سلسلة الأعلام (ج3)

الصفحة السابقة

سلسلة الأعلام (ج3)

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب

ص 101

حكومة عادلة، أو سنة فاضلة، أو أثر عن نبينا (صلى الله عليه وآله). وأنا أسأل الله بسعة رحمته وعظيم قدرته على إعطاء كل رغبة أن يوفقني وإياك لما فيه رضاه من الإقامة على العذر الواضح إليه وإلى خلقه، مع حسن الثناء في العباد وجميل الأثر في البلاد، وتمام النعمة وتضعيف الكرامة، وأن يختم لي ولك بالسعادة والشهادة، وإنا إليه راغبون، والسلام على رسوله صلى الله عليه وآله الطيبين الطاهرين وسلم تسليما كثيرا، والسلام.

 مصادر البحث:

 معجم رجال الحديث - للسيد الخوئي 14 ص 161. الأعلام للزركلي ج 5 ص 259. كتاب مالك الأشتر - قيس العطار طبع قم. أعيان الشيعة ج 9 ص 38. من مدرسة الإمام للسيد بحر العلوم ص 23.

ص 102

الإصابة ج 3 ص 482. طبقات ابن سعد 6 / 213. سفينة البحار 1 / 686. بحار الأنوار 8 / 466. مروج الذهب 2 / 400. الإمامة والسياسية 1 / 124. شرح النهج 1 / 185. مجموعة مؤلفات طه حسين - الخلفاء الراشدين 4 / 304 - 308 و324.

ص 103

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

*(إن الله مع الذين إتقوا * والذين هم محسنون)*(1)

 

 

كميل بن زياد:

 

وهو احد  الحواريون خريجوا مدرسة الرسول الأعظم وأمير المؤمنين صلوات الله عليهم أجمعين

(هامش)

(1) النحل: 128. (*)

ص 104

كميل بن زياد

ولد كميل بن زياد قبل الهجرة النبوية بعدة سنين في اليمن. وكانت عائلته واحدة من أكبر العائلات المعروفة باليمن، قدمت هذه القبيلة خدمات جليلة للإسلام، فمالك الأشتر، وهلال بن نافع، وسوادة بن عام، وغيرهم كلهم من قبيلة كميل بن زياد. سكن معظم أفراد هذه القبيلة بعد الإسلام في الكوفة. يعتبر كميل بن زياد من التابعين، ومن حواري أمير المؤمنين (عليه السلام)، ولم يسجل التاريخ بأن كميل كانت له فعاليات في عهد الخلفاء الثلاثة بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله)، ولكن ورد بأن الحجاج قتله بتهمة الإشتراك في قتل عثمان. لقد بدأت حياة كميل الجهادية المشرقة في عهد الإمام علي (عليه السلام) وقد أعتبر من كبار أنصاره ومؤيديه خلال فترة خلافته.

ص 105

لقد بلغ قرب كميل من الإمام (عليه السلام) إلى درجة أنه كان يخرج معه في جوف الليل للمناجاة، وبثه بعض الحكم والأسرار. وعندما استلم الإمام (عليه السلام) زمام أمور المسلمين، عزل بعض الولاة والقادة غير المؤهلين، وعين مكانهم من هو أهل لهذه المناصب، وضمن سلسلة التعيينات هذه، عين الإمام (عليه السلام) كميلا واليا وحاكما على مدينة هيت التي تقع على نهر الفرات في العراق، وطلب منه أن يقف بحزم في وجه أطماع معاوية. وقد بلغت ثقة الإمام (عليه السلام) ب‍ كميل بن زياد إلى درجة أنه كتب إلى كاتب بيت المال عبيد الله بن أبي رافع يقول فيه سيصلك عشرة من الثقاة لإجراء تصفية الحسابات الخاصة والمتعلقة ببيت المال، فلما استفسر عبيد الله عن أسمائهم، سماهم الإمام (عليه السلام) وكان كميل بن زياد أحدهم، وكان لفترة مسؤولا عن بيت المال. كما كان على مستوى رفيع من العلم والمعرفة

ص 106

والفضيلة، مع زهد، وعبادة، وحيطة في كل أموره لا سيما في عقيدته ودينه، وكان كثير السؤال من الإمام (عليه السلام) في شتى الأمور، وكان الإمام (عليه السلام) يجيبه عنها ويهتم بها لا سيما بأسئلته العلمية والفقهية ضمن سلسلة من المواعظ والحكم، على مسمع من الحاضرين ليستفيدوا منه. إن تعليم الإمام (عليه السلام) الدعاء المشهور باسمه، وما جاء فيه من رفيع الأدب، وفنون التهجد والعبادة، لدليل على ما كان يتمتع به (كميل) من المعرفة العالية، والمنزلة الرفيعة والقابليات الفذة التي تستوعب ذلك، وكان دائم الحضور في مجلس الإمام (عليه السلام) أيام تواجده في الكوفة. اصطحب الإمام (عليه السلام) ذات ليلة كميلا إلى خارج الكوفة، ولما أشرف على الصحراء، تنفس الصعداء وتأوه ثم قال: يا كميل: الناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق. يا كميل: العلم خير من المال، والعلم يحرسك

ص 107

وأنت تحرس المال، المال تنقصه النفقة، والعلم يزكو على الإنفاق، وصنيع المال يزول بزواله. يا كميل: العلم دين يدان به، به يكسب الانسان الطاعة في حياته، وجميل الأحدوثة بعد وفاته، والعلم حاكم والمال محكوم عليه. يا كميل: هلك خزان الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة [مشهودة] (1) ها... إن ههنا لعلما جما (وأشار إلى صدره) لو أصبت له حملة، بلى أصبت لقنا غير مأمون عليه، مستعملا آلة الدين للدنيا، ومستظهرا بنعم الله على عباده، وبحجته على أوليائه، أو منقادا لحملة الحق لا بصيرة له في أحنائه، يتقدح الشك في قلبه لأول عارض من شبهة، ألا لا ذا، ولا ذاك، أو منهوما باللذات سلس

(هامش)

(1) رحم الله الشاعر صالح الجعفري: حيث ترجم هذا المقطع بقوله: وأرى المال كالرجال فبعض * مات حيا وآخر عاش ميتا (*)

ص 108

القيادة للشهوة، أو مغرما بالجمع والإدخار ليسا من رعاة دين في شيء، أقرب شيء شبها بهما الأنعام السائمة، كذلك يموت العلم بموت حامله. اللهم بلى، لا تخلو الأرض من حجج الله وبيناته، وكم ذا؟ وأين أولئك؟ أولئك والله الأقلون عددا، والأعظمون قدرا يحفظ الله بهم حججه وبيناته حتى يودعوها نظراءهم، ويزرعونها في قلوب أشباههم، هجم المترفون بهم العلم على حقيقته البصيرة، وباشروا روح اليقين، واستلانوا ما استوعره المترفون، وأنسوا بما إستوحش منه الجاهلون، وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى. أولئك خلفاء الله في أرضه والدعاة إلى دينه، آه، آه، شوقا إلى رؤيتهم ثم قال: انصرف إذا شئت. ومن كلام له (عليه السلام) لكميل بن زياد: يا كميل، مر أهلك أن يروحوا في كسب المكارم، ويدلجوا في حاجة من هو نائم، فوالذي وسع سمعه

ص 109

الأصوات، ما من أحد أودع قلبا سرورا إلا وخلق الله له من ذلك السرور لطفا، فإذا نزلت به نائبة جرى إليها كالماء في انحداره، حتى يطرفها عنه كما تطرف غريبة الإبل. عاد الإمام (عليه السلام) يوما من سفرة له وكان بصحبته كميل بن زياد، إنتهز الفرصة وسأل الإمام (عليه السلام) عن الحقيقة؟ فأجابه الإمام (عليه السلام): إنك لا تستطيع تحمل كنه الحقيقة، ولكنه على ذلك، فشرح له الإمام (عليه السلام) بعض تلك الحقائق، وطلب منه المزيد، فكان يشرح له ذلك بقدر استيعابه. إن الأسرار التي تعلمها كميل بن زياد من مولاه أمير المؤمنين (عليه السلام) كثيرة قل ما يدركها، ويتعلمها، ويعرفها من نخبة أصحابه (عليه السلام) أمثال أبو ذر، وعمار، وأويس القرني، ومحمد بن أبي بكر، وعمرو بن الحمق الخزاعي، وغيرهم من خواص أصحابه وحواريه.

ص 110

ومن وصايا الإمام (عليه السلام) حين احتضاره لكميل:

 قائلا له: يا كميل: لا تجالس المنافقين، ولا تصاحب الظالمين، لكي لا يشملك غضب الله. كان كميل يصاحب الإمام (عليه السلام) مصاحبة الظل صاحبه، ويستوعب كل كلمة تصدر منه (عليه السلام) يسهر معه ويجالسه في الليالي في مسجد الكوفة إلى ساعات متأخرة يستفيد من حكمه، ومواعظه، وفي ذات ليلة خرج الإمام (عليه السلام) من المسجد وتبعه كميل، وهما يتجولان بين الشوارع والأزقة، إذ سمع كميل قراءة قرآن بصوت خاشع، متأثرا بكلام الله، وهو يتلو هذه الآية: *(أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجوا رحمة ربه * قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون)*، وقد تأثر كميل بهذه القراءة، وبهذا الصوت الشجي، وتمنى في نفسه أن يكون شعرة في جسم ذلك القارئ.

ص 111

التفت الإمام (عليه السلام) إلى كميل وقال: لا تتأثر بهذا الصوت فإن صاحبه من أهل النار، وسأخبرك بهذا السر في المستقبل . وقد أدهش كلام الإمام (عليه السلام) كميلا لسببين، أولا معرفة الإمام بتأثر كميل بصوت القارئ، والسبب الثاني علمه بالغيب، وإخباره بأن صاحب الصوت من أهل النار. وتمر الليالي والأيام، وتمرد بعض القراء وأهل الجباه السود من السجود، وخرجوا على الإمام في النهروان، ونشب القتال مع الخوارج وانتهت المعركة بقتل الخوارج، ومر الإمام (عليه السلام) على القتلى، وكان معه كميل بن زياد، ووضع رأس سيفه على أحدهم، وقال لكميل: إن هذا المقتول هو ذلك الشخص الذي كان يقرأ القرآن في تلك الليلة، وأنت معجب به، فاهتز كميل من الأعماق، ورمى بنفسه على قدم الإمام (عليه السلام) يعتذر ويطلب من الله العفو والمغفرة.

ص 112

مكانته:

كان كميل إلى جانب عبادته وزهده، بطلا مقداما في معظم الميادين التي مرت على الإمام (عليه السلام) ولم يقف مكتوف الأيدي تجاه الأحداث. ذكر صاحب الإصابة في كتابه الجزء 3 ص 318 ما يلي: 1 - كميل بن زياد بن نهيك، التابعي الشهير - له إدراك كامل. 2 - مات سنة 82 للهجرة، وهو ابن سبعين عاما [بل استشهد على يد الطاغية الحجاج الثقفي فيمن استشهد من أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام)]. 3 - أدرك من حياة النبوة ولم يره. 4 - روى عنه عبد الرحمان بن عابس، وأبو إسحق السبيعي، والأعمش وغيرهم. 5 - قال ابن سعد: شهد صفين مع علي (عليه السلام)، وكان شريفا في قومه مطاعا، ثقة قليل الحديث. 6 - وقال ابن عمار: كان كميل بن زياد من رؤساء

ص 113

الشيعة البارزين. وذكر السيد الخوئي (قدس سره) في معجم رجال الحديث ج 14 ص 128: كميل بن زياد النخعي، عده الشيخ في أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) وفي أصحاب الإمام الحسن (عليه السلام)، وعده البرقي من أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) من اليمن. وعده الشيخ المفيد في الاختصاص، من السابقين المقربين من أمير المؤمنين (عليه السلام) عند ذلك السابقين المقربين، وذكر قصته مع الحجاج واستشهاده سأذكرها في نهاية البحث والترجمة إن شاء الله. ذكر صاحب الأعلام الزركلي ج 5 ص 234: كميل بن زياد النخعي، تابعي ثقة، من أصحاب علي بن أبي طالب (عليه السلام) كان شريفا مطاعا في قومه: شهد صفين مع علي (عليه السلام) وسكن الكوفة وروى الحديث، قتله الحجاج الثقفي. تحت عنوان ثقاة أمير المؤمنين . أمر الإمام كاتبه عبيد الله بن أبي رافع أن يدخل

ص 114

عليه عشرة من ثقاته، فقال: سمهم لي يا أمير المؤمنين، فسماهم جميعا، وكان أحدهم كميل بن زياد. ولما كتب عثمان إلى الأشتر كتابا وورد على الأشتر وقرأه عزم على الخروج عن الكوفة، وأرسل إليه سعيد بن العاص أن أخرج وأخرج من كان معك على رأيك، فأرسل إليه الأشتر أنه ليس بالكوفة أحد إلا وهو يرى رأيي فيما أظن، لأنهم لا يحبون أن تجعل بلادهم بستانا لك ولقومك، وأنا خارج فيمن اتبعني فانظر فيما يكون من بعد هذا. قال: ثم خرج الأشتر من الكوفة ومعه أصحابه وهم صعصعة بن صوحان العبدي وأخوه (1) وعائذ بن حملة الظهري، وجندب بن زهير الأزدي (2)، والحارث بن عبد الله الأعور الهمداني، وأصفر بن قيس الحارثي،

(هامش)

(1) هو زيد بن صوحان العبدي (الطبري 5 / 90). (2) الطبري: الغامدي. وفي البداية والنهاية 7 / 186: العامري. (*)

ص 115

ويزيد بن المكفف، وثابت بن قيس بن مقنع، وكميل بن زياد ومن أشبههم من إخوانهم (1)، حتى صاروا إلى كنيسة يقال لها كنيسة مريم، فأرسل إليهم معاوية فدعاهم، فجاؤوا حتى دخلوا ثم سلموا وجلسوا، فقال لهم معاوية: يا هؤلاء! اتقوا الله *(ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات)*(2)، قال: ثم سكت معاوية، قال له كميل بن زياد: يا معاوية! *(فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه)*(3) فنحن أولئك الذين هداهم الله، فقال له معاوية: كلا يا كميل! إنما أولئك الذين أطاعوا الله ورسوله وولاة الأمر فلم يدفنوا محاسنهم ولا أشاعوا مساوئهم، فقال كميل: يا معاوية! لولا أن عثمان بن عفان وفق منك بمثل هذا الكلام

(هامش)

(1) قارن الأسماء في رواية الطبري 5 / 88 و5 / 90، والبداية والنهاية 7 / 186 وفيه: وكانوا عشرة، وقيل: تسعة وهو الأشبه ولم يذكر سوى ثمانية. (2) آل عمران (105). (3) البقرة (213). (*)

ص 116

وهذه الخديعة لما اتخذك لنا سجنا. فقال له الأشتر: يا كميل! ابتدأنا بالمنطق وأنت أحدثنا سنا، قال: فسكت كميل وتكلم الأشتر فقال: أما بعد! فإن الله تبارك وتعالى أكرم هذه الأمة برسوله محمد (صلى الله عليه وآله)، فجمع به كلمتها وأظهرها على الناس، فلبث بذلك ما شاء الله أن يلبث، ثم قبضه الله عز وجل إلى رضوانه ومحل جنانه كثيرا، ثم ولي من بعده قوم صالحون عملوا بكتاب الله وسنة نبيه محمد (صلى الله عليه وآله) وجزاهم بأحسن ما أسلفوا من الصالحات، ثم حدثت بعد ذلك أحداث فرأى المؤمنون من أهل طاعة الله أن ينكروا الظلم وأن يقولوا بالحق فإن أعاننا ولاتنا أعفاهم الله من هذه الأعمال التي لا يحبها أهل الطاعة، فنحن معهم ولا نخالف عليهم، وإن أبوا ذلك فإن الله تبارك وتعالى قد قال في كتابه وقوله الحق: *(وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما

ص 117

يشترون)*(1)، فلسنا يا معاوية! بكاتمي برهان الله عز وجل ولا بتاركي أمر الله لمن جهله حتى يعلم مثل الذي علمنا، وإلا فقد غششنا أئمتنا وكنا كمن نبذ الكتاب وراء ظهره، فقال له معاوية: يا أشتر! إني أراك معلنا بخلافنا مرتضيا بالعداوة لنا، والله لأشدن وثاقك ولأطيلن حبسك. فقال له عمرو بن زرارة (2): يا معاوية! لئن حبسته لتعلمن أن له عشيرة كثيرة عددها لا يضام، شدها شديد على من خالفها ونبزها، فقال معاوية: وأنت يا عمرو تحب أن يضرب عنقك ولا تترك حيا، اذهبوا بهم إلى السجن. قال: فذهبوا بهم إلى السجن، فقام يزيد بن المكفكف فقال: يا معاوية! إن القوم بعثوا بنا إليك لم يكن بهم عجز في حبسنا في بلادنا لو أرادوا ذلك، فلا تؤذينا

(هامش)

(1) آل عمران (187). (2) لم يرد ذكره فيمن أخرجوا من الكوفة، ولعله كان حاضرا معهم. (*)

ص 118

وأحسن مجاورتنا ما جاورناك، فما أقل ما نجاورك حتى نفارقك إن شاء الله تعالى. قال: ثم وثب صعصعة بن صوحان فقال: يا معاوية! إن مالك بن الحارث الأشتر وعمرو بن زرارة رجلان لهما فضل في دينهم وحالة حسنة في عشيرتهم وقد حبستهم، فأمر بإخراجهم فذلك أجمل من الرأي، فقال معاوية: علي بهم، فأتي بهم من الحبس وأطلق سراحهم، ثم قال: كيف ترون عفوي عنكم يا أهل العراق؟ فقام صعصعة وقال: يا معاوية! إننا لا نرى لمخلوق طاعة في معصية الخالق، فقال معاوية قاتلك الله يا صعصعة! قد أعطيت لسانا حديدا، أخرج عني، أخرجك الله إلى النار! فلعمري أنك حدث (1) فخرج القوم من عند معاوية وصاروا إلى منازلهم، فلم يزالوا مقيمين بالشام، وقد وكل بهم حراس يحفظونهم حتى لا يبرحوا.

(هامش)

(1) انظر معاوية وصعصعة بن صوحان العبدي في الطبري 5 / 89، وابن الأثير 2 / 270. (*)

ص 119

ثم إن معاوية كتب إلى عثمان بشأنهم فرد عليه أن يسيرهم إلى الكوفة، فلما وصلوا كتب سعيد بن العاص إلى عثمان مجددا بشأنهم، فبعث إليه عثمان أن سيرهم إلى حمص، إلى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، فسيرهم سعيد بن العاص إلى حمص (1). روى الواقدي، قال: لما سير بالنفر الذين طردهم عثمان عن الكوفة إلى حمص وهم: مالك الأشتر، وثابت بن قيس الهمداني، وكميل بن زياد النخعي، وزيد بن صوحان، وأخوه صعصعة بن صوحان، وجندب بن زهير الغامدي، وجندب بن كعب الأزدي، وعروة بن الجعد، وعمرو بن الحمق الخزاعي، وابن الكواء. جمعهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد [والي حمص] بعد أن أنزلهم أياما، وفرض لهم طعاما ثم قال لهم يا بني الشيطان، لا مرحبا بكم ولا أهلا، وبعد أن سبهم

(هامش)

(1) الطبري 5 / 89 - 90. (*)

ص 120

وأهانهم، وهددهم، وتوعدهم فأقاموا عنده شهرا، وكان يقول لصعصعة مالك لا تقول كما كنت تقول لسعيد بن العاص أو لمعاوية! فيقولون: أقلنا أقالك الله! فما زال ذلك رأيهم، حتى قال: تاب الله عليكم، فكتب إلى عثمان يسترضيه عنهم، ويسأله فيهم، فردهم إلى الكوفة. رسالة مالك الأشتر إلى عثمان بيد كميل بن زياد كتب مالك الأشتر رسالة إلى عثمان، بيد رجال يثق بهم وفي مقدمتهم كميل بن زياد.

ص 121

وحين وصول الوفد إلى المدينة، قصدوا دار الخلافة فسلم بعضهم على عثمان بالخلافة، وبعضهم لم يفعل، فسئلوا لم لم تسلموا على الخليفة بالإمرة فقال كميل بن زياد: بسبب الأعمال والأخطاء التي عملها، فإن عاد عنها وتاب منها وسلك نهج الصواب فهو أميرنا. وإلا فليس بأمير لنا. فسألوه: ما هي مطالبكم؟ وما أهدافكم؟ فقالوا أولا: أن لا نخرج من أوطاننا المألوفة ولا نفارق عيالنا وأولادنا، وأن توصل إلينا رواتبنا، وأن لا يرسل إلينا شبابا أغرارا من أقاربه يتأمرون علينا، وقد اتبعوا أهواءهم وشهواتهم وأن لا يقدم الأشرار على الأخيار، فقال عثمان: أي أشرار قدمتهم على أخياركم؟... الخ (1).

(هامش)

(1) كتاب الفتوح 2 / 401. (*)

ص 122

كميل بن زياد في معركة الجزيرة مع جيش معاوية:

 في كتاب الفتوح ج 4 ص 227، 228 وجه معاوية برجل من أهل الشام يقال له عبد الرحمن بن أشم، في خيل من أهل الشام إلى بلاد الجزيرة، وبالجزيرة يومئذ شبيب بن عامر وفي بعض المصادر شبث بن ربعي، وكان من أصحاب أمير المؤمنين، ومن زعماء أهل الكوفة، وهو الذي صار فيما بعد على جناح من جيش بني أمية لمحاربة الحسين (عليه السلام) في كربلاء. وكان في ستمائة رجل مسلح مقيما بنصيبين لحراسة الجزيرة من قبل أمير المؤمنين، فكتب إلى كميل بن زياد: أما بعد، فإني أخبرك أن عبد الرحمن بن أشم قد وصل إلي من الشام في خيل عظيمة، ولست أدري أين يريد؟ فكن على حذر، والسلام. وكان كميل

ص 123

بن زياد عاملا لأمير المؤمنين (عليه السلام) في هيت. فكتب إليه كميل: أما بعد، فقد فهمت كتابك وأنا سائر إليك بمن معي في الخيل، والسلام. ثم استخلف كميل بن زياد رجلا يقال له عبد الله بن وهب الراسبي، على رأس حراسة مسلحة. وخرج من هيت في أربعمائة فارس وقيل في ستمائة فارس كلهم أصحاب بيض ودروع حتى سار إلى شبيب بنصيبين، وخرج شبيب من نصيبين في ستمائة رجل، فساروا جميعا في ما ينيف على الألف فارس، يريدون عبد الرحمن بن أشم، وكان يومئذ بمدينة يقال لها كفرتوثا في جيش لجب من أهل الشام. فأشرفت خيل أهل العراق على خيل أهل الشام، وجعل كميل بن زياد يرتجز ويقول: يا خير من جبر له خير القدر * تالله ذو الآلاء أعلى وأبر يخذل من شاء ومن شاء نصر

ص 124

كما جعل شبيب يرتجز ويقول: تجنبوا شدات ليث ضيغم * جهم محيا عقريان شدقم يغادر القرن صريعا للفم * بكل عضب صارم مصمم واختلط القوم فاقتتلوا قتالا شديدا، فقتل من أصحاب كميل رجلان، ومن أصحاب شبيب أربعة رجال، ووقعت الهزيمة على أهل الشام فقتل منهم بشر كثير، فولوا الأدبار منهزمين نحو الشام. القتلى والجرحى عشرات، فأمر كميل بن زياد أصحابه أن لا يتبعوا المنهزمين المدبرين، ولا يجهزوا على جريح. ثم رجع شبيب بن عامر إلى نصيبين، ورجع كميل بن زياد إلى هيت وبلغ ذلك عليا (عليه السلام) فكتب إلى كميل بن زياد أما بعد: فالحمد لله الذي يصنع للمرء كيف يشاء، وينزل النصر على من يشاء إذا شاء، فنعم المولى ربنا ونعم النصير، وقد أحسنت النظر للمسلمين ونصحت إمامك، وقدما كان ظني بك ذلك فجزيت والعصابة التي نهضت

ص 125

بهم إلى حرب عدوك خير ما جزي الصابرون والمجاهدون، فانظر لا تغزون غزوة ولا تجلون إلى حرب عدوك خطوة بعد هذا حتى تستأذنني في ذلك، كفانا الله وإياك تظاهر الظالمين، إنه عزيز حكيم، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته. ثم كتب إلى شبيب بن عامر بمثل هذه النسخة ليس فيها زيادة غير هذه الكلمات: واعلم يا شبيب إن الله ناصر من نصره وجاهد في سبيله، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته. روى جرير عن المغيرة قال: لما ولي الحجاج في طلب كميل بن زياد فهرب منه، فحرم قومه عطاءهم، فلما رأى كميل ذلك قال: أنا شيخ كبير فقد نفذ عمري، لا ينبغي أن أحرم قومي عطياتهم، فخرج فدفع بيده إلى الحجاج، فلما رآه قال له: لقد كنت أحب أن أجد عليك سبيلا، فقال له كميل: لا تصرف علي أنيابك ولا تهدم علي، فوالله ما بقي من عمري إلا مثل كواسل الغبار،

ص 126

فاقض ما أنت قاض فإن الموعد الله وبعد القتل الحساب، ولقد خبرني أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) إنك قاتلي، قال: فقال له الحجاج: الحجة عليك إذن، فقال كميل: ذاك إن القضاء كان إليك، قال: بلى قد كنت فيمن قتل عثمان بن عفان، اضربوا عنقه فضربت عنقه (1)، فقتل صابرا محتسبا وصعدت روحه الطاهرة إلى مصاف أرواح الصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. والسلام عليه يوم ولد، ويوم آمن وجاهد، ويوم استشهد ويوم يبعث حيا. والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الطاهرين.

(هامش)

(1) الإصابة 3 / 318، ونقله المجلسي في البحار 42 / 148 ح 12. (*)

ص 127

مصادر البحث:

 الإصابة 3 / 318. معجم رجال الحديث 14 / 128. الأعلام للزركلي 5 / 234. الإرشاد للمفيد 1 / 327. تهذيب التهذيب 8 / 448. الكامل لابن الأثير 3 / 150. جمهرة الأنساب 390. شرح النهج 2 / 134، 17 / 149، 18 / 346، 19 / 99. الطبقات الكبرى لابن سعد 6 / 179. تاريخ الطبري ج 5 ص 90. البداية والنهاية ج 7 ص 186. كتاب الفتوح ج 2 ص 401.

 

الصفحة السابقة

سلسلة الأعلام (ج3)

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب