سيرة فاطمة الزهراء (ع)

الصفحة السابقة الصفحة التالية

سيرة فاطمة الزهراء (ع)

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب

ص 151

الحكم الله... الخ (1). وذكر ابن حجر في (الصواعق المحرقة) في الباب الثاني: إن أبا بكر انتزع من فاطمة فدكا... الخ. ومعنى كلام ابن حجر أن فدكا كانت في يد الزهراء (عليها السلام) من عهد أبيها الرسول فانتزعها أبو بكر منها. وقد روى العلامة المجلسي عن كتاب (الخرائج): فلما دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المدينة (بعد استيلائه على فدك) دخل على فاطمة (عليها السلام) فقال: يا بنية إن الله قد أفاء على أبيك بفدك، واختصه بها، فهي له خاصة دون المسلمين، أفعل بها ما أشاء، وإنه قد كان لأمك خديجة على أبيك مهر، وإن أباك قد جعلها لك بذلك، وأنحلها لك ولولدك بعدك . قال: فدعا بأديم ودعا بعلي ابن أبي طالب فقال: اكتب لفاطمة بفدك نحلة من

(هامش)

(1) نهج البلاغة باب (المختار من رسائله (عليه السلام)). (*)

ص 152

رسول الله . فشهد على ذلك علي بن أبي طالب ومولى لرسول الله وأم أيمن. ولما توفي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) واستولى أبو بكر على منصة الحكم ومضت عشرة أيام. واستقام له الأمر بعث إلى فدك من أخرج وكيل فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). كانت فدك للسيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) من ثلاثة وجوه: الوجه الأول: إنها كانت ذات اليد، أي كانت متصرفة في فدك، فلا يجوز انتزاع فدك من يدها إلا بالدليل والبينة. كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): البينة على المدعي، واليمين على من أنكر . وما كان على السيدة فاطمة أن تقيم البينة لأنها ذات اليد. الوجه الثاني: إنها كانت تملك فدكا بالنحلة والعطية والهبة من أبيها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). الوجه الثالث: إنها كانت تستحق فدك بالإرث من

ص 153

أبيها الرسول ولكن القوم خالفوا هذه الوجوه الثلاثة، فقد طالبوها بالبينة، وطالبوها بالشهود على النحلة، وأنكروا وراثة الأنبياء على غير أساس من شرع أو عرف. وبإمكان السيدة فاطمة أن تطالب بحقها بكل وجه من هذه الوجوه الثلاثة. ولهذا طالبت بفدك عن طريق النحلة أولا، ثم طالبت بها عن طريق الإرث ثانيا كما صرح بذلك الحلبي في سيرته ج 3 ص 39 قال: إن فاطمة أتت أبا بكر بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقالت: إن فدكا نحلة أبي، أعطانيها حال حياته . وأنكر عليها أبو بكر وقال: أريد بذلك شهودا فشهد لها علي، فطلب شاهدا آخر فشهدت لها أم أيمن فقال لها: أبرجل وامرأة تستحقينها؟؟ وذكر الطبرسي في الاحتجاج: فجاءت فاطمة (عليها السلام)

ص 154

إلى أبي بكر ثم قالت: لم تمنعني ميراثي من أبي رسول الله؟ وأخرجت وكيلي من فدك وقد جعلها لي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأمر الله تعالى؟ . إلى آخر ما ذكره أصحاب السير والمفسرون. إحتجاج لما بويع أبو بكر واستقام له الأمر بعث إلى فدك من أخرج وكيل فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) منها، فجاءت فاطمة (عليها السلام) إلى أبي بكر ثم قالت: لم تمنعني ميراثي من أبي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ وأخرجت وكيلي من فدك وقد جعلها لي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأمر الله تعالى؟ . احتجاج فقال: إن شاء الله إنك لا تقولين إلا حقا ولكن هاتي على ذلك شهودا. فجاءت بام أيمن فقالت له أم أيمن: لا أشهد - يا أبا بكر - حتى أحتج عليك بما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، أنشدك بالله ألست تعلم أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)

ص 155

قال: أم أيمن إمرأة من أهل الجنة ؟. فقال: بلى. قالت: فأشهد أن الله - عز وجل - أوصى إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): *(فآت ذا القربى حقه)* فجعل فدكا لها طعمة بأمر الله. فجاء علي (عليه السلام) فشهد بمثل ذلك. فكتب لها كتابا ودفعه إليها. فدخل عمر فقال: ما هذا الكتاب؟ فقال: إن فاطمة ادعت فدكا وشهدت لها أم أيمن وعلي، فكتبته لها، فأخذ عمر الكتاب من فاطمة فتفل فيه ومزقه، فخرجت فاطمة (عليها السلام) تبكي. فلما كان بعد ذلك جاء علي (عليه السلام) إلى أبي بكر وهو في المسجد فقال: يا أبا بكر، لم منعت فاطمة ميراثها من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ وقد ملكته في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ .

ص 156

فقال أبو بكر: هذا فئ المسلمين، فإن أقامت شهودا أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جعله لها، وإلا فلا حق لها فيه. فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): يا أبا بكر أتحكم فينا بخلاف حكم الله في المسلمين؟ . قال: لا. قال: فإن كان في يد المسلمين شيء يملكونه، ثم أدعيت أنا فيه، من تسأل البينة؟ . قال: إياك أسأل البينة. قال: فما بال فاطمة سألتها البينة على ما في يدها وقد ملكته في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبعده، ولم تسأل المسلمين بينة على ما ادعوا شهودا كما سألتني على ما أدعيت عليهم؟ . فسكت أبو بكر. فقال عمر: يا علي، دعنا من كلامك، فإنا لا نقوى على حجتك، فإن أتيت بشهود عدول، وإلا فهو فئ

ص 157

للمسلمين لا حق لك ولا لفاطمة فيه (1). فقال الإمام علي (عليه السلام): يا أبا بكر تقرأ كتاب الله؟ قال: نعم. قال: أخبرني عن قوله عز وجل: *(إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا)* فيمن نزلت فينا أو في غيرنا؟ قال: بل فيكم! قال: فلو إن شهودا شهدوا على فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بفاحشة ما كنت تصنع بها؟ قال: كنت أقيم عليها الحد كما أقيم على نساء العالمين؟! قال علي: كنت إذن عند الله من الكافرين! قال: ولم؟ قال: لأنك رددت شهادة الله بالطهارة وقبلت شهادة الناس عليها، كما رددت حكم الله وحكم رسوله أن جعل لها فدكا وزعمت أنها فئ للمسلمين، وقد قال رسول

(هامش)

(1) الاحتجاج للطبرسي 1 / 121 ط - النجف 1386، كشف الغمة 2 / 104، شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد 16 / 274. (*)

ص 158

الله (صلى الله عليه وآله وسلم): البينة على المدعي، واليمين على من ادعي عليه . فدمدم الناس، وأنكر بعضهم بعضا، وقالوا: صدق - والله - علي. قال الشيخ إبراهيم الأميني في كتابه فاطمة الزهراء ص 133: والانصاف في هذه المحاكمة أن الحق مع فاطمة (عليها السلام)، لأنها صاحبة اليد في فدك، لذا قال علي (عليه السلام) في نهج البلاغة: بلى كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلته السماء فشحت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس قوم آخرين، ونعم الحكم الله (1). وعلى أبي بكر، الطرف الآخر للمنازعة - أي المدعي

(هامش)

(1) نهج البلاغة الكتاب 45. (*)

ص 159

- إقامة البينة، ولكن أبا بكر ركل كل هذا الحكم البديهي بقدميه ولم يقض به. مع هذا خرجت الزهراء (عليها السلام) ظافرة منتصرة من هذه المرحلة، بمنطقها السليم واحتجاجها القويم وأدلتها المحكمة، التي اضطرت أبا بكر للاعتراف بحقها وكتب صحيفة لها بذلك، إلا أن عمر دخل الميدان بمنطق القوة فأخذ الكتاب ومزقه واختلق قصة نقصان البينة.

 إحتجاج آخر

 عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال علي لفاطمة (عليهما السلام): انطلقي فاطلبي ميراثك من أبيك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). فجاءت إلى أبي بكر فقالت: أعطني ميراثي من أبي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) . فقال: النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يورث. فقالت: ألم يرث سليمان داود؟ .

ص 160

فغضب وقال: النبي لا يورث. فقالت (عليها السلام): ألم يقل: *(يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين)*(النساء: 11). فلم يجد أبو بكر جوابا لمنطق الزهراء (عليها السلام) وحجتها فقال: النبي لا يورث، ولكي يبرر فعلته غير المشروعة أسند حديثا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: نحن معاشر الأنبياء لا نورث . وشهدت عليه حفصة وعائشة. ولكن الزهراء (عليها السلام) حجته وأفحمته بالكتاب الكريم، وقد ثبت أن ما خالف القرآن فهو زخرف يضرب به عرض الحائط ولا يعتنى به. خطبة الزهراء (عليها السلام) والجدير بالذكر إن عائشة نفسها طالبت عثمان يوم ولي الخلافة بميراثها من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). فقال: أليس جئت فشهدت أنت أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: لا نورث، فأبطلت حق فاطمة وجئت تطلبينه! لا أفعل (1).

(هامش)

(1) كشف الغمة 2 / 105. (*)

ص 161

خطبة الزهراء (عليها السلام) ومحاكمة الخليفة في الملأ العام

 قررت الزهراء (عليها السلام) الاعلان عن مظلوميتها، والذهاب إلى المسجد وإلقاء خطاب مهم في الناس.. وسرى الخبر في المدينة.. وشاع في الناس أن بقية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) التي تذكر المسلمين به (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبضعته وريحانته فاطمة تريد أن تخطب في الناس في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). وهز الخبر أرجاء المدينة - كأعنف انفجار - ودافعت علامات الاستفهام في الرؤوس... ماذا ستقول؟ وما ستكون ردود فعل الخليفة - حينئذ -؟! فاحتشدوا في المسجد ليسمعوا الخطاب التاريخي.

ص 162

فاختارت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) لخطبتها هذا الأسلوب للبداية والنهاية، وإنها لم تكتف بالتركيز على مطالبة حقها فقط، بل انتهزت الفرصة لتفجر للمسلمين عيون المعارف الإلهية، وتكشف لهم محاسن الدين الإسلامي، وتبين لهم علل الشرائع والأحكام وضمنا تهيئ الجو لكلامها المقصود وهدفها المطلوب. وهذه رؤوس أقلام الخطبة ومواضيعها: الحمد والثناء على الله. التوحيد الاستدلالي. النبوة. التحدث عن العهد الجاهلي. إنجازات الرسول. توجيه الخطاب إلى الحاضرين. التحدث عن القرآن. بيان علل الشرائع وفلسفة الإسلام.

ص 163

الدخول في صميم الموضوع. حوادث فترة الرسالة. موقف زوجها العظيم من تلك الأحداث. بيان انقلاب الحكم ضد آل الرسول. بيان تخاذل المسلمين تجاه أهل البيت. توجيه الخطاب إلى رئيس الدولة حول الإرث. إقامة الأدلة والبراهين. توجيه العتاب إلى الأنصار وتوبيخهم. جواب رئيس الدولة. تزييف كلامه وتفنيد مغالطاته. إعتذار رئيس الدولة. توجيه الخطاب إلى الحاضرين، شكوى إلى رسول الله. روى عبد الله بن الحسن بإسناده عن آبائه، أنه لما أجمع أبو بكر على منع فاطمة فدكا، وبلغها ذلك.

ص 164

لاثت خمارها على رأسها (1)، واشتملت بجلبابها، وأقبلت في لمة من حفدتها ونساء قومها (2)، تطأ ذيولها (3)، ما تخرم مشيتها مشية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (4)، حتى دخلت على أبي بكر. وهو في حشد (5) من المهاجرين والأنصار وغيرهم، فنيطت دونها ملاءة. فجلست ثم أنت أنة أجهش القوم بالبكاء فارتج المجلس. ثم أمهلت هنيئة، حتى إذا سكن نشيج القوم وهدأت فورتهم. افتتحت الكلام بحمد الله والثناء عليه، والصلاة على

(هامش)

(1) لاثت: شدت. والخمار: ثوب يغطى به الرأس. (2) اللمة - بضم اللام وتخفيف الميم -: الجماعة، الحفدة: الخدم. (3) كناية عن شدة التستر. (4) ما تنقص مشيتها عن مشية أبيها من حيث الوقار والكيفية. (5) الحشد: الجماعة. (*)

ص 165

رسوله، فعاد القوم في بكائهم، فلما أمسكوا عادت في كلامها. فقالت (عليها السلام): الحمد لله على ما أنعم، وله الشكر على ما ألهم، والثناء بما قدم، من عموم نعم ابتداها، وسبوغ آلاء أسداها، وتمام منن والاها، جم عن الإحصاء عددها ونأى عن الجزاء أمدها، وتفاوت عن الإدراك أبدها، وندبهم لاستزادتها بالشكر لاتصالها، واستحمد إلى الخلائق بإجزالها، وثنى بالندب إلى أمثالها. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كلمة جعل الإخلاص تأويلها، وضمن القلوب موصولها، وأنار في التفكير معقولها، الممتنع من الأبصار رؤيته، ومن الألسن صفته، ومن الأوهام كيفيته، ابتدع الأشياء لا من شيء كان قبلها، وأنشأها بلا احتذاء أمثله امتثلها، كونها بقدرته، وذرأها بمشيئته من غير حاجة منه إلى

ص 166

تكوينها، ولا فائدة في تصويرها، إلا تثبيتا لحكمته وتنبيها على طاعته، وإظهارا لقدرته، وتعبدا لبريته، وإعزازا لدعوته. ثم جعل الثواب على طاعته، ووضع العقاب على معصيته زيادة لعباده من نقمته وحياشة لهم إلى جنته. وأشهد أن أبي (محمدا) عبده ورسوله، إختاره وانتجبه قبل أن اجتبله، واصطفاه قبل أن ابتعثه، إذ الخلائق بالغيب مكنونة، وبستر الأهاويل مصونة، وبنهاية العدم مقرونة، علما من الله تعالى بمآئل الأمور، وإحاطة بحوادث الدهور، ومعرفة بمواقع المقدور إبتعثه الله إتماما لأمره، وعزيمة على إمضاء حكمه وإنفاذا لمقادير حتمه، فرأى الأمم فرقا في أديانها، عكفا على نيرانها، عابدة لأوثانها، منكرة لله مع عرفانها، فأنار الله بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ظلمها، وكشف عن القلوب بهمها، وجلى عن الأبصار غممها، وقام في الناس بالهداية، وأنقذهم

ص 167

من الغواية، وبصرهم من العماية، وهداهم إلى الدين المستقيم، ثم قبضه الله إليه قبض رأفة واختيار ورغبة وإيثار، فمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) من تعب هذه الدار في راحة قد حف بالملائكة الأبرار، ورضوان الرب الغفار، ومجاورة الملك الجبار، صلى الله على أبي، نبيه، وأمينه على الوحي وصفيه، وخيرته من الخلق ورضيه. والسلام عليه ورحمة الله وبركاته. ثم التفتت إلى أهل المجلس وقالت: أنتم - عباد الله - نصب أمره ونهيه. وحملة دينه ووحيه، وأمناء الله على أنفسكم، وبلغاؤه إلى الأمم، زعيم حق له فيكم، وعهد قدمه إليكم، وبقية استخلفها عليكم، كتاب الله الناطق، والقرآن الصادق، والنور الساطع، والضياء اللامع، بينة بصائره، منكشفة سرائره، متجلية ظواهره، مغتبط به أشياعه، قائد إلى الرضوان إتباعه، مؤد إلى النجاة استماعه، به تنال حجج الله

ص 168

المنورة وعزائمه المفسرة، ومحارمه المحذرة، وبيناته الجالية، وبراهينه الكافية، وفضائله المندوبة، ورخصه الموهوبة، وشرائعه المكتوبة. فجعل الله الإيمان تطهيرا لكم من الشرك. والصلاة تنزيها لكم من الكبر. والزكاة تزكية للنفس ونماء في الرزق. والصيام تثبيتا للإخلاص. والحج تشييدا للدين. والعدل تنسيقا للقلوب، وإطاعتنا نظاما للملة. وإمامتنا أمانا للفرقة. والجهاد عزا للإسلام. والصبر معونة على استجباب الأجر. والأمر بالمعروف مصلحة للعامة. وبر الوالدين وقاية من السخط. وصلة الأرحام منماة للعدد.

ص 169

والقصاص حقنا للدماء. والوفاء بالنذر تعريضا للمغفرة. وتوفية المكاييل والموازين تغييرا للبخس. والنهي عن شرب الخمر تنزيها عن الرجس. واجتناب القذف حجابا عن اللعنة. وترك السرقة إيجابا للعفة. وحرم الشرك إخلاصا له بالربوبية. فاتقوا الله حق تقاته، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، وأطيعوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه، فإنه إنما يخشى من عباده العلماء. ثم قالت: أيها الناس! إعلموا أني فاطمة! وأبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، أقول عودا وبدءا، ولا أقول ما أقول غلطا، ولا أفعل ما أفعل شططا: *(لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم)*، فإن تعزوه

ص 170

وتعرفوه تجدوه أبي دون نسائكم، وأخا ابن عمي دون رجالكم ولنعم المعزي إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) فبلغ بالرسالة، صادعا بالنذارة، مائلا على مدرجة المشركين، ضاربا ثبجهم، آخذا بأكظامهم، داعيا إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، يكسر الأصنام، وينكت الهام، حتى انهزم الجمع وولوا الدبر، حتى تفرى الليل عن صبحه وأسفر الحق عن محضه ونطق زعيم الدين وخرست شقاشق الشياطين، وطاح وشيظ النفاق، وانحلت عقد الكفر والشقاق، وفهتم بكلمة الإخلاص، في نفر من البيض الخماص. وكنتم على شفا حفرة من النار، مذقة الشارب، ونهزة الطامع، وقبسة العجلان، وموطئ الأقدام، تشربون الطرق، وتقتاتون القد والورق، أذلة خاسئين تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم فأنقذكم الله تعالى بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد اللتيا والتي.

ص 171

وبعد أن مني ببهم الرجال، وذؤبان العرب، ومردة أهل الكتاب، كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله أو نجم قرن للشيطان أو فغرت فاغرة من المشركين، قذف أخاه في لهواتها فلا ينكفئ حتى يطأ صماخها بأخمصه، ويخمد لهبها بسيفه مكدودا في ذات الله، مجتهدا في أمر الله، قريبا من رسول الله، سيدا في أولياء الله، ممشرا ناصحا، مجدا كادحا. وأنتم في رفاهية من العيش، وادعون فاكهون آمنون، تتربصون بنا الدوائر، وتتوكفون الأخبار، وتنكصون عند النزال، وتفرون من القتال. فلما اختار الله لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) دار أنبيائه ومأوى أصفيائه، ظهر فيكم حسكة النفاق، وسمل جلباب الدين، ونطق كاظم الغاوين، ونبغ خامل الأقلين، وهدر فنيق المبطلين، فخطر عرصاتكم، وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه هاتفا بكم. فألفاكم لدعوته مستجيبين، وللغرة

ص 172

فيه ملاحظين. ثم استنهضكم فوجدكم خفافا، وأحمشكم فألفاكم غضابا. فوسمتم غير إبلكم، وأوردتم غير شربكم. هذا والعهد لقريب، والكلم رحيب، والجرح لما يندمل، والرسول لما يقبر. إبتدارا زعمتم خوف الفتنة. ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين. فهيهات منكم! وكيف بكم؟ وأنى تؤفكون، وكتاب الله بين أظهركم، أموره ظاهرة، وأحكامه زاهرة، وأعلامه باهرة، وزواجره لائحة، وأوامره واضحة، وقد خلفتموه وراء ظهوركم أرغبة عنه تريدون؟ أم بغيره تحكمون؟ بئس للظالمين بدلا. *(ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين)*. ثم لم تلبثوا إلا ريث أن تسكن نفرتها، ويسلس

ص 173

قيادها. ثم أخذتم تورون وقدتها، وتهيجون جمرتها وتستجيبون لهاتف الشيطان الغوي، وإطفاء أنوار الدين الجلي، وإخماد سنن النبي الصفي، تسرون حسوا في ارتغاء، تمشون لأهله وولده في الخمر والضراء، ونصبر منكم على مثل حز المدى، ووخز السنان في الحشى. وأنتم - الآن - تزعمون أن لا إرث لنا أفحكم الجاهلية يبغون؟ ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون؟ أفلا تعلمون؟ بلى تجلى لكم كالشمس الضاحية أني ابنته. أيها المسلمون! أأغلب على إرثي. ثم التفتت إلى الحاكم أبي بكر وقالت: يا ابن أبي قحافة! أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرث أبي؟؟ لقد جئت شيئا فريا!! أفعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموهم وراء ظهوركم؟ إذ يقول: *(وورث سليمان داود)*. وقال - فيما اقتص من خبر زكريا - إذ قال:

ص 174

*(فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب)*. وقال: *(وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله)*. وقال: *(يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين)*. وقال: *(إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين)*. وزعمتم أن لا حظوة لي! ولا إرث من أبي! أفخصكم الله بآية أخرج أبي منها؟ أم تقولون: إن أهل ملتين لا يتوارثان؟ أولست أنا وأبي من أهل ملة واحدة؟

ص 175

أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمي؟ فدونكها مخطومة مرحولة. تلقاك يوم حشرك فنعم الحكم الله، والزعيم محمد، والموعد القيامة، وعند الساعة يخسر المبطلون. ولا ينفعكم إذ تندمون، ولكل نبأ مستقر، فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه، ويحل عليه عذاب مقيم. ثم رمت بطرفها نحو الأنصار فقالت: يا معشر النقيبة، وأعضاد الملة، وحضنة الإسلام. ما هذه الغميزة في حقي؟ والسنة عن ظلامتي؟ أما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أبي يقول: المرء يحفظ في ولده؟ . سرعان ما أحدثتم، وعجلان ذا إهالة، ولكم طاقة بما أحاول، وقوة على ما أطلب وأزاول.

 

الصفحة السابقة الصفحة التالية

سيرة فاطمة الزهراء (ع)

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب