الصفحة السابقة الصفحة التالية

كتاب المنطق

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب

ـ5ـ

مواضع الأولى والآثر

أصل هذا الباب ترجيح شيء واحد من شيئين بينهما مشاركة في بعض الوجوه. والألفاظ المستعملة المتداولة في التفضيل هي كلمة آثر وأولى وأفضل وأكثر وأازيد وأشد وأشرف وأقدم وما يجري مجرى ذلك. وما يقابل كل واحد منها, مثل الأنقص والأخس والأقل والأضعف وهكذا. ولكل من كلمات التفضيل هذه خصوصية يطول الكلام في شرحها.

وإنما يحتاج إلى المواضع في هذا الباب ففي الأمور التي لا يظهر فيها التفاضل لأول وهلة, وإلاً فما هو ظاهر التفاضل فيه مثل إن الشمس أكثر ضوءاً من القمر يكون إيراد المواضع لإثباته حشواً ولغواً.

وكثيراً ما يقع التنازع بين الناس في تفضيل شخص على شخص أو شيء على شيء, من ماكولات وملبوسات ومسكونات ومراتب ووظائف وأخلاق وعادات ...وهكذا.

والتنازع تارة يكون من هو الأفضل مع الاتفاق على وجه الفضيلة, كأن يتنازع شخصان في أن حاتم الطائي أكثر كرماً أم معن بن زائدة مع الاتفاق بينهما على أن الكرم فضيلة وأنه قد اتصفا بها معاً. ومثل هذا النزاع إنما يتوقف على ثبوت حوادث تاريخية تكشف عن الأفضلية وليس على هذا الفن.

وأخرى يكون النزاع في وجه الافضلية كأن يتنازعا في أنه أيهما أولى بأن يوصف بالكرم, مع الاتفاق على أن معناً ـ مثلاً ـ يجود بفضل ما له وحاتماً يجود بكل ما يملك, ومع الاتفاق أيضاً على أن ما جاد به معن أكثر بكثير في تقدير المال مما جاد به حاتم. وحينئذ يكون النزاع في العبرة في الأفضلية بالكرم هل هو بمقدار العطاء فيكون معن أفضل من حاتم أو بما يتحقق به معنى الإيثار فيكون حاتم أفضل.

ويمكن أن يتمسك القائل الأول بموضع في هذا الباب, وهو (إن ما يفيد خيراً أكثر فهو آثر وأولى بالفضل), فيكون معن أفضل. ويمكن أن يتمسك القائل الثاني بموضع آخر فيه, وهو >إن ما ينبعث من تضحية أكثر بالحاجة والنفس فهو آثر وأولى بالفضل< فيكون حاتم أفضل. فهذان موضعان من هذا الباب يمكن أن يستدل بهما الخصمان المتجادلان.

هذا أقصى ما أمكن بيانه من المواضع. وعليك بالمطولات في استقصائها إن أردت, ومن الله تعالى التوفيق.

المبحث الثالث ـ الوصايا 

ـ1ـ

تعليمات للسائل

تقدم في الباب الأول من هو (السائل). وعليه ـ لتحصيل غرضه وهو الحصول على اعتراف (المجيب) ـ أن يتبع التعليمات الثلاثة الآتية:ـ

1ـ أن يحضر لديه ـ قبل توجيه السؤال ـ الموضع أو المواضع التي منها يستخرج المقدمة المشهورة اللازمة له.

2ـ أن يهييء في نفسه ـ قبل السؤال أيضاً ـ الطريقة والحيلة التي يتوسل بها لتسليم المجيب بالمقدمة والتشنيع على منكرها.

3ـ لما كان من اللازم عليه أن يصرح بما يضمره في نفسه من المطلوب الذي يستلزم نقض وضع الخصم ـ فليجعل هذا التصريح آخر مراحل أسئلته وكلامه, بعد أن يأخذ من الخصم الاعتراف والتسليم بما يريد ويتوثق من عدم بقاء مجال عنده للإنكار.

هذه هي الخطوط الأولى الرئيسة التي يجب أن يتبعها السائل في مهمته. ثم لأخذ الاعتراف طرق كثيرة, ينبغي أن يتبع إحدى الوصايا () الآتية لتحقيقها:

1ـ ألاّ يطلب من أول الأمر التسليم من الخصم بالمقدمة اللازمة لنقض وضعه. وبعبارة ثانية: ينبغي ألاّ يقتحم الميدان في الجدل في أول جولة بالسؤال عن نفس المقدمة المطلوبة له. والسر في ذلك أن المجيب حينئذ يكون في مبدأ قوته وانتباهه, فقد يتنبه الى مطلوب السائل, فيسرع في الإنكار ويعاند.

2ـ وإذا انتهى به السؤال عن المطلوب, فلا ينبغي أيضاً أن يوجه السؤال رأساً عن نفس المطلوب, خشية أن يشعر الخصم فيفّر من الاعتراف, بل له مندوحة عن ذلك باتّباع أحد الطرق أو الحيل() الاتية:ـ

(الاولى)ـ ان يوجه السؤال عن امر اعم من مطلوبه, فاذا اعترف بالاعم الزمه قهرا بالاعتراف بالاخص بطريقة القياس الاقتراني.

(الثانية)ـ ان يوجه السؤال عن امر اخص, فاذا اعترف به, فبطريقة الاستقراء يستطيع ان يلزم خصمه بمطلوبه.

(الثالثة)ـ ان يوجه السؤال عن امر يساويه, فاذا اعترف به, فبطريقة التمثيل يتمكن من الزامه اذا كان ممن يرى التمثيل حجة.

(الرابعة)ـ ان يعدل عن السؤال عن الشيء الى السؤال عما يشتق منه, مثل ما اذا اراد ان يثبت ان الغضبان مشتاق للانتقام فقد ينكر الخصم ذلك لو سئل عنه فيدعى مثلا ان الاب يغضب على ولده ولا يشتاق الى الانتقام منه, فيعدل الى السؤال عن نفس الغضب, فيقال: اليس الغضب هو شهوة الانتقام؟ فاذا اعترف به يقول له: إذن الغاضب مشتهٍ للانتقام.

(الخامسة)ـ ان يقلب السؤال بما يوهم الخصم ان يريد الاعتراف منه بنقيض ما يريد, كما لو أراد ـ مثلا اثبات ان اللذة خير, فيقول: أليست اللذة ليست خيراً؟

فهذا السؤال قد يوهم المخاطب أنّه يريد الاعتراف بنقيض المطلوب, فيبادر عادة الى الاعتراف بالمطلوب إذا كان من طبعه العناد لما يريده السائل.

ولكلّ من هذه الحيل الخمس مواضع قد تنفع فيها احداها ولا تنفع الاخرى.

فعلى السائل الذكي ان يختار ما يناسب المقام.

3ـ ألا يرتب المقدمات في المخاطبة ترتيباً قياسياً على وجه يلوح للخصم انسباقها الى المطلوب, بل ينبغي ان يشوش المقدمات ويخل بترتيبها فيراوغ في الوصول الى المطلوب على وجه لا يشعر الخصم.

4ـ ان يتظاهر في سؤاله أنّه كالمستفهم الطالب للحقيقة المقدم للانصاف على الغلبة, بل ينبغي أن يلوح عليه الميل الى مناقضة نفسه وموافقة خصمه, لينخدع به الخصم المعاند فيطمئن اليه. وحينئذ يسهل عليه استلال الاعتراف منه من حيث يدري ولا يدري.

5ـ ان يأتي بالمقدمات في كثير من الأحوال على سبيل مضرب المثل أو الخبر, ويدعي في قوله ظهور ذلك وشهرته وجري العادة عليه, ليجد الخصم إن جحدها أمام الجمهور مما يوجب الاستخفاف به والاستهانة له, فيجبن عن انكارها.

6ـ أن يخلط الكلام بما لا ينفع في مقصوده, ليضيع على الخصم ما يريده من المقدمة المطلوبة بالخصوص. والأفضل أن يجعل الحشو حقاً مشهوراً في نفسه, فإنه يضطر إلى التسليم به, وإذا سلّم به أمام الجمهور قد يندفع مضطراً إلى التسليم بما هو مطلوب انسياقاً مع الجمهور الذي يفقد على الأكثر قوة التمييز.

7ـ إن من الخصوم من هو مغرور بعلمه معتد بذكائه, فلا يبالي أن يسلّم في مبدأ الأمر بما يلقى عليه من الأسئلة, ظناً منه بأن السائل لا يتمكن من أن يظفر منه بتسليم ما يهدم وضعه وبأنه يتمكن حينئذ من اللجاج والعناد.

فمثل هذا الشخص ينبغي للسائل أن يمهد له بتكثير الأسئلة عما لا جدوى له في مقصوده, حتى اذا استنفذ غاية جهده قد يتسرب إليه الملل والضجر فيضيع عليه وجه القصد أو يخضع للتسليم.

8ـ إذا انتهى إلى مطلوبه من الاستلزام لنقض وضع الخصم فعليه أن يعبر عنه بأسلوب قوي الأداء لا يشعر بالشك والترديد, ولا يلقيه على سبيل الاستفهام, فإن الاستفهام هنا يضعف أسلوبه فيفتح به للخصم مجالاً لإنكار الملازمة أو إنكار المشهور, فيرجع الكلام من جديد جذعاً. وقد يشق عليه أن يوجه هذه المرة أسئلة نافعة في المقصود, فيغلب على أمره.

9ـ أن يفهم نفسية الجماعات والجماهير من جهة أنها تنساق إلى الأغراء وتتاثر ببهرجة الكلام حتى يستغل ذلك للتأثير فيها, والمفروض أن الغرض الأصيل من الجدل التغلب على الخصم أمام الجمهور. وينبغي له أن يلاحظ أفكار الحاضرين ويجلب رضاهم باظهار أن هدفه نصرتهم وجلب المنفعة لهم, ليسهل عليه أن يجرهم إلى جانبه فيسلموا بما يريد التسليم به منهم. وبهذا يستطيع ان يقهر خصمه على الموافقة للجمهور في تسليم ما سلّموا به, لأن مخالفة الجمهور فيما اتفقوا عليه أمامهم يشعر الإنسان بالخجل والخيبة.

10ـ وهو آخر وصايا السائل ـ اذا ظهر على الخصم العجز عن جوابه وانقطع عن الكلام فلا يحسن منه أن يلح عليه أو يسخر منه أو يقدح فيه, بل لا يحسن أن يعقبه بكل كلام يظهر مغلوبيته وعجزه, فإن ذلك قد يثير الجمهور نفسه ويسقط احترامه عندهم فيخسر تقديرهم من حيث يريد النجاح والغلبة.

ـ2ـ

تعليمات للمجيب

إن (المجيب) ـ كما قدمنا ـ مدافع عن مهاجمة خصمه (السائل). والمدافع ـ غالباً ـ أضعف كفاحاً من المهاجم وأقرب إلى المغلوبية, لأن المبادأة بيد المهاجم, فهو يستطيع ان ينظم هجومه بالاسئلة كيف يشاء, ويترك منها ما يشاء. والمجيب على الاكثر مقهور على مماشاة السائل في المحاورة.

وعلى هذه فمهمة بالمجيب أشق وأدق, واللازم له عدة طرق مترتبة يسلكها بالتدريج أولاً فأولاً, فإن لم يسلك الأول أخذ بالثاني وهكذا. وهي حسب الترتيب:

أولاًـ ان يحاول الالتفاف على السائل, بأن يحوّر الكلام ـ إن استطاع ـ فيعكس عليه الدائرة بتوجيه الأسئلة مهاجماً ولا بد أن السائل له وضع يلتزم به يخالف وضع المجيب. فينقلب حينئذ المهاجم مدافعاً والمدافع مهاجماً. وبهذه الطريقة يصبح أكثر تمكنا من الأخذ بزمام المحاورة, بل يصبح في الحقيقة هو السائل.

ثانياًـ إذا عجز عن الطريقة الأولى, وهي الالتفاف, يحاول إرباك السائل وإشغاله بأمور تبعد عليه المسافة كسباً للوقت كيما يعد عدته للجواب الشافي, مثل أن يجد في أسئلته لفظاً مشتركاً فيستفسر عن معانيه ليتركه يفصلها ثم يناقشه فيها. أو هو يتولى تفصيلها ليذكر أي المعاني يصح السؤال عنه وأيها لا يصح. وفي هذه قد تحصل فائدة أخرى فإنه بتفصيل المعاني المشتركة قد تنبثق له طريقة للهرب عمّا يلزمه به السائل بأن يعترف ـ مثلاًـ بأحد المعاني الذي لا يلزم منه نقض وضعه.

ثالثاًـ إذا لم تنجح الطريقة الثانية وهي طريقة الإشغال والإرباك يحاول ـ إن استطاع ـ الامتناع من الاعتراف بما يستلزم نقض وضعه. وينبغي أن يعلم أنه لا ضير عليه بالاعتراف بالمشهورات إذا كان وضعه مشهوراً حقيقياً, لأنه ـ غالباًـ لا ينتج المشهور إلا مشهوراً, فلا يتوقع من المشهورات أن تنتج ما يناقض وضعه المشهور.

وليس معنى الهرب من الاعتراف أن يمتنع من الاعتراف بكل شيء يلقى عليه. فإن هذه الحالة قد تظهره أمام الجمهور بمظهر المعاند المشاغب فيصبح موضعا للسخرية والنقد, بل يحاول الهرب من الاعتراف بخصوص ما يوجب نقض وضعه.

رابعاـ إذا وجد أن الطريقة الثالثة لا تنفع وهي طريقة الهرب من الاعتراف (وذلك عندما يكون المسؤول عنه الذي يحذر من الاعتراف به مشهوراً مطلقاً, لان العناد في مثله أكثر قبحاً من الالتزام به)ـ فعليه الا يعلن عن إنكاره له صراحة, لأنه لو فعل ذلك في مثله فهو يخسر أمام الحاضرين كرامة نفسه, وفي نفس الوقت يخسر وضعه الملتزم له. فلا مناص له حينئذ من اتباع أحد طريقين:

(الاول)ـ أن يعلن الاعتراف. ولا ضير عليه في ذلك, لأنه إن دل على شيء فإنّما يدل على ضعف وضعه الذي يلتزمه لا على قصور نفسه وعلمه. وهذا وإن كان من وجهة يكشف عن قصور نفسه إذ يلتزم بما لا ينبغي الالتزام به, ولكن ينبغي له لتلاقي ذلك في هذا الموقف (وهو أدق المواقف التي تمر على المجيب المنصف المحب للحق والفضيلة) أن يعلن أنه طالب للحق ومؤثر للانصاف والعدل له أو عليه.

وهذا لعله يعوض عما يخسر من المحافظة على وضعه بالاحتفاظ على سمعته وكرامته.

(الثاني)ـ اذا وجد انه يعز عليه اعلان الاعتراف فان اخر ما يمكنه أن يفعله أن يتلطف في أسلوب الامتناع الذي التزمه لا يعترفون بذلك, فيلقي تبعة الانكار على غيره. أو يقول: كيف يطلب مني الاعتراف وأنا بعد لم أوضح مقصودي, فيؤجل ذلك الى مراجعة أو مشاورة, أو نحو ذلك من أساليب الهرب من التصريح بالانكار أو من التصريح بالاعتراف.

خامساـ بعد أن تعز عليه جميع السبل من الهرب من الاعتراف, ويعترف بالمشهور, فإنه يبقى له طريق واحد لا غير. وهو مناقشة الملازمة بين المشهور المعترف به وبين نقض وضعه, بأن يلحق المشهور ـ مثلاً ـ بقيود وشرائط تجعله لا ينطبق على مورد النزاع, أو نحو ذلك من الأساليب التي يتمكن بها من مناقشة الملازمة. وهذه مرحلة دقيقة شاقة تحتاج الى علم ومعرفة وفطنة.

ـ3ـ

تعليمات مشتركة للسائل والمجيب او اداب المناظرة

(أولا)ـ ان يكون ماهرا في عدة اشياء:

1ـ في إيراد عكس القياس, بأن يتمكن من جعل القياس الواحد أربعة اقيسة بحسب تقابل التناقض والتضاد.

2ـ في إيراد العكس المستوي وعكس النقيض ونقض المحمول والموضوع, فإن هذا يفيده في التوسع بإيراد الحجج المتعددة على مطلوبه أو ابطال مطلوب غيره.

3ـ في إيراد مقدمات كثيرة لاثبات كل مطلوب من مواضع مختلفة وكذلك إبطاله. الى غير ذلك من أشياء تزيد في قوة إيراد الحجج المتعددة.

(ثانياً) ـ ان يكون لسناً منطقياً يستطيع ان يجلب انتباه الحاضرين وانظارهم نحوه, ويحسن ان يثير اعجابهم به وتقديرهم لبراعته الكلامية.

(ثالثاً)ـ ان يتخير الالفاظ الجزلة الفخمة, ويتجنب العبارات الركيكة العامية, ويتقي التمتمة والغلطة في الالفاظ والاسلوب, للسبب المتقدم.

(رابعاً)ـ ألا يدع لخصمه مجال الاستقلال بالحديث فيستغل أسماع الحاضرين وانتباههم له, لأن استغلال الحديث في الاجتماع مما يعين على الظهور عل الغير والغلبة عليه.

(خامساً)ـ أن يكون متمكنا من إيراد الامثال والشواهد من الشعر والنصوص الدينية والفلسفية والعلميّة وكلمات العظماء والحوادث الصغيرة الملائمة. وذلك عند الحاجة طبعا. بل ينبغي أن يكثر من ذلك ما وجد اليه سبيلاً, فانه يعنيه كثيراً على تحقيق مقصوده والغلبة على خصمه. والمثل والواحد قد يفعل في النفوس ما لا تفعله الحجج المنطقية من الانصياع اليه والتسليم به.

(سادساً)ـ أن يتجنب عبارة الشتم واللعن, والسخرية والاستهزاء, ونحو ذلك مما يثير عواطف الغير ويوقظ الحقد والشحناء. فإنَّ هذا يفسد الغرض من المجادلة التي يجب أن تكون بالتي هي احسن.

(سابعاً)ـ ألا يرفع صوته فوق المألوف المتعارف, فاّن هذا لا يكسبه إلا ضعفاً, ولا يكون إلا دليلاً على الشعور بالمغلوبية, بل الذي يجب عليه أن يلقي الكلام القوي الأداء لا يشعر بالتردد والارتباك والضعف والانهيار, وإن أداه بصوت منخفض هادئ فإن تأثيره هذا الاسلوب أعظم بكثير من تأثير إسلوب الصياح والصراخ.

(ثامناً)ـ أن يتواضع في خطاب خصمه, ويتجنب عبارات الكبرياء والتعاظم والكلمات النابية القبيحة.

(تاسعاً)ـ أن يتظاهر بالاصغاء الكامل لخصمه, ولا يبدأ بالكلام الا من حيث ينتهي من بيان مقصوده, فان الاستباق الى الكلام سؤالاً وجواباً قبل أن يتم خصمه كلامه يربك على الطرفين سير المحادثة ويعقد البحث من جهة ويثير غضب الخصم من جهة اخرى.

(عاشراً)ـ أن يتجنب (حد الامكان) مجادلة طالب الرياء والسمعة ومؤثر الغلبة والعناد ومدعي القوة والعظمة, فان هذا ـ من جهة ـ يعديه بمرضه فينساق بالاخير مقهوراً الى ان يكون شبيها به في هذا المرض. و ـ من جهة اخرى ـ لا يستطيع مع مثل هذا الشخص أن يتوصل الى نتيجة مرضية في المجادلة.

ولو اضطر الى مجادلة مثل هذا الخصم, فلا ضير عليه أن يستعمل الحيل في محاورته ويغالطه في حججه, بل لا ضير عليه في استعمال حتى مثل الاستهزاء والسخرية واخجاله.

و (الوصية الاخيرة) لكل مجادل ـ مهما كان ـ الا يكون همه الا الوصول الى الحق وايثار الانصاف وأن ينصف خصومه من نفسه, ويتجنب العناد بالاصرار على الخطأ, فانّه خطأ ثان, بل ينبغي أن يعلن ذلك ويطلبه من خصمه بالحاح حتى لا يشذّ الطرفان عن طلب الحق والعدل والانصاف.

وهذا أصعب شيء يأخذ الانسان به نفسه, فلذلك عليه أن يستعين على نفسه بطلب المعونة من الله سبحانه فإنّه تعالى مع المتقين الصابرين.

الفصل الثالث

صناعة الخطابة

وهو يقع في ثلاثة مباحث: 

1ـ في الاصول والقواعد.

2ـ في الانواع.

3ـ في التوابع.

المبحث الاول ـ الاصول والقواعد

ـ1ـ

وجه الحاجة الى الخطابة 

كثيراً ما يحتاج المشرعون ودعاة المبادئ والسياسيون ونحوهم الى إقناع الجماهير فيما يريدون تحقيقه, إذ تحقيق فكرتهم أو دعوتهم لا تتم إلا برضا الجمهور عنها وقناعتهم بها.

والجمهور لا يخضع للبرهان ولا يقنع به, كما لا يخضع للطرق الجدلية, لأنَّ الجمهور تتحكم به العاطفة أكثر من التعقل والتبصر, بل ليس له الصبر على التأمل والتفكير ومحاكمة الادلة والبراهين, وانما هو سطحي التفكير فاقد للتمييز الدقيق. تؤثر فيه المغريات وتبهره العبارات البراقة وتقنعه الظواهر الخلاّبة. ولعدم صبره على التمييز الدقيق نجده اذا عرضت عليه فكرة لا يتمكن من التفكيك بين صحيحها وسقيمها فيقبلها كلها او يرفضها كلها.

وعليه, فيحتاج من يريد التأثير على الجماهير في إقناعهم ان يسلك مسلكاً آخر غير مسلك البرهان والجدل المتقدمين, فان الذي يبدو أن الطرق العقلية عاجزة عن التأثير على عقائد الناس وتحويلها لعجزها عن التأثير على عواطفهم المتحكمة فيهم.

بل لا يقتصر هذا الامر على الجمهور بما هو جمهور, فإن كلّ فرد من أفراد العامة إذا كان قليل الثقافة والمعرفة هو أبعد ما يكون عن الإقتناع بالطرق البرهانية او الجدلية, بل أكثرالخاصة المثقفين ـ وإن ظنوا في أنفسهم المعرفة وحرية الرأي ـ ينجذبون الى الطرق المقنعة المؤثرة على العواطف وينخدعون بها. بل لا يستغنون عنها في كثير من آرائهم واعتقاداتهم, بالرغم على قناعتهم بمعرفتهم وثقافتهم التي قد يتخيلون أنهم قد بلغوا بها الغاية.

فيجب أن تكون المخاطبة التي يتلقاها الجمهور والعامي وشبهه من نوع لا تكون مرتفعة ارتفاعاً بعيداً عن درجة مثله. ولذا قيل: >كلم الناس على قدر عقولهم<.

ولم تبق لنا صناعة هذا الغرض غير صناعة الخطابة, فإن الاسلوب الخطابي أحسن شيء للتاثير على الجمهور والعامي. وكلّ شخص إستطاع أن يكون خطيباً بالمعنى المقصود من الخطابة في هذا الفن فإنّه هو الذي يستطيع أن يستغل الجمهور والعوام ويأخذ بأيديهم الى الخير أو الشر.

فهذا وجه حاجتنا ـ معاشر الناس ـ الى صناعة الخطابة, ولزم على من يريد قيادة الجمهور الى الخير ان يتعلم هذه الصناعة, وهي عبارة عن معرفة طرق الإقناع.

فان الخطابة انجح من غيرها في الاقناع, كما ان الجدل في الالزام انفع.

ـ2ـ

وظائف الخطابة وفوائدها

مما تقدم نستطيع أن نعرف أن وظائف الخطابة هو الدفاع عن الرأي, وتنوير الرأي العام في أيّ أمر من الأمور, والحض على الاقتناع بمبدأ من المبادئ, والتحريض على اكتساب الفضائل والكمالات واجتناب الرذائل والسيئات, وآثارة شعور العامة وإيقاظ الوجدان والضمير فيهم. وبالاختصار وظيفتها إعداد النفوس لتقبل ما يريد الخطيب أن تقتنع به.

وبهذا تعرف أن فائدة الخطابة فائدة كبيرة, بل هي ضرورة اجتماعية في حياة الناس العامة.

وهي ـ بعد ـ وظيفة شاقة, إذ أنّها تعتمد ـ بالاضافة الى معرفة هذه الصناعة ـ على مواهب الخطيب الشخصية التي تصقل بالتمرين والتجارب ولا تكتسب بهذه الصناعة ولا بغيرها, وإنما وظيفة هذه الصناعة توجبه تلك المواهب وإعداد ما يلزم لمعرفة طرق اكتساب ملكة الخطابة, مع المران الطويل وكثرة التجارب. وسيأتي التنصيص على حاجة الخطابة الى المواهب الشخصية.

ـ3ـ

تعريف هذه الصناعة وبيان معنى الخطابة

يمكن مما تقدم أن نتصيد تعريف صناعة الخطابة على النحو الآتي حسبما هو معروف عند المنطقيين: >إنها صناعة علمية بسببها يمكن إقناع الجمهور في الأمر الذي يتوقع حصول التصديق به بقدر الامكان<.

هذا هو تعريف أصل هذه الصناعة التي غايتها حصول ملكة الخطابة التي بها يتمكن الشخص الخطيب من إقناع الجمهور. والمراد من القناعة هو التصديق بالشيء مع الاعتقاد بعدم إمكان أن يكون له ما ينقض ذلك التصديق, أو مع الاعتقاد بإمكان ما ينقضه إلاّ أنَّ النفس تصير بسبب الطرق المقنعة أميل الى التصديق من خلافه. وهذا الاخير هو المسمى عندهم (بالظن) على نحو ما تقدم في هذا الجزء.

ثمّ أَنّه ليس المراد من لفظ (الخطابة) التي وضعت لها هذه الصناعة مجرد معنى الخطابة المفهوم من لفظها في هذا العصر, وهو أنْ يقف الشخص ويتكلم بما يسمع المجتمعين بأي إسلوب كان, بل إسلوب البيان واداء المقاصد بما يتكفل إقناع الجمهور هو الذي يقوم معنى الخطابة وإنّ كان بالكتابة او المحاورة كما يحصل في محاورة المرافعة عند القضاة والحكام.

وهذه الصناعة تتكفل ببيان هذا الاسلوب, وكيف يتوصل الى إقناع الناس بالكلام, وما لهذا الاسلوب من مساعدات واعوان من صعود على مرتفع ورفع صوت ونبرات خاصة وما الى ذلك مما سياتي شرحه.

ـ4ـ

اجزاء الخطابة

الخطابة تشتمل على جزءين: العمود والاعوان.

أـ (العمود). ويقصدون بالعمود هنا مادة قضايا الخطابة التي تتألف منها الحجّة الإقناعية. وتسمى الحجّة الإقناعية باصطلاح هذه الصناعة (التثبيت) على ما سياتي. وبعبارة أخرى: العمود هو كل قول منتج لذاته للمطلوب انتاجاً بحسب الإقناع. وإنما سمي عموداً فباعتبار أنّه قوام الخطابة وعليه الاعتماد في الإقناع.

ب ـ (الاعوان). ويقصدون بها الاقوال والافعال والهيئات الخارجية عن العمود المعينة له على الاقناع المساعدة له على التأثير المهيئة للمستمعين على قبوله.

وكل من الأمرين (العمود والاعوان) يعد في الحقيقة جزءاً مقوماً للخطابة, لأنّ العمود وحده قد لا يؤدي تمام الغرض من الإقناع, بل على الاكثر يفشل في تحقيقه. والمقصود الأصلي من الخطابة هو الإقناع كما تقدم, فكل ما هو مقتض له دخيل في تحققه لا بّد انْ يكون في الخطابة دخيلاً, وإن كان من الامور الخارجة عن مادة القضايا التي تتألف منه الحجّة (العمود).

وقولنا هنا: >مقتض للإقناع< نقصد به أعم مما يكون مقتضيا لنفس الإقناع أو مقتضيا للاستعداد له. والمقتضي لنفس الإقناع ليس العمود وحده ـ كما ربما يتخيل ـ بل شهادة الشاهد ايضاً تقتضيه مع أنّها من الاعوان.

وشهادة الشاهد على قسمين شهادة قول وشهادة حال. فهذه أربعة أقسام ينبغي البحث عنها: العمود والشهادة القولية وشهادة الحال والمقتضي للإستعداد للاقناع.

ويمكن فتح البحث فيها بإسلوب آخر من التقسيم بأنْ تقول:

الخطابة تشتمل على عمود واعوان. ثم الاعوان على قسمين أما بصناعة وحيلة وأما بغير صناعة وحيلة. والأول وهو ما كان بصناعة وحيلة ويسمى (استدراجات) فعلى ثلاثة اقسام: استدراجات بحسب القائل أو بحسب القول أو بحسب المستمع. والثاني هو ما كان بغير صناعة وحيلة يسمى (نصرة) و(شهادة). وهي ـ الشهادة ـ على قسمين شهادة قول وشهادة حال. فهذه ستة أقسام:

1ـ العمود.

2ـ استدراجات القائل.

3ـ استدراجات بحسب القول.

4ـ استدراجات بحسب المستمع.

5ـ شهادة القول.

6ـ شهادة الحال.

فهذه الستة هي ـ بالاخير ـ تكون أجزاء الخطابة, فينبغي البحث عنها واحدة واحدة.

ـ5ـ

العمود

(العمود) ـ وقد تقدم معناه ـ يتألف من المظنونات أو المقبولات أو المشهورات أو المختلفة بينها. وقد سبق شرح هذه المعاني تفصيلاً في مقدمة الصناعات الخمس, فلا نعيد.

واستعمال (المشهورات) في الخطابة باعتبار مالها من التأثير على السامعين في الإقناع. ولذا لا يعتبر فيها إلاً أنْ تكون مشهورات ظاهرية, وهي التي تحمد في بادئ الرأي وإنْ لم تكن مشهورات حقيقية. وبهذا تفترق الخطابة عن الجدل, اذ الجدل لا يستعمل فيه إلاّ المشهورات الحقيقية. وقد سبق ذلك في الجدل.

وقلنا هناك: >ان الظاهرية تنفع فقط في صناعة الخطابة< وانما قلنا ذلك فلان الخطابة غايتها الاقتناع ويكتفي بما هو مشهور او مقبول لدى المستمعين وإن كان مشهورا في بادئ الرأي وتذهب شهرته بالتعقيب, اذ ليس فيها رد وبدل ومناقشة وتعقيب, على العكس من الجدل المبني على المحاورة والمناقضة, فلا ينبغي فيه إستعمال المشهورات الظاهرية, إذ يعطي بذلك مجال للخصم لنقضها وتعقيبها بالرد.

أما المظنونات والمقبولات فواضح اعتبارها في عمود الخطابة.

ـ6ـ

الاستدراجات بحسب القائل

وهي من أقسام ما يقتضي الاستعداد للاقناع وتكون بصناعة وحيلة. وذلك بأن يظهر الخطيب قبل الشروع في الخطابة بمظهر مقبول القول عندهم. ويتحقق ذلك على نحوين:

1ـ أن يثبت فضيلة نفسه ـ إذا لم يكن معروفا لدى المستمعين ـ أما بتعريفه هو لنفسه أو بتعريف غيره يقدمه لهم بالثناء, بأن يعرف نسبه وعلمه ومنزلته الاجتماعية أو وظيفته اذا كان موظفاً أو نحو ذلك.

ولمعرفة شخصية الخطيب الأثر البالغ ـ إذا كانت له شخصية محترمة ـ في سهولة إنقياد المستمعين اليه والإصغاء له وقبول قوله, فإن الناس تنظر الى من قال, لا الى ما قيل, وذلك اتباعا لطبيعة المحاكاة التي هي من غريزة الانسان, لا سيما في محاكاته لمن يستطيع أن يسيطر على مشاعره واعجابه. ولا سيما في المجتمعات العامة, فإن غرائز الإنسان ـ وبالخصوص غريزة المحاكاة ـ تحيا في حال الاجتماع أو تقوى.

2ـ أن يظهر بما يدعو الى تقديره واحترامه, وتصديقه والوثوق بقوله. وذلك يحصل بأمور (منها) لباسه وهندامه, فاللازم على الخطيب أن يقدر المجتمعين ونفسياتهم وما يقدر من مثله أن يظهر به, فقد يقتضي أن يظهر بأفخر اللباس وبأحسن بزة تليق بمثله وقد يقتضي أن يظهر بمظهر الزاهد الناسك. وهذا يختلف باختلاف الدعوة وباختلاف الحاضرين. وعلى كل حال ينبغي أنْ يكون الخطيب مقبول الهيئة عند الحاضرين حتى لا يثير تهكمهم او اشمئزازهم أو تحقيرهم له. و(منها) ملامح وجهه وتقاطيع جبينه ونظرات عينيه وحركات يديه وبدنه, فإن هذه أمور معبرة ومؤثرة في السامعين إذا استطاع الخطيب أن يحسن التصرف بها حسبما يريده من البيان والاقناع. وبعبارة اصرح ينبغي أن يكون ممثلاً في مظهره, فيبدو حزيناً في موضع الحزن وقد يلزم له أن يبكي او يتباكي, ويبدو مسروراً مبتشاً في موضع السرور, ويبدو بمظهر الصالح الواثق من قوله المؤمن بدعوته في موضع ذلك...وهكذا.

وكثير من الواعظين يتأثر الناس بهم بمجرد النظر اليهم قبل أن يتفوهوا, وكم من خطيب في مجالس ذكرى مصرع سيد الشهداء $ يدفع الناس الى البكاء والرقة بمجرد مشاهدة هيئته وسمته قبل أنْ يتكلم.

ـ7ـ

الاستدراجات بحسب القول

وهي أيضاً من اقسام ما يقتضي الاستعداد للاقناع وتكون بصناعة وحيلة. وذلك بأن تكون لهجة كلامه مؤثرة مناسبة للغرض الذي يقصده اما برفع صوته أو بخفضه أو ترجيعه أو الاسترسال فيه بسرعة أو التاني به أو تقطيعه. كل ذلك حسب ما تقتضيه الحال من التأثير على المستمعين.

وحسب الصوت وحسن الالقاء والتمكن من التصرف بنبرات الصوت وتغييره حسب الحاجة من أهم ما يتميز به الخطيب الناجح. وذلك في أصله موهبة ربانية يختص بها بعض البشر من غير كسب غير أنها تقوى وتنمو بالتمرين والتعلم كجميع المواهب الشخصية. وليس هناك قواعد عامة مدونة يمكن بها ضبط تغييرات الصوت ونبراته حسب الحاجة, وانما معرفة ذلك تتبع نباهة الخطيب في إختياره للتغيرات الصوتية المناسبة التي يجدها بالتجربة والتمرين مؤثرة في المستمعين.

ولاجل هذا يظهر لنا كيف يفشل بعض الخطباء, لأنّه يحاول المسكين تقليد خطيب ناجح في لهجته والقائه, فيبدو نابياً سخيفاً, إذ يظهر بمظهر المتصنع الفاشل.

والسر أنّ هذا أمر يدرك بالغريزة والتجربة قبل أن يدرك بالتقليد للغير.

ـ8ـ

الاستدراجات بحسب المخاطب

وهي أيضاً من أقسام ما يقتضي الاستعداد للاقناع وتكون بصناعة من الخطيب. وذلك بأن يحاول استمالة المستمعين وجلب عواطفهم نحوه ليتمكن قوله فيهم ويتهياوا للاصغاء اليه: مثل ان يحدث فيهم انفعالاً نفسياً مناسباً لغرضه كالرقة والرحمة, أو القوة والغضب, أو يضحكهم بنكتة عابرة لتنفتح نفوسهم للاقبال عليه. ومثل أن يشعرهم بأنهم يتخلقون بأخلاق فاضلة كالشجاعة والكرم أو الانصاف والعدل أو إيثار الحق, أو يتحلون بالوطنية الصادقة والتضحية في سبيل بلادهم, أو نحو ذلك ممّا يناسب غرضه. وهذا يكون بمدحهم والثناء عليهم أو بذكر سوابق محمودة لهم أو لآبائهم أو أسلافهم.

وإذا اضطر الى التعريض بخصومه الحاضرين فيظهر بأنهم الاقلية القليلة فيهم, أو يتظاهر بأنّه لا يعرف بأنهم موجودون في الاجتماع, او أنّهم لا قيمة لهم ولا وزن عند الناس.

وليس شيء أفسد للخطيب من التعريض بذم المستمعين أو تحقيرهم او التهكم بهم أو اخجالهم, فإنّ خطابه سيكون قليل الأثر او عديمه اصلاً, وإن كان يأتي بذلك بقصد اثارة الحمية والغيرة فيهم, لان هذه الامور ـ بالعكس ـ تثير غضبهم عليه وكرهه والاشمئزاز من كلامه. ولاثارة الحمية طرق أخرى غير هذه.

وبعبارة أشمل وأدق إن التجاوب نفسي بين الخطيب والمستمعين شرط أساسي في التأثر بكلامه, فإذا ذمهم أو تهكم بهم بعَّدهم عنه وخسر هذا التجاوب النفسي. وهكذا لو اضجرهم بطول الكلام أو التكرار الممل أو التعقيد في العبارة أو ذكر ما لا نفع فيه لهم أو ما الفوا استماعه.

والخطيب الحاذق الناجح من يستطيع ان يمتزج بالمستمعين ويهيمن عليهم بأن يجعلهم يشعرون بانه واحد منهم وشريكهم في السراء والضراء, وبانه يعطف على منافعهم ويرعى مصالحهم, وبأنه يحبهم ويحترمهم, لا سيما الخطيب السياسي والقائد في الحرب.

ـ9ـ

شهادة القول

وهي من اقسام (النصرة) التي ليست بصناعة وحيلة, ومن أقسام ما يقتضي نفس الاقناع. وهي تحصل اما بقول من يقتدي به مع العلم بصدقه كالنبي والامام, أو مع الظن بصدقه كالحكيم والشاعر. واما بقول الجماهير أو الحاكم أو النظارة, وذلك بتصديقهم للخطيب أو تاييدهم له بهتاف او تصفيق أو نحوها. واما بوثائق ثابتة كالصكوك والمسجلات والآثار التاريخية ونحوها.

وهذه الشهادة ـ على أنها من الأعوان ـ تفيد بنفسها الإقناع. وقد تكون بنفسها عموداً لو صح أخذها مقدمة في الحجّة الخطابية, وتكون حينئذ من قسم (المقبولات) التي قلنا أن الحجّة الخطابية قد تتالف منها.

ـ10 ـ

شهادة الحال

وهي أيضاً من أقسام (النصرة) التي ليست بصناعة وحيلة ومن أقسام ما يقتضي نفس الاقناع. وهذه الشهادة تحصل اما بحسب نفس القائل أو بحسب القول.

1ـ ما هي بحسب القائل: إما لكونه مشهوراً بالفضيلة من الصدق والامانة والمعرفة والتمييز, أو معروفاً بما يثير احترامه أو الاعجاب به أو التقدير لما يقوله ويحكم به, كأن يكون معروفاً بالبراعة الخطابية أو الشجاعة النادرة أو بالثراء الكثير أو بالحنكة السياسية أوصاحب منصب رفيع أو نحو ذلك. وقد قلنا ان لمعرفة الخطيب الأثر البالغ في التاثير على المستمعين, فكيف إذا كان محبوباً أو موضع الاعجاب أو الثقة. وكلما كبرت سمعة الخطيب وتمكن حبه واحترامه من القلوب كان قوله أكثر قبولاً وابعد اثراً.

واما لكونه تظهر عليه امارات الصدق ـ وان لم يكن معروفاً بأنحاء المعرفة السابقة ـ مثل أن تطفح على وجهه اسارير السرور إذا بشر بخير, أو علامات الخوف والهلع إذا انذر بشر, أو هيئة الحزن إذا حدث عما يحزن... وهكذا.

ولتقاطيع وجه الخطيب وملامحه ونبرات صوته الأثر الفعال في شعور المستمعين بأن ما يقوله كان مؤمناً به أو غير مؤمن به. والوجه الجامد القاحل من التعبير لا يستجيب له المستمع. ولذا اشتهر ان الكلمة اذا خرجت من القلب دخلت في القلب. وما هذا إلا لأنّ ايمان الخطيب بما يقول يظهر على ملامح وجهه ونبرات صوته رضي أم أبى, فيدرك المستمع ذلك حينئذ بغريزته, فيؤثر على شعوره بمقتضى طبيعة المحاكاة والتقليد.

2ـ ما هي بحسب القول: مثل الحلف على صدق قول والعهد() أو التحدي كما تحدى نبينا الاكرم @ قومه أن يأتوا بسورة أو آية من مثل القرآن المجيد واذ عجزوا عن ذلك التجأوا الى الاعتراف بصدقه. ومثل ما لو تحدى الصانع أو الطبيب او نحوهما خصمه المشارك له في صناعته بأن يأتي بمثل ما يعمل, ويقول له: إن عجزت عن مثل عملي فاعترف بفضلي عليك واخضع لقولي.

ـ11ـ

الفرق بين الخطابة والجدل

لما كانت صناعة الجدل يشتركان في كثير من الاشياء استدعى ذلك التنبيه على جهات الافتراق بينهما, لئلا يقع الخلط بينهما:

اما اشتراكهما ففي الموضوع, فإن موضوع كل منهما عام غير محدد بعلم ومسالة, كما قلنا في الجدل: انه يقع في جميع المسائل الفلسفية والدينية والاجتماعية وجميع الفنون والمعارف. والخطابة كذلك, وما يستثنى هناك يستثنى هنا. ويشتركان أيضا في الغاية, فان غاية كل منهما الغلبة, ويشتركان في بعض مواد قضاياهما, إذ تدخل المشهورات فيهما كما تقدم.

أما افتراقهما ففي هذه الامور الثلاثة نفسها:

1ـ في الموضوع, فان الخطابة يستثنى من عموم موضوعها المطالب العلمية التي يطلب فيها اليقين, فان استعمال الإسلوب الخطابي فيها معيب مستهجن إذا كان المخاطب بها الخاصة, وإن جاز استعمال الاسلوب الجدلي لالزام الخصم وافحامه او لتعليم المبتدئين. كما أنه ـ على العكس ـ لا يحسن من الخطيب ان يستعمل البراهين العلمية والمسائل الدقيقة لغرض الإقناع.

2ـ في الغاية, فان غاية الجدلي الغلبة بالزام الخصم وإن لم تحصل له حالة القناعة. وغاية الخطابة الغلبة بالإقناع.

3ـ في المواد, فقد تقدم في الكلام عن العمود بيان الفرق فيها, إذ قلنا: أن الخطابة تستعمل فيها مطلق المشهورات الظاهرية, وفي الجدل لا تستعمل إلا الحقيقية.

وهناك فروق أخرى لا يهمنا التعرض لها. وسيأتي في باب إعداد المنافرات التشابه بين الجدل والمنافرة بالخصوص والفرق بينهما كذلك.

ـ12ـ

اركان الخطابة

اركان الخطابة المقومة لها ثلاثة: القائل (وهو الخطيب), والقول (وهو الخطاب). والمستمع.

ثم المستمع ثلاثة أشخاص على الأكثر: مخاطب وحاكم ونظارة, وقد يكون مخاطباً فقط:

1ـ (المخاطب), وهو الموجه إليه الخطاب, وهو الجمهور أو من هو الخصم في المفاوضة والمحاورة.

2ـ (الحاكم), وهو الذي يحكم للخطيب او عليه, اما لسلطة عامة له في الحكم شرعية أو مدنية, أو لسلطة خاصة برضا الطرفين إذ يحكمانه ويضعان ثقتهما به, وإن لم تكن له سلطة عامة.

3ـ (النظارة), وهم المستمعون المتفرجون الذين ليس لهم شأن الا تقوية الخطيب أو توهينه, مثل أن يهتفوا له أو يصفقوا باستحسان ونحوه, حسبما هو عادة شعبهم في تأييد الخطباء, ومثل أن يسكتوا في موضع التأييد والاستحسان أو يظهروا توهينه بهتاف ونحوه وذلك إذا أرادوا توهينه. والنظارة عادة مالوفة عند بعض الامم الغربية في المحاكمات ولهم تأثير في سير المحاكمة وربما يسمونهم (العدول) أو (المعدلين).

وليس وجود الحاكم والنظارة يلازم في جميع أصناف الخطابة, بل في خصوص المشاجرات كما سيأتي.

ـ13ـ

اصناف المخاطبات

إن الغرض الاصلي لصاحب الصناعة الخطابية ـ على الأغلب ـ إثبات فضيلة شيء ما أو رذيلته, أو اثبات نفعه أو ضرره. ولكن لا أي شيء كان, بل الشيء الذي له نفع أو ضرر للعموم بوجه من الوجوه على نحو له دخالة في المخاطبين وعلاقة بهم.

وهذا الشيء لا يخلو عن حالات ثلاث:

1ـ ان يكون حاصلا فعلا, فالخطابة فيه تسمى (منافرة).

2ـ ان يكون غير حاصل فعلاً ولكنه حاصل في الماضي, فالخطابة فيه تسمى (مشاجرة).

3ـ ان يكون غير حاصل فعلاً أيضاً ولكنه يحصل في المستقبل فالخطابة فيه تسمى (مشاورة). وهي أهم الاصناف.

فالمفاوضات الخطابية على ثلاثة أصناف.

1ـ (المنافرات) المتعلقة بالحاصل فعلا, فان قرر الخطيب فضيلته أو نفعه سميت (مدحاً), وان قرر ضد ذلك سميت (ذماً).

2ـ (المشاجرات) وتسمى (الخصاميات) أيضاً, وهي المتعلقة بالحاصل سابقاً. ولا بدّ أن تكون الخطابة لأجل تقرير وصول فائدته ونفعه أو ما فيه من عدل وإنصاف إن كان نافعاً, ولأجل تقرير وصول ضرورة أو ما فيه من ظلم وعدوان. فمن الجهة الاولى تسمى الخطابة (شكراً) أما أصالةً عن نفسه او نيابةً عن غيره. وإنما سميت كذلك لان تقرير الخطيب يكون اعترافاً منه للمخاطبين بفضيلة ذلك الشيء فلا يقع فيه نزاع منهم. ومن الجهة الثانية تسمى الخطابة (شكاية) اما عن نفسه أو عن غيره. والمدافع يسمى (معتذراً) والمعترف به (نادماً).

3ـ (المشاورات) المتعلقة بما يقع في المستقبل. ولا محالة أن الخطابة حينئذ لا تكون من جهة وجوده, أو عدمه, فإن هذا ليس شأن هذه الصناعة. بل لا بدّ أن تكون من جهة ما فيه من نفع وفائدة فينبغي أن يفعل, فتكون الخطابة فيه ترغيباً وتشويقاً وإذنا في فعله. أو من جهة ما فيه من ضرر وخسارة فينبغي الا يفعل, فتكون الخطابة فيه تحذيراً وتخويفاً ومنعاً من فعله.

٭٭٭

فهذه الأنواع الثلاثة هي الأغراض الأصلية التي تقع للخطيب, وقد يتوصل الى غرضه ببيان أمور تقع في طريقه وتكون ممهدة للوصول اليه ومعينة للإقناع وتسمى (التصديرات), مثل أن يمدح شيئاً أو شخصاً, فينتقل منه الى المشاورة للتنظير بما وقع أو لغير ذلك.

والتشبيب الذي يستعمله الشعراء سابقاً في صدر مدائحهم من هذا القبيل, فإن الغرض الأصلي هو المدح, والتشبيب تصدر به القصيدة للتوصل اليه. وكثيراً ما لا يكون الشاعر عاشقاً وإنما يتشبه به اتباعاً لعادة الشعراء.

وفي هذا العصر يمهد خطباء المنبر الحسيني امام مقصودهم من ذكر فاجعة الطف ببيان امور تاريخية او اخلاقية او دينية من موعظة ونحوها. وما ذاك الا لجلب انتباه السامعين او لاثارة شعورهم وانفعالاتهم مقدمة للغرض الاصلي من ذكر الفاجعة.

ـ14ـ

صور تأليف الخطابة ومصطلحاته

قد قلنا في الجدل: ان المعول في تأليف صوره غالباً على القياس والاستقراء, وفي الخطابة أكثر ما يعول على القياس والتمثيل, وإن استعمل الاستقراء احياناً.

ولا يجب في القياس وغيره عند استعماله هنا أن يكون يقينياً من ناحية تأليفه, أي لا يجب أن يكون حافظاً لجميع شرائط الانتاج, بل يكفي أن يكون تأليفه منتجاً بحسب الظن الغالب وإن لم يكن منتجاً دائماً, كما لو تألف القياس مثلاً على نحو الشكل الثاني من موجبتين, كما يقال: فلان يمشي متأنياً فهو مريض, فحذفت كبراه الموجبة وهي (كل مريض يمشي متأنياً) مع أن الشكل الثاني من شروطه اختلاف المقدمتين بالكيف.

وكذلك قد يستعمل التمثيل في الخطابة خالياً من جامع حيث يفيد الظن بأن هناك جامعاً, مثل ان يقال: مر بالامس من هناك رجل مسرع وكان هارباً واليوم يمر مسرع آخر من هنا, فهو هارب.

وكذلك يستعمل الاستقراء فيها بدون استقصاء لجميع الجزئيات, مثل أن يقال: الظالمون قصيرو الاعمار, لأن فلان الظالم وفلان وفلان قصيرو الاعمار, فيعد جزئيات كثيرة يظن معها الحاق القليل بالأعم الاغلب.

وبحسب تأليف صور الخطابة مصطلحات ينبغي بيانها, فنقول:

1ـ (التثبيت). والمقصود به كل قول يقع حجة في الخطابة ويمكن فيه أن يوقع التصديق بنفس المطلوب بحسب الظن, سواء كان قياساً أو تمثيلاً.

2ـ (الضمير). والمقصود به التثبيت اذا كان قياساً. والضمير باصطلاح المناطقة في باب القياس كل قياس حذفت منه كبراه. ولما كان اللائق في الخطابة ان تحذف من قياسها كبراه للاختصار من جهة ولا خفاء كذب الكبرى من جهة اخرى, سموا كل قياس هنا (ضميراً), لأنّه دائماً أو غالباً تحذف كبراه.

3ـ (التفكير). وهو الضمير نفسه, ويسمى (تفكيراً) باعتبار اشتماله على الحد الأوسط الذي يقتضيه الفكر.

4ـ (الاعتبار). ويقصدون به التثبيت إذا كان تمثيلاً, فيقولون مثلاً: >يساعد على هذا الامر الاعتبار<. وهذه الكلمة شايعة الاستعمال عند الفقهاء, وما احسب إلا أنهم يريدون هذا المعنى منها.

5ـ (البرهان). وهو كلّ اعتبار يستتبع المقصود بسرعة, فهو غير البرهان المصطلح عليه في صناعة البرهان. فلا تغرنك كلمة البرهان في بعض الكتب الجدلية والخطابية.

6ـ (الموضع). والمقصود به هنا كل مقدمة من شأنها أن تكون جزء من التثبيت, سواء كانت مقدمة بالفعل أو صالحة للمقدمية. وهو غير الموضع المصطلح عليه في صناعة الجدل. ومعنى الموضع هناك يسمى (نوعاً) هنا وسيأتي في الباب الثاني. ولا بأس بالبحث عن الضمير والتمثيل اختصاراً هنا:

ـ15ـ

الضمير

للضمير شأن خاص في هذه الصناعة, فإن على الخطيب أن يكون متمكناً من إخفاء كبراه في أقيسته أو إهمالها. إن باقي الصناعات قد تحذف الكبرى في أقيستها ولكن لا حاجة وغرض خاص, بل لمجرد الإيجاز عند وضوح الكبرى, اما في الخطابة فإن اخفاءها غالباً ما يضطر اليه الخطيب بما هو خطيب لأحد أمور:

1ـ إخفاء عدم الصدق الكلي فيها, مثل أن يقول: >فلان يكف غضبه عن الناس فهو محبوب<, فإنه لو صرح بالكبرى وهي >كل من كف غضبه عن الناس هو محبوب لهم< ربما لا يجدها السامع صادقة صدقا كلياً, وقد يتنبه بسرعة الى كذبها, إذ قد يعرف شخصاً معيناً متمكناً من كف غضبه ومع ذلك لا يحبه الناس.

2ـ تجنب أن يكون بيانه منطقياً وعلمياً معقداً, فلا يميل اليه الجمهور الذي من طبعه الميل الى الصور الكلامية الواضحة السريعة الخفيفة. والسر أن ذكر الكبرى يصبغه بصبغة الكلام المنطقي العلمي الذي ينصرف عن الاصغاء اليه الجمهور. بل قد يثير شكوكهم وعدم حسن ظنهم بالخطيب أو سخريتهم به.

3ـ تجنب التطويل, فإن ذكر الكبرى غالباً يبدو مستغنياً عنه والجمهور إذا أحس أن الخطيب يذكر ما لا حاجة الى ذكره أو يأتي بالمكررات يسرع اليه الملل والضجر والاستيحاش منه. وقد يؤثر فيه ذلك انفعالاً معكوساً فيثير في نفوسهم التهمة له في صدق قوله. فلذلك ينبغي للخطيب دائماً تجنب زيادة الشرح والتكرار الممل فإنه يثير التهمة في نفوس المستمعين وشكوكهم في قولهم وضجرهم منه.

وبعد هذا, فلو اضطر الخطيب الى ذكر الكبرى كما لو كان حذفها يوجب أن يكون خطابه غامضاً ـ فينبغي أن يوردها مهملة حتى لا يظهر كذبها لو كانت كاذبة, وإلا يوردها بعبارة منطقية جافة.

وصنعة الخطابة تعتمد كثيرا على المقدرة في إيراد الضمير أو إهمال الكبرى فمن الجميل بالخطيب أن يراقب هذا في خطابه. وهذا ما يحتاج الى مران وصنعة وحذق, والله تعالى قبل ذلك هو المسدد للصواب الملهم للمعرفة.

ـ16ـ

التمثيل

سبق أن قلنا في الفصل 14: ان الخطابة تعتمد على القياس والتمثيل. وفي الحقيقة تعتمد على التمثيل أكثر, نظراً الى أنّه أقرب الى أذهان العامة وأمكن في نفوسهم. وهو في الخطابة يقع على أنحاء ثلاثة:

1ـ ان يكون من أجل إشتراك الممثل به مع المطلوب في معنى عام يظن انه العلة للحكم في الممثل به. وهذا النحو هو التمثيل المنطقي الذي تقدم الكلام فيه اخر الجزء الثاني.

2ـ ان يكون من أجل التشابه في النسبة فيهما, كما يقال مثلاً: كلما زاد تواضع المتعلم زادت معارفه بسرعة, كالأرض كلما زاد إنخفاضها انحدرت اليها المياه الكثيرة بسرعة.

وكل من هذين القسمين قد يكون الإشتراك والتشابه في النسبة حقيقة وقد يكون بحسب الرأي الواقع, كقوله تعالى:}مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل اسفاراً{, أو كقوله تعالى: }مثل الذين ينفقون اموالهم في سبيل الله كمثل حبة انبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة...{.

وقد يكون بحسب رأي يظهر ويلوح سداده لأول وهلة, ويعلم عدم صحته بالتعقيب, كقول عمر بن الخطاب يوم السقيفة: >هيهات لا يجتمع اثنان في قرن<.

والقرن بالتحريك الحبل الذي يقرن به البعيران, قال ذلك ردا على قول بعض الانصار: >منا أمير ومنكم أمير<. بينما أن هذا القائل غرضه ان الامارة مرة لنا ومرة لكم لا على ان يجتمع أميران في وقت واحد حتى يصبح تشبيهه باجتماع اثنين في قرن.

على أنه اية استحالة في الممثل به, وهو أن يجتمع بعيران في حبل واحد يقرنان به لو أراد هذا القائل اجتماع أميرين في آن واحد, فالاستحالة في الممثل نفسه لا في المثل به.

3ـ أن يكون التمثيل بحسب الاشتراك بالإسم فقط, وقد ينطلي هذا أمره على غير المتنبه المثقف. وهو مغالطة ولكن لا بأس بها في الخطابة حيث تكون مقنعة وموجبة لظن المستمعين بصدقها.

مثاله أن يحبب الخطيب شخصاً ويمدحه لأنَّ شخصاً آخر محبوب ممدوح له هذا الاسم. أو يتشاءم من شخص ويذمه لأن آخر له اسمه معروف بالشر والمساوئ.

ويشبه أن يكون من هذا الباب قول الارجاني:

يزداد دمعي على مقدار بعدهم تزايد الشهب أثر الشمس في الافق

فحكم بتزايد الدموع على مقدار بعد الاحبة قياساً على تزايد الشهب بمقدار تزايد بعد الشمس في الأفق, لإشتراك الدموع والشهب بالإسم إذ تسمى الدموع بالشهب مجازاً ولاشتراك الحبيب والشمس بالاسم إذ يسمى الحبيب شمساً مجازاً.

المبحث الثاني ـ الانواع

ـ1ـ

تمهيد 

تقدم في الفصل 14 من الباب الاول: ان الموضع في اصطلاح هذه الصناعة كل مقدمة من شأنها أن تكون جزءاً من التثبيت. وهو غير الموضع باصطلاح صناعة الجدل.

بل ان ما هو بمنزلة الموضع في صناعة الجدل يسمى هنا (نوعاً) وهو أي النوع: كل قانون تستنبط منه المواضع أي المقدمات الخطابية.

مثلاً يقال لنقل الحكم من الضد الى ضده (نوع), إذ منه تستخرج المواضع الموصلة الى المطلوب الخطابي, فيقال مثلاً: اذ كان خالد عدواً فهو يستحق الاساءة فاخوه لما كان صديقاً فهو يستحق الاحسان. فهذه القضية (موضع) وهي من (نوع) نقل الحكم من الضد الى ضده.

ثمّ انه لما كان المجادل مضطرا الى احضار المواضع في ذهنه واعدادها لكي يستنبط منها ما يحتاجه من المقدمات المشهورة ـ فكذلك الخطيب يلزمه أن يحضر لديه ويعد الأنواع لكي يستنبط منها ما يحتاجه من المواضع (المقدمات المقنعة).

وكل خطيب في أي صنف من أصناف المفاوضات الخطابية له أنواع خاصة وقواعد كلية تخصه يستفيد منها في خطابه, فلذلك اقتضى أنْ ننبه على بعض هذه الأنواع في أصناف الخطابة للاستيناس وللتنبيه على نظائرها كما صنعنا في مواضع الجدل, فنقول:

ـ2ـ

الانواع المتعلقة بالمنافرات

تقدم في البحث 13 معنى (المنافرات) انها التي تثبت مدحاً او ذماً, اما للاشخاص أو للاشياء, باعتبار ما هو الحاصل في الحال, فيقرر الخطيب فضيلته أو نفعه في المدح أو يقرر ضدهما في الذم. وانما سميت (منافرات) فلأنَّ بها يتنافر الناس ويختلفون, ويروم بعضهم قهر بعض بقوله وبيانه.

ومن هذه الناحية تشبه الخطابة الجدل, وانما الفرق من وجهين:

1ـ انه في الخطابة ينفرد الخطيب في ميدانه, وفي الجدل يكون الكلام للخصمين سؤالا وجوابا وردا وبدلا.

2ـ ان غرض الخطيب ان يبعث المستمعين على عمل الأفعال الحسنة والتنفر من الافعال السيئة لا لمجرد المدح والذم, والمجادل ليس غرضه إلا التغلب على خصمه, وليس همه أن يعمل به أحد أو لا يعمل. وبالاختصار غرض الخطيب اقناع الغير بفضل الفاضل ونقص المفضول ليعمل على مقتضى ذلك, وغرض المجادل ارغام الغير على الاعتراف بذلك.

وبين الاسلوبين بون بعيد, فإنَّ الأول يتطلب الرفق واللين والاستحواذ على مشاعر المخاطب ورضاه, والثاني لا يتطلب ذلك فان غرضه يتم حتى لو اعترف الخصم مرغماً مقهوراً.

اذا عرفت ذلك, فعلى الخطيب في المنافرات أن يكون مطلعاً على انواع جمال الاشياء وقبحها. ولكل شيء جمال وقبح بحسبه: ففي الانسان جماله بالفضائل وقبحه بالرذائل, وباقي الاشياء جمالها بكمال صفاتها اللائقة بها وقبحها بنقصها.

ثم الانسان ـ مثلاًـ فضيلته أن تكون له ملكة تقتضي فعل الخيرات بسهولة, كفضيلة الحكمة والعلم والعدالة والاحسان والشجاعة والعفة والكرم والمروة والهمة والحلم وأصالة الرأي. وهذه أصول الفضائل, ويتبعها مما يدخل تحتها كالايثار الذي يدخل تحت نوع الكرم, او مما يكون سبباً لها كالحياء الذي يكون سبباً للعفة, أو ممّا يكون علامة عليها كصبر الامين على تحمل المكارة في سبيل المحافظة على الأمانة, فإنّ هذا الصبر علامة على العدالة.

واما باقي الاشياء غير الانسان فكمالها بحصول الصفات المطلوبة لمثلها, وقد قلنا لكل شيء جمال وقبح بحسبه, فكما الدار ـ مثلاً ـ وجمالها باشتمالها على المرافق المحتاج اليها وسعتها وجدة بنائها وملاءمة هندستها للذوق العام, وهكذا. وكمال المدينة ـمثلاًـ وجمالها بسعة شوارعها وتنسيقها ونظافتها وكثرة حدائقها وتهيئة وسائل الراحة فيها والامن, وحسن مائها وهوائها وجدة بناء دورها... وهكذا.

وعلى الخطيب بالاضافة الى ذلك أن يكون قادراً على مدح ما هو قبيح بمحاسن قد يظن الجمهور أنها مما يستحق عليها المدح والثناء, مثل أن يصور فسق الفاسق بأنّه من باب لطف المعاشرة وخفة الروح. ويصور بلاهة الأبله أنها بساطة نفس وصفاء سريرة وقلة مبالاة بأمور الدنيا واعتباراتها. ويصور متتبع عورات الناس الهماز الغماز بأنّه محب للصراحة أو انه لا تاخذه في سبيل قول الحق لومة لائم. ويصور الحاكم المرتشي بأنّه يسهل بالرشوة أمور الناس ويقضي حوائجهم...

وهكذا يمكن تحوير كثير من الرذائل والنقائص الى ما يشبه أن يكون من الفضائل والكمالات في نظر الجمهور. وكذلك ـ على العكس ـ يمكن تحوير جملة من الفضائل الى ما يشبه أنْ يكون من الرذائل والنقائص في نظر الجمهور, كوصف المحافظ على دينه بانه جاف متزمت أو رجعي خرافي أو وصف الشجاع بأنّه مجنون متهور أو وصف الكريم بأنّه مسرف مبذر... وهكذا. والكثير من هذا يحتاج الى حذلقة وبعد نظر.

وإذ عرفت وجوه مقتضيات المدح يمكن أن تعرف بمناسبتها وجوه مقتضيات الذم لأنّها اضدادها.

ـ3ـ

الانواع المتعلقة بالمشاجرات

تقدم معنى المشاجرات من أنها تتعلق بالحاصل سابقاً. وذلك لبيان ما حدث كيف حدث؟ هل حدث على وجه جميل ممدوح أو على وجه مذموم؟

فتكون المشاجرة شكراً أو شكاية أو اعتذاراً أو ندماً واستغفاراً.

و(الشكر) إنما يكون بذكر محاسن ما حدث وكمالاته إنساناً أو غير إنسان, على حسب ما تقدم من البيان الإجمالي عن محاسن الأشياء وكمالاتها في المنافرات, فلا حاجة الى اعادته.

وانما الذي ينبغي بيانه ما يختص (بالشكاية) ثم الأعتذار والندم, فنقول: لا تصح الشكاية إلا من الظلم والجور. وحقيقة الجور: >هو الإضرار بالغير على سبيل المخالفة للشرع بقصد وإرادة<.

والمقصود من (الشرع) ما هو أعم من الشريعة المكتوبة وغير المكتوبة, والمكتوبة مثل الأحكام المنزلة الالهية والقوانين المدنية والدولية, وغير المكتوبة ما تطابق عليها آراء العقلاء, أو آراء امة بعينها وكان المعتدي منها, او آراء قطرة أو عشيرته أو نحو ذلك.

فما تطابق عليها آراء الجميع هي المشهورات المطلقة, والباقي هي من المشهورات الخاصة. ومثال الأخير (النهوة) باصطلاح عرب العراق في العصور الأخيرة, فإنّها عند غير المنحصرين منهم شريعة غير مكتوبة, وهي ان للرجل الحق في منع تزوج ابنة عمه من اجنبي, فالاجنبي إذا تزوجها من دون رخصة ابن عمها وإذنه عدُّوه في عرفهم جائراً غاصباً وقد يهدر دمه. وإنْ كان هذا العرف يعد في الشريعة المكتوبة الاسلامية وغيرها ظلماً وجوراً وإن (الناهي) هو الجائر الظالم.

ثم (المخالفة للشرع) أما أنْ تقع في المال أو العرض أو النفس, ثم اما ان تكون على شخص أو اشخاص معنيين, أو تقع على جماعة اجتماعية كالدولة والوطن والامة والعشيرة.

وعلى هذا فينبغي للخطيب المشتكي أن يعرف معنى الجور وبواعثه واسبابه, وما هي الأسباب التي تقتضي سهولته أو صعوبته, ومتى يكون عن إرادة وقصد, وكيف يكون كذلك. وكل هذه فيها أبحاث واسعة تطلب من المطولات.

وأما (الاعتذار) فحقيقته التنصل مما ذكره المتظلم المشتكي ودفع تظلمه. وهو يقع بأحد أمرين:

1ـ انكار وقوع الظلم رأساً.

2ـ انكار وقوعه على وجه يكون ظلماً وجوراً, فإن كثيراً من الافعال انما تقع عدلاً حسنة وظلماً قبيحة بالوجوه والاعتبار اما من جهة القصد واما من جهة اختلاف الشريعة المكتوبة مع الشريعة غير المكتوبة كما مثلناه (بالنهوة).

وأما (الندم) فهو الإقرار والإعتراف بالظلم. وقد يسمى استغفاراً. وذلك بأن يلتمس العفو عن العقوبة والتفضل بإسقاط ما يلزم من غرامة ونحوها. وللإستغفار والاعتذار أساليب يطول شرحها.

ـ4ـ

الانواع المتعلقة بالمشاورات

لما كانت غاية الخطيب في المشاورة اقناع الجمهور على فعل ما هو خير لهم وفيه مصلحتهم, والاقلاع عن المساوئ والشرور وما يضرهم ـ ناسب ألا يبحث إلاّ عما يقع تحت اختيارهم من الخيرات والشرور, أو ما له مساس باختيارهم وإن كان في نفسه خارجاً عن اختيارهم.

وهذا الثاني كالارض السبخة ـ مثلاً ـ فإنًّ سوءها وضررها ليس باختيار المزارعين ولا من افعالهم, ولكن يمكن أن يكون لها مساس باختيارهم بأن يتجنبوا الزراعة فيها مثلاً, فيمكن أن يوصي الخطيب بذلك ويدخل في غرضه.

اما ما لا يقع تحت اختيارهم وما ليس له مساس به أصلاً فليس للمشاورة أنْ يتعرض له.

والانواع التي تتعلق بالمشاورات على قسمين رئيسين:

(القسم الأول) ما يتعلق بالأمور العظام, وهي أربعة:

1ـ (الأمور المالية العامة), من نحو صادرات الدولة ووارداتها, وما يتعلق في دخل الأمة ومصروفاتها. فالخطيب فيها ينبغي أنْ يطلع على القوانين التي تخصها وعلى العلوم التجارية والمالية وما له دخل في زيادة الثروة أو نقصها.

ـ (الحرب والسلم). فالخطيب فيه لا يستغني عن معرفة القوانين العسكرية والعلوم الحربية واصول تنظيم الجيوش وقيادتها, مع الاطلاع على تاريخ الحروب والوقائع, وسر نشوبها واخمادها, والوسائل اللازمة للهجوم والدفاع, وما يتحقق به النصر وما يتمكن به من النجاة من الهزيمة. كما ينبغي ان يكون عارفاً بما يثير الغيرة والحمية في نفوس الجنود وما يشجعهم ويثبت عزائمهم, ويشحذ هممهم, ويهون عليهم الموت في سبيل الغاية التي يحاربون لأجلها. وأن يكون عارفاً بما يثير في نفوس الأعداء الخوف والرهبة وضعف الهمة واليأس من النصر وتوقع الهزيمة, ونحو ذلك مما يسمى في الاصطلاح الجديد (بحرب الاعصاب).

3ـ (المحافظة على المدن). والعلوم التي تخصها ولا يستغني الخطيب عن معرفتها هي علوم هندسة البناء والمسح وتنظيم الشوارع, وما تحتاجه البلدة في مجاري مياهها وتنويرها وتعبيد طرقها ونظافتها, ونحو ذلك.

4ـ (الاجتماعيات العامة). كالشرايع والسنن من دينية أو مدنية أو سياسية. ففي المصلحة الدينية ـمثلاًـ ينبغي للخطيب أن يكون عارفاً بالشريعة السماوية, حافظاً لآثارها مطلعاً على تاريخها, ملماً بأصول العقائد وفروع تلك الشريعة.

أما لو كان خطيباً في غاية سياسية أو نحوها, فينبغي أن يكون خبيراً بما يخصها من قوانين وعلوم وما يكتنفها من تاريخ وحوادث وتقلبات. فالسياسي يحتاج الى العلوم السياسية والخبرة بأمورها, والأخلاقي يحتاج الى علم الأخلاق, والحاكم والمحامي الى القوانين الشرعية والمدنية.

وعلى الاجمال ان الخطيب في الامور الاجتماعية ـ لاسيما مريد المحافظة على سنة أو دولة ـ يلزم فيه أنْ يكون أعلم وأمهر الخطباء الآخرين, واعرف بنفسيات الجمهور ومصالحهم, لأنَّ موقفه مع الجمهور من أدق المواقف واصعبها.

بل هذا الباب ـ من باب المشاورة ـ على العموم من أخطر أبواب الخطابة وأشقها, فقد يسقط الرجل الديني والسياسي في نظر الجمهور لاتفه الاسباب. وكم شاهدنا وسمعنا رئيس دولة, أو مرشد قطر, أو مرجعاً دينياً لفرقة, بينما هو في القمة من عظمته إذا به يهوي بين عشية وضحاها من برجه الرفيع محطماً, لخطأه صغيرة ارتكبها, أو لأمر فعله أو قاله معتقداً فيه الصلاح فاتهمه الجمهور بالخيانة أو الخطل, أو ظنوا فيما عمله أو رآه الفساد والضرر.

والجمهور لا صبر له على كتمان رأيه أو تأجيل التعبير عنه الى وقت آخر, كما لا يعرف المجاملة والمداراة والمداهنة والمماشاة؛ ولا يفهم البرهان والدليل حينئذ إلا القوة تسكته أو السيف يفنيه.

٭ ٭ ٭

هذا, وأنّ حصر كل ما ينبغي للخطيب في باب الاجتماعيات من معرفة لا يسعه هذا المختصر, وكفى ما أشرنا اليه.

ونزيد هنا انه على العموم من أهم ما يلزم له ـ بعد معرفة كل ما يتعلق بفرعه المختص به ـ أن يكون مطلعاً على علم الاجتماع وعلم النفس. وأهم من ذلك الخبرة في تطبيقهما, وتشخيص نفسيات الجماهير المستمعين له, ومعرفة تاريخ من سبقه من القادة والرؤساء والاستفادة من تجاربهم منضمة الى تجاربه الشخصية. وأهم من ذلك كله المواهب الشخصية التي أشرنا اليها سابقاً, فإنّه كم من خطيب موهوب يبز أعلم العلماء وهو لم يدرس علوم الاجتماع, اذا يسوقه ذكاؤه وفطرته الى معرفة ما يقتضيه ذلك الاجتماع وما يتطلبه, فيستطيع أن يهيمن عليه ويسخره ببيانه ويسخره بإسلوبه.

٭ ٭ ٭

(القسم الثاني) الرئيسي ما يتعلق بالامور الجزئية

وهي غير محدودة ولا معدودة, فلذلك لا يمكن ضبطها, وانما يتبع فيها نباهة الخطيب وفطنته. غير أنها تشترك في شيء واحد عام هو طلب صلاح الحال. فلذلك من جهة عامة ينبغي للخطيب أن يعرف:

(أولاً)ـ معنى صلاح الحال, مثل أن يقال إنه في الانسان استجماع الفضائل النفسية والجسمية, أو الحصول على الخيرات والمنافع التي بها السعادة في الدنيا والاخرة, أو الحصول على الملذات واشباع الشهوات مع محبة القلوب واحترام الناس في الحضور والثناء عليه في الغيبة...وهكذا, على حسب اختلاف الآراء والانظار في معنى صلاح حال الانسان.

و(ثانياً)ـ الأمور التي بها يتحقق صلاح الحال, مثل فضيلة النفس بالحكمة والاخلاق ونحوها مما تقدم, ومثل فضيلة البدن بالصحة وقوة العضلات والجمال واعتدال البنية, ومثل طهارة الأصل ونباهة الذكر والكرامة والشرف والثروة وكثرة الاتباع والانصار وحسن الحظ ونحو ذلك.

و(ثالثاً)ـ طرق اكتساب هذه الامور واحدة واحدة, وأحسن الوسائل وأسهلها في الحصول عليها. مثل ان يعرف أن الحكمة والمعرفة تحصل بالجد والتحصيل والاخلاص لله والتجرد عن مغريات الدنيا, وان الصحة تحصل بالرياضة وتنظيم المأكولات, وان الثروة تحصل بالزراعة أو التجارة او الصناعة...

وهكذا.

و(رابعاً)ـ الأمور النافعة في تحصيل تلك الخيرات والمعينة لوسائلها كالسعي وانتهاز الفرص والتضحية بكثير من الملذات, والصدق والامانة. وبعكسها الامور الضارة كالركون الى الراحة والكسل وايثار اللذة واللهو والبطالة ونحو ذلك.

و(خامساً)ـ ما هو الافضل من الخيرات والانفع, وبأي شيء تتحقق الافضلية, مثل أن الأعم الشامل أفضل مما هو دونه في الشمول, والدائم خير من غير الدائم, وما هو أكثر نفعاً أحسن مما هو أقل, وما يستتبع نفعاً آخر أنفع مما لا يستتبع...هكذا.

٭ ٭ ٭

هذه جملة الأنواع المتعلقة باصناف الخطابة الثلاثة, وهناك أنواع أخرى مشتركة بطول الكلام عليها كأنواع ما يعد للاستدراجات وما يتعلق بامكان الأمور أضربنا عنها اختصاراً.

٭ ٭ ٭

المبحث الثالث ـ التوابع

ـ1ـ

تمهيد 

تقدم ص 372 معنى العمود والأعوان, وذكرنا هناك أقسام الاعوان من الشهادة والاستدراجات التي هي خارجة عن نفس العمود. وكل ذلك من أجزاء الخطابة.

وهناك وراء أجزاء الخطابة أمور خارجة عنها مزينة لها وتابعة ومتتمة لها, باعتبار مالها من التأثير في تهيئة المستمعين لقبول قول الخطيب. وهي على الاجمال ترتبط كلها بنفس القول والخطابة. فلذلك تسمى (بالتوابع) وتسمى أيضاً (التحسينات) و (التزيينات).

وهي ثلاثة أنواع: (1) ما يتعلق بنفس الألفاظ (2) ما يتعلق بنظمها وترتيبها (3) ما يتعلق بالأخذ بالوجوه. ونحن نشير الى هذه الأقسام ونوضحها على حسب هذا الترتيب, فنقول:

ـ2ـ

حال الالفاظ

والمراد منها ما يتعلق بهيئة اللفظ مفرداً كان أومركباً, والتي ينبغي للخطيب أن يراعيها. وأهمها الأمور الاتية:

1ـ أن تكون الالفاظ مطابقة للقواعد النحوية والصرفية في لغة الخطيب فإن اللحن والغلط يشوه الخطاب ويسقط أثره في نفوس المستمعين.

2ـ ان تكون الالفاظ من جهة معانيها صحيحة صادقة, بان لا تشتمل ـ مثلاً ـ على المبالغات الظاهر عليها الكذب.

3ـ ألا تكون ركيكة الاسلوب, ولا متكلفاً بها على وجه تخرج عن المحاورة التي تصلح لمخاطبة العامة والجمهور, بل يبغي أن يكون إسلوبها معتدلاً على نحو ترتفع به عن ركاكة الإسلوب العامي ولا تبلغ درجة إسلوب محاورة الخاصة الذي لا ينتفع به الجمهور.

4ـ أن تكون وافية في معناها بلا زيادة وفضول, ولا نقصان مخّل.

5ـ أن تكون خالية من الحشو الذي يفكك نظام الجمل وارتباطها, أو يوجب اغلاق الكلام وصعوبة فهمه.

6ـ أن يتجنب فيها الابهام والايهام واحتمال اكثر من معنى, وان كان ذلك مما قد يحسن في الكلام الشعري, ويحسن من الكهان الذين يريدون ألا يظهر كذبهم في تنبؤاتهم. ولكنه لا يحسن ذلك من الخطيب إلا إذا كان سياسياً حينما يقضي موقفه عليه الفرار من مسؤولية التصريح.

7ـ أن تكون معتدلة في الإيجاز والاطناب, لأنّ الإيجاز قد يخّل بالمعنى والتطويل يورث الملل. والحالات تختلف في ذلك, فقد يكون المستمعون كلهم أو أكثرهم على حال من الذكاء والمعرفة يحسن في خطابهم الإيجاز, وقد يكون المطلوب يستدعي التاكيد والتكرار والتهويل فيحسن التطويل حتى مع المستمعين الأذكياء.

وعلى كل حال, ينبغي بل يجب تجنب التكرار الذي لا فائدة فيه في جميع المواقع وكذلك ايراد الالفاظ المترادفة لا يحسن الاكثار منه.

8ـ ان تكون خالية من الالفاظ الغريبة والوحشية وغير المتداولة, ومن التعبيرات التي يشمئز منها المستمعون كالالفاظ الفحشية, فلو اضطر الى التعبير عن معانيها فليستعمل بدلها الكنايات.

9ـ أن تكون مشتملة على المحسنات البديعية والاستعارات والمجازات والتشبيهات, فان هذه كلها لها الاثر الكبير في طراوة الكلام وجاذبيته وحلاوته.

ولكن يجب أن يعلم ان الاستعارات والمحسنات ونحوها لا تخلو عن غرابة وبعد على فهم الناس, فلا ينبغي الخروج بها عن حد الاعتدال وينبغي أن يراعى فيها الاقرب الى طبع العامة ويفضل منها ما هو مطبوع على المتصنع المتكلف به.

ويحسن أن نشبهها بالغرباء في مجالس الاصدقاء فإنَّ حضورهم لا يخلو من فائدة ولكنهم لا بدّ أنْ يؤثروا ضيقاً وانقباضاً في نفوس الاصدقاء.

10ـ أن تكون الجمل مزدوجة موزونة المقاطع. ومعنى الوزن هنا ليس الوزن المقصود به في الشعر, بل معادلتها على الوجوه الاتية, وهي على أنحاء متفاوتة متصاعدة:

أـ أن تكون مقاطيع الجمل متقاربة في الطول والقصر, وأن كانت حروفها وكلماتها غير متساوية, مثل قوله: >بكثرة الصمت تكون الهيبة, وبالنصفة يكثر المواصلون<.

ب ـ ان يكون عدد كلمات المقاطيع متساوية نحو: >العلم وراثة كريمة, والآداب حلل مجددة<.

ج ـ أن تكون الكلمات بالاضافة الى تساويها متشابهة وحروفها متعادلة نحو:

>أقوى ما يكون التصنع في أوائله, وأقوى ما يكون الطبع في آخره<.

دـ أن تكون المقاطيع مع ذلك في المد وعدمه متعادلة نحو: >طلب العادة أفضل الافكار وكسب الفضيلة أنفع الاعمال< فالافكار تعادل الاعمال في المد.

هـ ـ أن تكون الحروف الاخيرة من المقاطيع متشابهة كما لو كانت مسجعة نحو: >الصبر على الفقر قناعة, والصبر على الذل صراعة<.

وأحسن الأوزان في الجمل أن تكون متعادلة مثنى أو ثلاث, اما ما زاد على ذلك فلا يحسن كثيراً, بل قد لا يستساغ ويكون من التكلف الممقوت.

ـ3ـ

نظم وترتيب الاقوال الخطابية

كل كلام يشتمل على ايضاح مطلوب خطابياً أو غير خطابي لا بدّ أن يتألف من جزءين أساسين, هما الدعوى والدليل عليها. والنظم الطبيعي يقتضي تقديم الدعوى على الدليل وقد تقتضي مصلحة الاقناع العكس, وهذا أمر يرجع تقديره الى نفس المتكلم.

أما الأقوال الخطابية فالمناسب لها على الأغلب ـ بالاضافة الى ذينك الجزءين الأساسين ـ أن تشتمل على ثلاثة أمور أخرى: تصدير واقتصاص وخاتمة. ونحن نبينها بالاختصار:

الأول ـ (التصدير). وهو ما يوضح امام الكلام ومقدمة له ليكون بمنزلة الاشارة والايذان بالغرض المقصود للخطيب. والفائدة منه اعداد المستمعين وتهيئتهم الى التوجه نحو الغرض. وهو يشبه تنحنح المؤذن قبل الشروع, وترنم المغني في ابتداء الغناء. وكذلك كل أمر ذي بال يراد منه لفت الانظار اليه ينبغي تصديره بشيء مؤذن به.

والأحسن في الخطابة ان يكون التصدير مشعراً بالمقصود وملوحا به, لأنه إنما يؤتى به لفائدة تهيئة المستمعين لتقبل الغرض المقصود. ولأجل هذا يفتتح خطباء المنبر الحسيني خطاباتهم بالصلاة على الحسين $ والتظلم له. ويفتتح الكتاب رسائلهم بالبسملة ونحوها وبالسلام والشوق الى المرسل اليه, وبما قد يشعر بالمراد, كما هو المألوف عند أصحاب الرسائل في العصور المتقدمة.

ولكن ينبغي للخطيب اوالكاتب ـ اذا راى ان التصدير مما لا بد منه ـ ان يلاحظ فيه أمرين :ـ

1ـ ألا يفتتح خطابه بما ينفر المخاطبين أو يثير سخطهم, كأن يأتي ـ مثلاًـ بما يشعر التشاؤم في موضع التهنئة والفرح والسرور أو ما يشعر بالسرور في موضع التعزية والحزن, أو يعبر بما يشعر بتعاظمه على المخاطبين, ونحو ذلك.

2ـ ان يحاول الاختصار جهد الامكان بشرط أن يورده بعبارة مفهمة متينة, فإن الاطالة في التصدير يضجر المخاطبين فينتقض عليه الغرض قبل الوصول الى مطلوبه, إلا إذا كان استدراجه لهم يتوقف على الاطالة, كما لو أراد أن يذم خصماً أو فعلاً, أو يثني على نفسه أو رأيه.

وعلى كل حال ان التصدير بالكلام المكرر المألوف أو اطالته بالكلام الفارغ من أشنع ما يصنعه بعض الخطباء والكتاب, وهو على المعجز أكثر منه دليلاً على المقدرة, كما أن الافضل في الاعتذار أن يترك التصدير اصلاً. لأنّه قد يثير الظن بانه يريد التعلل والتهرب من الجواب والدفاع.

الثاني ـ (الاقتصاص) وهو ما يذكر بياناً على التصديق بالمطلوب وشارحا له بقصة صغيرة تؤيده, فإنًّ القصة من اروع ما يعين على الاقناع ويقرب الغوض الى الاذهان, وكانها من أقوى الادلة عليه لا سيما عند العامة. واصبحت القصة في العصور الاخيرة أدباً وفناً قائماً برأسه يستعين بها دعاة الافكار الحديثة لتلقين العامّة واقناعهم, وإن كانت من صنع الخيال, والسر في أن طبيعية الإنسان شهوة الاستماع الى القصة فيلتذ بها. وذلك لاشباع غريزة حب الاطلاع أو لغير ذلك من غرائزه, وقد يعتبرها شاهداً ودليلاً باعتبارها تجربة ناجحة.

ثم الخطيب أو الكاتب بعد الاقتصاص ينبغي أن يشرع في بيان ما يريد اقناع الجمهور به.

الثالث ـ (الخاتمة) وهي أن يأتي بملخص ما سبق الكلام فيه وبما يؤذن بوداع المخاطبين من دعاء وتحية ونحوهما حسبما هو مألوف.

ولا شك أن الخاتمة كالتصدير فيها تزيين للقول وتحسين له, لا سيما في الرسائل والمكاتبات.

ـ4ـ

الاخذ بالوجوه

المقصود بالاخذ بالوجوه تظاهر الخطيب بأمور معبرة عن حاله ومؤثرة في المستمع على وجه تكون خارجة عن ذات الخطيب وأحواله وخارجة عن نفس الفاظه وأحوالها, وتكون الصناعة وحيلة. ولذلك يسمى هذا الأمر نفاقاً ورياء, وليس المقصود به أنه يجب ألا تكون له حقيقة كما قد تعطيه كلمة النفاق والرياء.

وهذا الأمر مع فرضه من الأمور الخارجة عن ذات الخطيب ولفظه, فهو له تعلق باحدهما فهو لذلك على نوعين:

1ـ ما يتعلق بلفظه, والمقصود به ما يختص هيئة اداء اللفظ وكيفية النطق به, فإن الخطيب الناجح من يستطيع أن يؤدي الفاظه بأصوات ونبرات مناسبة للانفعال النفسي عنده أو الذي يريد أن يتظاهر به, ومناسبة لما يريد أن يحدثه في نفوس المخاطبين من انفعالات, وان يلقيها بنغمات مناسبة لمقصوده والمعنى الذي يريد افهامه للمخاطبين: فيرتفع صوته عند موضع الشدة والغضب مثلا ويخفضه عند موضع اللين, ويسرع به مرة ويتانى أخرى, وبنغمة محزنة مرة ومفرحة أخرى ...وهكذا حسب الانفعالات النفسية وحسب المقاصد.

وقد قلنا سابقاً في الاستدراجات ان هذه امور ليس لها قواعد مضبوطة ثابتة, بل هي تنشأ من موهبة يمنحها الله تعالى من يشاء من عباده تصقل بالمران والتجربة.

وعلى كل حال ينبغي أن يكون الالقاء معبراً عما يجيش في نفس الخطيب من مشاعر وحالات نفسية او يتكفلها, ومعبراً عما يريد ان يحدثه في نفوس المخاطبين, كما ينبغي أن يكون معبراً أيضاً عن مقاصده واغراضه الكلامية, فإن جملة واحدة قد تلقى بلهجة استفهام وقد تلقي نفسها بلهجة خبر من دون احداث أي تغيير في نفس الالفاظ, والفرق يحصل بالنغمة واللهجة.

وهذه القدرة على تأدية الكلام المعبر بلهجاته ونغماته ونبراته شرط اساس لنجاح الخطيب, إذ بذلك يستطيع أن يمتزج بأرواح المستمعين ويبادلهم العواطف ويجذبهم اليه. والقاء الكلام الجامد لا يثير انفعالاتهم ولا تتفتح له قلوبهم ولا عقولهم, بل يكون على العكس مملاً مزعجاً.

2ـ ما يتعلق بالخطيب, وهو ما يخص معرفته عند المستمعين وهيئته ومنظره الخارجي ليكون قوله مقبولاً. وقد تقدم ذكر بعضه في الاستدراجات. وهو على وجهين قولي وفعلي: ـ

أما القولي فمثل الثناء عليه أو على رأيه واظهار نقصان خصمه أو ما يذهب اليه وتقرير ما يقتضي اعتقاد الخير به والثقة بقوله.

واما الفعلي فمثل الصعود على مرتفع كالمنبر فان مشاهدة الخطيب لها أكبر الأثر في الاصغاء اليه وملاحقة تسلسل كلامه والانطباع بافكاره وانفعالاته النفسية. ومثل الظهور بمنظر جذاب ولباس مقبول لمثله فإن لذلك أيضاً أثره البالغ في نفوس المخاطبين. ومثل الاشارات باليد والعين والرأس وحركات البدن وتقاطيع الوجه وملامحه, فإن كل هذه تعبر عن الانفعالات والمقاصد اذا احسن الخطيب ان يضعها في مواضعها. وهكذا كل فعل له تاثير على مشاعر السامعين على نحو ما اشرنا اليه في الاستدراجات.

والعوام أطوع إلى الاستدراجات من نفس الكلام المعقول المنطقي, ولهذا السبب تجد أن المتزهد المتقشف يسيطر على نفوسهم وإن كان فاسد العقيدة أو غير مرضي القول أو سيء التصرفات.

٭٭٭

ثم انه ينبغي ان يجعل من باب الاخذ بالوجوه الذي يستعين به الخطيب على التأثير هو (الشعر), فإنه ـ كما سيأتي ـ أكد في التأثير على العواطف وأمكن في القلوب.

فلا ينبغي ان تفوت الخطيب الاستعانة بالشعر, فيمزج به كلامه ويلطف به خطابه, لا سيما الامثال والحكم منه, ولا سيما ما كان, مشهورا لشعراء معروفين.

وسياتي في البحث الآتي الكلام عن صناعة الشعر:

الفصل الرابع

صناعة الشعر

تمهيد: 

ان الشعر صناعة لفظية تستعملها جميع الأمم على اختلافها. والغرض الاصلي منه التأثير على النفوس لإثارة عواطفها: من سرور وابتهاج, أو حزن وتألم, أو اقدام وشجاعة, أو غضب وحقد, أو خوف وجبن, أو تهويل أمر وتعظيمه, أو تحقير شيء وتوهينه, أو نحو ذلك من انفعالات النفس.

والركن المقوم للكلام الشعري المؤثر في انفعالات النفوس ومشاعرها أن يكون فيه تخييل وتصوير, إذ للتخييل والتصوير الأثر الأول في ذلك كما سيأتي بيانه فلذلك قيل: إن قدماء المناطقة من اليونانيين جعلوا المادة المقومة للشعر القضايا المتخيلات فقط, ولم يعتبروا فيه وزناً ولا قافية.

أما العرب ـ وتبعتهم أمم أخرى ارتبطت بهم كالفرس والترك ـ فقد اعتبروا في الشعر الوزن المخصوص المعروف عند العروضيين, واعتبروا أيضاً القافية على ما هي معروفة في علم القافية, وإن اختلفت هذه الامم في خصوصياتها. اما ما ليس له وزن وقافية فلا يسمونه شعراً وان اشتمل على القضايا المخيلات.

ولكن الذي صرح به الشيخ الرئيس في منطق الشفا أن اليونانيين كالعرب كانوا يعتبرون الوزن في الشعر, حتى أنه ذكر أسماء الاوزان عندهم.

وهكذا يجب ان يكون, فإن للوزن أعظم الأثر في التخييل وانفعالات النفس, لأنَّ فيه من النغمة والموسيقى ما يلهب الشعور ويحفزه, وما قيمة الموسيقى إلا بالتوقيع على وزن مخصوص منظم. بل القافية كالوزن في ذلك وإن جاءت بعده في الدرجة.

ومن الواضح أن الشعر الموزون المقفى يفعل في النفوس ما لا يفعله الكلام المنثور, سواء كان هذا الفرق بسبب العادة إذ الوزن صار مألوفاً عند العرب وشبههم وتربى لديهم ذوق ثان غير طبيعي؛ ام ـ على الاصح ـ كان بسبب تأثر النفس بالوزن والقافية بالغريزة كتأثرها بالموسيقى المنظمة بلا فرق. والعادة ليس شأنها أن تخلق الغرائز والأذواق, بل تقويها وتشحذها وتنميها.

بل حتى الكلام المنثور المقفى والمزدوج المعادلة جمله بدون أن يكون له وزن شعري له وقع على النفوس يهزها, كما سبق الكلام عليه في توابع الخطابة نعم المبالغة في التسجيع الذي يبدو متكلفاً به ـ على النحو الذي ألفته القرون الاسلامية الأخيرة ـ أفقدت الكلام رونقه وتأثيره.

وعلى هذا, فالوزن والقافية يجب أن يعتبرا من أجزاء الشعر ومقوماته, لا من محسناته وتوابعه, ما دام المنطقي إنّما يهمه من الشعر هو التخييل, وكل ما كان اقوى تأثيراً وتصويراً كان أدخل في غرضه. ويصح ـ على هذا ـ أن يعد الوزن والقافية من قبيل (الأعوان) نظير التي ذكرناها في الخطابة. اما (العمود) فهو نفس القضايا المخيلات, فكما تنقسم أجزاء الخطابة الى عمود وأعوان فكذلك الشعر.

نعم ان الكلام المنظوم المقفى اذا لم يشتمل على التصوير والتخييل لا يعد من الشعر عند المناطقة, فلا ينبغي أن يسمى المنظوم في المسائل العلمية أو التاريخية المجردة مثلاً شعراً وان كان شبيهاً به صورة. وقد يسمى شعراً عند العرب او بالأصح عند المستعربين.

ومما ينبغي أن يعلم في هذا الصدد أنا عندما اعتبرنا الوزن والقافية فلا نقصد بذلك خصوص ما جرت عليه عادة العرب فيهما, على ما هما مذكوران في علمي العروض والقافية بل كل ما له تفاعيل لها جرس وإيقاع في النفس ـ ولو مثل >البنود< وماله قوافي مكرره مثل (الموشحات والرباعيات) ـ فإنه يدخل في عداد الشعر.

أما (الشعر المنثور) المصطلح عليه في هذا العصر فهو شعر ايضاً, ولكنّه بالمعنى المطلق الذي قيل عنه انه مصطلح مناطقة اليونان, فقد فَقَدَ ركناً من أركانه وجزءاً من أجزائه.

والانصاف ان اهمال الوزن والقافية يضعف القيمة الشعرية للكلام ويضعف أثر التخييلي في النفوس, وان جاز اطلاق اسم الشعر عليه إذا كانت قضاياه تخييلية.

تعريف الشعر:

وعلى ما تقدم من الشرح ينبغي ان نعّرف الشعر بما ياتي:

>انه كلام مخيل مؤلف من أقوال موزونة متساوية مقفاة<.

وقلنا: (متساوية), لأنّ مجرد الوزن من دون تساو بين الابيات ومصارعها فيه لا يكون له ذلك التأثير إذ يفقد مزية النظام فيفقده تأثيره. فتكرار الوزن على تفعيلات متساوية هو الذي له الأثر في انفعال النفوس.

فائدته:

ان للشعر نفعاً كبيراً في حياتنا الاجتماعية, وذلك لإثارة النفوس عند الحاجة في هياجها, لتحصيل كثير من المنافع في مقاصد الانسان فيما يتعلق بانفعالات النفوس واحساساتها, في المسائل العامة: من دينية أو سياسية أو اجتماعية, أو من الأمور الشخصية الفردية. ويمكن تلخيص أهم فوائده في الأمور الآتية:

1ـ اثارة حماس الجند في الحروب.

2ـ اثارة حماس الجماهير لعقيدة دينية أو سياسية, أو اثارة عواطفه لتوجيهه الى ثورة فكرية او اقتصادية.

3ـ تأييد الزعماء بالمدح والثناء وتحقير الخصوم بالذم والهجاء.

4ـ هياج اللذة والطرب وبعث السرور والابتهاج لمحض الطرب والسرور, كما في مجالس الغناء.

5ـ اهاجة الحزن والبكاء والتوجع والتألم, كما في مجالس العزاء.

6ـ اهاجة الشوق الى الحبيب أو الشهوة الجنسية, كالتشبيب والغزل.

7ـ الاتعاظ عن فعل المنكرات واخماد الشهوات, او تهذيب النفس وترويضها على فعل الخيرات, كالحكم والمواعظ والاداب.

السبب في تاثيره على النفوس:

وبعد معرفة تلك الفوائد يبقى ان نسال عن شيئين: (الاول) عن السبب في تاثير الشعر على النفس لاثارة تلك الانفعالات. و (الثاني) بماذا يكون الشعر شعراً أي مخيلا؟

والجواب على السؤال الاول ان نقول:

ان الشعر قوامه التخييل, والتخييل ـ من البديهي ـ انه من أهم الأسباب المؤثرة على النفوس, لأن التخييل أساسه التصوير والمحاكاة والتمثيل لما يراد من التعبير عن معنى, والتصوير له من الوقع في النفوس ما ليس لحكاية الواقع باداء معناه مجرداً عن تصويره, فإن الفرق عظيم بين مشاهدة الشيء في واقعه وبين مشاهدة تمثيله بالصورة أو بمحاكاته بشيء آخر يمثله. اذ التصوير والتمثيل يثير في النفس التعجب والتخييل فتلتذ به وترتاح له, وليس لواقع الحوادث المصورة والممثلة قبل تصويرها وتمثيلها ذلك الأثر من اللذة والارتياح شاهدها الانسان.

واعتبر ذلك فيمن يحاكون غيرهم في مشية او قول او انشاد او حركة او نحو ذلك فانه يثير اعجابنا ولذتنا او ضحكنا, مع انه لا يحصل ذلك الاثر النفسي ولا بعضه لو شاهدنا نفس المحكيين في واقعهم. وما سر ذلك الا التخييل والتصوير في المحاكاة.

وعلى هذا كلما كان التصوير دقيقاً معبراً كان أبلغ أثرا في النفس. ومن هنا كانت السينما من أعظم المؤثرات على النفوس, وهو سر نجاحها واقبال الجمهور عليها, لدقة تعبيرها وبراعة تمثيلها عن دقائق الأشياء التي يراد حكايتها.

والخلاصة: ان تأثير الشعر في النفوس من هذا الباب, لأنّه بتصويره يثير الاعجاب والاستغراب والتخييل, فتلتذ به النفس وتتأثر به حسبما يقتضيه من التأثير. ولذا قالوا: ان الشاعر كالمصور الفنان الذي يرسم بريشته الصور المعبرة.

وحق ان نقول حينئذ: ان الشعر من الفنون الجميلة الغرض منه تصوير المعاني المراد التعبير عنها, ليكون مؤثراً في مشاعر الناس, ولكنّه تصوير بالالفاظ.

بماذا يكون الشعر شعراً:

اذا عرفت ما تقدم فلنعد الى السؤال الثاني, فنقول: بماذا يكون الشعر شعراً أي مخيلا؟ والجواب: أن التصوير في الشعر كما المعنا اليه في التمهيد يحصل بثلاثة اشياء:

1ـ (الوزن), فان لكل وزن شأناً في التعبير عن حال من احوال النفس ومحاكاته له, ولهذا السبب يوجب انفعالاً في النفس, فمثلاً بعض الاوزان يوجب الطيش والخفة, وبعضها يقتضي الوقار والهدوء , وبعضها يناسب الحزن والشجى, وبعضها يناسب الفرح والسرور.

فالوزن ـ على كل حال ـ بحسب ما له من ايقاعات موسيقية يثير التخيل واللذة في النفوس. وهذا امر غريزي في الانسان. واذا ادى الوزن بلحن ونغمة تناسبه مع صوت جميل كان أكثر ايقاعاً وأشدّ تأثيراً في النفس, لا سيما ان لكل نغمة صوتية أيضاً تعبيراً عن حال: فالنغمة الغليظة ـ مثلاًـ تعبر عن الغضب, والنغمة الرقيقة عن السرور وهيجان الشوق, والنغمة الشجية عن الحزن. فإذا انضمت النغمة الى الوزن تضاعف أثر الشعر في التخييل, ولذلك تجد الاختلاف الكثير في تأثير الشعر باختلاف انشاده بلحن وبغير لحن, وباختلاف طرق الالحان وطرق الانشاد, حتى قد يبلغ الى درجة النشوة والطرب فيثير عاطفة عنيفة عاصفة.

2ـ المسموع من القول يعني الألفاظ نفسها, فإن لكل حرف أيضاً نغمة وتعبيراً عن حال, كما أن تراكيبها لها ذلك الاختلاف في التعبير عن أحوال النفس والاختلاف في التأثير فيها, فهناك ـ مثلاً ـ ألفاظ عذبة رقيقة, وألفاظ غليظة ثقيلة على السمع, والفاظ متوسطة.

ثم ان للفظ المسموع ايضا تاثيرا في التخييل اما من جهة جوهره كأن يكون فصيحاً جزلاً, او من جهة حيلة بتركيبه, كما في أنواع البديع المذكورة في علمه, وكالتشبيه والاستعارة والتورية ونحوها المذكورة في علم البيان.

3ـ نفس الكلام المخيل, أي معاني الكلام المفيدة للتخييل, وهي القضايا المخيلات التي هي العمدة في قوام الشعر ومادته التي يتألف منها.

وإذا اجتمعت هذه العناصر الثلاثة كان الشعر كاملاً, وحق ان يسمى (الشعر التام). وبها يتفاضل الشعراء وتسمو قيمته إلى أعلى المراتب أو تهبط الى الحضيض.

وبها تختلف رتب الشعراء وتعلو وتنزل درجاتهم: فشاعر يجري ولا يجري معه فيستطيع ان يتصرف في النفوس, حتى يكاد تكون له منزلة الانبياء من ناحية التأثير على الجماهير, وشاعر لا يستحق إلا أن تصفعه وتحقره, حتى يكاد يكون اضحوكة للمسهزئين, وبينهما درجات لا تحصى.

اكذبه اعذبه:

من المشهورات عند شعراء اللغة العربية قولهم: >الشعر اكذبه اعذبه< وقد استخف بعض الادباء المحدثين بهذا القول, ذهاباً الى ان الكذب من أقبح الأشياء فكيف يكون مستملحاً, مضافاً الى أن القيمة للشعر إنّما هي بالتصور المؤثر فإذا كان كاذباً فليس في الكذب تصوير لواقع الشيء.

وهذا النقد حق لو كان المراد من الشعر الكاذب مجرد الاخبار عن الواقع كذباً. غير ان مثل هذا الاخبار ـ كما تقدم ـ ليس من الشعر في شيء وإن كان صادقاً.

وإنما الشعر بالتصوير والتخييل. ولكن يجب أن نفهم أن تصوير الواقع تارة يكون بما له من الحقيقة الواقعة بلا تحوير ولا اضافة شيء على صورته ولا مبالغة فيه او حيلة في تمثيلة. ومثل هذا يكون ضعيف التأثير على النفس ولا يوجب الالتذاذ المطلوب.

وتارة أخرى, يكون بصورة تخييلية ـ على ما نوضحه فيما بعد ـ بان تكون كالرتوش التي تصنع للصورة الفوتوغرافية اما بتحسين أو بتقبيح, مع أن الواقع من ملامح ذي الصورة محفوظ فيها, أو كالصورة الكاريكاتورية التي تحكي صورة الشخص بملامحه المميزة له مع ما يفيض عليها المصور من خياله من تحريفات للتعبير عن بعض اخلاقه او حالاته او افكاره او نحو ذلك.

فهذا التعبير أو التصوير من جهة صادق, ومن جهة أخرى كاذب, ولكنه في عين كونه كاذبا هو صادق. وهذا من العجيب. ولكن معناه ان المراد الجدي ـ أي المقصود بيانه واقعاً وجداً ـ من هذا التخييل صادق, في حين ان نفس التخييل الذي ينبغي ان نسميه المراد الاستعمالي كاذب.

وليتضح لك هذا المعنى تأمل نظيره في تصويره الصورة الكاريكاتورية, فإن المصور قد يضفي على الصورة ما يدل على الغضب أو الكبرياء من ملامح تخيلها المصور وليست هي حقيقية لصاحب الصورة بالشكل الذي تخيله المصور, وهي مراد استعمالي كاذب. أما المراد الجدي وهو بيان أن الشخص غضوب أو متكبر فإن التعبير عنه يكون صادقاً, لو كان الشخص واقعاً كذلك أي غضوباً أو متكبراً.

فإذن, إنما التخييل الكاذب وقع في المراد الاستعمالي لا الجدي.

وكذلك نقول في الشعر, ولا سيما ان أكثر ما يأتي فيه التخييل بالمبالغات, كالمبالغة بالمدح أو الذم أو التحسين أو التقبيح؛ والمبالغة ليست كذبا في المراد الجدي إذا كان واقعه كذلك ولكنها كاذبة في المراد الاستعمالي. وليس هذا من الكذب القبيح المذموم ما دام هو ليس مراد جدياً يراد الاخبار عنه حقيقة.

مثلاً قد يشبه الشعراء الخصر الدقيق بالشعرة الدقيقة فهذا تصوير لدقة الخصر. فإن أريد به الاخبار حقيقة وجداً عن أن الخصر دقيق كالشعرة أي أن المراد الجدي هو ذلك, فهو كذب باطل وسخيف, وليس فيه أي تأثير على النفس ولا تخييل, فلا يعد شعراً. ولكن في الحقيقة أن المراد الجدّي منه اعطاء صورة للخصر الدقيق لبيان ان حسنه في دقته يتجاوز الحد المالوف في الناس, وانما يكون هذا كاذباً إذا كان الخصر غير دقيق لأن الواقع يخالف المراد الجدي. اما المراد الاستعمالي وهو التشبيه بالشعرة فهو كاذب, ولا ضير فيه ولا قبح ما دام المراد به التوصل الى التعبير عن ذلك المراد الجدي بهذه الصورة الخيالية.

وبمثل هذا يكون التعبير مستغرباً وصورة خيالية قد تشبه المحال, فتجلب الانتباه وتثير الانفعال لغرابتها.

وكلما كانت الصورة الخيالية غريبة بعيدة تكون أكثر أثراً في إلتذاذ النفس واعجابها. ولذا نقول أن الشعر كلما كان مغرقاً في الكذب في المراد الاستعمالي بذلك المعنى من الكذب كان أكثر عذوبة وهذا معنى (اكذبه اعذبه) لا كما ظنه بعض من لا قدم له ثابتة في المعرفة. على أن التخييل وان كان حقيقة أي في مراده الجدّي أيضاً فإنّه يأخذ أثره من النفس, كما سنوضحه في البحث الاتي:

القضايا المخيلات وتاثيرها:

ونزيد على ما تقدم فنقول:

إن المخيلات ليس تأثيرها في النفس من أجل أنّها تتضمن حقيقة يعتقد بها, بل حتى لو علم بكذبها فإنّ لها ذلك التأثير المنتظر منها, لأنّه ما دام أن القصد منها هو التأثير على النفوس في احساساتها وانفعالاتها فلا يهم ألا تكون صادقة, إذ ليس الغرض منها الاعتقاد والتصديق بها.

والجمهور والنفوس غير المهذبة تتأثر بالمخيلات أكثر من تأثرها بالحقائق العلمية, لأن الجمهور أو الفرد غير المهذب عاطفي أكثر من أن يكون متبصراً, وهو اطوع للتخييل من الاقناع.

ألا ترى ان الكلام المخيل الشعري قد يجيب امراً مبغوضاً للنفس, وقد يبغض شيئاً محبوباً لها. واعتبر ذلك في اشمئزاز بعض الناس من أكلة لذيذة قد أقبل على أكلها فقيل له: انه وقع فيها بعض ما تعافه النفس كالخنفساء مثلاً, أو شبهت له ببعض المهوعات. فإن الخيال حينئذ قد يتمكن منه فيعافها حتى لو علم بكذب ما قيل.

ولا تنس القصة المشهورة لملك الحيرة النعمان بن المنذر مع نديمه الربيع وقد كان يأكل معه, فجاءه لبيد الشاعر, وهو غلام, مع قومه للانتقام من الربيع في قصة مشهورة في مجامع الأمثال, فقال لبيد مخاطباً للنعمان:

مهلاً أبيت اللعن لا تأكل معه ان استه من برص ملمعه

وانه يدخل فيها اصبعه يدخلها حتى يواري اشجعه

فرفع النعمان يده من الطعام وتنكر لنديمه هذا, وأبى أن يستكشف صدق هذا القول فيه, بالرغم على الحاجة, وقال له ما ذهب مثلاً من أبيات:

قد قيل ذلك ان حقاً وان كذباً فما اعتذارك من قول إذا قيلا

واعتبر ذلك أيضاً في تصوير الانسان بهذه الصورة اللفظية البشعة (أوله نطفة مذرة, وآخره جيفة قذرة. وهو ما بين ذلك يحمل العذرة). فإن هذه صورة حقيقية للانسان ولكنها ليست كل ماله من صور, وللنفس على كل حال محاسنها التي ينبغي أن يعجب بها, لا سيما من صاحبها, واعجاب المرء بنفسه وحبه لها اساس حياته كلها. ولكن مثل ذلك التصوير البشع ياخذ من النفس أثره من التنفر والاشمئزاز, حتى لو كان أبعد شيء في التأثير في التصديق والاعتقاد بحقارة النفس. وسبب هذا التأثر النفسي هو التخيل الذي قد يقلع المتكبر عن غطرسته ويخفف من اعجابه بنفسه. وهذا هو المقصود من مثل هذه الكلمة.

واعتبر أيضاً بالشعر العربي, فكم رفع وضيعا أو وضع رفيعاً, وكم اثار الحروب واورى الاحقاد. وكم قرب بين المتباعدين وآخى بين المتعادين. ورب بيت صار سبة لعشيرة وآخر صار مفخرة لقوم. على أن كل ذلك لم يغير واقعاً ولا اعتقاداً. ومرد ذلك كله الى الانفعالات النفسية وحدها, وقد قلنا انها اعظم تاثيراً على الجمهور الذي هو عاطفي بطبعه وعلى الافراد غير المهذبة التي تتغلب عليها العاطفة أكثر من التبصر.

والخلاصة: ان التصوير والتخييل مؤثر في النفس وان كان كاذباً بل ـ وقد سبق ـ كلما كانت الصورة أبعد وأغرب كانت أبلغ أثراً في اعجاب النفس والتذاذها.

وأحسن مثال لذلك قصص ألف ليلة وليلة, وكليلة ودمنة, والقصص في الأداب الحديث.

والسبب الحقيقي لانفعال النفس بالقضايا المخيلات الاستغراب الذي يحصل لها بتخييلها, على ما اشرنا اليه فيما تقدم.

الا ترى أن المضحكات والنوادر عند اول سماعها تأخذ أثرها في النفس من ناحية اللذة والانبساط أكثر مما لو تكررت وألفت الاذان سماعها. بل قد تفقد مزيتها وتصبح تافهة باهتة لا تهتز النفس لها. بل قد يؤثر تكرارها الملل والاشمئزاز.

واذا قيل في بعض الشعر انه >هو المسك ما كررته يتضوع< فهو من مبالغات الشعراء. واذا صح ذلك فيمكن ذلك لاحد وجهين: (الأول) أن يكون فيه من المزايا والنكات ما لا يتضح لأول مرة أولا يتمثل للنفس جيداً, فإذا تكررت قراءته استمري أكثر وانكشفت مزاياه بصورة اجلى فتتجده قيمته بنظر المستمع. (الثاني) ان عذوبة اللفظ وجزالته لا تفقد مزيتها بالتكرار وليست كالتخييل.

هل هناك قاعدة للقضايا المخيلات؟

قد تقدم ان قوام الشعر بثلاثة أمور: الوزن والالفاظ والمعاني المخيلة, فلا بد لمن يريد أن يتقن صناعة الشعر من الرجوع الى القواعد التي تضبط هذه الامور, فنقول:

أما (الوزن والالفاظ) فلها قواعد مضبوطة في فنون معروفة يمكن الرجوع اليها, وليس في علم المنطق موضع ذكرها, لأنّ المنطق انما يهمه النظر في الشعر من ناحية تخييلية فقط.

واما (الوزن) من ناحية ماهيته فانما يبحث عنه في علم الموسيقى. ومن ناحية استعماله وكيفيته فيبحث عنه في علم العروض.

واما (الالفاظ) فهي من شأن علوم اللغة وعلوم البلاغة والبديع.

وعلى هذا فلا بد للشاعر من معرفة كافية بهذه الفنون اما بالسليقة أو بالتعلم والممارسة, مع ذوق يستطيع به أن يدرك جزالة اللفظ وفصاحته ويفرق بين الالفاظ من ناحية عذوبتها وسلاستها. والناس تتفاوت تفاوتاً عظيماً في أذواقها, وان كان لكل امة ولكل اهل لغة ذوق عام مشترك. وللممارسة وقراءة الشعر الكثير الأثر الكبير في تنمية الذوق وصقله.

أما (القضايا المخيلات) فليس لها قاعدة مضبوطة يمكن تحريرها والرجوع اليها, لأنّها ليست من قبيل القضايا المشهورات والمظنونات يمكن حصرها وبيان أنواعها, اذ القضايا المخيلات ـ كما سبق ـ كلما كانت بعيدة نادرة وغريبة مستبعدة كانت أكثر تأثيراً في التخييل والتذاذ النفس. وقد سبق أيضاً بيان السبب الحقيقي في انفعال النفس بهذه القضايا.

وعليه فالقضايا المخيلات لا يمكن حصرها في قواعد مضبوطة, بل >الشعراء في كل وادٍ يهيمون<. وليس لهم طريق واحد مستقيم معلوم.

من أين تتولد ملكة الشعر؟

لا يزال غير واضح لنا سر ندرة الشعراء الحقيقيين في كل امة. بل لا تجد من كل أمة من تحصل له قوة الشعر في رتبة عالية فينبغ فيه ويتمكن من الابداع والاختراع إلاّ النادر القليل وفي فترات متباعدة قد تبلغ القرون.

ومن العجيب ان هذه الملكة ـ على ما بها من اختلاف في الشعراء قوة وضعفاًـ لا تتولد في أكثر الناس, وإن شاركوا الشعراء في تذوق الشعر وممارسته وتعلمه.

وكل ما نعلمه عن هذه الملكة انها موهبة ربانية كسائر مواهبه تعالى التي يختص بها بعض عباده, كموهبة حسن البيان أو الخطابة أو التصوير أو التمثيل ... وما الى ذلك مما يتعلق بالفنون الجميلة وغيرها.

ومن أجل هذا الاختصاص الرباني اعتبر الشعراء نوابغ البشر. وقد وجدنا العرب كيف كانت تعتز بشعرائها, فاذا نبغ في قبيلة شاعر أقاموا له الاحتفالات وتهنئها به القبائل الأخرى. ولو كان يتمكن أكثر الناس من أن يكونوا شعراء لما صحت منهم هذه العناية بشاعرهم ولما عدّوه نبوغا.

غير أن هذه الموهبة ـ كسائر المواهب الاخرى ـ تبدأ في تكوينها في النفس كالبذرة لا يحس بها حتى صاحبها, فإذا اكتشفها صاحبها من نفسه صدفة وسقاها بالتعليم والتمرين تنمو وتستمر في النمو, حتى قد يصبح شجرة باسقة تؤتي أكلها كل حين.

ولكن اكتشاف الموهبة ليس بالأمر الهين وقد يكتشفها الغير العارف قبل صاحبها نفسه. وقد تذوي وتموت المواهب في كثير من النفوس اذا أهملت في السن المنكر لصاحبها.

الصفحة السابقة الصفحة التالية

كتاب المنطق

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب