها،
ومن المدح والثواب على تركها والزهد عنها، وقد تقدم ما يكفي لهذا البيان وينبغي -
أيضا - أن يتذكر ما ورد في مدح ضد طول الأمل - أعني قصر الأمل كما يأتي - وما ورد
في ذنب طول الأمل، كقوله (ص): (إن أشد ما أخاف عليكم خصلتان: أتباع الهوى، وطول
الأمل. فأما اتباع الهوى فإنه يصد عن الحق، وأما طول الأمل فإنه الحب للدنيا - ثم
قال -: إن الله يعطي الدنيا من يحب ويبغض
وإذا أحب عبدا أعطاه الإيمان، ألا إن للدين أبناء وللدنيا أبناء، فكونوا من أبناء
الدين ولا تكونوا من أبناء الدنيا، ألا إن الدنيا قد ارتحلت مولية، ألا إن الآخرة
قد أتت مقبلة، ألا وإنكم في يوم عمل ليس فيه حساب، ألا وإنكم يوشك أن تكونوا في يوم
حساب ليس فيه عمل) (28). وقوله صلى الله عليه وآله: (نجا أول هذه الأمة باليقين
والزهد، ويهلك آخر هذه الأمة بالبخل والأمل). وقول أمير المؤمنين عليه السلام: (ما
أطال عبد الأمل إلا أساء الأمل).
(هامش)
(28) صححنا الحديث على إحياء العلوم: 4 / 384، وهو يرويه عن على عليه السلام عن
النبي (ص) ولكن في كنز العمال: 2 / 169، يرويه: إنه من كلام علي (ع) نفسه، مع
اختلاف يسير عن عبارة الأحياء وعبارة الكنز أبلغ وأرصن، وفيه كلمة (الآخرة) بدل
(الدين)، ونفس الكلام مع اختلاف يسير (أيضا وهو أبلغ وأعلى من العبارتين) مروي في
نهج البلاغة: رقم 41 من باب الخطب، فراجع (*)
ص 28
وصل قصر الأمل 
ضد طول الأمل قصره، وهو من شعار المؤمنين ودثار الموقنين، ولذ ا ورد
في الأمر به والنهي عن ضده ما ورد، قال رسول الله (ص): (إذا أصبحت فلا تحدث نفسك
بالمساء، وإذا أمسيت فلا تحدث نفسك بالصباح، وخذ من دنياك لآخرتك، ومن حياتك لموتك،
ومن صحتك لسقمك، فإنك لا تدري ما اسمك غدا). وقال (ص) بعدما ما سمع أن أسامة اشترى
وليدة بمائة دينار إلى شهر: (إن أسامة لطويل الأمل، والذي نفسي بيده! ما طرقت عيناي
إلا ظننت أن شفري لا يلتقيان حتى يقبض الله روحي، ولا رفعت طرفي فظننت أني واضعه
حتى أقبض، ولا لقمت لقمة إلا ظننت أني لا أسيغها حتى أغص بها من الموت)، ثم قال:
(يا بني آدم! إن كنتم تعقلون فعدوا أنفسكم من الموتى، والذي نفسي بيده! أن ما
توعدون الآن وما أنتم بمعجزين) وروي: (أنه (ص) قد اطلع ذات عشية إلى الناس، فقال:
أيها الناس! أما تستحيون من الله تعالى؟ قالوا: وما ذاك يا رسول الله! قال: تجمعون
ما لا تأكلون، وتأملون ما لا تدركون، وتبنون ما لا تسكنون). (وقال) ص): أكلكم يحب
أن يدخل الجنة؟ قالوا: نعم يا رسول الله! قال: قصروا من الأمل، واجعلوا آجالكم بين
أبصاركم، واستحيوا من الله حق الحياة). وكان (ص) يقول في دعائه: (اللهم إني أعوذ بك
من دنيا تمنع خير الآخرة، وأعوذ بك من حياة تمنع خير الممات، وأعوذ بك من أمل يمنع
خير العمل). وكان (ص) يتيمم مع القدرة على الماء قبل مضي ساعة ويقول لعلي لا أبلغه.
وقال عيسى (ع): (لا تهتموا برزق غد، فإن لم يكن غدا من آجالكم فستأتي أرزاقكم مع
آجالكم، وإن لم يكن غدا من آجالكم فلا تهتموا لأرزاق غيركم).
فصل اختلاف الناس في
طول الأمل 
الناس في طول الأمل وقصره مختلفون: (فمنهم) من يأمل البقاء ويشتهيه أبدا،
كما قال الله - سبحانه -:
ص 29
(يود أحدهم لو يعمر ألف سنة) (29) وهو الذي انغمر في الدنيا وخاض في لذاتها، وليس
له من الآخرة نصيب. (ومنهم) من يأمل البقاء إلى أقصى مدة العمر الذي يتصور لأهل
عصره، وهو الذي يحب الدنيا حبا شديدا، ويشتغل بجمع ما يمكنه في هذه المدة، وربما
يجتهد بجمع الأزيد منه. (ومنهم) من يأمل أقل من ذلك إلى أن ينتهي إلى من لا يأمل
أزيد من سنة، فلا يشتغل بتدبير ما وراءها، ولا يقدر لنفسه وجوده في عام قابل، فإن
بلغه حمد الله على ذلك، ومثله يستعد في الصيف للشتاء وفي الشتاء للصيف، وإذا جمع ما
يكفيه السنة أشتغل بالعبادة. (ومنهم) من يأمل أقل من السنة إلى أن ينتهي إلى من لا
يأمل أزيد من يوم وليلة، فلا يستعد إلا لنهاره دون غده. (ومنهم) من يكون الموت نصب
عينيه، كأنه واقع به وهو ينتظره، ومثله يصلي دائما صلاة المودعين. وروي: (أن النبي
(ص) سئل بعض الصحابة عن حقيقة إيمانه، قال: ما خطوت خطوة إلا ظننت أني لا أتبعها
أخرى). وكان بعضهم إذا يصلي يلتفت يمينا وشمالا، ولما قيل له: ما هذا الالتفات؟
قال: (انتظر ملك الموت من أي جهة يأتيني). ثم أكثر الخلق - (لا) سيما في أمثال
زماننا - قد غلبهم طول الأمل، بحيث يأمل أقل من أقصى مدة السن، وقل فيهم من قصر
أمله، والعجب أنه كلما يزداد السن يزداد طول الأمل وفي عصرنا أكثر المشايخ
والمعمرين حرصهم وطول أملهم أكثر من الشبان، ومن هنا قال رسول الله (ص): (يشيب ابن
آدم وتشب فيه خصلتان: الحرص، وطول الأمل). وقال صلى الله عليه وآله: حب الشيخ شاب
في طلب الدنيا، وإن التفت ترقوتاه من الكبر، إلا الذين اتقوا، وقليل ما هم). ثم
يعرف طول الأمل وقصره بالأعمال: فمن اعتنى بجمع أسبابها لا يحتاج إليها في سنة فهو
طويل الأمل، وكذلك من انتشرت أموره، بأن يكون له مع الناس معاملات ومحاسبات إلى مدة
معينة، كالسنة وأزيد منها، وكان
(هامش)
(29) البقرة، الآية 96 (*)
ص 30
عليه ديون من الناس كذلك، ومع ذلك لم يكن مضطربا ولا خائفا فهو طويل الأمل. فعلامة
قصر الأمل: أن يجمع أمره بحيث لا يكون عليه من الناس شيء، ولا يسعى بطلب قوت الزائد
على أربعين يوما، ويصرف أوقاته في الطاعة والعبادة، ويرى نفسه كمسافر يجتهد في
تحصيل الزاد
فصل ذكر الموت مقصر للأمل 
ذكر الموت يقصر الأمل ويدفع طوله، ويوجب
التجافي عن دار الغرور والاستعداد لدار الخلود في فضيلته والترغيب فيه أخبار كثيرة،
قال رسول الله صلى الله عليه وآله -: (أكثروا ذكر هادم اللذات)، قيل، وما هو يا
رسول الله!؟ قال: (الموت، فما ذكره عبد على الحقيقة في منعه إلا ضاقت عليه الدنيا،
ولا في شدة إلا اتسعت عليه). وقال رسول (ص) -: (تحفة المؤمن الموت). وقال (ص) الموت
كفارة لكل مسلم). وقيل له (ص): هل يحشر مع الشهداء أحد؟ قال: (نعم من يذكر الموت في
اليوم والليلة عشرين مرة). وقال (ص): (أكثروا من ذكر الموت، فإنه يمحص الذنوب،
ويزهد في الدنيا). وقال (ص): (كفى بالموت واعظا). وقال (ص): (الموت الموت، ألا ولا
بد من الموت، جاء الموت بما فيه، جاءا بالروح والراحة والكرة المباركة إلى الجنة
عالية لأهل دار الخلود الذين كان لها سعيهم وفيها رغبتهم) وقال (ص) (إذا استحقت
ولاية الله والسعادة، جاء الأجل بين العينين وذهب الأمل وراء الظهر، وإذا استحقت
ولاية الشيطان والشقاوة، جاء الأمل بين العينين وذهب الأجل وراء الظهر) وذكر عنده
(ص) رجل فأحسن الثناء عليه فقال (ص) (كيف ذكر صاحبكم للموت؟) قالوا: ما كنا نكاد
نسمعه يذكر الموت قال: (فإن صاحبكم ليس هنالك). وسئل: أي المؤمنين أكيس وأكرم؟
فقال: (أكثرهم ذكرا للموت، وأشدهم استعدادا له، أولئك هم الأكياس ذهبوا بشرف الدنيا
وكرامة الآخرة). وقال الباقر (ع): (أكثروا ذكر الموت فإنه لم يكثر ذكره إنسان إلا
زهد في الدنيا). وقال الصادق (ع): (إذا أنت حملت جنازة فكن كأنك أنت المحمول وكأنك
سألت ربك الرجوع إلى
ص 31
الدنيا ففعل، فانظر ماذا تستأنف) ثم قال (ع) (عجبا لقوم حبس أولهم عن آخرهم، ثم
نودي فيهم بالرحيل وهم يلعبون). وقال (ع) لأبي بصير بعد ما شكى إليه الوسواس -:
(أذكر يا أبا محمد تقطع أوصالك في قبرك ورجوع أحبائك عنك إذا دفنوك في حفرتك وخروج،
بنات الماء من منخريك وأكل الدود لحمك، فإن ذلك يسلي عليك ما أنت فيه)، وقال أبو
بصير: فوالله! ما ذكرته إلا سلى عني ما أنا فيه من هم الدنيا وقال (ع): (من كان
كفنه معه في بيته لم يكتب من الغافلين، وكان مأجورا كلما نظر إليه) (30). وقال (ع):
(ذكر الموت يميت الشهوات في النفس، ويقلع منابت الغفلة، ويقوي القلب بمواعد الله،
ويرق الطبع، ويكسر أعلام الهوى، ويطفئ نار الحرص، ويحقر الدنيا، وهو معنى ما قال
النبي (ص): (فكر ساعة خير من عبادة سنة)، وذلك عندما يحل أطناب خيام الدنيا ويشهدها
في الآخرة، ولا ينكر نزول الرحمة عند ذكر الموت بهذه الصفة، ومن لا يعتبر بالموت،
وقلة حيلته، وكثرة عجزه، وطول مقامه في القبر، وتحيره في القيامة: فلا خير فيه.
وقال النبي (ص): (أكثر ذكر هادم الذات..) ثم ذكر تمام الحديث كما مر.. ثم قال (ع):
والموت أول منزل من منازل الآخرة وآخر منزل من الدنيا، فطوبى لم أكرم عند النزول
بأولها، وطوبى لمن أحسن مشايعته في آخرها، والموت أقرب الأشياء من بني آدم، وهو
بعده أبعد، فما أجرأ الإنسان على نفسه، وما أضعفه من خلق، وفي الموت نجاة المخلصين
وهلاك المجرمين، ولذلك اشتاق من اشتاق إلى الموت وكره من كره، قال النبي (ص) (من
أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه) (31)
فصل العجب
ممن ينسى الموت 
عجبا لقوم نسوا الموت وغفلوا عنه وهو أظهر اليقينيات والقطعيات في
العالم وأسرع الأشياء إلى بني آدم، وقال الله - سبحانه تعالى -
(هامش)
(30)* صححنا
أكثر الأحاديث على الوسائل - ج 1: الباب 23 من أبواب الاستحضار في كتاب الطهارة -،
وعلى إحياء العلوم: 4 / 283. (31) صححنا الحديث على مصباح الشريعة: الباب 84 (*)
ص 32
(أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة) (32). وقال - (كل نفس ذائقة
الموت وأنما يتوفون أجورهم يوم القيامة فيمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما
الحياة الدنيا إلا متاع الغرور) (33). وقال الصادق (ع): (ما خلق الله يقينا لا شك
فيه أشبه بشك لا يقين فيه من الموت). وقال أمير المؤمنين (ع) (ما أنزل الموت حق
منزلته من عد غدا من أجله) وقال (ع): (لو رأى العبد أجله وسرعته إليه، لأبغض العمل
من الدنيا). وقال الصادق (ع) (ما من أهل بيت شعر ولا وبر إلا وملك الموت يتصفحه كل
يوم خمسة مرات). وقد تقدمت أخبار أخر في هذا المعنى.
فصل الموت أعظم الدواهي 
إعلم
أن الموت داهية من الدواهي العظمى، ومن كل داهية أشد وأدهى وهو من الأخطار العظيمة
والأهوال الجسيمة، فمن علم أن الموت مصرعه والتراب مضجعه والقبر مقره وبطن الأرض
مستقره، والدود أنيسه والعقارب والحيات جليسه، فجدير أن تطول حسرته وتدوم عبرته،
وتنحصر فيه فكرته وتعظم بليته، وتشتد لأجله رزيته، ويرى نفسه في أصحاب القبور
ويعدها من الأموات، إذ كلما هو آت قريب والبعيد ما ليس بآت وحقيقة ألا يكون ذكره
وفكره وغمه وهمه وقوله وفعله وسعيه وجده إلا فيه وله، قال رسول الله - صلى الله
عليه وآله -: (لو أن البهائم يعلمون ما تعلمون ما أكلتم
منه سمينا). وقال (ص) لقوم يتحدثون ويضحكون: (أذكروا الموت أما والذي نفسي بيده! لو
تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا). ومر (ص) بمجلس قد استعلاه الضحك،
فقال: (شوبوا مجلسكم بذكر مكدر اللذات). قالوا: وما مكدر اللذات؟ قال: (الموت). ثم
غفلة الناس عن الموت لقلة فكرهم فيه وذكرهم له، ومن يذكره ليس يذكره بقلب فارغ، بل
بقلب مشغول بشهوات الدنيا وعلائقها، فلا
(هامش)
(32) النساء، الآية: 77. (33) آل عمران، الآية: 185 (*)
ص 33
ينفع ذكره في قلبه، فالطريق فيه: أن يفرغ القلب عن كل شيء إلا عن ذكر الموت الذي
بين يديه، كالذي يريد أن يسافر إلى بلد بعيد ما بينهما مفازة مخطرة، أو بحر عظيم لا
بد أن يركبه، فإنه لا يتفكر إلا فيه، ومن تفكر في الموت بهذا الطريق وتكرر منه، لا
ترى ذكره في قلبه، وعند ذلك يقل فرحه وسروره بالدنيا وتنزجر نفسه عنها، وينكسر
قلبه، ويستعد لأجله. وأوقع طريق فيه أن يكثر ذكر أقرانه الذين مضوا قبله، ونقلوا من
أنس العشرة إلى وحشة الوحدة، ومن ضياء المهود إلى ظلمة اللحود ومن ملاعبة الجواري
والغلمان إلى مصاحبة الهوام والديدان، ويتذكر مصرعهم تحت التراب، ويتذكر صورهم في
مناصبهم وأحوالهم، ثم يتفكر كيف محي التراب الآن حسن صورتهم، وكيف تبددت أجزاؤهم في
قبورهم، وكيف أملوا نسائهم وأيتموا أولادهم وضيعوا أموالهم وخلت منهم مساكنهم
ومجالسهم وانقطعت آثارهم وأوحشت ديارهم، فمهما تذكر رجلا وفصل في قلبه حاله وكيفية
صيانة وتوهم صورته، وتذكر نشاطه، وأمله في العيش والبقاء، ونسيانه للموت، وانخداعه
بمؤثثات الأسباب، وركونه إلى القوة والشباب، وميله إلى الضحك واللهو، وغفلته عما
بين يديه من الموت الذريع والهلاك السريع، وأنه كيف كان يتردد والآن قد تهدمت رجلاه
ومفاصله، وكيف كان ينطق وقد أكل الدود لسانه، وكيف كان يضحك وقد أكل التراب أسنانه،
وكيف دبر لنفسه الأمور وجمع من حطام الدنيا ما لا ينفق احتياجه إليه على مر الأعوام
والشهور وذكر الأزمنة والدهور. ثم يتأمل أن مثلهم، وغفلته كغفلتهم وسيصير حاله في
القبر كحالهم، فملازمة هذه الأفكار وأمثالها، مع دخول المقابر وتشييع الجنائز
ومشاهدة المرضى، تجدد ذكر الموت في قلبه، حتى يغلب عليه بحيث يصير الموت نصب عينيه
وذلك ربما يستعد له ويتجافى عن دار الغرور، وأما الذكر بظاهر القلب وعذبة اللسان
فقيل الجدوى في النية والايقاظ ومهما طاب قلبه بشيء من أسباب الدنيا، فينبغي أن
يتذكر في الحال أنه لا بد من مفارقته كما نقل: أن بعض الأكابر نظر يوما إلى داره
فأعجبه حسنها فبكى وقال: والله لولا الموت لكنت مسرورا بها.
ص 34
فصل مراتب الناس في ذكر الموت 
الناس بين منهمك في الدنيا خائض في لذاتها وشهواتها.
وبين تائب مبتدئ، وعارف منتهي. (فالأول): لا يذكر الموت، وأن ذكره فيذكر ليذمه لصده
عما يحبه في الدنيا، وهو الذي يفر منه، وقال الله - تعالى - فيه (قل إن الموت الذي
تفرون منه فإنه ملاقيكم)... (34) وهذا يزيده ذكر الموت بعدا من الله، إلا إذا
استفاد منه التجافي عن الدنيا، ويتنغص عليه نعيمه، ويتكدر صفو لذته، وحين إذ ينفعه،
لأن كل ما يكدر على الإنسان اللذات فهو من أسباب نجاته. (والثاني): يكثر ذكر الموت
لينبعث من قلبه الخوف والخشية، ففي بتمام التوبة، وربما يكرهه خيفة من أن يختطفه
قبل الاستعداد وتهيئة لزاد وتمام التوبة، وهو معذور في كراهة الموت، ولا يدخل تحت
قوله (ص): (من كره لقاء الله كره الله لقاءه)، لأن هذا ليس يكره الموت ولقاء الله
وإنما يخاف فوت لقاء الله لقصوره وتقصيره، وهو الذي يتأخر عن لقاء الحبيب مشتغلا
بالاستعداد للقاءه على وجه يرضاه، فلا يعد كارها للقاءه. وعلامة هذا: أن يكون دائم
الاستعداد للموت لا شغل له سواه، وإن لم يكن مستعدا له عاملا بما ينفعه في الآخرة
التحق بالأول. (وأما الثالث): فإنه يذكر الموت دائما، لأنه موعد للقاء حبيبه،
والمحب لا ينسى قط موعد لقاء الحبيب، وهذا في الغالب الأمر يستبطئ مجئ الموت ويحب
مجيئه، ليتخلص من دار العاصين وينتقل إلى جوار رب العالمين كما روي: (أن حذيفة لما
حضرته الوفاة قال: حبيب جاء على فاقة لا أفلح من رده، اللهم إن كنت تعلم أن الفقر
أحب إلي من الغنى، والسقم أحب إلي من الصحة، والموت أحب إلي من الحياة، فسهل علي
الموت حتى ألقاك). وأعلى رتبة منه: من يفوض أمره إلى الله، ولا يختار لنفسه شيئا:
من الموت
(هامش)
(34) الجمعة، الآية: 8 (*)
ص 35
أو الحياة، والفقر والغنى، والمرض والصحة، بل يكون أحب الأشياء إليه أحبها إلى
مولاه، وهذا قد انتهى بفرط الحب والولاء إلى درجة التسليم والرضا، وهو الغاية
والانتهاء.
تتميم
المبادرة إلى الحسنات

من علامات قصر الأمل وذكر الموت: المبادرة
إلى الحسنات واشتياق الخيرات، ولذا ورد فيه الترغيب والحذر عن آفة التأخير، قال
رسول الله - صلى الله عليه وآله -: (اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل
سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك). وقال (ص): (من خاف أدلج
ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة) (35). وكان
(ص) إذا أحس من أصحابه غفلة وغرة، نادى فيهم بصوت عال: (أتتكم المنية، إما بشقاوة
أو سعادة). وروي: أنه ما من صباح ولا مساء إلا ومناد ينادي: أيها الناس! الرحيل
الرحيل!. وقال بعض الأكابر: التؤدة في كل شيء خير، إلا في أعمال الآخرة. ومنها:
• العصيان 
ولا ريب في كونه من رذائل قوتي الغضب والشهوة معا، لأن بعض أنواعه من رذائل
إحداهما من جانب الإفراط أو التفريط، أو من باب رداءتها وبعض آخر من أنواعه من
رذائل الأخرى. وضده (التقوى والورع)، وبالمعنى الأعم: أعني الاجتناب عن مطلب
المعصية خوفا من سخط الله، وقد تقدم ما ورد في فضيلتهما، فتذكر. ومنها:
• الوقاحة 
وهو
عدم مبالاة النفس، وعدم انفعالها من ارتكاب المحرمات الشرعية والعقلية أو العرفية،
وكونه من رداءة قوتي الغضب والشهوة ظاهر.
(هامش)
(35) صححنا الحديث على إحياء العلوم: 4 / 390. وفي نسخ الكتاب (أولج ومن أولج). (*)
|