الصفحة السابقة الصفحة التالية

جامع السعادات (ج3)

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب

ص 176

في التوكل تفنيد زعم طريق تحصيل التوكل. * * * التوكل اعتماد القلب في جميع الأمور على الله وبعبارة أخرى: حوالة العبد جميع أموره على الله، وبعبارة أخرى: هو التبري من كل حول وقوة، والاعتماد على حول الله وقوته. وهو موقوف على أن يعتقد اعتقاد جازما بأنه لا فاعل إلا الله، وأنه لا حول ولا قوة إلا بالله وأن له تمام العلم والقدرة على كفاية العباد، ثم تمام العطف والعناية والرحمة بجملة العباد والآحاد، وأنه ليس وراء منتهى قدرته قدرة، ولا وراء منتهى علمه علم، ولا وراء منتهى عنايته عناية. فمن اعتقد ذلك اتكل قلبه لا محالة على الله وحده، ولم يلتفت إلى غيره، ولا إلى نفسه أصلا. ومن لم يجد ذلك من نفسه، فسببه إما ضعف اليقين، أو ضعف القلب، ومرضه باستيلاء الجبن عليه وانزعاجه بسبب الأوهام الغالبة عليه. فإن القلب الضعيف ينزعج تبعا للوهم، وطاعة له من غير نقصان في اليقين، كانزعاجه أن يبيت مع ميت في قبر أو فراش، مع يقينه بأنه جماد في الحال لا يتصور منه أضرار، فلا ينبغي أن يخاف منه ويفر عنه، كما لا يفر من سائر الجمادات. وكذا من كان ضعيف القلب وتناول العسل - مثلا -، فشبه العسل بين يديه بالعذرة، فربما نفر طبعه لضعف قلبه وتعذر عليه أن يتناوله، مع يقينه بأنه عسل ولا مدخلية للعذر فيه. فالتوكل لا يتم إلا بقوة اليقين وقوة القلب جميعا، إذ بهما يحصل سكون القلب وطمأنينته. فالسكون في القلب شيء آخر، واليقين شيء آخر. فكم من يقين لا طمأنينة معه، كما قال تعالى: (أو لم تؤمن؟ قال: بلى ولكن ليطمئن قلبي) (29). فالتمس أن يشاهد إحياء الميت بعينه ليثبت اليقين في خياله، فإن النفس تتبع الخيال وتطمئن به، ولا تطمئن باليقين في ابتداء أمره إلى أن تبلغ درجة النفس المطمئنة، وذلك لا يكون في البداية. وكم من مطمئن لا يقين له، كأرباب الملل والمذاهب الباطلة. فإن اليهودي مطمئن القلب إلى تهوده، وكذا النصراني، ولا يقين لهما أصلا، وإنما يتبعون الظن وما

(هامش)

(29) البقرة، الآية: 260 (*)

ص 177

تهوى الأنفس. وإذا توقف التوكل على اليقين وقوة القلب، وارتفع بضعف أحدهما، يظهر أن التوكل من الفضائل المتعلقة بقوتي العاقلة الغضبية معا، وضده - أعني عدم التوكل - من رذائل أحدهما أو كليهما. ثم، إنك قد عرفت في باب التوحيد، أن عماد التوكل وما يبتني عليه، هو المرتبة الثالثة من التوحيد، وهي أن ينكشف للعبد بإشراق نور الحق، بأنه لا فاعل إلا هو، وإن ما عداه من الأسباب والوسائط مسخرات مقهورات تحت قدرته الأزلية. فطالب التوكل يلزم عليه أن يحصل هذه المرتبة من التوحيد ليحصل له التوكل. وقد عرفت - أيضا - أن المرتبة الثانية منه - أعني التوحيد الاعتقادي - إذا قويت ربما أورثت حال التوكل، إلا أن التوكل كما ينبغي موقوف على المرتبة الثالثة منه.

فصل فضيلة التوكل

التوكل منزل من منازل السالكين ومقام من مقامات الموحدين، بل هو أفضل درجات الموقنين. ولذا ورد في مدحه وفضله وفي الترغيب فيه ما ورد من الكتاب والسنة، قال الله - تعالى -: (وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين) (30) وقال: (وعلى الله فليتوكل المؤمنون) (31). وقال: (إن الله يحب المتوكلين) (32). وقال: (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) (33). وقال: (ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم) (34): أي عزيز لا يذل من استجار به، فلا يضع من لاذ بجنابه، وحكيم لا يقصر عن تدبير من توكل على تدبيره. وقال رسول الله (ص): (من انقطع إلى الله، كفاه الله كل مؤنة، ورزقه من حيث لا يحتسب. ومن انقطع إلى الدنيا وكله الله إليها). وقال (ص): (من سره أن يكون

(هامش)

(30) المائدة، الآية: 26 (31) آل عمران، الآية: 122، 160، المائدة الآية: 12، التوبة، الآية 52 إبراهيم، إبراهيم، الآية: 11 المجادلة، الآية 10 التغابن الآية: 13. (32) آل عمران، الآية 159 (33) الطلاق، الآية: 3 (34) الانفعال، الآية: 50 (*)

ص 178

أغنى الناس، فليكن بما عند الله أوثق منه بما في يده). وقال (ص): (لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله، لرزقتم كما ترزق الطيور تغدو خماصا وتروح بطانا). وعن علي بن الحسين - عليهما السلام - قال: (خرجت حتى انتهيت إلى هذا الحائط، فاتكأت عليه، فإذا رجل عليه ثوبان أبيضان ينظر في تجاه وجهي، ثم قال: يا علي بن الحسين! ما لي أراك كئيبا حزينا؟ أعلى الدنيا؟ فرزق الله حاضر للبر والفاجر. قلت: ما على هذا أحزنت، وإنه لكما تقول. قال: فعلى الآخرة؟ فوعد صادق يحكم فيه ملك قاهر قادر. قلت: ما على هذا أحزن، وإنه لكما تقول. فقال: مم حزنك؟ قلت مما نتخوف من فتنة ابن الزبير وما فيه للناس. قال: فضحك، ثم قال: يا علي بن الحسين! هل رأيت أحدا دعا الله فلم يجبه؟ قلت: لا! قال: فهل رأيت أحدا توكل على الله فلم يكفه؟ قلت: لا! قال: فهل رأيت أحدا سأل الله فلم يعطه؟ قلت: لا!... ثم غاب عني)، ولعل الرجل كان هو الخضر - على نبينا وعليه السلام - وقال الصادق (ع): (أوحى الله إلى داود: ما اعتصم بي عبد من عبادي دون أحد من خلقي، عرفت ذلك من نيته، ثم تكيده السماوات والأرض ومن فيهن، إلا جعلت له المخرج من بينهن). وقال (ع): (إن الغنى والعز يجولان، فإذا ظفرا بموضع التوكل أوطنا) وقال (ع): (من أعطى ثلاثا لا يمنع ثلاثا: من أعطى الدعاء أعطى الإجابة، ومن أعطى الشكر أعطى الزيادة، ومن أعطى التوكل أعطى الكفاية ثم قال: أتلوت كتاب الله - عز وجل - (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) وقال: (ولئن شكرتم لأزيدنكم)، وقال: (ادعوني استجب لكم)؟) وقال (ع): (إيما عبد أقبل قبل ما يحب الله - تعالى - أقبل الله قبل ما يحب ومن اعتصم بالله عصمه الله، ومن أقبل الله قبله وعصمه، لم يبالي لو سقطت السماء على الأرض، أو كانت نازلة نزلت على أهل الأرض فتشملهم بلية، كان في حزب الله بالتقوى من كل بلية، أليس - تعالى - يقول: (إن المتقين في مقام أمين)؟). وقال (ع) (إن الله - تعالى - يقول: وعزتي وجلالي ومجدي وارتفاعي على عرشي! لأقطعن أمل كل مؤمل من الناس في غيري باليأس، ولأكسونه ثوب المذلة عند الناس، ولأنحينه من قربي

ص 179

ولأبعدنه من وصلي، أيؤمل غيري في الشدائد والشدائد بيدي؟ ويرجو غيري؟ ويقرع بالفكر باب غيري، وبيدي مفاتيح الأبواب وهي مغلقة؟ وبابي مفتوح لمن دعاني، فمن ذا الذي أملني لنوائبه فقطعته دونها، ومن ذا الذي رجاني لعظيمة فقطعت رجاءه مني؟ جعلت آمال عبادي عندي محفوظة، فلم يرضوا بحفظي، وملأت سماواتي ممن لا يمل من تسبيحي، وأمرتهم ألا يغلقوا الأبواب بيني وبين عبادي، فلم يثقوا بقولي، ألم يعلم من طرقته نائبة من نوائبي أنه لا يملك كشفها أحد غيري إلا من بعد أذني؟ فما لي أراه لاهيا عني؟ أعطيته بجودي ما لم يسألني، ثم انتزعته عنه فلم يسألني رده، وسأل غيري، أفتراني أبدأ بالعطاء قبل المسألة؟ ثم أسأل فلا أجيب سائلي؟ أبخيل أنا فيبخلني عبدي؟ أو ليس الجود والكرم لي؟ أو ليس العفو والرحمة بيدي؟ أولست أنا محل الآمال؟ فمن يقطعها دوني؟ أفلا يخشى المؤملون أن يؤملوا غيري؟ فلو أن أهل سماواتي وأهل أرضي أملوا جميعا، ثم أعطيت كل واحد منهم مثلما أمل الجميع، ما انتقص من ملكي مثل عضو ذرة، وكيف ينقص ملك أنا قيمه؟ فيا بؤسا للقانطين من رحمتي! ويا بؤسا لمن عصاني ولم يراقبني! (35)

فصل درجات التوكل

للتوكل في الضعف والقوة ثلاث درجات: الأول - أن يكون حاله في حق الله والثقة بعنايته وكفالته كحاله بالثقة بالوكيل، وهذه أضعف الدرجات ويكثر وقوعها ويدوم مدة مديدة، ولا ينافي أصل التدبير والاختيار بل ربما زاول كثيرا من التدبيرات بسعيه واختياره. نعم ينافي بعض التدبير، كالتوكل على وكيله في الخصومة، فإنه يترك تدبيره من غير جهة الوكيل، ولكن لا يترك التدبير الذي أشار إليه

(هامش)

(35) صححنا الأحاديث على (أصول الكافي): ج 2، باب التفويض إلى الله والتوكل عليه وعلى (البحار): باب التوكل والتفويض والرضا: مج 15 2 / 153، ط (أمين الضرب). وللعلامة (المجلسي) - قدس سره - في الموضع المذكور، في الحديث الخامس، تحقيق دقيق وبيان لطيف، لا يسع المقام ذكره هنا، فمن أراد الوقوف عليه، فعليه بمراجعة الموضع المذكور. (*)

ص 180

وكيله، ولا التدبير الذي عرفه من عادته وسنته دون تصريح إشارته. الثانية - أن تكون حاله مع الله كحال الطفل مع أمه، فإنه لا يعرف غيرها، ولا يفزع إلا إليها، ولا يعتمد إلا عليها. فإن رآها تعلق في كل حال بذيلها، وإن ورد عليه أمر في غيبتها كان أول سابق لسانه يا أماه!. والفرق بين هذا وسابقه، إن هذا متوكل قد فنى في موكله عن توكله، أي ليس يلتفت قلبه إلى التوكل، بل التفاته إنما هو إلى المتوكل عليه فقط، فلا مجال في قلبه لغير المتوكل عليه. وأما الأول فتوكل بالكسب والتكلف، وليس فانيا عن توكله، أي له التفات إلى توكله، وذلك شغل صارف عن ملاحظة المتوكل عليه وحده. وهذا أقل وقوعا ودواما من الأول إذ حصوله إنما هو للخواص، وغاية دوامه أن يدوم يوما أو يومين، وينافي التدبيرات، إلا تدبير الفزع إلى الله بالدعاء والابتهال، كتدبير الطفل في التعلق بأمه فقط. الثالثة - وهي أعلى الدرجات، أن يكون بين يدي الله في حركاته وسكناته مثل الميت بين يدي الغاسل، بأن يرى نفسه ميتا، وتحركه القدرة الأزلية كما يحرك الغاسل الميت. وهو الذي قويت نفسه، ونال الدرجة الثالثة من التوحيد. والفرق بينه وبين الثاني، أن الثاني لا يترك الدعاء والتضرع ، كما إن الصبي يفزع إلى أمه، ويصيح ويتعلق بذيلها، ويعدو خلفها، وهذا ربما يترك الدعاء والسؤال ثقة بكرمه وعنايته، فهذا مثال صبي علم أنه لم يرض بأمه، فالأم تطلبه، وإن لم يتعلق بذيلها فهي تحمله، وإن لم يسأل اللبن فهي تسقيه. ومن هذا القسم توكل إبراهيم الخليل (ع) لما وضع في المنجنيق ليرمى به إلى النار، وأشار إليه روح الأمين بسؤال النجاة والاستخلاص من الله سبحانه - فقال: (حسبي من سؤالي علمه بحالي). وهذا نادر الوقوع، عزيز الوجود، فهو مرتبة الصديقين، وإذا وجد فدوامه لا يزيد على صفرة الوجل، أو حمرة الخجل، وهو ينافي التدبيرات ما دام باقيا، إذ يكون صاحبه كالمبهوت. ثم، توكل العبد على الله قد يكون في جميع أموره، وقد يكون في بعضها. وتختلف درجات ذلك بحسب كثرة الأمور المتوكل فيها وقلتها. وقال الكاظم (ع) في قوله

ص 181

عز وجل -: (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) 36 التوكل على الله درجات، منها أن تتوكل على الله في أمورك كلها فما فعل بك كنت عنه راضيا، تعلم أنه لا يألوك خيرا وفضلا، وتعلم أن الحكم في ذلك له، فتوكل على الله بتفويض ذلك إليه، وثق به فيها وفي غيرها. ولعل سائر درجات التوكل أن يتوكل على الله في بعض أموره دون بعض، وتعدد الدرجات حينئذ بحسب كثرة الأمور المتوكل فيها وقلتها.

فصل السعي لا ينافي التوكل

إعلم أن الأمور الواردة على العباد إما أن تكون خارجة عن قدرة العباد ووسعهم، بمعنى أنه لا تكون لها أسباب ظاهرة قطعية أو ظنية لجلبها أو دفعها أو تكون لها أسباب جالبة لها أو دافعة إياها، إلا أن العبد لا يتمكن منها. فمقتضى التوكل فيها ترك السعي بالتمحلات والتدبيرات الخفية، وجوالتها على رب الأرباب، ولو دبر في تغييرها بالتمحلات والتكلفات، لكان خارجا عن التوكل رأسا، أو لا تكون خارجة عن قدرتهم، بمعنى أن لها أسبابا قطعية أو ظنية يمكن للعبد أن يحصلها ويتوصل بها إلى جلبها أو دفعها. فالسعي في مثلها لا ينافي التوكل، بعد أن يكون وثوقه واعتماده بالله دون الأسباب. فمن ظن أن معنى التوكل ترك الكسب بالبدن، وترك التدبير بالعقل رأسا، والسقوط على الأرض كالخرقة الملقاة، فقد أبعد عن الحق، لأن ذلك محرم في الشرع الأقدس، فإن الشارع كلف الإنسان بطلب الرزق بالأسباب التي هداه الله إليها، من زراعة، أو تجارة، أو صناعة، أو غير ذلك مما أحله الله، وبإبقاء النسل بالتزويج، وكلفه بأن يدفع عن نفسه الأشياء المؤذية بالتوسل إلى الأسباب المعينة لدفعها. وكما أن العبادات أمور أمر الله - تعالى - عباده بالسعي فيها، ليحصل لهم بها التقرب إليه والسعادات في دار الآخرة، فكذلك طلب الحلال ودفع الضرر والألم عن النفس والأهل والعيال أمور أمرهم الله - تعالى - ليحصل لهم

(هامش)

(36) الطلاق، الآية: 3 (*)

ص 182

بها التوسل إلى العبادات وما يؤدي إلى التقرب والسعادة. ولكنه - سبحانه - كلفهم أيضا بالا يثقوا إلا به، ولا يعتمدوا على الأسباب. كما إنه - سبحانه - كلفهم بالا يتكلوا على أعمالهم الحسنة، بل على فضله ورحمته. فمعنى التوكل المأمور به في الشريعة: اعتماد القلب على الله في الأمور كلها، وانقطاعه عما سواه. ولا ينافيه تحصيل الأسباب إذا لم يسكن إليها، وكان سكونه إلى الله - سبحانه - دونها مجوزا في نفسه أن يؤتيه الله مطلوبه من حيث لا يحتسب، دون هذه الأسباب التي حصلها، وأن يقطع الله هذه الأسباب عن مسبباتها.

فصل الأسباب التي لا ينافي السعي إليها التوكل

الأسباب التي لا ينافي تحصيلها ومزاولتها للتوكل، هي الأسباب القطعية أو الظنية، وهي التي يقطع أو يظن بارتباط المسببات بها بتقدير الله ومشيته ارتباطا مطردا لا يتخلف عنها، سواء كانت لجلب نفع أو لدفع ضر منتظر أو لإزالة آفة واقعة، وذلك كمد اليد إلى الطعام للوصول إلى فيه، وحمل الزاد للسفر، واتخاذ البضاعة للتجارة، والوقاع لحصول الأولاد، وأخذ السلاح للعدو، والادخار لتجدد الاضطرار، والتداوي لإزالة المرض، والتحرز عن النوم في ممر السيل ومسكن السباع وتحت الحائط المائل، وغلق الباب، وعقل البعير، وترك الطريق الذي يقطع أو يظن وجود السارقين أو السباع الضارة فيه... وقس عليها غيرها. وأما الأسباب الموهومة، كالرقية، والطيرة، والاستقصاء في دقائق التدبير، وإبداء التمحلات لأجل التبديل والتغيير، فيبطل بها التوكل، لأن أمثال ذلك ليست بأسباب عند العقلاء، وليست مما أمر الله - تعالى - بها، بل ورد النهي عنها، على أن المأمور به الإجمال في الطلب وعدم الاستقصاء قال رسول الله (ص): (إلا أن الروح الأمين نفت في روعي: أنه لا تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله - تعالى - وأجملوا في طلب). وقال (ص): (ما أجمل في الطلب من ركب البحر). وقال الصادق (ع): (ليكن طلب المعيشة فوق كسب المضيع، ودون طلب

ص 183

الحريص، الراضي بدنياه، المطمئن إليها، ولكن أنزل نفسك من ذلك بمنزلة المنصف المتعفف، ترفع نفسك عن منزلة الواهن الضعيف، وتكتسب ما لا بد منه، إن الذين أعطوا المال ثم لم يشكروا لا مال لهم). وقال (ع): (إذا فتحت بابك، وبسطت بساطك، فقد قضيت ما عليك).

فصل اعقل وتوكل

إعلم أن التوكل لا يبطل بالأسباب المقطوعة والمظنونة، مع أن الله قادر على إعطاء المطلوب بدون ذلك، لأن الله - سبحانه - ربط المسببات بالأسباب، وأبى أن يجري الأشياء إلا بالأسباب. ولذا لما أهمل الأعرابي بعيره، وقال: توكلت على الله، قال له النبي (ص): اعقلها وتوكل) وقال الصادق (ع): أوجب الله لعباده أن يطلبوا منه مقاصدهم بالأسباب التي سببها لذلك وأمرهم بذلك) وقال الله تعالى: (خذو حذركم (37). وقال في كيفية صلاة الخوف: (وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم) 28 وقال: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قود ومن رباط الخيل) 39. وقال لموسى: (فاسر بعبادي ليلا) 40 والتحصين بالليل اختفاء عن أعين الأعداء دفعا للضرر. وفي الإسرائيليات: إن موسى بن عمران (ع) اعتل بعلة، فدخل عليه بنو إسرائيل، فعرفوا علته، فقالوا له: لو تداويت بكذا لبرئت، فقال لا أتداوى حتى يعافني الله من غير دواء. فطالت علته، فأوحى الله إليه: وعزتي وجلالي! لا أبرؤك حتى تتداوى بما ذكروه لك. فقال لهم داووني بما ذكرتم فداووه فبرئ. فأوجس في نفسه من ذلك فأوحى الله تعالى إليه: أردت أن تبطل حكمتي بتوكلك على، فمن أودع العقاقير منافع الأشياء غيري؟) وروي: (أن زاهدا من الزهاد، فارق الأمصار وأقام في سفح جبل، فقال لا أسأل شيئا حتى يأتيني ربي برزقي. فقعد سبعا، فكاد

(هامش)

(37) النساء الآية: 70 (38) النساء الآية: 101 (39) الأنفال، الآية 61. (40) الدخان الآية: 23 (*)

ص 184

يموت ولم يأته رزق، فقال: يا رب! إن أحييتني فأتني برزقي الذي قسمت لي، وإلا فاقبضني إليك. فأوحى الله تعالى إليه: وعزتي وجلالي لا أرزقك حتى تدخل الأمصار، وتقعد بين الناس. فدخل المصر فأقام، فجاء هذا بطعام، وهذا بشراب، فأكل وشرب فأوجس في نفسه ذلك، فأوحى الله له: أردت أن تذهب حكمتي بزهدك في الدنيا: أما علمت أني أرزق عبدي بأيدي عبادي أحب إلي من أن أرزقه بيد قدرتي لا)

فصل درجات الناس في التوكل

إعلم أن درجات الناس - كما عرفت - في التوكل مختلفة، بحسب تفاوت مراتبهم في قوة اليقين وضعفه، وفي قوة التوحيد وضعفه: فمنهم: من كمل إيمانه ويقينه، بحيث سقط وثوقه عن الأسباب بالكلية، وتوجه بشراشره إلى الواحد الحق، ولا يرى مؤثرا إلا هو، وليس نظره إلى غيره أصلا، وقلبه مطمئن ساكن بعنايته بحيث لا يختلج بباله احتمال أن يكله ربه إلى غيره، ولا يعتري نفسه اضطراب أصلا. فلا بأس لمثله أن يعرض عن الأسباب المقطوعة أو المظنونة بالكلية، لأن الله سبحانه يحفظه ويحرسه ويصلح أموره، ويرزقه من حيث لا يحتسب، سواء حصل الأسباب أم لا، وسواء كسب أم لم يكتسب، إلا أنه ربما لم يترك السبب والكسب ويتبع أمر الله فيه، إلا أنه ليس وثوقه إلا بالله دون السبب والكسب. وما ورد من حكايات بعض الكمل من الأولياء، من أنهم يسافرون في البوادي التي لا يطرقها الناس بغير زاد ثقة بالله، ويصل إليهم الرزق، أو لا يحترزون من السباع الضارة، أو يغلظون القول بالنسبة إلى أهل الاقتدار من الملوك والسلاطين من دون خوف ومبالاة، اعتمادا على الله، والله - سبحانه - ينجيهم منهم، كانوا منهم أي من الكاملين في التوكل. قال الصادق (ع): (أبى الله - عز وجل - أن يجعل أرزاق المؤمنين إلا من حيث لا يحتسبون) وإنما خصه بالمؤمنين، لأن كمال الإيمان يقتضي ألا يثق صاحبه بالأسباب وأن يتوكل على الله - عز وجل وحده. وكمال الإيمان إنما يكون

ص 185

لصاحب العلم المكنون من الأنبياء والأولياء، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. ومنهم: من لم يبلغ قوة إيمانه ويقينه حدا تغيب عن نظره الأسباب والوسائط، ويكون مقصور الالتفات إلى جانب الحق. فهذا هو الذي لا ينبغي له أن يعرض عن الأسباب ويتركها، لأن مثله ليس له المظنة التي توصله إلى المقصد بدون الوسائط: أعني قوة التوكل على الله واليقين به سبحانه

فصل تفنيد زعم

بعض الناس زعم: أن حق التوكل أن يكتفي بالأسباب الخفية عن الأسباب الجلية، كأن يسافر في البوادي التي لا يطرقها الناس بغير زاد بعد أن راض نفسه على جوع الأسبوع وما يقاربه، بحيث يصبر عنه من غير ضيق قلب، واضطراب نفس، وتشويش خاطر وفتور في ذكر الله، وبعد أن يكون بحيث يقوى على التقوت بالحشيش وما يتفق له، وأن يوطن نفسه على أنه مات جوعا كان خيرا له في الآخرة وكأن يجلس في مسجد أو بيته ويترك الكسب، ويتفرغ للعبادة والفكر والذكر، واستغراق وقته بها، بحيث لا يستشرف نفسه إلى الناس في انتظاره ومن يدخل فيحمل إليه شيئا، بل يكون قوي القلب في الصبر والاتكال على الله. وهذا محض الخطأ، إذ من جاهد نفسه وراضها بحيث يصبر على جوع الأسبوع، ويمكنه التقوت بالحشيش، صارت الأسباب له جليه فإن عدم الحاجة أحد الغنائين. ثم إن كان اعتماده - حينئذ - على صبره وتمكنه من التقوت بالحشيش، فأين التوكل؟ وإن كان وثوقه بالله وحده فليقم في بلده مع الأسباب، كما أمر الله به في الشرع. وأما توطين نفسه باختياره على الموت، فممنوع عقلا، ومحرم شرعا. قال الله - سبحانه -: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة)

(هامش)

(41) البقرة الآية 195. (*)

ص 186

وأما الجالس في بيته التارك لكسبه، يعبد الله من دون طلب، فهو أيضا قد ترك متابعة أمر الله. قال الصادق (ع): (إن من يقوته أشد عبادة منه) وربما يكون مثله كلا على الناس، فإن حاله ينادي بالبؤس واليأس، بل هو ضرب على تواطن الناس وتعرض للذل. وبالجملة لا مدخل لخفاء الأسباب وجلائها في التوكل، بعد ما تقرر أن معناه الثقة بالله وحده لا بالأسباب، فسواء وجود الأسباب وفقدها وجلاؤها وخفاؤها.

فصل طريق تحصيل التوكل

الطريق إلى تحصيل التوكل - بعد تقوية التوحيد والاعتقاد، بأن الأمور بأسرها مستندة إليه سبحانه، وليس لغيره مدخلية فيها - أن يتذكر الآيات والأخبار المذكورة الدالة على فضيلته ومدحه، وكونه باعث النجاة والكفاية، ثم يتذكر أن الله - سبحانه - خلقه بعد أن لم يكن موجودا وأوجده من كتم العدم، وهيأ له ما يحتاج إليه، وهو أرأف بعباده من الوالدة بولدها، وقد ضمن بكفايته من توكل عليه، فيستحيل أن يضيعه بعد ذلك ولا يكفيه مؤنته، ولا يوصل إليه ما يحتاج، ولا يدفع عنه ما يؤذيه، لتقدسه من العجز والنقص والخلف والسهو. وينبغي أن يتذكر الحكايات التي فيها عجائب صنع الله في وصول الأرزاق إلى صاحبها وفي دفع البلايا والأسواء عن بعض عبيده، والحكايات التي فيه عجائب قهر الله في إهلاك أموال الأغنياء وإذلال الأقوياء، وكم من عبد ليس له مال وبضاعة ويرزقه الله بسهولة، وكم من ذي مال وثروة هلكت بضاعته أو سرقت وصار محتاجا، وكم من قوي صاحب كثرة وعدة وسطوة صار عاجزا ذليلا بل سبب ظاهر، وكم من ذليل عاجز صار قويا واستولى على الكل. ومن تأمل في ذلك، يعلم أن الأمور بيد الله فيلزم الاعتماد عليه والثقة به. والمناط أن يعلم أن الأمور لو كانت بقدرة الله - سبحانه - من غير مدخلية للأسباب والوسائط فيها، فعدم التوكل عليه - سبحانه - والثقة بغيره غاية الجهل، وإن كانت لغيره - سبحانه من الوسائط والأسباب مدخلية، فالتوكل من جملة أسباب الكفاية وإنجاح الأمور، إذ السمع

ص 187

والتجربة شاهدان بأن من توكل عليه وانقطع إليه كفاه الله كل مؤنه. فكما أن شرب الماء سبب لإزالة العطش، وأكل الطعام سبب لدفع الجوع، فكذا التوكل سبب رتبه مسبب الأسباب لإنجاح المقاصد وكفاية الأمور. وعلامة حصول التوكل، ألا يضطرب قلبه، ولا يبطل سكونه بفقد أسباب نفسه وحدوث أسباب ضره. فلو سرقت بضاعته، أو خسرت تجارته، أو تعوق أمر من أموره، كان راضيا به، ولم تبطل طمأنينته، ولم تضطرب نفسه، بل كان حال قلبه في السكون قبله وبعده واحدا. فإن من لم يسكن إلى شيء لم يضطرب بفقده، ومن اضطر لفقد شيء فقد سكن إليه واطمأن به. ومنها:

• الكفران

وضده الشكر الشكر - فضيلة الشكر - الشكر نعمة يجب شكرها - المدارك لتمييز محاب الله عن مكارهه - أقسام النعم واللذات - الأكل - لا فائدة في الغذاء ما لم يكن بشهوة وميل - عجائب المأكولات - حاجة تحضير الطعام إلى آلاف الأسباب - تسخير الله التجار لجلب الطعام - نعم الله في خلق الملائكة للانسان - الأسباب الصارفة للشكر - طريق تحصيل الشكر - الصحة خير من السقم. * * * وبعد ما تعرف حقيقة الشكر، وكونه متعلقا بأي القوى، تعرف بالمقايسة حقيقة الكفران وكونه من رذائل القوى. فنقول:

الشكر

هو عرفان النعمة من المنعم، والفرح به، والعمل بموجب الفرح بإضمار الخير، والتحميد للمنعم، واستعمال النعمة في طاعته. أما المعرفة، فبأن تعرف أن النعم كلها من الله، وأنه هو المنعم، والوسائط مسخرات من جهته. ولو أنعم عليك أحد، فهو الذي سخره لك، وألقى في قلبه من الاعتقادات والإرادات ما صار به مضطرا إلى الايصال إليك، فمن عرف ذلك، حصل أحد أركان الشكر لله، وربما كان مجرد ذلك شكرا، وهو الشكر بالقلب. كما روي: (أن موسى قال في مناجاته: إلهي

ص 188

خلقت آدم بيدك، وأسكنته جنتك، وزوجته حواء أمتك، فكيف شكرك؟ فقال: علم أن ذلك مني، فكانت معرفته شكرا). ثم هذه المعرفة فوق التقديس وفوق بعض مراتب التوحيد، وهما داخلان فيها. إذ التقديس تنزيهه - سبحانه - عن صفات النقص، والتوحيد قصر المقدس عليه، والاعتراف بعدم مقدس سواه وهذه المعرفة هي اليقين بأن كل ما في العالم موجود منه، والكل نعمة منه، فينطوي فيه مع التقديس والتوحيد كمال القدرة والانفراد بالفعل، ولذلك قال رسول الله (ص): (من قال: سبحانه الله، فله عشر حسنات، ومن قال: لا إله إلا الله، فله عشرون حسنة ومن قال: الحمد لله، فله ثلاثون حسنة). فسبحان الله: كلمة تدل على التقديس، ولا إله إلا الله: كلمة تدل على التوحيد، والحمد لله: كلمة تدل على معرفة النعم من الواحد الحق. ولا تظنن أن هذه الحسنات بإزاء تحريك اللسان بهذه الكلمات من غير عقد القلب بمعانيها، بل هي بإزاء الاعتقاد بمعانيها التي هي المعارف المعدودة من أبواب الإيمان واليقين. وأما الفرح بالمنعم، مع هيئة الخضوع والتواضع، فهو أيضا من أركان الشكر. بل كما أن المعرفة شكر قلبي برأسه، فهو أيضا في نفسه شكر بالقلب، وإنما يكون شكرا إذا كان فرحه بالمنعم أو بالنعمة لا من حيث أنه نعمة ومال ينتفع به ويلتذ منه في الدنيا، بل من حيث أنه يقدر بها على التوصل إلى القرب من المنعم والنزول في جواره، والنظر إلى وجهه على الدوام. وأمارته ألا يفرح من الدنيا إلا بما هو مزرعة الآخرة ومعينة عليها، ويحزن بكل نعمة تلهيه عن ذكر الله وتصده عن سبيله، لأنه ليس يريد النعمة لذاتها، بل من حيث أنها توصله إلى مجاورة المنعم وقربه ولقائه. وأما العمل بموجب الفرح الحاصل من معرفة المنعم، هو القيام بما هو مقصود المنعم ومحبوبه، وهو يتعلق بالقلب واللسان والجوارح. أما المتعلق بالقلب فقصده الخير وإضماره لكافة الخلق. وأما المتعلق باللسان فإظهار الشكر لله من تحميدات الدالة عليه. وأما المتعلم بالجوارح، فاستعمال نعم الله في طاعته ولتوقي من الاستعانة بها على معصيته حتى أن من جملة شكر العينين أن يستر كل عيب يراه من مسلم، ومن جملة شكر الأذنين

ص 189

أن يستر كل عيب يسمعه من مسلم، فيدخل هذا وأمثاله في جملة شكر نعمة هذه الأعضاء بل قيل: من كفر نعمة العين ولم يستعملها فيما خلقت لأجله كفر نعمة الشمس أيضا، إذ الأبصار إنما يتم بها، وإنما خلقتها ليبصر بهما ما ينفعه في دينه ودنياه، ويقي بهما ما يضره فيهما. بل المراد من خلق السماء والأرض وخلق الدنيا وأسبابها أن يستعين بها على الوصول إلى الله ولا وصول إليه إلا بمحبته والأنس به في الدنيا، والتجافي عن الدنيا وغرورها ولذاتها وعلائقها، ولا أنس إلا بدوام الذكر ولا محبة إلا بالمعرفة الحاصلة بدوام الفكر، ولا يمكن الذكر والفكر إلا ببقاء البدن، ولا يبقى البدن إلا بالأرض والماء والهواء والنار، ولا يتم ذلك إلا بخلق الأرض والسماء وخلق سائر الأشياء وكل، ذلك لأجل البدن. والبدن مطية النفس. والنفس الراجعة إلى الله هي المطمئنة بطول العبادة والمعرفة. فكل من استعمل شيئا بغير طاعة الله فقد كفر نعمة الله في جميع الأسباب التي لا بد منها لإقدامه على تلك المعصية. وإذا عرفت حقيقة الشكر، تعرف بالمقايسة حقيقة الكفران، فإنه عبارة عن الجهل بكون النعم من الله، أو عدم الفرح بالمنعم والنعمة من حيث إيصالها إلى القرب منه، أو ترك استعمال النعمة فيما يحبه المنعم، أو استعمالها في ما يكرهه. ثم، بما ذكرناه، وإن ظهر أن حقيقة الشكر ملتئمة من الأمور الثلاثة، إلا أنه قد يطلق الشكر على كل واحد أيضا، كما قال الصادق (ع): (شكر كل نعمة، وإن عظمت، أن تحمد الله)، وقال (ع): (شكر النعم اجتناب المحارم، وتمام الشكر قول الرجل: الحمد لله رب العالمين). وسئل عنه (ع): (هل للشكر حد إذا فعله العبد كان شاكرا؟ قال: نعم! قيل: ما هو؟ قال: يحمد الله على كل نعمة عليه في أهل ومال، وإن كان فيما أنعم عليه في ماله حق أداه. ومنه قوله - جل وعز -: (سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين (42). ومنه قوله تعالى (رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين) (43). وقوله: (رب أدخلني

(هامش)

(42) الزخرف، الآية: 13 (43) المؤمنون، الآية: 29. (*)

ص 190

مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا) (44) وقال - (ع): (كان رسول الله (ص) إذا ورد عليه أمر يسره، قال: الحمد لله على هذه النعمة. وإذا ورد عليه أمر يغتم به، قال: الحمل لله على كل حال). وقال (ع). (إذا أصبحت وأمسيت، فقل عشر مرات: اللهم ما أصبحت بي من نعمة أو عافية في دين أو دنيا، فمنك وحدك لا شريك لك لك الحمد ولك الشكر بها علي يا رب، حتى ترضى وبعد الرضا. فإنك إذا قلت ذلك، كنت قد أديت شكر ما أنعم الله به عليك في ذلك اليوم وفي تلك الليلة). وفي رواية: (كان نوح (ع) يقول ذلك إذا أصبح، فسمي بذلك عبدا شكورا). وقال (ع): (إذا ذكر أحدكم نعمة الله، فليضع خده على التراب شكرا لله، فإن كان راكبا فلينزل وليضع خده على التراب وإن لم يكن يقدر على النزول للشهرة فليضع خده على قربوسه (45)، وإن لم يقدر فليضع خده على كفه، ثم ليحمد الله على ما أنعم عليه). وروي: (أن الصادق (ع) قد ضاعت دابته، فقال: لئن ردها الله علي لأشكرن الله حق شكره) قال الرواي: فما لبث أن أتي بها، فقال: (الحمد لله). فقال قائل له جعلت فداك! أليس قلت لأشكرن الله حق شكره؟ فقال أبو عبد الله (ع) (ألم تسمعني قلت: الحمد لله؟) (46). ثم الشكر باللسان لإظهار الرضا من الله، ولذا أمر به. وقد كان السلف يتسائلون بينهم، ونيتهم استخراج الشكر لله، ليؤجر كل واحد من الشاكر والسائل. وقد روي: (أن رسول الله (ص) قال لرجل: كيف أصبحت؟ فقال: بخير. فأعاد عليه السؤال فأعاد عليه الجواب، فأعاد السؤال ثالثة، فقال: بخير، أحمد الله وأشكره. فقال (ص): هذا الذي أردت منك) (تنبيه) لا ريب في أن الجزء الأول من الشكر - أعني معرفة النعم من الله - من متعلقات العاقلة وفضائلها. والثاني - أعني الفرح للنفس -

(هامش)

(44) الإسراء، الآية: 80 (45) القربوس - بفتحتين -: حنو السرج، أي قسمه المقوس المرتفع من قدام المقعد ومن مؤخره. (46) هذه الرواية مذكورة في (أصول الكافي) ج 2 - باب الشكر. وفي (الوافي: 3 / 324 - باب الشكر. إلا أن المنقول في نسخ (جامع السعادات) فيه اختلاف كثير عما في الموضوعين فصححناها عليهما. (*)

ص 191

إن كان من النعم العقلية الروحانية، يكون متعلقا بالعاقلة أيضا، وإن كان لأجل وصول نعمة الغلبة والاستيلاء - مثلا - على عدو ظالم، يكون متعلقا بالقوة الغضبية، وإن كان من نعمة المال والأولاد، يكون متعلقا بالقوة الشهوية. والجزء الثالث - أعني العمل بمقتضى الفرح الحاصل من معرفة المنعم - فهو من ثمرات الحب للمنعم والخوف من زوال نعمته. وبهذا يظهر: أن الشكر والكفران من متعلقات القوى الثلاث، الأول من فضائلها إذا امتزجت وتسالمت، والثاني من رذائلها.

فصل فضيلة الشكر

الشكر أفضل منازل الأبرار، وعمدة زاد المسافرين إلى عالم الأنوار، وهو موجب لدفع البلاء وازدياد النعماء. وقد ورد به الترغيب الشديد، وجعله الله سببا للمزيد. قال الله - سبحانه -: (ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم) (47). وقال: (لئن شكرتم لأزيدنكم) (48) وقال: فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون) (49). وقال (وسنجزي الشاكرين)) 50 ولكونه غاية الفضائل والمقامات، ليس لكل سالك أن يصل إليه، بل ليس الوصول إليه إلا لأوحدي من كمل السالكين. ولذا قال الله رب العالمين: (وقليل من عبادي الشكور) 51 وكفى به شرفا وفضلا، أنه خلق من أخلاق الربوبية، كما قال الله - سبحانه -: (والله شكور حليم) 1. وهو فاتحة كلام أهل الجنة وخاتمته، كما قال الله - تعالى -: (وقالوا الحمد

(هامش)

(47) النساء، الآية: 146 (48) إبراهيم، الآية: 7. (49) البقرة، الآية 152 (50) لا عمران، الآية: 145 (51) سبأ، الآية: 13 (1) التغابن، الآية: 17. (*)

ص 192

لله الذي صدقنا وعده) (3). وقال: (وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين) 3 وقال رسول الله (ص): (الطاعم الشاكر، له من الأجر كأجر الصائم المحتسب. والمعافى الشاكر، له من الأجر كأجر المبتلى الصابر. والمعطى الشاكر، له من الأجر كأجر المحروم القانع). وقال (ص): (إن للنعم أوابد كأوابد الوحش، فقيدوها بالشكر). وقال (ص): (ينادي مناد يوم القيامة: ليقوم الحمادون! فيقوم زمرة. فينصب لهم لواء فيدخلون الجنة) فقيل: من الحمادون؟ فقال: (الذين يشكرون الله على كل حال) وقال السجاد (ع): (إن الله - سبحانه - يحب كل عبد حزين، ويحب كل عبد شكور). وقال الباقر (ع): (كان رسول الله (ص) عند عائشة ليلتها، فقالت: يا رسول الله! لم تتعب نفسك وقد غفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: يا عائشة! ألا أكون عبدا شكورا؟... قال: وكان يقوم على أطراف أصابع رجليه، فأنزل الله - تعالى -: طه! ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى). وقال الصادق (ع): (ما أنعم الله على عبد من نعمة فعرفها بقلبه وحمد الله ظاهرا بلسانه، فتم كلامه، حتى يؤمر له بالمزيد). وقال (ع): ((ثلاث لا يضر معهن شيء): الدعاء عند الكرب، والاستغفار عند الذنب، والشكر عند النعمة) (4). وقال (ع): (في كل نفس من أنفاسك شكر لازم لك، بل ألف أو أكثر، وأدنى الشكر رؤية النعمة من الله - تعالى - من غير علة يتعلق القلب بها دون الله - عز وجل - أو الرضا بما أعطى، وألا تعصيه بنعمته وتخالفه بشيء من أمره ونهيه بسبب نعمته. فكن لله عبدا شاكرا على كل حال، تجد الله ربا كريما على كل حال، ولو كان عند الله - تعالى - عبادة تعبد بها عباده المخلصون أفضل من الشكر على كل حال، لأطلق لفظة منهم على جميع الخلق بها، فلما لم يكن أفضل منها، خصها من بين العبادات، وخص أربابها، فقال:

(هامش)

(2) الزمر، الآية: 74 (3) يونس الآية: 10 (4) صححنا الأحاديث على (أصول الكافي): ج 2، باب الشكر. وعلى (البحار): مج 15: 2 / 132 / 135، باب الشكر. (*)

ص 193

(وقليل من عبادي الشكور). وتمام الشكر الاعتراف بلسان السر، خاضعا لله بالعجز عن بلوغ أدنى شكره، لأن التوفيق للشكر نعمة حادثة يجب الشكر عليها، وهي أعظم قدرا وأعز وجودا من النعمة التي من أجلها وفقت له، فليزمك على كل شكر شكر أعظم منه، إلى ما لا نهاية له، مستغرقا في نعمه، قاصرا عاجزا عن درك غاية شكره، وأنى يلحق العبد شكر نعمة الله، ومتى يلحق صنيعه بصنيعه، والعبد الضعيف لا قوة له أبدا إلا بالله - عز وجل - والله غني عن طاعة العبد قوي على مزيد النعم على الأبد، فكن لله عبدا شاكرا على هذا الأصل، ترى العجب (5) ثم كما إن الشكر من المنجيات الموصلة إلى سعادة الأبد وزيادة النعمة في الدنيا، فضده أعني الكفران - من المهلكات المؤدية إلى شقاوة السرمد وعقوبة الدنيا وسلب النعم. قال الله - سبحانه -: (فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف) 6. وقال تعالى (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) 7 وقال الصادق (ع) إشكر من أنعم عليك. وانعم على من شكرك، فإنه لا زوال للنعماء إذا شكرت، ولا بقاء لها إذا كفرت. الشكر زيادة في النعم وأمان من الغير، أي من التغيير).

فصل الشكر نعمة يجب شكرها

لما كانت حقيقة الشكر عبارة عن عرفان كل النعم من الله مع صرفها في جهة محبة الله، فالشكر على كل نعمة على أن تعرف كونها من الله وتصرفها في جهة محبته. ولا ريب في أن هذه المعرفة والصرف أيضا نعمة من الله، إذ جميع ما يتعاطاه باختيارنا نعمة من الله، لأن جوارحنا، وقدرتنا، وإرادتنا، ودواعينا، وإفاضة المعارف علينا، وسائر الأمور التي هي أسباب حركاتنا، بل نفس حركاتنا، من الله. وعلى هذا، فالشكر على كل نعمة

(هامش)

(5) صححنا الحديث على مصباح (الشريعة): الباب السادس. وعلى (سفينة البحار) 1 / 710 (6) النحل الآية: 111 (7) الرعد: 12 (*)

ص 194

نعمة أخرى من الله يحتاج إلى شكر آخر. وهو أن يعرف أن هذا الشكر أيضا نعمة من الله - سبحانه - فيفرح به ويعمل بمقتضى فرحه. وهذه المعرفة والفرح تحتاج إلى شكر آخر. وهكذا فلا بد من الشكر في كل حال، وليس يمكن أن تنتهي سلسلة الشكر إلى ما لا يحتاج إلى شكر. فغاية شكر العبد أن يعرف عجزه عن أداء حق شكره - تعالى - إذ عرفان عجزه مسبب عن عرفان جميع النعم، حتى شكره من الله وهذا غاية ما يمكن للعبد. ويشهد بذلك ما روي: (أن الله - عز وجل - أوحى إلى موسى (ع): يا موسى! اشكرني حق شكري. فقال: يا رب! كيف أشكرك حق شكرك وليس من شكر أشكرك به إلا وأنت أنعمت به علي؟ قال: يا موسى! الآن شكرتني، حيث علمت أن ذلك مني) وكذلك أوحى ذلك إلى داود، فقال: (يا رب! كيف أشكرك وأنا لا أستطيع أن أشكرك إلا بنعمة ثانية من نعمك). وفي لفظ آخر: (وشكري لك نعمة أخرى منك ويوجب علي الشكر لك، فقال: إذا عرفت هذا فقد شكرتني). وفي خبر آخر: (إذا عرفت أن النعم مني، رضيت عنك بذلك شكرا). وروي: (أن السجاد (ع) كان إذا قرأ هذه الآية (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) يقول: سبحان من لم يجعل في أحد من معرفة نعمه إلا المعرفة بالتقصير عن معرفتها!) كما لم يجعل في أحد من معرفة إدراكه أكثر من العلم أن لا يدركه فشكره - تعالى - معرفة العارفين بالتقصير عن معرفة شكره، فجعل معرفتهم بالتقصير شكرا، كما علم علم العارفين بأنهم لا يدركونه، فجعله إيمانا علما منه أنه قد وسع العباد فلا يتجاوز ذلك فإن شيئا من خلقه لا يبلغ مدى عبادته، فكيف يبلغ مدى عبادته من لا مدى له ولا كيف؟ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. وقال أبو الحسن (ع): (من حمد الله على النعمة فقد شكره، وكان الحمد لله أفضل من تلك النعمة (8) يعني أنه نعمة فوق تلك النعمة، يستدعي شكرا آخر.

(هامش)

(8) صححنا الروايات على (أصول الكافي) ج 2، باب الشكر. وعلى (الوافي) 3 / 324 باب الشكر (*)

ص 195

فصل المدرك لتمييز محاب الله عن مكارهه

لما عرفت أن الشكر عبارة عن استعمال نعم الله فيما يحبه، والكفران عبارة عن نقيض ذلك - أعني ترك استعمالها فيه أ استعمالها فيما يكرهه - فلا بد من معرفة ما يحبه وما يكرهه، وتمييز محابه عن مكارهه، حتى يتمكن من أداء الشكر وترك الكفران، لتوقفهما على معرفتهما وتمييزها. وهذا التمييز والتعريف له مدركان: أحدهما - الشرع، فإنه كشف عن جميع ما يحبه وما يكرهه، عبر عن الأول بالواجبات والمندوبات، وعن الثاني بالمحرمات والمكروهات. فمعرفة ذلك موقوفة على معرفة جميع أحكام الشرع في أفعال العباد، فمن لم يطلع على حكم الشرع في جميع أفعاله، ولم يمكنه القيام بحق الشكر. وثانيهما - العقل والنظر بعين الاعتبار، فإن العقل متمكن - في الجملة - من أن يدرك بعض وجوه الحكم في بعض الموجودات. فإن الله سبحانه ما خلق شيئا في العالم إلا وفيه حكم كثيرة، وتحت كل حكمه مقصود ومصلحة وهذا المقصود والمصلحة هو محبوب الله تعالى. فمن أستعمل كل شيء على النحو الذي يؤدي إلى المقاصد المطلوبة وعلى الجهة التي خلق لها فقد شكر نعم الله تعالى، وإن استعمل شيئا على النحو الذي لم يؤد إلى المقصود منه أو في جهة غير الجهة التي خلق لها، فقد كفر نعمة الله). ثم العقل لا يتمكن من معرفة كل حكمة مطلوبة من كل شيء، إذ الحكم المقصودة من الأشياء، إما جلية أو خفية. أما الجلية: كحكمة حصول الليل والنهار في وجود الشمس، وحكمة انتشار الناس وسكونهم في وجود الليل والنهار، وحكمة انشقاق الأرض بأنواع النبات في وجود الغيم ونزول الأمطار وحكمة الأبصار في العين، والبطش في اليد، والمشي في الرجل، وحصول الأولاد، وبقاء النسل في الآت التناسل وخلق الشهوة، وحكمة المضغ والطحن في خلق الأسنان وأمثال ذلك. وأما الحكم الخفية: كالحكم التي في خلق الكواكب السيارة والثابتة، واختصاص كل منها بقدر معين وموضع خاص، والحكم التي في بعض الأعضاء الباطنية للحيوان، من

ص 196

الأمعاء والمرارة والكلية وأحاد العروق والأعصاب والعضلات، وما فيها من التجاويف والالتفاف والاشتباك والانحراف والدقة والغلظة وغير ذلك. فهذه الحكم وأمثالها لا يعرفها كل أحد، ومن يعرف منها شيئا فلا يعرف إلا قدرا يسيرا. فإن جميع أجزاء العالم، سماءه وكواكبه، وما فيها من الأوضاع والحركة والاختصاصات، وعناصره من كثرة النار والهواء والماء والأرض، وما فيها من البحار والجبال والرياح، والمعدن والنبات والحيوان، لا تخلو ذرة من ذراته من حكم كثيرة من عشرة إلى ألف أو أكثر، وقليل منها جلية، وأكثرها دقيقة خفية، وبعضها متوسطة في الجلاء والخفاء، يعرفها المتفكرون في خلق السماوات والأرض، وأكثر الحكم الدقيقة مما لا يعرفها غير خالقها وموجودها. ثم ما عدا الإنسان من الأشياء المجردة والمادية، الروحانية والجسمانية، جارية على وفق الحكمة، ومستعملة ذواتها وأجزاؤها وما يتعلق بها على الوجه الذي هو مقتضى المصلحة المقصودة منها وأما الإنسان فلكونه محل الاختيار ومجراه فقد يجري ويستعمل الأشياء التي يتمكن من استعمالها على خلاف ذلك، فيكون كافرا بنعمة الله سبحانه. فمن ضرب غيره بيده فقد كفر نعمة الله في اليد، إذ خلقت له اليد ليدفع بها عن نفسه ما يؤذيه، ويأخذ ما ينفعه، لا ليهلك به غيره. ومن نظر إلى وجه غير المحرم فقد كفر نعمة العين، لأنها خلقت ليبصر بها ما ينفعه في دينه ودنياه، ويتقي بها ما يضره فيهما. ومن أدخر الدراهم والدنانير وحبسهما فقد كفر نعمة الله فيهما، لأنهما حجران لا منفعة ولا عوض في أعيانهما، وإنما خلقهما الله تعالى ليكونا حاكمين يحصل بهما التعديل والمساواة والتقدير بين سائر الأموال من الأعيان المتناثرة المتباعدة، فهما عزيزان في أنفسهما. ولا غرض في أعينهما. ونسبتهما إلى سائر الأموال نسبة واحدة. فمن ملكهما فكأنه ملك، كل شيء لا كمن ملك ثوبا، فإنه لا يملك إلا الثوب. فإن أحتاج إلى طعام ربما لم يرغب صاحب الطعام في الثوب، إذ لا غرض له في ذاته، بخلاف النقدين، فإنهما من حيث الصورة كأنهما ليسا بشيء، ومن حيث المعنى كإنهما كل الشيء. والأشياء إنما تستوي نسبتها إلى المختلفات - إذا لم يكن لها صورة خاصة تقيدها

ص 197

بخصوصها - كالمرآة لا لون لها وتحكي كل لون، وكالحرف لا معنى لها في نفسها بل تظهر لها المعاني في غيرها، وكذلك النقدان، لا غرض فيهما مع كونهما وسيلة إلى كل غرض. فالحكمة في خلقهما أن يحكما بين الأموال بالعدل، وتعرف بهما المقادير المختلفة، وتقوم بهما الأشياء المتباينة، ويحصل التوسل بهما إلى سائر الأموال. فيلزم إطلاقهما لتداولهما الأيدي، وتحصل بهما التسوية في تبادل الأعيان والمنافع المتخالفة، فمن ادخرهما وحبسهما فقد ظلمهما، وأبطل الحكمة فيهما، وكفر نعمة الله فيهما، وكان كمن حبس حاكم المسلمين في سجن، ومن لم يدخرهما ولم يتصرف أزيد مما يحصل به التوصل إلى ما يحتاج، وأنفق الزائد في سبيل الله، فهو الذي استعملهما على وفق الحكمة وشكر نعمة الله فيهما. ولما عجز أكثر الناس عن قراءة الأسطر الإلهية المكتوبة على صفحاتها في فائدتهما وحكمتهما بخط إلهي لا حرف فيه ولا صوت، أخبرهم الله عن ذلك بقوله: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم) 9 وبما ذكرنا من وجه الحكمة فيهما، يظهر أن من أتخذ الأواني منهما فقد كفر نعمة الله فيهما أيضا، وكذا من عاملة معاملة الربا فيهما فقد كفر النعمة وظلم، لأنها أنما خلقا لغيرهما لا لأنفسهما، إذ لا غرض في عينيهما، فإذا أتجر في عينهما فقد اتخذهما مقصودا لأنفسهما على خلاف وضع الحكمة، وكذلك الحكمة في خلق الأطعمة أن يتغذى بها فلا ينبغي أن تصرف عن جهتها وتقيد في الأيدي، بل اللازم أن تخرج عن يد المستغني عنها إلى المحتاج. ولذا ورد في الشرع حرمة الاحتكار والمنع عن معاملة الربا في الأطعمة، لأن ذلك يوجب صرفها عن الحكمة المقصودة منها. وإذا عرفت ذلك، فقس عليه جميع أفعالك وأعمالك وحركاتك وسكناتك، فإن كل فعل يصدر منك أما شكر أو كفران لا يتصور أن ينفك عنهما، مثلا لو استنجيت باليمين، فقد كفرت نعمة اليدين، إذ خلق الله اليدين وجعل

(هامش)

(9) التوبة، الآية: 35 (*)

ص 198

إحداهما أقوى، واستحق الأقوى لرجحانه التفضيل، وتفضيل الناقص عليه عدول عن العدل، وهذا التفضيل إنما يتصور بأن تصرف الأقوى في الأفعال الشريفة، كأخذ المصحف وأكل الطعام، وتصرف الأضعف في الأعمال الخسيسة، كإزالة النجاسة، فمن خالف ذلك فقد عدل عن العدل وأبطل الحكمة وكفر النعمة، وكذلك إذا لبست خفك فابتدأت باليسرى فقد ظلمت، لأن الخف وقاية للرجل، فللرجل فيه حظ، والبداءة في الحظوظ ينبغي أن تكون بالأشرف، وهو العدل والعمل على وفق الحكمة، فخلافه ظلم وكفران. وكذلك إن استقبلت القبلة عند قضاء الحاجة، فقد كفرت نعمة الله في خلق الجهات وخلق سعة العالم، لأنه خلق الجهات متعددة متسعة، وشرف بعضها بأن وضع فيه بيته، فينبغي استقباله بالأفعال الشريفة، كالصلاة والجلوس للذكر والاغتسال والوضوء دون الأفعال الخسيسة، كقضاء الحاجة ورمي البزاق، فمن قضى حاجته أو رمى بزاقه إلى جهة القبلة فقد ظلمها وكفر نعمة الله. وكذلك من كسر غصنا من شجرة من غير حاجة مهمة، ومن غير غرض صحيح، فقد كفر نعمة الله في خلق الأشجار وفي خلق اليد. أما اليد فلأنها لم تخلق للعبث، بل للطاعة المعينة عليها. وأما الشجر، فلأن الله تعالى خلقه، وخلق له العروق وساق إليه الماء، وخلق فيه قوة الاغتذاء والنماء ليبلغ منتهى نشوه فينتفع به عباده، فكسره قبل منتهى نشوه لأعلى وجه ينتفع به عباده، مخالفة المقصود الحكمة وعدول عن العدالة. نعم أن كان له غرض صحيح في كسره فله ذلك. إذ الشجر والحيوان جعلا فداءين لأغراض الإنسان، فإنهما جميعا فانيان هالكان. فإفناء الأخس في بقاء الأشرف مدة ما أقرب إلى العدل من تضييعهما جميعا. وإليه الإشارة بقوله تعالى: (وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا) 10 ثم هذه الأفعال المتصفة بالكفران، بعضها يوجب نقصان القرب وانحطاط المنزلة، وبعضها يخرج بالكلية عن حدود القرب إلى عالم البعد

(هامش)

(10) الجافية الآية: 12 (*)

ص 199

الذي هو أفق الشياطين. ولذلك يوصف بعضها - في لسان الفقه - بالكراهة وبعضها بالحضر. وقد سومح في الفقه حيث جعل فيه بعض هذه المكاره مكروهة غير محضورة، مع أن جميعها عدول عن العدل، وكفران للنعمة، ونقصان عن الدرجة المبلغة إلى القرب، لأن الخطاب به إنما هو إلى العوام الذين تقرب درجتهم من درجة الأنعام، وقد انغمسوا في ظلمات أعظم من أن تظهر أمثال هذه الظلمات بالإضافة إليها. فإن المعاصي كلها ظلمات، إلا أن بعضها فوق بعض، فيتمحق بعضها في جنب البعض. ولذا ترى أن السيد يعاتب عبده إذا استعمل سكينه بغير أذنه، ولكن لو قتل، بهذا السكين أعز أولاده لم يبق لاستعمال السكين بغير أذنه حكم ونكاية في نفسه. ولذا جميع هذه المكاره موصوفة عند أرباب القلوب بالحضر، ولا يتسامحون في شيء مما راعاه الأنبياء والأولياء من الآداب. حتى نقل: (أن بعضهم جمع أكرارا من الحنطة يتصدق بها، فسئل عن سببه فقال: لبست المداس مرة فابتدأت بالرجل اليسرى سهوا، فأريد أن أكفره بالصدقة).

فصل أقسام النعم واللذات

إعلم أن النعمة عبارة عن كل خير ولذة وسعادة، بل كل مطلوب ومؤثر. وهي تنقسم إلى مؤثر لذاته لا لغيره، أي تكون غاية مطلوبة لذاتها ليس فوقها غاية أخرى، وهي مخصوصة بسعادة الآخرة التي لا انقضاء لها، أعني لذة النظر إلى وجه الله، وسعادة لقائه، وسائر لذات الجنة، من البقاء الذي لا فناء له، والسرور الذي لا غم فيه، والعلم الذي لا جهل معه، الغنى الذي لا فقر بعده وغير ذلك. فإنها لا تطلب ليتوصل بها إلى غاية أخرى مقصودة وراءها، بل تطلب لذاتها، وهذه هي النعمة الحقيقية واللذة الواقعية، ولذلك قال رسول الله (ص): (لا عيش إلا عيش الآخرة)، وغالب هذه النعمة والسعادة وأقواها وأشرفها هي اللذة والبهجة المرضية العقلية دون الجسمانية - كما لا يخفى -، فيختص بإدراكها العقل، ولاحظ للسمع والبصر والشم والبطن والفرج فيها. وإلى ما يقصد لغيره، أي تكون مطلوبة لأجل الغاية المطلوبة لذاتها ووسيلة إليها، سواء أكانت مقصودة

ص 200

لذاتها أيضا أم لا. وهي تنقسم إلى أربعة أقسام: القسم الأول - وهو الأقرب الأخص: الفضائل النفسية المذكورة في هذا الكتاب، ويجمعها العلم والعفة والشجاعة والعدالة، وهذه مع كونها لذيذة في نفسها، تكون وسيلة إلى النعمة التي هي غاية الغايات بلا توسط وسيلة أخرى. ولذلك قلنا: هي أقرب الوسائل وأخصها. وأشرفها العلم وأشرف أفراد العلم: العلم بالله وصفاته وملائكته ورسله، وأحوال النشأة الآخرة، وسائر أفعاله، وعلم المعاملة الراجع إلى علم الأخلاق، إذ هو الذي يؤدي إلى السعادة الحقيقية بلا توسط شيء آخر، وسائر العلوم إنما هي مقصودة من حيث كونها وسائل إلى هذا العلم، وهذه الفضائل لذيذة في الدنيا والآخرة نافعة فيهما، أي تؤدي إلى الراحة فيهما، وجميلة على الإطلاق، أي تستحسن في جميع الأحوال. ضدها - أعني الجهل والأخلاق السيئة - ضارة مؤلمة في الدارين، قبيحة على الإطلاق. وسائر الصفاة ليست جامعة لهذه الأوصاف. فإن أكل لذائذ الأطعمة وطيباتها يوجب اللذة والنفع، أي حصول الراحة في الحال، ولكنه ضار في المال، وترك الشهوات بعكس ذلك. ثم لذة المعرفة وفضائل الأخلاق دائمة لازمة لا تزول أبدا، لا في الدنيا ولا في الآخرة، وعقلية يختص بإدراكها العقل دون سائر الحواس. وأما غيرها من اللذات، فبعضها مما يشترك فيه الإنسان وبعض الحيوانات، كلذة الرئاسة والغلبة والاستيلاء، وهذه اللذة موجودة في الأسد والنمر وبعض أخر من الحيوانات وبعضها مما يشترك فيه الإنسان وسائر الحيوانت ا، كلذة البطن والفرج وهي أخس اللذات ولذلك اشترك فيها كلما ما دب ودرج، حتى الديدان والحشرات. فمن جاوز هذه اللذة، تشبثت به لذة الغلبة والاستيلاء، فإن جاوزها أيضا ارتقى إلى اللذة العقلية، فصار أقرب اللذات عليه لذة المعرفة، لا سيما لذة معرفة الله ومعرفة صفاته وأفعاله. وهذه مرتبة الصديقين، ولا ينال تمامها إلا بخروج حب الرئاسة من القلب، وآخر ما يخرج من رؤس الصديقين حب الرئاسة والجاه، ولذلك قمعها بالكلية، بحيث لا يقع بها الاحساس قط، يشبه أن يكون

ص 201

خارجا عن مقدرة البشر. نعم ربما غلبت لذة المعرفة في أحوال، بحيث لا يقع معها الاحساس بلذة الجاه والرئاسة، إلا أن ذلك لا يدوم، بل تعتريه الفترات، فتعود إلى الحالة البشرية. وعلى هذا تنقسم القلوب إلى أربعة أقسام: لا يحب إلا الله، ولا يستريح إلا إليه، وليس فرحه إلا بزيادة المعرفة والفكر فيه، ولا يسكن إلا بحبه وأنسه، وقلب: أغلب أحواله الأنس بالله والتلذذ بمعرفته والفكر فيه، ولكن في بعض الأوقات والأحوال يعتريه الرجوع إلى أوصاف البشرية. وقلب: أغلب أحواله التلذذ بالجاه والرئاسة والمال وسائر الشهوات البدنية، وفي بعض الأوقات يتلذذ بالعلم والمعرفة وحب الله والأنس به. وقلب: لا يدري ما لذة المعرفة وما معنى الأنس بالله، وإنما لذته بالرئاسات والشهوات. والأول - أن كان ممكنا في الوجود فهو في غاية الندور. والثاني - أيضا نادر. والسر في ندور هذين القسمين: أن من انحصرت لذاته بمعرفة الله وحبه وأنسه، أو غلب عليه ذلك، فهو من ملوك الآخرة، والملوك هم الأقلون ولا يكثرون فكما لا يكون الفائق في الملك والاستيلاء في الدنيا إلا نادرا، وأكثر الناس دونهم، فكذا في ملك الآخرة فإن الدنيا مرآة الآخرة. إذ الدنيا عالم الشهادة وفي الآخرة عالم الغيب، وعالم الشهادة تابع لعالم الغيب، كما إن الصورة في المرآة تابعة لصورة الناظر في المرآة، وهي وإن كانت الثانية في رتبة الوجود، إلا أنها في أمر الرؤية أولى، لأنك ترى صورتك في المرآة أولا، ثم ترى نفسك، فتعرف بالصورة القائمة بالمرآة صورتك التي هي قائمة بك ثانيا على سبيل المحاكاة، فانقلب التابع في الوجود متبوعا في حق الرؤيا والمعرفة، وانقلب المتأخر متقدما. وهذا النوع من الانعكاس والانتكاس ضرورة هذا العالم. وكذا عالم الملك والشهادة يحاكي عالم الغيب والملكوت، فمن الناس من لا ينظر في مرآة عالم الشهادة إلا بنظر الاعتبار، فلا ينظر في شيء من عالم الملك إلا ويعبر به إلى عالم الملكوت، فيسمى عبوره عبرة، وقد أمر الخلق به، فقيل: (فاعتبروا يا أولي الأبصار) 11

(هامش)

(11) الحشر الآية: 2 (*)

ص 202

ومنهم من عميت بصيرته، فلم يعتبر، فاحتبس في عالم الملك والشهادة وستفتح إلى حبسه له أبواب جهنم. وأما الثالث - فأكثر وجودا منه. وأما الرابع - فدار الدنيا طافحة به، لقصور أكثر الناس عن إدراك لذة العلم، إما لعدم الذوق، إذ من لم يعرف ولم يشتق، إذ الشوق فرع الذوق وذلك إما لقصور فطرتهم وعدم اتصافهم بعد بالصفة التي بها يستلذ العلم، كالطفل الرضيع الذي لا يدرك لذة العسل، ولا يستلذ إلا باللبن، فهؤلاء ممن يحيي باطنه بعد كالطفل. وإما لمرض قلوبهم أو موتها بسبب أتباع الشهوات، كالمريض الذي لا يدرك لذة الشكر، أو الميت الذي سقط عنه الإدراك، وهؤلاء كالمرضى أو الأموات بسبب اتباع الشهوات. القسم الثاني - الفضائل البدنية: وهي أربعة: الصحة، والقوة، وطول العمر، والجمال. الثالث - النعم الخارجة المضيفة بالبدن: وهي: المال، والجاه، والأهل، وكرم العشيرة. الرابع - الأسباب التي تناسب وجه الفضائل النفسية، ويعبر عنها بالنعم التوفيقية: وهي هداية الله، ورشدة، وتسديده، وتأييده وهذه الجملة مما يتوقف بعضها على بعض، إلى أن ينتهي إلى السعادة التي هي مطلوبة لذاتها. والتوقف إما على سبيل اللزوم والضرورة، كتوقف سعادة الآخرة على الفضائل النفسية والبدنية، وتوقف الفضائل النفسية على صحة البدن، أو على سبيل النفع والإعانة، كتوقف الفضائل النفسية والبدنية على النعم الخارجة. ووجه كونها معينة نافعة في تحصيل العلم وتهذيب الأخلاق وصحة البدن ظاهر. وإعانة الجمال في كسب الفضائل النفسية والبدنية مبني على أن القبيح مذموم، والطباع عنه نافرة، فحاجات الجميل إلى الإجابة أقرب، وجاهه في الصدور أوسع. وأيضا الغالب دلالة الجمال على فضيلة النفس، لأن نور النفس إذا تم إشراقه تأدى إلى البدن. ولذلك عول أصحاب الفراسة في معرفة مكارم النفس على هيئات البدن. ثم إنا لا نعني بالجمال ما يحرك الشهوة، فإن ذلك أنوثة، بل نعني به البراءة عن العيوب والنقص والزيادة، وارتفاع القامة على الاستقامة، مع الاعتدال

ص 203

في اللحم، وتناسب الأعضاء، وتناسب خلقة الوجه، بحيث لا تنبو الطباع عن النظر إليه. وأما احتياج الفضائل الخلقية والجسمية والخارجية إلى النعم التوقيفية، فلأن المراد بالتوقيفية هو التآلف بين إرادة العبد وبين قضاء الله وقدره، بشرط كون المراد والمقضى سعادة. وبعبارة أخرى: هو توجيه الأسباب نحو المطلوب. وأما الهداية، فلها مراتب: أولاها: الهداية العامة، وهي إراءة طريق الخير وتعريفه. وثانيتها: الخاصة، وهي الإفاضات المتتالية الواردة من الله على بعض عبيده، نظرا إلى مجاهدتهم. وثالثتها: الهداية المطلقة، وهي النور الذي يشرق في عالم النبوة والولاية فيهتدى بهما إلى ما لا يهتدى إليه بالعقل. وتوقف تحصيل كل خير وفضيلة، كائنا ما كان، على مساعدة القضاء والقدر، وعلى العلم بطريق الخير، ظاهر. وأما الرشد، فالمراد به العناية الإلهية، التي تعين الإنسان عند توجهه إلى مقاصده، فيقويه على ما فيه صلاحه، ويفتره عما فيه فساده، ويكون ذلك من الباطن. وبعبارة أخرى: هو هداية باعثة إلى جهة السعادة محركة إليها. وقد ظهر احتياج تحصيل الخير والسعادة إليه من مفهومه. وأما التسديد، فهو توجيه حركاته إلى صوب المطلوب وتيسرها عليه، ليصل إليه في أسرع وقت. فالهداية محض التعريف، والرشد هو تنبيه الداعية لتستيقظ وتتحرك، والتسديد إعانة ونصرة بتحريك الأعضاء إلى صوب الصواب والسداد. وقد ظهر وجه كون التسديد معينا في طلب الخير أيضا من حاق معناه. وأما التأييد، فإنه جامع للكل، بل هو عبارة عن تقوية أمره بالبصيرة فكأنه من داخل، وبقوة البطش ومساعدة الأسباب من خارج. وتقرب منه العصمة، وهي عبارة عن وجود إلهي يسنح في الباطن يقوى به الإنسان على تحري الخير وتجنب الشر، حتى يصير كمانع باطني غير محسوس يمنع عن الشر. وهو المراد من برهان الرب في قوله تعالى: (ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه) (12)

(هامش)

(12) يوسف، الآية: 24. (*)

ص204

تنبيه

إعلم أن النعم الأخروية، التي هي الغايات المطلوبة لذواتها، وتفاصيلها وأسبابها وما يتوقف وجودها عليه، إلى أن ينتهي إلى مسبب الأسباب، مما لا يمكن دركها، والعقول البشرية قاصرة عن درك قليلها فضلا عن كثيرها. وأما الوسائل الأربعة من النعم التي انقسم كل منها أيضا إلى أربعة أقسام، وصار مجموعها ستة عشر قسما، فيستدعي كل قسم من الستة عشر أسبابا، وتلك الأسباب أسبابا، حتى تنتهي بالآخرة إلى مسبب الأسباب وموجود الكل. والمتفكر يعلم، أن كلا منها يتوقف على نعم وأسباب أخرى متسلسلة خارجة عن حد الاحصاء. فإن نعمة الصحة التي من النعم الواقعة في المرتبة المتأخرة تتوقف على أسباب ونعم من جملتها نعمة الأكل، فإن إحصاءها وإن لم يكن ممكنا، إلا أنا نشير إلى بعضها على سبيل التلويح دون الاستقصاء، لتقاس عليها البواقي. فنقول: نعمة الأكل تتوقف على إدراك الغذاء وأسبابه، وعلى شهوة الطعام وميله وإرادته وأسبابه، وعلى القدرة إلى تحصيله وأسبابه، وعلى وجود أصل الغذاء المأكول وتكونه، وعلى إصلاحه بعد وجوده وتكونه، وعلى الأسباب الموصلة له إلى كل إنسان أو كان بعيدا عنه، وعلى أسباب الطحن والجذب والهضم والدفع وسائر الأفعال الباطنة إلى أن يصير جزء للبدن، وعلى الملائكة الموكلين على فعل من الأفعال المذكورة. فها هي نذكرها إجمالا وتلويحا في فصول:

فصل الأكل

الأكل يتوقف أولا على إدراك الغذاء المأكول رؤية ولمسا واستشماما وذوقا، إذ ما لم يبصره لم يمكنه تمييزه وطلبه، وما لم يلامسه لم يتمكن من درك بعض أوصافه اللازمة في الأكل، وما لم يشمه لم يتشخص ما يكرهه رائحته عما تطيب رائحته، وربما توقف تحصيله على استشمام رائحته من بعد، لا سيما لبعض الحيوانات، وما لم يذقه لم يدرك أنه موافق أو مخالف له، وبذلك ظهر توقفه على خلق الحواس المدركة الظاهرة، فخلقها الله

ص 205

سبحانه. ثم، الأسباب التي يتوقف عليها خلق هذه الحواس مما لا تتناهى، فلا نتعرض لبيانها. وبعد إدراك الغذاء - على ما ذكر - لا بد له من قوة أخرى يعرف بها كون الغذاء الذي ذاقه سابقا ورآه مرة أخرى موافقا أو مخالفا، وهذه القوة هي الحس المشترك، الذي يتأدى إليه جميع المحسوسات ويجتمع فيه، فإنك إذا أكلت شيئا أصفر مثلا فوجدته مرا مخالفا لك فتركته فإذا رأيته مرة أخرى فلا تعرف أنه مر ما لم تذقه، لولا الحس المشترك، إذ العين تبصر الصفرة ولا تدرك المرارة، والذوق يدرك المرارة ولا يدرك الصفرة، فلا بد من حاكم يجتمع عنده الصفرة والمرارة جميعا، حتى إذا أدرك الصفرة حكم بأنه مر، فيمتنع عن تناوله ثانيا. وهذه القوة - أعني الحس المشترك - يتوقف خلقه على أسباب ونعم لا يمكن إحصاؤها، فلتذرها على سنابلها. ثم الإدراك بالحواس الظاهرة والحس المشترك، مما تشترك فيه سائر الحيوانات، ولو انحصر إدراك الإنسان أيضا به لكان ناقصا. إذ البهيمة تأكل ما تستلذ به في الحال ويضرها في ثاني الحال، فتمرض وتموت، إذ ليس لها إلا الإحساس بالحاضر، وأما إدراك العواقب فليس لها إليه سبيل. فيتوقف تمييز صلاح العواقب وفسادها على قوة أخرى. فخلق الله للانسان العقل، به يدرك مضرة الأطعمة ومنفعتها في المآكل، وبه يدرك كيفية طبخ الأطعمة وتركيبها وأعداد أسبابها، فينتفع بعقله في الأكل الذي هو سبب صحته وهو أخس فوائد العقل وأقل الحكم فيه، إذ الحكم والفوائد المترتبة عليه أكثر من أن تحصى، وأعظم الحكم فيه معرفة الله ومعرفة صفاته وأفعاله. والعقل بمنزلة السلطان في مملكة البدن، والحواس الخمس كالجواسيس وأصحاب الأخبار والموكلين بنواحي المملكة، وقد وكل كل واحدة منها بأمر خاص. فواحدة بأخبار الألوان، وأخرى بأخبار الأصوات وأخرى بأخبار الروائح، وأخرى بأخبار الطعون، وأخرى بأخبار الحر والبرد والخشونة والملاسة واللين والصلابة. فهذه الجواسيس يقتنصون الأخبار من أقطار المملكة، ويسلمونها إلى الحس المشترك، وهو قاعد في مقدمة الدماغ، مثل صاحب الكتب والقصص على باب الملك، يجمع

ص206

القصص والكتب الواردة من نواحي العالم، ويأخذها ويسلمها إلى العقل الذي هو السلطان مختومة، إذ ليس له إلا أخذها وحفظها، وأما معرفة حقائق ما فيها فليس إليه. ولكن إذا صادف القلب العاقل الذي هو الأمير والملك سلم، لأنها آتية إليه مختومة، فيفتشها الملك ويطلع على أسرار المملكة، ويحكم فيها بأحكام عجيبة لا يمكن استقصاؤها. وبحسب ما يلوح له من الأحكام والمصالح يحرك الجنود - أعني الأعضاء - في الطلب أو الهرب أو إتمام التدبيرات التي تعن له. ثم عجائب حكم العقل والأسباب التي يتوقف خلقه عليها ليس دركها في مقدرة البشر، وهذه ما يتوقف عليه الأكل من الإدراكات وأسبابها.

فصل لا فائدة في الغذاء ما لم يكن بشهوة وميل

إذا أدرك الغذاء، لم يفد فائدة ما لم تكن شهوة له وميل وشوق إليه. إذ لولا الميل إليه لكان إدراكه بأي حس وقوة فرضا معطلا. ألا ترى أن المريض يرى الطعام ويدرك أنه أنفع الأشياء له، وقد سقطت شهوته، فلا يتناوله، فيبقى البصر والإدراك معطلا في حقه؟ فيتوقف الأكل على ميل إلى الموافق، ويسمى شهوة، ونفرة عن المخالف، ويسمى كراهة. فخلق الله شهوة الطعام وسلطها على الإنسان كالمتقاضي الذي يضطره إلى التناول، وهذه الشهوة لو لم تسكن بعد أخذ قدر الحاجة لأسرفت وأهلكت نفسه، فخلق الله الكراهة عند الشبع لترك الأكل بها، ولم يجعلها كالزرع الذي لا يزال يجتذب الماء إذا أنصب في أسافله حتى يفسد، ولذلك يحتاج إلى آدمي يقدر غذاءه بقدر الحاجة، فيسقيه مرة ويقطع عنه الماء أخرى. ثم مجرد الميل والشهوة لا يكفي، ما لم تنبعث الداعية إلى تناول الغذاء، فخلق الله تعالى له الإرادة أعني انبعاث النفس إلى تناوله. وربما حصل الاحتياج إلى قوة الغضب أيضا ليندفع عن نفسه المؤذي وما يضاده ويخالفه، ومن أراد أن يأخذ منه ما حصله من الغذاء. ثم لكل واحد من الشهوة، والكراهة، والإرادة، والغضب، أسباب لا يمكن إحصاؤها. ثم بعد أدراك الغذاء وميله وشهوته وإرادته، لا يفيد شيئا من ذلك ما لم يتحقق الطلب والأخذ بالفعل بآلاتهما. فكم من زمن شائق إلى شيء بعيد منه مدرك له مائل

ص 207

إليه مريد له، لا يمكنه أن يمشي إليه لفقد رجله، أو لا يمكنه أن يتناوله لفقد يده أو لفلج أو عذر فيهما. فلا بد من آلات للحركة، وقدرة في تلك الآلات على الحركة، لتكون حركتها بمقتضى الشهوة طلبا فلذلك خلق الله تعالى لك الأعضاء التي تنظر إلى ظاهرها ولا تعرف أسرارها. فمنها ما هو آلة للطلب، كالرجل للانسان، والجناح للطير، والقوائم للدواب. ومنها ما هو آلة لدفع المؤذي والمانع من طلب الغذاء، كالقرن لبعض الحيوانات، والأنياب لبعض أخر منها، والمخلب لبعض آخر منها، والأسلحة للانسان القائمة مقام هذه الآلة. ومنها ما هو آلة للأخذ والتناول، فاليدين للانسان. ثم لهذه الأعضاء أسباب وحكم خارجة عن الحد والحصر، وقد تقدم قليل من حكمها وعجائبها في باب التفكر.

فصل عجائب المأكولات

عمدة ما يتوقف عليه الأكل وأصله ومناطه، هي الأغذية والأطعمة المأكولة، ولله تعالى في خلقها عجائب كثيرة لا تحصى، وأسباب متوالية لا تتناهى. والأغذية والأدوية من الأطعمة لم يبلغ عددها من الكثرة حدا يمكن إحصاؤها وحصرها، فضلا عن بيان عجائبها وأسبابها. فنحن نترك الجميع، ونأخذ من جملتها حبة من الحنطة، ونبين بعض أسبابها وحكمها وعجائبها. فنقول: قد خلق الله في حبة الحنطة من القوى ما يتغذى به كما خلق فيك، فإن النبات إنما يفارقك في الحس والحركة دون الاغتذاء، لأنه يتغذى بالماء. ولا تتعرض لذكر آلات النبات في اجتذاب الغذاء إلى نفسه، بل نشير إلى لمعة من كيفية اغتذاء الحبة. فنقول: أن الحبة لا تغتذي بكل شيء، بل يتوقف اغتذاؤها على أرض فيها ماء. ولا بد أن تكون أرضها رخوة متخلخلة بتغلغل الهواء إليها، فلو تركتها في أرض ندية صلبة متراكمة لم تنبت لفقد الهواء. ثم الهواء لا يتحرك إليها بنفسه، فلا بد من حصول أسباب الريح حتى تحرك الهواء وتضربه وينفذ فيها بقهر وعنف، وإليه الإشارة بقوله تعالى:

ص 208

(وأرسلنا الرياح لواقح) 13 وإلقاحها إنما هو إيقاعها الازدواج بين الهواء والماء والأرض. ثم لا يكفي ذلك في إنباته في برد مفرط، فيحتاج إلى حرارة الصيف والربيع. فهذه أربعة أسباب، فإن الماء لا بد أن ينساق إلى أرض الزراعة من البحار والشطوط والأنهار والعيون والسواقي، فانظر كيف خلق الله جميع ذلك. ثم الأرض ربما تكون مرتفعة لا ترتفع إليها مياه العيون والقنوات، فخلق الله الغيوم، وهي سحب ثقال حاملات للماء، وسلط عليها الرياح لتسويقها بإذنه إلى أقطار العالم من المرتفعات والمنخفضات، وترسلها مدرارا على الأراضي في وقت الربيع والخريف على حسب الحاجة، ثم خلق الجبال حافظة للمياه تنفجر منها العيون تدريجا على قدر الحاجة، ولو خرجت دفعة لغرقت البلاد، وهلك الزرع والمواشي. ونعم الله تعالى وعجائب صنعه وحكمته في السحاب والبحار والجبال والأمطار لا يمكن إحصاؤها. وأما الحرارة، فإنها لا يمكن أن تحصل في الماء والأرض، لكونهما باردين. فخلق الله الشمس، وسخرها، وجعلها - مع بعدها عن الأرض - مسخنة لها في وقت دون وقت، ليحصل الحر عند الحاجة إليه، والبرد عند الافتقار إليه، وهذه أخس حكم الشمس، والحكم فيها أكثر من أن تحصى. ثم النبات إذا أرتفع على الأرض كان في الفواكه انعقاد وصلابة، فتفتقر إلى رطوبة تنضجها، فخلق الله القمر، وجعل من خاصيته الترطيب، كما يظهر لك ذلك إذا كشفت رأسك له في الليل، فإنه تغلب على رأسك الرطوبة المعبر عنها ب‍ (الزكام)، فهو بترطيبه ينضج الفواكه ويرطبها، ويصبغها بتقدير الخالق الحكيم. وهذا أيضا أخس فوائد القمر وحكمه، وما فيه من الحكم والفوائد لا مطمع في استقصائه، بل كل كوكب في السماء فقد سخر لفوائد كثيرة لا تفي القوى البشرية بإحصائها. وكما أنه ليس في أعضاء البدن عضو لا فائدة فيه، فكذلك ليس عضو من أعضاء بدن العالم لا تكون فيه فائدة أو فوائد كثيرة. والعالم كله كشخص واحد، وآحاد أجسامه

(هامش)

(13) الحجرة الآية: 22 (*)

ص 209

كالأعضاء له، وهي متفاوتة تفاوت أعضاء البدن، وشرح ذلك ليس في مقدرة البشر وكلها مسخرات لله سبحانه، وآثار من قدرته الكاملة، ورشحات من أبحر عظمته الباهرة، وليست في أنفسها إلا أعدام صرفة. فأرباب القلوب العارفون بالله المحبون له، إذا نظروا إلى ملكوت السماوات والأرض، والآفاق والأنفس، والحيوانات والنباتات، لا ينظرون إليها إلا من حيث أنها آثار قدرة ربهم، ورشحات صفاته، ويكون تفكرهم وسعيهم في العثور على عجائبها وحكمها، وابتهاجهم وشغفهم لأجل ذلك. كما أن من أحب عالما لم يزل مشغوفا بطلب تصانيفه، فيزداد بمزيد الوقوف على عجائب علمه حبا له. فكذلك الأمر في عجائب صنع الله، فإن العالم كله من تصنيفه تعالى، بل جميع المصنفين أيضا من تصنيفه الذي صنفه بواسطة قلوب عباده. فإن تعجبت من تصنيف، فلا تتعجب من المصنف، بل من الذي سخر المصنف لتأليفه بما أنعم عليه من هدايته وتسديده وتعريفه. كما إذا رأيت لعب المشعوذ (14) يترقص ويتحرك حركات موزونة متناسبة، فلا تتعجب من اللعب، فإنها خرق محركة لا متحركة، ولكن تعجب من حذق المشعوذ المحرك لها بروابط دقيقة عن الأبصار. وقد ظهر أن غذاء النبات لا يتم إلا بالماء والهواء والشمس والقمر والكواكب، ولا يتم ذلك إلا بالأفلاك التي هي مركوزة فيها، ولا تتم الأفلاك إلا بحركاتها، ولا تتم حركاتها إلا بملائكة سماوية يحركونها، وكذلك تتسلسل الأسباب إلى أن تنتهي إلى مسبب الأسباب وغاية الكل، وليس لنا سبيل إلى إدراك تفاصيلها واستنباط عجائب حكمها ودقائق مصالحها.

فصل حاجة تحضير الطعام إلى آلاف الأسباب

ثم ما ينبت من الأرض من النبات، وما يحصل من الحيوانات، لا يمكن أن تقضم وتؤكل كذلك، بل لا بد في كل واحد من إصلاح وطبخ وتركيب وتنظيف، بإلقاء البعض وإبقاء البعض، إلى غير ذلك من الأعمال التي لا تحصى، وكل من الأطعمة يتوقف إصلاحها على أمور خاصة كثيرة،

(هامش)

(14) المشعوذ: الرجل الحيال الذي يصنع الشعبذة. (*)

ص 210

واستقصاء ذلك في كل طعام طويل. فلنأخذ رغيفا واحدا، وننظر إلى بعض ما يحتاج إليه حتى يستدير ويصلح للأكل، إذ بيان جميع ما يحتاج إليه حتى يستدير الرغيف الواحد ليس ممكنا، فنقول: أول ما يتوقف عليه هذا الرغيف الأرض، ثم القاء البذر فيها، ثم الثور الذي يثير الأرض مع آلته، كالفدان وغير ذلك، ثم تنقية الأرض من الحشائش، والتعهد بسقي الماء إلى أن يعقد الحب ويبدو صلاحه، ثم الحصاد، ثم الفرك، ثم التنقية والتصفية، ثم الطحن، ثم العجن، ثم الخبز. فتأمل عدد هذه الأفعال، واستحضر سائر الأفعال التي لم نذكرها، ثم تذكر عدد الأشخاص القائمين بها، وعدد الآلات التي يحتاج إليها. من الحديد والخشب والحجر وغيرها. وانظر إلى أعمال الصناع في إصلاح آلات الحراثة والتصفية والطحن والخبز من تجارة وحدادة وغيرهما، واحتياج كل منها إلى آلات كثيرة. ثم انظر كيف ألف الله سبحانه بين قلوب هؤلاء الصناع المصلحين، وسلط عليهم الأنس والمحبة، حتى ائتلفوا واجتمعوا وبنوا المدن والبلاد، ورتبوا المساكن والدور متجاورة متقاربة، وبنوا الأسواق والخانات وسائر أصناف البقاع، ولو تفرقت آراؤهم، وتنافرت طباعهم تنافر طباع الوحوش، لتبددوا وتباعدوا، ولم ينتفع بعضهم ببعض. ثم لما كان في جبلة الإنسان الغيظ والعداوة، والحسد والمنافسة، والانحراف عن الحق، ربما زالت المحبة بين البعض لأعراض، فيزدحمون عليها، ويتنافسون فيها، وربما أدى إلى التنافر والتقابل. فبعث الله الأنبياء بالشرائع والقوانين ليرجعوا إليها عند التنازع، فيرتفع نزاعهم. ثم بعث الله العلماء الذين هم ورثة الأنبياء لحفظ هذه الشرائع والعلم بها. وبعث الله السلاطين حتى يقيموا الناس قهرا عليها لو أرادوا التخلف عنها، فسلط الله السلاطين أولى القوة والعدة على الناس، وألقى رعبهم في قلوبهم، وألهمهم إصلاح العبادة، بأن رتبوا الرؤساء والقضاة والحكام والسجن والأسواق واضطروا الخلق إلى قانون الشرع والعدل، وألزموهم التآلف والتعاون، ومنعوهم عن التفرق والتباغض فإصلاح الرعايا والصناع بالسلاطين، وإصلاح السلاطين بالعلماء، وإصلاح العلماء بالأنبياء، وإصلاح الأنبياء بالملائكة

 

الصفحة السابقة الصفحة التالية

جامع السعادات (ج3)

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب