الصفحة السابقة الصفحة التالية

كتاب المنطق

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب

 

البابُ السادِس
الصّناعات الخمس

تمهيد:

تقدم أن للقياس مادة وصورة. والبحث عنه يقع من كلتا الجهتين. وما تقدم في (الباب الخامس) كان بحثاً عنه من جهة صورته, أي هيئة تأليفه, على وجه لو تألف القياس بحسب الشروط التي للهيئة وكانت مقدماته (أي مواده) مسلّمة صادقة كان منتجاً لا محالة, أي كانت نتيجته صادقة تبعاً لصدق مقدماتها. ومعنى ذلك أن القياس إذا احتفظ بشروط الهيئة فإن مقدماته لو فرض صدقها فإن صدقها يستلزم صدق النتيجة.

ولا يبحث هناك عماً إذا كانت المقدمات صادقة في أنفسها أم لا, بل إنما يبحث عن الشروط التي بموجبها يستلزم صدق النتيجة, على تقدير فرض صدق المقدمات.

وقد حل الآن الوفاء بما وعدناك به من البحث عن القياس من جهة مادته.

والمقصود من المادة مقدماته في أنفسها مع قطع النظر عن صحة تأليفها بعضها مع بعض. وهي تختلف من جهة الاعتقاد بها والتسليم بصدقها وعدمهما, وإن كانت صورة القياس واحدة لا تختلف: فقد تكون القضية التي تقع مقدمة مصدقاً بها وقد لا تكون. والمصدق بها قد تكون يقينية وقد تكون غير يقينية, على التفصيل الذي سيأتي.

وبحسب اختلاف المقدمات, وبحسب ما تؤدي إليه من نتائج, وبحسب أغراض تأليفها, ينقسم القياس الى البرهان والجدل والخطابة والشعر والمغالطة.

والبحث عن هذه الاقسام الخمسة او استعمالها هي (الصناعات الخمس), فيقال مثلا: صناعة البرهان. صناعة الجدل... هكذا.

وقبل الدخول في بحثها واحدة واحدة تذكر من باب المقدمة انواع القضايا المستعملة في القياس واقسامها. او فقل حسب الاصطلاح العلمي (مبادئ الاقيسة). ثم نذكر بعد ذلك الصناعات في خمسة فصول:

المقدمة : في مبادئ الأقيسة 

سبق أن قلنا في تصدير الباب الخامس: أنه لا يجب في كل قضية أن تطلب بدليل وحجة, بل لا بد من الانتهاء في الطلب إلى قضايا مستغنية عن البيان وإقامة الحجة.

والسّر في ذلك أن مواد الأقيسة سواء كانت يقينية أو غير يقينية إما أن تكون في حد نفسها مستغنية عن البيان وإقامة الحجة, بمعنى أنه ليس من شأنها أن تكون مطلوبة بحجة, وإما ان تكون محتاجة إلى البيان. ثم هذه الأخيرة المحتاجة لا بد أن ينتهي طلبها الى مقدمات مستغنية بنفسها عن البيان والا لزم التسلسل في الطلب الى غير النهاية. او نقول: انه يلزم من ذلك إلاّ ينتهي الإنسان الى علم أبداً, ويبقى في جهل إلى آخر الآباد. والوجدان يشهد على فساد ذلك.

وهاتيك المقدمات المستغنية عن البيان تسمّى (مبادئ المطالب) أو (مبادئ الأقيسة). وهي ثمانية أصناف: يقينيات, ومظنونات, ومشهورات, ووهميات, ومسلمات, ومقبولات, ومشبهات, ومخيلات. ونذكرها الان بالتفصيل:

1. اليقينات

تقدم في أول الجزء الأول أن لليقين معنيين: اليقين بالمعنى الأعم وهو مطلق الاعتقاد الجازم, واليقين بالمعنى الأخص وهو الاعتقاد المطابق للواقع الذي لا يحتمل النقيض لا عن تقليد.

والمقصود باليقين هنا هو هذا المعنى الأخير, فلا يشمل الجهل المركب ولا الظن ولا التقليد وإن كان معه جزم.

توضيح ذلك إن اليقين بالمعنى الأخص يتقوم من عنصرين: (الأول) إن ينضم إلى الاعتقاد بمضمون القضية اعتقاد ثانٍ ـ إما بالفعل أو بالقوة القريبة من الفعل ـ أن ذلك المعتقد به لا يمكن نقضه. وهذا الاعتقاد الثاني هو المقوم لكون الاعتقاد جازماً أي اليقين بالمعنى الأعم. و (الثاني) أن يكون هذا الاعتقاد الثاني لا يمكن زواله. وإنما يكون كذلك اذا كان مسبباً عن علته الخاصة الموجبة له فلا يمكن انفكاكه عنها. وبهذا يفترق عن التقليد لأنه ان كان معه اعتقاد ثان فان هذا الاعتقاد يمكن زواله لأنه ليس عن علة توجبه بنفسه, بل إنما هو من جهة التبعية للغير ثقة به وإيماناً بقوله فيمكن فرض زواله, فلا تكون مقارنة الاعتقاد الثاني للأول واجبة في نفس الأمر.

ولأجل اختلاف سبب الاعتقاد من كونه حاضراً لدى العقل أو غائباً يحتاج إلى الكسب.. تنقسم القضية اليقينية إلى بديهية, ونظرية كسبية تنتهي لا محالة إلى البديهيات, فالبديهيات ـ إذن ـ هي أصول اليقينيات, وهي على ستة أنواع بحكم الاستقراء: اوليات, ومشاهدات, وتجربيات, ومتواترات, وحدسيات, وفطريات

1ـ الأوليات:

وهي قضايا يصدّق بها العقل لذاتها, أي بدون سبب خارج عن ذاتها, بأن يكون تصور الطرفين مع توجه النفس الى النسبة بينهما() كافياً في الحكم والجزم بصدق القضية, فكلما وقع للعقل أن يتصور حدود القضية ـالطرفين ـ على حقيقتها وقع له التصديق بها فوراً عندما يكون متوجهاً لها. وهذا مثل قولنا >الكل أعظم من الجزء< و >النقيضان لا يجتمعان<.

وهذه (الأوليات) منها ما هو جلي عند الجميع إذ يكون تصور الحدود حاصلاً لهم جميعاً كالمثالين المتقدمين, ومنها ما هو خفي عند بعض لوقوع الالتباس في تصور الحدود, ومتى ما زال الالتباس بادر العقل إلى الاعتقاد الجازم.

ونحن ذاكرون هنا مثالاً دقيقاً على ذلك مستعينين بنباهة الطالب الذكي على إيضاحه. وهو قولهم >الوجود موجود< فإن بعض الباحثين اشتبه عليه معنى موجود, إذ يتصور أن معناه (أنه شيء له الوجود), فقال: لا يصح الحكم على الوجود بأنه موجود, وإلاّ لكان للوجود وجود آخر, وهذا الآخر أيضا موجود, فيلزم أن يكون له وجود ثالث ... وهكذا, فيتسلسل إلى غير النهاية. ولأجله أنكر هذا القائل أصالة الوجود وذهب إلى أصالة الماهية.

ولكن نقول: إن هذا الزعم ناشىء عن غفلة عن معنى (موجود) فإنه قد يتضح للفظ موجود معنى آخر واسع من الاول. وهو المعنى المشترك الذي يشمله ويشمل معنى ثانياً, وهو ما لا يكون الوجود زائداً عليه بل لكونه موجوداً هو بعينه كونه وجوداً, لا أن له وجوداً آخر, وذلك بأن يكون معنى موجود منتزعاً من صميم ذات الوجود لا بإضافة وجود آخر زائد عليه. فإنه يقال ـ مثلاً ـ : الإنسان موجود وهو صحيح, ولكن بإضافة الوجود إلى الإنسان, ويقال أيضاً: الوجود موجود. وهو صحيح أيضاً, ولكن بنفسه لا بإضافة وجود ثان إليه, وهو أحق بصدق الموجود عليه. كما يقال: الجسم أبيض بإضافة البياض إليه. ويقال: البياض أبيض, ولكنه بنفسه لا بياض آخر, وصدق الأبيض عليه أولى من صدقه على الجسم الذي صار أبيض بتوسط إضافة البياض إليه.

وعلى هذا يكون المشتق منتزعاً من نفس الذات المتصفة بدلاً من إضافة شيء خارج عنها إليها. فتكون كلمة أبيض (وكذلك كلمة موجود ونحوها) معناها أعم مما كان منتزعاً من اتصاف الذات بالمبدأ الخارج عنها ومما كان منتزعاً من نفس الذات التي هي نفس المبدأ.

فإذا زال الالتباس واتضح للعقل معنى كلمة (موجود) لا يتردد في صحة حملها على الوجود, بل يراه أولى في صدق الموجود عليه من غيره, كما لم يتردد في صحة حمل الأبيض على البياض. ولا تحتاج مثل هذه القضية وهي (الوجود موجود) إلى البرهان, بل هي من الأوليات, وإن بدت غير واضحة للعقل قبل تصور معنى موجود وصارت من أدق المباحث الفلسفية ويبتني عليها كثير من مسائل علم الفلسفة الدقيقة.

2ـ المشاهدات:

وتسمى أيضاً (المحسوسات), وهي القضايا التي يحكم بها العقل بواسطة الحس, ولا يكفي فيها تصور الطرفين مع النسبة, ولذا قيل: من فقد حساً فقد فقد علماً.

والحس على قسمين: (ظاهر) وهو خمسة أنواع البصر والسمع والذوق والشم واللمس. والقضايا المتيقنة بواسطته تسمى (حسيات) كالحكم بأن الشمس مضيئة وهذه النار حارة وهذه الثمرة حلوة وهذه الوردة طيبة الرائحة.. وهكذا. وحس (باطن), والقضايا المتيقنة بواسطته تسمى (وجدانيات), كالعلم بان لنا فكرة وخوفاً وألماً ولذة وجوعاً وعطشاً... ونحو ذلك.

3ـ التجربيات:

أو المجربات, وهي القضايا التي يحكم بها العقل بواسطة تكرر المشاهدة منا في إحساسنا, فيحصل بتكرر المشاهدة ما يوجب أن يرسخ في النفس حكم لا شك فيه, كالحكم بأن كل نار حارة, وأن الجسم يتمدد بالحرارة, ففي المثال الاخير عندما نجرب أنواع الجسم المختلفة من حديد ونحاس وحجر وغيرها مرات متعددة ونجدها تتمدد بالحرارة فإنا نجزم جزماَ باتاً بأن ارتفاع درجة حرارة الجسم من شأنها أن تؤثر التمدد في حجمه, كما أن هبوطها يؤثر التقلص فيه. وأكثر مسائل العلوم الطبيعية والكيمياء والطب من نوع المجربات.

وهذا الاستنتاج في التجربيات من نوع الاستقراء الناقص المبني على التعليل الذي قلنا عنه في الجزء الثاني أنه يفيد القطع بالحكم. وفي الحقيقة إن هذا الحكم القطعي يعتمد على قياسين خفيين: استثنائي واقتراني يستعملهما الإنسان في دخيلة نفسه وتفكيره من غير التفات غالباً.

والقياس الاستثنائي هكذا:

لو كان حصول هذا الأثر اتفاقيا لا لعلة توجبه لما حصل دائما. ولكنه قد حصل دائما (بالمشاهدة)

... حصول هذا الأثر ليس اتفاقياً بل لعلة توجبه.

والقياس الاقتراني هكذا:

الصغرى (نفس نتيجة القياس السابق) حصول هذا الأثر معلول لعلة الكبرى (بديهية أولية) كل معلول لعلة يمتنع تخلفه عنها

... (ينتج من الشكل الأول) هذا الأثر يمتنع تخلفه عن علته

وهاتان المقدمتان للاستثنائي بديهيتان, وكذا كبرى الاقتراني, فرجع الحكم في القضايا المجربات الى القضايا الأولية والمشاهدات في النهاية.

ثم لا يخفى أنا لا نعني من هذا الكلام أن كل تجربة تستلزم حكماً يقينياً مطابقاً للواقع, فإن كثيراً من أحكام سواد الناس المبنية على تجاربهم ينكشف خطأهم فيها, إذ يحسبون ما ليس بعلة علة, أو ما كان علة ناقصة علة تامة, أو ياخذون ما بالعرض مكان ما بالذات.

وسر خطأهم أن ملاحظتهم للأشياء في تجاربهم لا تكون دقيقة على وجه تكفي لصدق المقدمة الثانية للقياس الاستثنائي المتقدم, لأنه قد يكون حصول الأثر في الواقع ليس دائمياً فظن المجرب أنه دائمي اعتمادا على اتفاقات حسبها دائمية اما لجهل او غفلة او لقصور لصدق المقدمة الثانية للقياس الاستثنائي المتقدم, لأنه قد يكون حصول الاثر في الواقع ليس دائميا فظن المجرب أنه دائمي اعتماداً على اتفاقات حسبها دائمية إما لجهل أو غفلة أو لقصور إدراك او تسرع في الحكم, فأهمل جملة من الحوادث ولم يلاحظ فيها تخلف الاثر. وقد تكون ملاحظته للحوادث قاصرة بأن يلاحظ حوادث قليلة وجد حصول الاثر مع ما فرضه علة, وفي الحقيقة ان العلة شيء آخر اتفق حصوله في تلك الحوادث فلذا لم يتخلف الآثر فيها. ولو استمّر في التجربة وغيّر فيما يجربه لوجد غير ما اعتقده أولاً.

مثلاًـ قد يجرب الإنسان الخشب يطفو على الماء في عدة حوادث متكررة, فيعتقد أن ذلك خاصية في الخشب والماء, فيحكم خطأ أن كل خشب يطفو على الماء.

ولكنه لو جرّب بعض أنواع الخشب الثقيل الوزن لوجد أنه لا يطفو في الماء العذب, بل قد يرسب إلى القعر او إلى وسط الماء, فانه لا شك حينئذ يزول اعتقاده الاول.

ولو غيّر التجربة في عدة أجسام غير الخشب, ودقق في ملاحظته ووزن الأجسام والوسائل بدقة وقاس وزن بعضها ببعض, لحصل له حكم آخر بأن العلة في طفو الخشب على الماء أن الخشب أخف وزناً من الماء. وتحصل له قاعدة عامة هي أن الجسم الجامد يطفو على السائل إذا كان أخف وزناً منه, ويرسب إلى القعر إذا كان أثقل وزناً, وإلى وسطه اذا ساواه في الوزن فالحديد مثلاً يرسب في الماء, ويطفو في الزئبق لأنه أخف وزناً منه.

4ـ المتواترات:

وهي قضايا تسكن إليها النفس سكوناً يزول معه الشك ويحصل الجزم القاطع. وذلك بواسطة أخبار جماعة يمتنع تواطؤهم على الكذب ويمتنع اتفاق خطأهم في فهم الحادثة(), كعلمنا بوجود البلدان النائية التي لم نشاهدها وبنزول القرآن الكريم على النبي @ وبوجود بعض الأمم السالفة أو الأشخاص.

وبعض حصر عدد المخبرين لحصول التواتر في عدد معين. وهو خطأ, فإن المدار إنما هو حصول اليقين من الشهادات عندما يعلم امتناع التواطؤ على الكذب وامتناع خطأ الجميع. ولا يرتبط اليقين بعدد مخصوص من المخبرين تؤثر فيه الزيادة والنقصان.

5ـ الحدسيات:

وهي قضايا مبدأ الحكم بها حدس من النفس قوي جداً يزول معه الشك ويذعن الذهن بمضمونها, مثل حكمنا بأن القمر وزهرة وعطارد وسائر الكواكب السيارة مستفاد نورها من نور الشمس, وأن انعكاس شعاع نورها إلى الأرض يضاهي انعكاس الأشعة من المرآة إلى الأجسام التي تقابلها. ومنشأ هذا الحكم أو الحدس اختلاف تشكلها عند اختلاف نسبتها من الشمس قرباً وبعداً. وكحكمنا بأن الأرض على هيئة الكرة, وذلك لمشاهدة السفن ـ مثلاًـ في البحر أول ما يبدو منها اعاليها ثم تظهر بالتدريج كلما قربت من الشاطىء. وكحكم علماء الهيئة حديثاً بدوران السيارات حول الشمس وجاذبية الشمس لها لمشاهدة اختلاف أوضاع هذه السيارات بالنسبة إلى الشمس وإلينا, على وجه يثير الحدس بذلك.

والحدسيات جارية مجرى المجربات في الأمرين المذكورين, أعني تكرر المشاهدة ومقارنة القياس الخفي, فإنه يقال في القياس مثلاً: هذا المشاهد من الاختلاف في نور القمر لو كان بالاتفاق أو بأمر خارج سوى الشمس لما استمر على نمط واحد على طول الزمن. ولما كان على هذه الصورة من الاختلاف, فيحدس الذهن أن سببه انعكاس أشعة الشمس عليه.

وهذا القياس المقارن للحدس يختلف باختلاف العلل في ماهياتها باختلاف الموارد, وليس كذلك المجربات فان لها قياساً واحداً لا يختلف, لأن السبب فيها غير معلوم الماهية إلاّ من جهة كونه سبباً فقط. وهذه الجهة لا تختلف باختلاف الموارد.

وذلك لأن الفرق بين المجربات والحدسيات أن المجربات إنما يحكم فيها بوجود سبب ما وأن هذا السبب موجود في الشيء الذي تتفق له هذه الظاهرة دائماً من غير تعيين لماهية السبب. أما في الحدسيات فإنها بالإضافة إلى ذلك يحكم فيها بتعيين ماهية السبب أنه أي شيء هو. وفي الحقيقة إن الحدسيات مجربات مع إضافة, والإضافة هي الحدس بماهية السبب, ولذا ألحقوا الحدسيات بالمجربات. قال الشيخ العظيم خواجا نصير الدين الطوسي في شرح الإشارات: >إن السبب في المجربات معلوم السببية غير معلوم الماهية وفي الحدسيات معلوم بالوجهين<.

ومن مارس العلوم يحصل له من هذا الجنس على طريق الحدس قضايا كثيرة قد لا يمكنه إقامة البرهان عليها ولا يمكنه الشك فيها. كما لا يسعه أن يشرك غيره فيها بالتعليم والتلقين إلاّ أن يرشد الطالب إلى الطريق التي سلكها. فإن استطاع الطالب بنفسه سلوك الطريق قد يفضيه إلى الاعتقاد

ما لم يحصل للجاحد نفس الطريق الى الحدس.

وكذلك المجربات والمتواترات لا يمكن إثباتها بالمذاكرة والتلقين ما لم يحصل للطالب ما حصل للمجرب من التجربة وللمتيقن بالخبر من التواتر. ولهذا يختلف الناس في الحدسيات والمجربات والمتواترات وإن كانت كلها من أقسام البديهيات. وليس كذلك الأوليات فإن الناس في اليقين بها شرع سواء, وكذلك المحسوسات عند من كانوا صحيحي الحواس. ومثلها الفطريات الآتي ذكرها.

6ـ الفطريات:

وهي القضايا التي قياساتها معها, أي أن العقل لا يصدق بها بمجرد تصور طرفيها كالأوليات, بل لا بد لها من وسط, إلاّ أن هذا الوسط ليس مما يذهب عن الذهن حتى يحتاج إلى طلب وفكر, فكلما أحضر المطلوب في الذهن حضر التصديق به لحضور الوسط معه.

مثل حكمنا بأن الأثنين خمس العشرة, فإن هذا حكم بديهي إلا أنه معلوم, بوسط, لأن الأثنين عدد قد انقسمت العشرة إليه والى اربعة أقسام أخرى كل منها يساويه, وكل ما ينقسم عدد إليه وإلى أربعة أقسام أخرى كل منها يساويه فهو خمس ذلك العدد, فالاثنان خمس العشرة. ومثل هذا القياس حاضر في الذهن لا يحتاج إلى كسب ونظر. ومثل هذا القياس يجري في كل نسبة عدد إلى آخر, غير أن هذه النسب يختلف بعضها عن بعض في سرعة مبادرة الذهن إلى المطلوب وعدمها بسبب قلة الأعداد وزيادتها, أو بسبب عادة الأنسان على التفكر فيها وعدمه. فإنك ترى الفرق واضحاً في سرعة انتقال الذهن بين نسبة 2 إلى 4 وبين نسبة 13 إلى 26 , مع أن النسبة واحدة وهي النصف. أو بين نسبة 3 إلى 12 وبين نسبة 17 إلى 68 مع أن النسبة واحدة هي الربع...وهكذا.

تمرينات

1ـ بيّن أي قسم من البديهيات الست يشترك في معرفتها جميع الناس, وأي قسم منها يجوز أن يختلف في معرفتها الناس.

2ـ هل يضر في بداهة الشيء أن يجهله بعض الناس؟ ولماذا؟ (راجع بحث البديهي في الجزء الأول).

3ـ ارجع إلى ما ذكرناه في الجزء الأول من أسباب التوجه لمعرفة البديهي. وبيّن حاجة كل قسم من البديهيات الست إلى أي سبب منها. ضع ذلك في جدول.

4ـ عين كل مثال من الأمثلة الآتية أنه من أي الأقسام الستة وهي:

أـ ان لكل معلول علة.

ب ـ لا يتخلف المعلول عن العلة.

ج ـ يستحيل تقدم المعلول على العلة.

د ـ يستحيل تقدم الشيء على نفسه.

هـ ـ الضدان لا يجتمعان.

وـ الظرف أوسع من المظروف.

زـ الصلاة واجبة في الإسلام.

ح ـ السماء فوقنا والأرض تحتنا.

ط ـ إذا انتفى اللازم انتفى الملزوم.

ي ـ الثلاثة لا تنقسم بمتساويين.

ياـ انتفاء الملزوم لا يلزم منه انتفاء اللازم لجواز كونه أعم.

يب ـ نقيضا المتساويين متساويان.

5ـ يقول المنطقيون إن إنتاج الشكل الأول بديهي فمن أي البديهيات هو؟

6ـ بنى علماء الرياضيات جميع براهينهم على مبادئ بسيطة يدركها العقل الأول وهلة يسمونها البديهيات نذكر بعضها, فبين أنها من أي أقسام البديهيات الست وهي:ـ

أـ إذا أضفنا أشياء متساوية إلى أخرى متساوية كانت النتائج متساوية.

ب ـ اذا طرحنا أشياء متساوية من أخرى متساوية كانت البواقي متساوية.

ج ـ المضاعفات الواحدة للاشياء المتساوية تكون متساوية, فإن كان شيئان متساويين كان ثلاثة أمثال أحدهما مساوياً لثلاثة أمثال الآخر.

دـ اذا انقسم كل من الأشياء المتساوية إلى عدد واحد من أجزاء متساوية كانت هذه الأجزاء في الجميع متساوية.

هـ ـ الأشياء التي يمكن أن ينطبق كل منها على الآخر انطباقاً تاماً فهي متساوية.

(راجع بحث البديهية المنطقية آخر الباب الرابع (في الجزء2) تجد توضيح بعض هذه البديهيات الرياضية).

2. المظنونات

مأخوذة من (الظن). والظن في اللغة أعم من اصطلاح المنطقيين هنا فإن المفهوم منه لغة حسب تتبع موارد استعماله هو الاعتقاد في غائب بحدس أو تخمين من دون مشاهدة أو دليل أو برهان, سواء كان اعتقاداً جازماً مطابقاً للواقع ولكن غير مستند إلى علته كالاعتقاد تقليداً للغير, أو كان اعتقاداً جازماً غير مطابق للواقع وهو الجهل المركب, أو كان اعتقاداً غير جازم بمعنى ما يرجح فيه أحد طرفي القضية النفي أو الإثبات مع تجويز الطرف الآخر. وهو يساوق الظن بالمعنى الأخص باصطلاح المنطقيين المقابل لليقين بالمعنى الأعم.

والظن المقصود به باصطلاح المناطقة هو المعنى الأخير فقط, وهو ترجيح أحد طرفي القضية النفي أو الإثبات مع تجويز الطرف الآخر. وهو الظن بالمعنى الأخص.

فالمظنونات ـ على هذا ـ هي قضايا يصدق بها اتباعاً لغالب الظن مع تجويز نقيضه, كما يقال مثلا: فلان يسارّ عدوي فهو يتكلم عليّ, أو فلان لا عمل له فهو سافل. أو فلان ناقص الخلقة في أحد جوارحه ففيه مركب النقص.

3ـ المشهورات

وتسمى (الذايعات) ايضا.

وهي قضايا اشتهرت بين الناس وذاع التصديق بها عند جميع العقلاء أو أكثرهم او طائفة خاصة. وهي على معنيين:

1ـ المشهورات بالمعنى الاعم, وهي التي تطابقت على الاعتقاد بها اراء العقلاء كافة, وان كان الذي يدعو الى الاعتقاد بها كونها اولية ضرورية في حدّ نفسها ولها واقع وراء تطابق الاراء عليها. فتشمل المشهورات بالمعنى الأخص الاتية وتشمل مثل الأوليات والفطريات التي هي من قسم اليقينيات البديهية.

وعلى هذا فقد تدخل القضية الواحدة مثل قولهم (الكلّ أعظم من الجزء) في اليقينيات من جهة, وفي المشهورات من جهة أخرى.

2ـ المشهورات بالمعنى الأخص او المشهورات الصرفة, وهي أحق بصدق وصف الشهرة عليها, لانها القضايا التي لا عمدة لها في التصديق إلا الشهرة وعموم الاعتراف بها, كحسن العدل وقبح الظلم, وكوجوب الذب عن الحرم واستهجان ايذاء الحيوان لا لغرض.

فلا واقع لهذه القضايا وراء تطابق الآراء عليها, بل واقعها ذلك, فلو خلّي الانسان وعقله المجرد وحَّسه ووهمه ولم تحصل له اسباب الشهرة الاتية, فانه لا يحصل له حكم بهذه القضايا ولا يقضي عقله او حسّه او همه فيها بشيء. ولا ينافي ذلك أنه بنفسه يمدح العادل ويذم الظالم ولكن هذا غير الحكم بتطابق الآراء عليها. وليس كذلك حال حكمه بأن الكل أعظم من الجزء كما تقدم فانه لو خلّي ونفسه كان له هذا الحكم. وعلى هذا فيكون الفرق بين المشهورات واليقينيات مع أن كلا منها تفيد تصديقاً جازماً ـ أن المعتبر في اليقينيات كونها مطابقة لما عليه الواقع ونفس الأمر المعبر عنه بالحق واليقين, والمعتبر في المشهورات مطابقتها لتوافق الآراء عليها, اذ لا واقع لها غير ذلك. وسياتي ما يزيد هذا المعنى توضيحاً.

ولذلك ليس المقابل للمشهور هو الكاذب, بل الذي يقابله الشنيع وهو الذي ينكره الكافة أو الأكثر. ومقابل الكاذب هو الصادق.

اقسام المشهورات:

اعلم ان المشهورات قد تكون مطلقة وهي المشهورة عند الجميع, وقد تكون محدودة وهي المشهورة عند قوم كشهرة امتناع التسلسل عند المتكلمين().

وتنقسم أيضاً الى جملة اقسام بحسب اختلاف أسباب الشهرة. وهي حسب الاستقراء يمكن عدّ أكثرها كما يلي:

1ـ الواجبات القبول:

وهي ما كان السبب في شهرتها كونها حقاً جلياً, فيتطابق من اجل ذلك على الاعتراف بها جميع العقلاء كالاوليات والفطريات ونحوهما. وهي التي تسمى بالمشهورات بحسب المعنى الأعم كما تقدم, من جهة عموم الاعتراف بها.

2ـ التأديبات الصلاحية:

وتسمى المحمودات والآراء المحمودة. وهي ما تطابق عليها الآراء من أجل قضاء المصلحة العامة للحكم بها باعتبار أن بها حفظ النظام وبقاء النوع, كقضية حسن العدل وقبح الظلم. ومعنى حسن العدل أن فاعله ممدوح لدى العقلاء, ومعنى قبح الظلم أن فاعله مذموم لديهم. وهذا يحتاج الى التوضيح والبيان, فنقول:

إن الانسان إذا أحس اليه أحد بفعل يلائم مصلحته الشخصية فانه يثير في نفسه الرضا عنه, فيدعوه ذلك الى جزائه, واقل مراتبه المدح على فعله. واذا أساء اليه أحد بفعل لا يلائم مصلحته الشخصية فانه يثير في نفسه السخط عليه, فيدعوه ذلك الى التشفي منه والانتقام, واقل مراتبه ذمّه على فعله. وكذلك الانسان يصنع إذا أحسن أحد بفعل يلائم المصلحة العامة من حفظ النظام الاجتماعي وبقاء النوع الانساني, فانه يدعوه ذلك الى جزائه وعلى الأقل يمدحه ويثني عليه, وان لم يكن ذلك الفعل يعود بالنفع لشخص المادح, وانما ذلك الجزاء لغاية حصول تلك المصلحة العامة التي تناله بوجه. وإذا أساء أحد بفعل لا يلائم المصلحة العامة ويخلّ بالنظام وبقاء النوع, فإن ذلك يدعوه الى جزائه بذمه على الأقل, وان لم يكن يعود ذلك الفعل بالضرر على شخص الذام, وانما ذلك لغرض دفع المفسدة العامة التي يناله ضررها بوجه.

وكل عاقل يحصل له هذا الداعي للمدح والذم لغرض تحصيل تلك الغاية العامة. وهذه القضايا التي تطابقت عليها آراء العقلاء من المدح والذم لأجل تحصيل المصلحة العامة تسمى (الاراء المحمودة) والتأديبات الصلاحية. وهي لا واقع لها وراء تطابق آراء العقلاء. وسبب تطابق آرائهم شعورهم جميعاً بما في ذلك من مصلحة عامة.

وهذا هو معنى التحسين والتقبيح العقليين اللذين وقع الخلاف في اثباتهما بين الاشاعرة والعدلية, فنفتهما الفرقة الاولى واثبتتهما الثانية. فإذ يقول العدلية بالحسن القبح العقليين يريدون ان الحسن والقبح من الاراء المحمودة والقضايا المشهورة التي تطابقت عليها الاراء لما فيها من التاديبات الصلاحية, وليس لها واقع وراء تطابق الاراء().

والمراد من (العقل) اذ يقولون ان العقل يحكم بحسن الشيء او قبحه هو (العقل العملي) ويقابله (العقل النظري). والتفاوت بينهما انما هو بتفاوت المدركات, فان كان المدرك مما ينبغي ان يعلم مثل قولهم (الكل اعظم من الجزء) الذي لا علاقة له بالعمل, يسمى ادراكه (عقلا نظريا). وان كان المدرك مما ينبغي ان يفعل ويؤتى به اولا يفعل مثل حسن العدل وقبح الظلم, يسمى ادراكه (عقلا عمليا).

ومن هذا التقرير يظهر كيف اشتبه الامر على من نفى الحسن والقبح في استدلالهم على ذلك, بأنه لو كان الحسن والقبح عقليين لما وقع التفاوت بين هذا الحكم وحكم العقل بان الكل اعظم من الجزء, لان العلوم الضرورية لا تتفاوت. ولكن لا شك بوقوع التفاوت بين الحكمين عند العقل.

وقد غفلوا في استدلالهم اذ قاسوا قضية الحسن والقبح على مثل قضية الكل اعظم من الجزء. وكانهم ظنوا أن كل ما حكم به العقل فهو من الضروريات, مع ان قضية الحسن والقبح من المشهورات بالمعنى الاخص ومن قسم المحمودات خاصة, والحاكم بها هو العقل العملي. وقضية الكل اعظم من الجزء من الضروريات الاولية والحاكم بها هو العقل النظري. وقد تقدم الفرق بين العقلين كما تقدم الفرق بين المشهورات والضروريات. فكان قياسهم قياسا مع الفارق العظيم, والتفاوت واقع بينهما لا محالة, ولا يضر هذا في كون الحسن والقبح عقليين, فانه اختلط عليهم معنى العقل الحاكم في مثل هذه القضايا, فظنوه شيئاً واحداً, كما لم يفرقوا بين المشهورات واليقينيات فحسبوهما شيئاً واحداً, مع أنهما قسمان متقابلان.

3ـ الخلقيات:

وتسمى الاراء المحمودة أيضاً وهي ـ حسب تعريف المنطقيين ـ ما تطابق عليها اراء العقلاء من اجل قضاء الخلق الانساني بذلك؛ كالحكم بوجوب محافظة الحرم أو الوطن, وكالحكم بحسن الشجاعة والكرم وقبح الجبن والبخل.

والخلق ملكة في النفس تحصل من تكرر الافعال الصادرة من المرء على وجه يبلغ درجة يحصل منه الفعل بسهولة, كالكرم فانه لا يكون خلقا للانسان الا بعد أن يتكرر منه فعل العطاء بغير بدل حتى يحصل منه الفعل بسهولة من غير تكلف.

(أقول): هكذا عرفوا الخلقيات والخلق. فجعلوا السبب في حصول الشهرة فيها هو الخلق بهذا المعنى باعتباره داعيا للعقل العملي الى ادراك أن هذا مما ينبغي فعله أو مما ينبغي تركه. ولكنا ـ اذا وقفنا ـ نجد أن الاخلاق الفاضلة غير عامة عند الجمهور, بل القليل منهم من يتحلى بها, مع أنه لا ينكر أن الخلقيات مشهورة يحكم بها حتى من لم يرزق الخلق الفاضل, فان الجبان يرى حسن الشجاعة ويمدح صاحبها ويتمناها لنفسه اذا رجع الى نفسه وأصغى اليها, ولكنه يجبن في موضع الحاجة الى الشجاعة, وكذلك البخيل والمتكبر والكاذب. ولو كان الخلق بذلك المعنى هو السبب للحكم فيها لحكم الجبان بحسن الجبن وقبح الشجاعة, والبخيل بقبح الكرم وحسن الامساك, والكذاب بقبح الصدق وحسن الكذب....وهكذا. والصحيح في هذا الباب أن يقال: إن الله تعالى خلق في قلب الانسان حساً وجعله حجة عليه يدرك به محاسن الافعال ومقابحها, وذلك الحس هو (الضمير) بمصطلح علم الاخلاق الحديث, وقد يسمى بالقلب أو العقل العملي او العقل المستقيم أو الحس السليم عند قدماء الاخلاق. وتشير اليه كتب الاخلاق عندهم.

فهذا الحس في القلب أو الضمير هو صوت الله المدوي في دخيلة نفوسنا يخاطبها به ويحاسبها عليه. ونحن نجده كيف يؤنب مرتكب الرذيلة ويقّر عين فاعل الفضيلة. وهو موجود في قلب كل انسان, وجميع الضمائر تتحد في الجواب عند استجوابها عن الافعال, فهي تشترك جميعا في التمييز بين الفضيلة والرذيلة, وان اختلفت في قوة هذا التمييز وضعفه, كسائر قوى النفس اذ تتفاوت في الافراد قوة وضعفا.

ولاجل هذا كانت (الخلقيات) من المشهورات, وان كانت الاخلاق الفاضلة ليست عامة بين البشر, بل هي من خاصة الخاصة.

نعم الاصغاء الى صوت الضمير والخضوع له لا يسهل على كل انسان الا بالانقطاع الى دخيلة نفسه والتحول عن شهواته واهوائه. كما أن الخلق عامة لا يحصل له وان كان له ذلك الاصغاء الا بتكرر العمل واتخاذه عادة حتى تتكوّن عنده ملكة الخلق التي يسهل معها الفعل. وبالاخص الخلق الفاضل, فان افعاله التي تحققه تحتاج الى مشقة وجهاد ورياضة, لانها دائما في حرب مع الشهوات والرغبات. وليس الظفر الا بعد الحرب.

4ـ الانفعاليات:

وهي التي يقبلها الجمهور بسبب انفعال نفساني عام, كالرقة والرحمة والشفقة والحياة والانفة والحمية والغيرة, ونحو ذلك من الانفعالات التي لا يخلو منها انسان غالباً.

فترى الجمهور يحكم ـ مثلاً ـ بقبح تعذيب الحيوان لا لفائدة, وذلك اتباعا لما في الغريزة من الرقة والرحمة. بل الجمهور بغريزته يحكم بقبح تعذيب ذي الروح مطلقا وان كان لفائدة لو لا أن تصرف عنه الشرايع والعادات.

والجمهور يمدح من يعين الضعفاء والمرضى ويعني برعاية الايتام والمجانين لانه مقتضى الرحمة والشفقة, كما يحكم بقبح كشف العورة لانه مقتضى الحياء, ويمدح المدافع عن الاهل والعشيرة أو الوطن والامة لانه مقتضى الحمية والغيرة.. الى غير ذلك من الاحكام العامة عند الناس.

5ـ العاديات:

وهي التي يقبلها الجمهور بسبب جريان العادة عندهم, كاعتيادهم احترام القادم بالقيام, والضيف بالضيافة, والرجل الديني أو الملك بتقبيل يده, فيحكمون لاجل ذلك بوجوب هذه الاشياء لمن يستحقها.

والعادات العامة كثيرة. وقد تكون عادة لاهل بلد فقط أو قطر أو أمة أو جميع الناس, فتختلف لاجلها القضايا التي يحكم بها حسب العادة, فتكون مشهورة عند أهل بلد أو قطر أو أمة غير مشهورة عند غيرهم, بل يكون المشهور ضدها.

والناس يمدحون المحافظ على العادات, ويذمون المخالف المستهين بها. سواء كانت العادات سيئة أو حسنة, فنراهم يذمون من يرسل لحيته اذا كانوا اعتادوا حلقها, ويذمون الحليق لانهم اعتادوا ارسالها. ونراهم يذمون من يلبس غير المالوف لمجرد انهم لم يعتادوا لبسه.

ومن أجل ذلك نرى الشارع حَّرم (لباس الشهرة), والظاهر ان سر التحريم أن لباس الشهرة يدعو الى اشمئزاز الجمهور من اللابس وذمهم له. واهم أغراض الشارع الالفة بين الناس وتقاربهم واجتماع كلمتهم. وورد عنه (رحم الله امرأ جبّ الغيبة عن نفسه).

كما ورد في الشريعة الاسلامية المطهرة ان منافيات المّروة مضرة في العدالة كالاكل حال المشي في الطريق العام أو السوق والجلوس في الاماكن العامة كالمقاهي لشخص ليس من عادة صنفه ذلك. وما منافيات المروة الا منافيات العادة المالوفة.

6ـ الاستقرائيات:

وهي التي يقبلها الجمهور بسبب استقرائهم التام أو الناقص, كحكمهم بان تكرار الفعل الواحد ممل, وان الملك الفقير لا بد أن يكون ظالما, الى كثير من امثال ذلك من القضايا الاجتماعية والاخلاقية ونحوها.

وكثيراً ما يكفي عوام الناس وجمهورهم بوجود مثال واحد أو أكثر للقضية, فتشتهر بينهم عندما لم يقفوا على نقض ظاهر لها, كتشاؤم الاوربيين من رقم (13) لان واحدا منهم أو أكثر اتفق له ان نكب عندما كان له هذا الرقم, وكتشاؤم العرب من نعاب الغراب وصيحة البومة كذلك. ومثل هذا كثير عند الناس.

4ـ الوهميات

والمقصود بها القضايا الوهمية الصرفة. وهي قضايا كاذبة الا أن الوهم يقضي بها قضاء شديد القوة, فلا يقبل ضدها وما يقابلهاحتى مع قيام البرهان على خلافها.

فان العقل يؤمن بنتيجة البرهان ولكن الوهم يعاند ولا يزال يتمثل ما قام البرهان على خلافه كما ألفه, ممتنعا من قبول خلافه.

ولذا تعد الوهميات من المعتقدات:

الا ترى أن وهم الاكثر يستوحش من الظلام ويخاف منه, مع ان العقل لا يجد فرقا في المكان بين ان يكون مظلما أو منيراً, فان المكان هو المكان في الحالين, وليس للظلمة تأثير فيه يوجب الضرر أو الهلاك. ويخاف أيضاً من الميت وهو جماد لا يتحرك ولا يضر لا ينفع, ولو عادت اليه الحياة ـ فرضا ـ فهو انسان مثله كما كان حيا, وقد يكون من أحب الناس اليه.

ومع توجه النفس الى هذه البديهية العقلية ينكرها الوهم ويعاند, فيستولي على النفس فقد تضطرب من الظلمة ومن الميت, لان البديهة الوهمية أقوى تاثيراً على النفس من البرهان.

ولاجل ان يتضح لك هذا الامر جرب نفسك واسأل اصدقاءك: كيف يتمثل لاحدكم في وهمه دورة شهور السنة؟ تامل ما أريد ان أقول لك. فان الانسان ـ على الاكثر ـ لا بد أن يتوهم دورة شهور السنة أو ايامها بشكل محسوس من الاشكال الهندسية (تأمل في نفسك جيداً) انه لا بد ان نتوهم هذه الدورة على شكل دائرة منتظمة, أو غير منتظمة, أو مضرساً بعدد الشهور, أو شكلاً مضلعاً متساوي الاضلاع أو غير منتظم في اضلاع اربعة أو اكثر أو اقل. مع ان السنة ودورة ايامها وشهورها من المعاني المجردة غير المحسوسة, وهذا واضح للعقل, غير ان الوهم اذا خطرت له السنة تمثلها في شكل هندسي وهمي يخترعه في ايام طفولته من حيث لا يشعر, ويبقى وهمه معاندا مصراً على هذا التمثل الكاذب. ولعلم الانسان بكذب هذا الوهم وسخافته قد يخجل من ذكره لغيره ولكنه لا ينفك عنه في سره. وإنما أذكر هذا المثال لانه يسير لا خطر في ذكره وهو يؤدي الغرض من ذكره.

والسر في ذلك أن الوهم تابع منقاذ للحس ومكبل به, فما لا يقبله الحس لا يقبله الوهم الا لابسا ثوب المحسوس, وان كانت له قابلية ادراك المجردات عن الحس كقابليته لادراك المحسوسات.

فاذا كانت احكام الوهم جارية في نفس المحسوسات فان العقل يصدقه فيها فيتطابقان في الحكم, كما في الاحكام الهندسية, ومثل ما اذا حكم الوهم بأن هذين الجسمين لا يحلان في مكان واحد بوقت واحد, فإن العقل أيضاً يساعده فيه لحكمه بأن كل جسمين مطلقاً كذلك, فيتطابقان.

وإذا كانت احكامه في غير المحسوسات, وهي التي نسميها بالقضايا الوهمية الصرفة, فلا بد أن تكون كاذبة لاصرار الوهم على تمثيلها على نهج المحسوسات.

وهي بحسب ضرورة العقل ليست منها, كما سبق في الامثلة المتقدمة, فان العقل هو الذي ينزع عنها ثوب الحس الذي اضفاه عليها الوهم.

ومن امثلة ذلك حكم الوهم بأن كل موجود لا بد ان يكون مشاراً اليه وله وضع وحيز. ولا يمكنه ان يتمثله الا كذلك, حتى انه يتمثل الله تعالى في مكان مرتفع علينا, وربما كانت له هيئة انسان مثلا. ويعجز أيضاً عن تمثيل القبلية والبعدية غير الزمانية, ويعجز عن تمثيل اللا نهاية, فلا يتمثل عنده كيف أنه تعالى كان وليس معه شيء حتى الزمان, وأنه سرمدي لا أول لوجوده ولا آخر. وان كان العقل ـ حسبما يسوق اليه البرهان ـ يستطيع ان يؤمن بذلك ويصدق به تصديقا لا يتمثل في النفس, لان الوهم له السيطرة والاستيلاء عليها من هذه الجهة.

فإن كان الوهم مسيطراً على النفس على وجه لا يدع له مجالا للتصديق بوجود مجرد عن الزمان والمكان, فان العقل عندما يمنعها من تجسيمه وتمثيله كالمحسوس تهرب النفس من حكم العقل وتلتجىء إلى أن تنكر وجوده رأساً شأن الملحدين.

ومن أجل هذا كان الناس ـ لغلبة الوهم على نفوسهم ـ بين مجسم وملحد. وقلَّ من يتنور بنور العقل ويجرد نفسه عن غلبة اوهامها, فيسمو بها الى ادراك ما لا يناله الوهم. ولذا قال تعالى في كتابه المجيد: }وما اكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين{ فنفى الايمان عن أكثر الناس. ثم هؤلاء المؤمنون القليلون قال عنهم: }وما يؤمن أكثرهم بالله الا وهم مشركون{ يعني أنهم في حين ايمانهم هم مشركون. وما ذلك الا لانهم لغلبة الوهم انما يعبدون الاصنام التي ينحتونها باوهامهم, والا كيف يجتمع الايمان والشرك في آن واحد اذا اريد بالشرك من الاية معناه المعروف وهو العبادة للاصنام الظاهرية.

والخلاصة, ان القضايا الوهمية الصرفة التي نسميها (الوهميات) هي عبارة عن احكام الوهم في المعاني المجردة عن الحس. وهي قضايا كاذبة لا ظل لها من الحقيقة, ولكن بديهة الوهم لا تقبل سواها. ولذلك يستخدمها المغالط في اقيسته, كما سياتي في (صناعة المغالطة). الا ان العقل السليم من تأثير الوهم يتجرد عنه ولا يخضع لحكمه, فيكشف كذب احكامه للنفس.

5ـ المسلمات

وهي قضايا حصل التسالم بينك وبين غيرك على التسليم بأنها صادقة, سواء كانت صادقة في نفس الامر, أو كاذبة كذلك, أو مشكوكة.

والطرف الآخر ان كان خصما فإن استعمال المسلمات في القياس معه يراد به افحامه. وان مسترشدا فإنه يراد به ارشاده واقناعه ليحصل له الاعتقاد بالحق بأقرب طريق عندما لا يكون مستعداً لتلقي البرهان وفهمه.

ثم ان المسلمات اما (عامة) سواء كان التسليم بها من الجمهور عندما تكون من المشهورات او كان التسليم بها من طائفة خاصة كأهل دين او ملة او علم خاص.

وخصوص هذه المسلمات في علم خاص تسمى (الاصول الموضوعة) لذلك العلم, عندما يكون التسليم بها عن مسامحة على سبيل حسن الظن من المتعلم بالمعلم. وهذه الاصول الموضوعة هي مبادئ ذلك العلم التي تبتني عليها براهينه وان كان قد يبرهن عليها في علم آخر, واما اذا كان التسليم بها من المتعلم من باب المجاراة مع الاستنكار والتشكيك بها كما يقع ذلك في المجادلات فتسمى حينئذ بـ (المصادرات).

واما (خاصة) اذا كان التسليم بها من شخص معين وهو طرفك الآخر في مقام الجدل والمخاصمة, كالقضية التي تؤخذ من اعترافات الخصم, ليبتني عليها الاستدلال في ابطال مذهبه أو دفعه.

6ـ المقبولات

وهي قضايا مأخوذة ممن يوثق بصدقه تقليداً, اما لأمر سماوي كالشرايع والسنن المأخوذة عن النبي والامام المعصوم, واما لمزيد عقله وخبرته كالمأخوذات من الحكماء وافاضل السلف والعلماء الفنيين من آراء في الطب أو الاجتماع أو الاخلاق أو نحوها, وكأبيات تورد شواهد لشاعر معروف, وكالامثال السائرة التي تكون مقبولة عند الناس وان لم تؤخذ من شخص معين, وكالقضايا الفقهية الماخوذة تقليدا عن المجتهد.

ان هذه القضايا وامثالها هي من أقسام المعتقدات. والاعتقاد بها أما على سبيل القطع أو الظن الغالب, ولكن ـ على كل حال ـ منشأ الاعتقاد بها هو التقليد للغير الموثوق بقوله كما قدمنا. وبهذا تفترق عن اليقينيات والمظنونات.

وقد تكون قضية واحدة يقينية عند شخص ومقبولة عند شخص آخر باعتبارين, كما قد تكون من المشبهات أو المسلمات باعتبار ثالث أو رابع...وهكذا.

7ـ المشبهات

وهي قضايا كاذبة يعتقد بها, لأنها تشبه اليقينيات او المشهورات في الظاهر, فيغالط فيها المستدل غيره لقصور تمييز ذلك الغير بين ما هو هو وبين ما هو غيره, او لقصور نفس المستدل, او لغير ذلك.

والمشابهة اما من ناحية لفظية مثل ما لو كان اللفظ مشتركاً أو مجازاً فاشتبه الحال فيه, واما من ناحية معنوية مثل ما لو وضع ما ليس بعلة علة ونحو ذلك. وتفصيل اسباب الاشتباه يأتي في (صناعة المغالطة), لان مادة المغالطة هي المشبهات والوهميات. وأهمها المشبهات.

8 ـ المخيلات

وهي قضايا ليس من شأنها ان توجب تصديقا, الا انها توقع في النفس تخييلات تؤدي الى انفعالات نفسية, من انبساط في النفس او انقباض, ومن استهانة بالامر الخطير او تهويل او تعظيم للشيء اليسير, ومن سرور وانشراح او حزن وتالم, ومن شجاعة واقدام او جبن واحجام.

وتاثير هذه القضايا (التي هي مواد مواد صناعة الشعر كما سيأتي) في النفس ناشئ من تصوير المعنى بالتعبير تصويرا خياليا خلاباً وان كان لا واقع له.

وكلما استعملت المجازات والتشبيهات والاستعارات وأنواع البديع في مثل هذه القضايا كانت أكثر تاثيرا في النفس, لان هذه المزايا تضفي على الالفاظ والمعاني جمالا يستهوي المشاعر ويثير التخيلات. واذا أنضم اليها الوزن والقافية او التسجيع والازدواج زاد تأثيرها. ثم يتضاعف الاثر اذا كان الصوت المؤدي لها رقيقا ومشتملا على نغمة موسيقية مناسبة للوزن ونوع التخييل.

كل ذلك يدل على ان المخيلات ليس تاثيرها في النفس لاجل كونها تتضمن حقيقة يصدق بها, بل حتى لو علم كذبها فان لها ذلك التاثير المنتظر منها. وما ذلك الا لان التصوير فيها للمعنى مع ما ينضم اليه من مساعدات هو الذي يستهوي النفس ويؤثر فيها. وسياتي تفصيل ذلك في صناعة الشعر.

وبهذا ينتهي ما اردناه من الكلام على مواد الاقيسة في هذه المقدمة. ولا بد قبل الدخول في الصناعات الخمس من بيان الحصر فيها وبيان فائدتها على الاجمال؛

فنقول:

أقسام الاقيسة بحسب المادة 

تقدم في التمهيد لهذا الباب أن القياس بحسب اختلاف المقدمات من حيث المادة وبحسب ما تؤدي اليه من نتائج وبحسب اغراض تأليفها, ينقسم الى البرهان والجدل والخطابة والشعر والمغالطة.
بيان ذلك: إن القياس ـ بحسب اختلاف المقدمات من جهة كونها يقينية أو غير يقينية ـ اما ان يفيد تصديقاً واما تاثيراً آخر غير التصديق من التخيل والعجب ونحوهما. ثم (الأول) اما ان يفيد تصديقا جازما لا يقبل احتمال الخلاف أو تصديقا غير جازم يجوز فيه الخلاف أي (ظنيا). ثم ما يفيد تصديقا جازما اما أن يعتبر فيه ان يكون تأليفه لغرض ان ينتج حقا أم لا. ثم ما يعتبر فيه انتاج الحق اما ان تكون النتيجة حقا واقعا ام لا.

فهذه خمسة أنواع:

1ـ ما يفيد تصديقا جازما وكان المطلوب حقا واقعا, وهو (البرهان) والغرض منه معرفة الحق من جهة ما هو حق واقعا.
2ـ ما يفيد تصديقا جازما, وقد اعتبر فيه ان يكون المطلوب حقا ولكنه ليس بحق واقعا. وهو (المغالطة).
3ـ ما يفيد تصديقا جازما ولكن لم يعتبر فيه أن يكون المطلوب حقا, بل المعتبر فيه عموم الاعتراف أو التسليم, وهو (الجدل). والغرض منه افحام الخصم والزامه.
4ـ ما يفيد تصديقا غير جازم. وهو (الخطابة) والغرض منه اقناع الجمهور.
5ـ ما يفيد غير التصديق من التخيل والتعجب ونحوهما وهو (الشعر) والغرض منه حصول الانفعالات النفسية.

ثم ان البحث عن كل واحد من هذه الصناعات الخمس أو القدرة على استعمالها عند الحاجة يسمى (صناعة), فيقال: صناعة البرهان وصناعة المغالطة...الخ.

والصناعة اصطلاحا ملكة نفسانية وقدرة مكتسبة يقتدر بها على استعمال أمور لغرض من الاغراض, صادرا ذلك الاستعمال عن بصيرة بحسب الامكان, كصناعة الطب والتجارة والحياكة مثلا. ولذا من يغلط في اقيسته لا عن بصيرة ومعرفة بموقع الغلط لا يقال ان عنده صناعة المغالطة, بل من عنده الصناعة هو الذي يعرف أنواع المغالطات ويميز بين القياس الصحيح من غيره ويغالط في اقيسته عن عمد وبصيرة.

والصناعة على قسمين علمية وعملية, وهذه الصناعات الخمس من الصناعات العلمية النافعة, وسيأتي في البحث الآتي بيان فائدتها.

الخلاصة:

القياس

فائدة الصناعات الخمس على الاجمال:

اما منافع هذه الصناعات الخمس والحاجة اليها, فان صناعتي البرهان والمغالطة تختص فائدتهما على الاكثر بمن يتعاطى العلوم النظرية ومعرفة الحقائق الكونية, ولكن منفعة صناعة البرهان له فبالذات كمعرفة الاغذية في نفعها لصحة الانسان, ومنفعة صناعة المغالطة له فبالعرض كمعرفة السموم في نفعها للاحتراز عنها.

واما الثلاث الباقية, فان فائدتها عامة للبشر وتدخل في أكثر المصالح المدنية والاجتماعية. وأكثر ما تظهر فائدة صناعة الجدل لاهل الاديان وعلماء الفقة وأهل المذاهب السياسية لحاجتهم الى المناظرة والنقاش.

وأكثر ما تظهر فائدة صناعتي الخطابة والشعر للسياسيين وقواد الحروب ودعاة الاصلاح لحاجتهم الى اقناع الجمهور ورضاهم وبعث الهمم فيهم وتحريض الجنود والاتباع على الاقدام والتضحية. بل كل رئيس وصاحب دعوة حقة أو باطلة لا يستغني عن استعمال هذه الصناعات الثلاث للتأثير على أتباعه ومريديه ولتكثير أنصاره.

ومن العجب اهمال اكثر المؤلفين في المنطق بحث هذه الصناعات, تفريطا بغير وجه مقبول, الا اولئك الذين ألفوا المنطق مقدمة للفلسفة, فان من حقهم ان يقتصروا على مباحث البرهان والمغالطة, كما صنع صاحب الاشارات والحاج هادي السبزواري في منظومته, اذ لا حاجة لهم في باقي الصناعات.

وأهم ما يحتاج اليه منها ثلاث: البرهان والجدل والخطابة. وقد ورد في القران الكريم الترغيب في استعمال الاساليب الثلاثة في الدعوة الالهية وذلك قوله تعالى: }وادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي احسن{, فان الحكمة هي البرهان, والموعظة الحسنة من صناعة الخطابة, ومن آداب الجدل أن يكون بالتي هي أحسن.

هذا كل ما أردنا ذكره في المقدمة. وقد آن الشروع في بحث هذه الصناعات في خمسة فصول. وعلى الله التكلان.

الفصل الاول

صناعة البرهان

ـ 1ـ

حقيقة البرهان 

ان العلوم الحقيقية التي لا يراد بها الا الحق الصراح لا سبيل لها الا سبيل البرهان, لانه هو وحده ـ من بين انواع القياس الخمسة ـ يصيب الحق ويستلزم اليقين بالواقع. والغرض منه معرفة الحق من جهة ما هو حق, سواء كان سعي الانسان للحق لاجل نفسه ليناجيها به وليعمر عقله بالمعرفة, أو لغيره لتعليمه وارشاده الى الحق.

ولذلك يجب على طالب الحقيقة الا يتبع الا البرهان, وان استلزم قولا لم يقل به احد قبله.

وقد عرفوه بأنه: >قياس مؤلف من يقينيات ينتج يقينا بالذات اضطرارا< وهو نعم التعريف سهل واضح مختصر.

ومن الواضح أن كل حجة لا بد ان تتألف من مقدمتين, والمقدمتان قد تكونان من القضايا الواجبة القبول, وهي اليقينيات التي مرَّ ذكرها, وقد لا تكونان منها, بل تكون واحدة منهما أو كلتاهما من أنواع القضايا الأخرى السبع التي تقدم شرحها في مقدمة هذا الباب.

ثم المقدمة اليقينية اما أن تكون في نفسها بديهية من احدى البديهيات الست المتقدمة, واما ان تكون نظرية تنتهي الى البديهيات.

فاذا تألفت الحجة من مقدمتين يقينيتين سميت (برهانا). ولا بدَّ أن ينتجا قضية يقينية لذات القياس المؤلف منهما اضطرارا, عندما يكون تأليف القياس في صورته يقينيا أيضا, كما كان في مادته, فيستحيل حينئذ تخلف النتيجة لاستحالة تخلف المعلول عن علته, فيعلم بها اضطرارا لذات المقدمتين, بما لهما من هيئة التأليف على صورة قياس صحيح.

وهذا معنى أن نتيجة البرهان ضرورية. ويعنون بالضرورة هنا معنى آخر غير معنى (الضرورة) في الموجهات, على ما سيأتي.

والخلاصة ان البرهان يقيني واجب القبول مادة وصورة, وغايته ان ينتج اليقين الواجب القبول, أي اليقين بالمعنى الاخص.

ـ 2 ـ

البرهان قياس

ذكرنا في تعريف البرهان بانه (قياس), وعليه فلا يسمى الاستقراء ولا التمثيل برهانا. وعلل بعضهم ذلك بأن الاستقراء والتمثيل لا يفيدان اليقين, ويجب في البرهان أن يفيد اليقين.

والحق ان الاستقراء قد يفيد اليقين, وكذلك التمثيل على ما تقدم في بابهما في الجزء الثاني, بل تقدم ان أساس أكثر كبريات الاقيسة هو الاستقراء المعلل, ومع ذلك لا يسمى الاستقراء ولا التمثيل برهانا. والسر في ذلك ان الاستقراء المفيد لليقين وكذا التمثيل انما يفيد اليقين حيث يعتمد على القياس, كما شرحناه في التجريبات. وأشرنا في الجزء الثاني ص 295 الى أن الاستقراء التام يرجع الى القياس المقسم فراجع. اما الاستقراء الناقص المبني على المشاهدة فقط فانه لا يفيد اليقين لانه لا يرجع الى القياس ولا يعتمد عليه. فاتضح بالاخير ان المفيد لليقين هو القياس فقط.

وليس معنى ذلك ان العلوم تستغني عن الاستقراء والتمثيل أو التقليل من شأنهما في العلوم, بل العلوم الطبيعية بأنواعها وعلم الطب ونحوه كلها تبتني على المجربات التي لا تحصل للعقل بدون الاستقراء والتمثيل, ولكن انما تفيد اليقين حيث تعتمد على القياس. فرجع الامر كله الى القياس.

ـ 3 ـ

البرهان لمّي وانيَّ

ان العمدة في كل قياس هو الحد الاوسط فيه, لانه هو الذي يؤلف العلاقة بين الاكبر والاصغر, فيوصلنا الى النتيجة (المطلوب). وفي البرهان خاصة لا بد أن يفرض الحد الاوسط علة لليقين بالنتيجة, أي لليقين بنسبة الأكبر الى الأصغر, والا لما كان الاستدلال به اولى من غيره. ولذا يسمى الحد الأوسط (واسطة في الاثبات).

وعليه فالحد الاوسط اما ان يكون ـ مع كونه واسطة في الاثبات ـ واسطة في الثبوت أيضا, أي يكون علة لثبوت الاكبر للاصغر, واما أن لا يكون واسطة في الثبوت.

فان كان الاول (أي انه واسطة في الاثبات والثبوت معا) فان البرهان حينئذ يسمى (برهان لِمَ) او (البرهان اللمي), لانه يعطي اللمية() في الوجود والتصديق معا, فهو معط للمية مطلقاً فسمى به, كقولهم: >هذه الحديدة ارتفعت حرارتها وكل حديدة ارتفعت حرارتها فهي متمددة فينتج هذه الحديدة متمددة< فالاستدلال بارتفاع الحرارة على التمدد استدلال بالعلة على المعلول. فكما اعطت الحرارة الحكم بوجود التمدد في الذهن للحديدة كذلك هي معطية في نفس الامر والخارج وجود التمدد لها.

وان كان الثاني (أي انه واسطة في الاثبات فقط ولم يكن واسطة في الثبوت), فيسمى (برهان ان) او (البرهان الانَّي), لانه يعطي الانية(). والانية مطلق الوجود.

ـ 4 ـ

أقسام البرهان الانَّي

والبرهان الإنَّي على قسمين:

1ـ ان يكون الاوسط معلولاً للاكبر في وجوده في الاصغر, لا علة, عكس (برهان لم), كما لو قيل في المثال المتقدم: >هذه الحديدة متمددة, وكل حديدة متمددة مرتفعة درجة حرارتها<. فالاستدلال بالتمدد على ارتفاع درجة الحرارة استدلال بالمعلول على العلة. فيقال فيه: انه يستكشف بطريق الان من وجود المعلول على وجود العلة, فيكون العلم بوجود المعلول سببا للعلم بوجود العلة. فلذلك يكون المعلول واسطة في الاثبات أي علة للعلم بالعلة, وإن كان معلولا لها في الخارج. ويسمى هذا القسم من البرهان الإنَّي (الدليل).

2ـ ان يكون الاوسط والاكبر معاً معلولين لعلة واحدة, فيستكشف من وجود أحدهما وجود الآخر, فكل منهما اذا سبق العلم به يكون العلم به علة للعلم بالآخر, ولكن لا لأجل أن أحدهما علة للآخر, بل لكونهما متلازمين في الوجود لاشتراكهما في علة واحدة اذا وجدت لا بد أن يوجدا معا فاذا علم بوجود احدهما يعلم منه وجود علته لاستحالة وجود المعلول بلا علة, واذا علم بوجود العلة علم منها وجود المعلول الآخر لاستحالة تخلف المعلول عن العلة. فيكون العلم ـ على هذا ـ بأحد المعلولين مستلزما للعلم بالآخر بواسطة.

وليس لهذا القسم الثاني اسم خاص. وبعضهم لا يسميه البرهان الاني, بل يجعل البرهان الاني مختصا بالقسم الأول المسمى بالدليل, ويجعل هذا القسم واسطة بينه وبين اللمي. فتكون اقسام البرهان ثلاثة: لمي واني وواسطة بينهما.

وفي الحقيقة ان هذا القسم فيه استكشافان واستدلالان: استدلال بالمعلول على العلة المشتركة, ثم استدلال بالعلة المشتركة على المعلول الاخر, كما تقدم, ففيه خاصة البرهان الاني في الاستدلال الاول وخاصة البرهان اللمي في الاستدلال الثاني. فلذا جعلوه واسطة بينهما لجمعه بين الطريقتين. والاحسن جعله قسما ثانيا للاني ـ كما صنع كثير من المنطقيين ـ رعاية للاستدلال الاول فيه. والامر سهل.

ـ 5 ـ

الطريق الاساس الفكري لتحصيل البرهان

عند العقلاء قضيتان أوليتان لا يشك فيهما الا مكابر أو مريض العقل, لانهما اساس كل تفكير, ولم يتم اختراع ولا استنباط ولا برهان بدونهما, حتى الاعتقاد بوجود خالق الكائنات وصفاته مرتكز عليهما. وهما:

1ـ (ان كل ممكن لا بد له من علة في وجوده). ويعبر عن هذه البديهة أيضا بقولهم: (استحالة وجود الممكن بلا علة).

2ـ (كل معلول يجب وجوده عند وجود علته). ويعبر عنها أيضا بقولهم: (استحالة تخلف المعلول عن العلة).

ولما كان اليقين بالقضية من الحوادث الممكنة فلا بد له من علة موجبة لوجوده, بناء على البديهة الأولى. وهذه العلة قد تكون من الداخل وقد تكون من الخارج.

(الأول)ـ ان تكون من الداخل. ومعنى ذلك ان نفس تصور اجزاء القضية (طرفي النسبة) علة للحكم والعلم بالنسبة, كقولنا: >الكل أعظم من الجزء< وقولنا: >النقيضان لا يجتمعان<. والبديهيتان اللتان مرَّ ذكرهما في صدر البحث أيضا من هذا الباب, فان نفس تصور الممكن والعلة كاف للحكم باستحالة وجود الممكن بلا علة, ونفس تصور العلة والمعلول كاف للحكم باستحالة تخلفه عن علته. فلا يحتاج اليقين في مثل هذه القضايا الى شيء آخر وراء نفس تصوَّر طرفي القضية. ولذا تسمى هذه القضايا بـ (الاولية) كما تقدم في بابها, لانها اسبق من كل قضية لدى العقل. ولاجل هذا قالوا ان القضايا الاوليات هي العمدة في مبادئ البرهان.

(الثاني)ـ ان تكون العلة من الخارج. وهذه العلة الخارجة على نحوين:

1ـ أن تكون أحدى الحواس الظاهرة أو الباطنة, وذلك في المشاهدات والمتواترات اللتين هما من البديهيات الست. وقضاياها من الجزئيات, فإن العقل هو الذي يدرك أن هذه النار حارة أو مكة موجودة, ولكن ادراكه لهذه الاشياء ليس ابتداء بمجرد تصوَّر الطرفين ولا بتوسط مقدمات عقلية. وانما بتوسط احدى الحواس وهي جنوده التي يستعين بها في ادراك المشاهدات ونحوها, فإنه يدرك الطعم بالذوق واللون بالبصر والصوت بالسمع... وهكذا, ثم يدرك بقوة أخرى بأن ماله هذا اللون الاصفر مثلا له هذا الطعم الحامض.

وقول الحكماء ان العقل لا يدرك الجزئيات, فإن غرضهم أنه لا يدرك الجزئيات بنفسه بدون استعمال آلة ادراكية, والا فليس المدرك للكليات والجزئيات الا القوة العاقلة. ولا يمكن أن يكون للسمع والبصر ونحوهما وجود وادراك مع قطع النظر عنها, غير ان ادراك القوة العاقلة للمحسوسات لا يحتاج الى أكثر من استعمال آلة الادراك المختصلة في ذلك المحسوس.

ويختص ادراك القوة العاقلة بتوسط الآلة في خصوص الجزئيات, لأن الحسَّ بانفراده لا يفيد رأياً كلياً, لأن حكمه مخصوص بزمان الاحساس فقط, وإذا أراد أن يتجاوز الادراك الى الأمور الكلية فلا بد أن يستعين بمقدمات عقلية وقياسات منطقية ليستفيد منها الرأي الكلي. فالمشاهدات وكذلك المتوترات تصلح لأن تكون مبادئ يقتنص منها التصورات الكلية والتصديقات العامة, بل لو لا تتبع المشاهدات لم نحصل على كثير من المفاهيم الكلية والآراء العلمية. ولذا قيل (من فقد حسا فقد علما). وتفصيل هذه الابحاث يحتاج الى سعة من القول لا يساعد عليه هذا الكتاب.

2ـ ان تكون العلة الخارجة هي القياس المنطقي. وهذا القياس على قسمين:

(القسم الاول) ـ ان يكون حاضراً لدى العقل لا يحتاج الى إعمال فكر, فلا بد أن يكون معلوله وهو اليقين بالنتيجة حاضراً أيضاً ضروري الثبوت. وهذا شأن المجربات والحدسيات والفطريات التي هي من أقسام البديهيات, اذ قلنا سابقا ان المجربات والحدسيات تعتمد على قياس خفي حاضر لدى الذهن, والفطريات قضايا قياساتها معها.

وانما سميت (ضرورية) لضرورة اليقين بها بسبب حضور علتها لدى العقل بلا كسب.

وإلى هنا انتهى بنا القول إلى استقصاء جميع البديهيات الست (التي هي أاساس البراهين وركيزة كل تفكير ورأس المال العلمي لتاجر العلوم), والى استقصاء أسباب اليقين بها. فالاوليات علة يقينها من الداخل, والمشاهدات والمتواترات علتها من الخارج وهي الالة الحاسة, والثلاث الباقية علتها من الخارج ايضا وليست هي الا القياس الحاضر.

(القسم الثاني) ان لا يكون القياس حاضراً لدى العقل, فلا بد للحصول على اليقين من السعي لاستحضاره بالفكر والكسب العلمي, وذلك بالرجوع إلى البديهيات (وهذا هو موضع الحاجة الى البرهان), فاذا حضر هذا القياس انتظم البرهان اما على طريق اللم أو الإن. فاستحضار علة اليقين غير الحاضرة هو الكسب وهو المحتاج إلى النظر والفكر. والذي يدعو الى هذا الاستحضار البديهية الأولى المذكورة في صدر البحث وهي استحالة وجود الممكن بلا علة, واذا حضرت العلة انتظم البرهان ـ كما قلنا ـ أي يحصل اليقين بالنتيجة, وذلك بناء على البديهية الثانية, وهي استحالة تخلف المعلول عن العلة.

فاتضح من جميع ما ذكرنا كيف نحتاج الى البرهان وسر الحاجة إليه, وأنه يرتكز اساسه على هاتين البديهتين اللتين هما الطريق الاساس الفكري لتحصيل كل برهان.

ـ 6 ـ

البرهان اللمي مطلق وغير مطلق

قد عرفت ان البرهان اللمي ما كان الاوسط فيه علة لثبوت الأكبر للاصغر ومعنى ذلك أنه علة للنتيجة. وهذا على نحوين:

1ـ ان يكون علة لوجود الأكبر في نفسه على الاطلاق, ولاجل هذا يكون علة لثبوته للاصغر, باعتبار أن المحمول الذي هو الاكبر هنا ليس وجوده الا وجوده لموضوعه وهو الأصغر, وليس له وجود مستقل عن وجود موضوعه, كالمثال المتقدم وهو مثال عليه ارتفاع الحرارة لتمدد الحديدة. ويسمى هذا النحو (البرهان اللمي المطلق).

2ـ ان لا يكون علة لوجود الأكبر على الاطلاق, وانما يكون علة لوجوده في الأصغر. ويسمى هذا النحو (البرهان اللمي غير المطلق). وانما صح ان يكون علة لوجود الاكبر في الاصغر وليس علة لنفس الاكبر فباعتبار ان وجود الأكبر في الأصغر غير علة نفس الأكبر. والمقتضي لكون البرهان لميّاً ليس الا علية الأوسط لوجود الأكبر في الأصغر, سواء كان علة أيضا لوجود الأكبر في نفسه, كما في النحو الأول أي البرهان اللمي المطلق, او كان معلولا للأكبر في نفسه, أو كان معلولاً للأصغر, أو ليس معلولا لكل منهما.

مثال الأول ـ وهو ما كان معلولاً للأكبر ـ قولنا: >هذه الخشبة تتحرك إليها النار. وكل خشبة تتحرك إليها النار توجد فيها النار< فوجود النار أكبر, وحركة النار أوسط, والحركة علة لوجود النار في الخشبة, ولكنَّها ليست علة لوجود النار مطلقاً, بل الأمر بالعكس فإن حركة النار معلولة لطبيعة النار.

ومثال الثاني ـ وهو ما كان معلولاً للأصغر ـ قولنا: >المثلث زواياه تساوي قائمتين. وكل ما يساوي قائمتين نصف زوايا المربع< فالأوسط (مساواة القائمتين) معلول للأصغر وهو (زوايا المثلث): وهو في الوقت نفسه علة لثبوت الأكبر (نصف زوايا المربع) للاصغر (زوايا المثلث).

ومثال الثالث ـ وهو ما لم يكن معلولاً لكل من الأصغر والأكبر ـ نحو: >هذا الحيوان غراب. وكل غراب أسود< فالغراب وهو الأوسط ليس معلولاً للأصغر ولا للأكبر, مع أنه علة لثبوت وصف السواد لهذا الحيوان.

ـ 7ـ

معنى العلة في البرهان اللمي

قلنا: ان البرهان اللمي ما كان فيه الأوسط علة لثبوت الأكبر للأصغر, وقد يسبق ذهن الطالب إلى أن المراد من العلة خصوص العلة الفاعلية, ولكن في الواقع أن العلة تقال على أربعة أنواع والبرهان اللمي يقع بجميعها, وهي:

1ـ (العلة الفاعلية) أو الفاعل أو السبب أو مبدأ الحركة. ما شئت فعبر. وقد يعبر عنها بقولهم (ما منه الوجود), ويقصدون المفيض والمفيد للوجود() أو المسبب للوجود كالباني للدار والنجار للسرير والاب للولد ونحو ذلك.

ومثال أخذ الفاعل في البرهان: >لم صار الخشب يطفو على الماء؟ فيقال: لان الخشب ثقله النوعي أخف من ثقل الماء النوعي<. ومثاله أيضاً ما تقدم في مثال تمدد الحديد بالحرارة.

2ـ (العلة المادية) أو المادة التي يحتاج إليها الشيء ليتكون ويحقق بالفعل بسبب قبوله للصورة. وقد يعبر عنها بقولهم (ما فيه الوجود) كالخشب والمسمار للسرير, والجص والآجر والخشب ونحوها للدار, والنطفة للمولود. ومثال أخذ المادة في البرهان قولهم: >ِلمَ يفسد الحيوان؟ فيقال: لانه مركب من الاضداد<.

3ـ (العلة الصورية) أو الصورة. وقد يعبَّر عنها بقولهم: (ما به الوجود), أي الذي يحصل به الشيء بالفعل, فانه ما لم تقترن الصورة بالمادة لم يتكوَّن الشيء ولم يتحقق, كهيئة السرير والدار وصورة الجنين التي بها يكون انسانا. ومثال أخذ الصورة في البرهان قولهم: >ِلمَ كانت هذه الزاوية قائمة؟ فيجاب: لأن ضلعيها متعامدان<.

4ـ (العلة الغائية) أو الغاية. وقد يعبر عنها بقولهم: (ما له الوجود), أي التي لاجلها وجد الشيء وتكوَّن, كالجلوس للكرسي والسكنى للبيت. ومثال أخذ الغاية في البرهان قولهم: >أنشأت البيت؟ فيجيب: لكي اسكنه< و >ِلمَ يرتاض فلان؟ فيجاب: لكي يصح<. وهكذا.

ـ 8 ـ

تعقيب وتوضيح في اخذ العلل حدودا وسطى

لا شك انما يحصل البرهان على وجه يجب أن يعلم الذهن بوجود المعلول عند العلم بوجود العلة, إذا كانت العلة على وجه إذا حصلت لا بد ان يحصل المعلول عندها. ومعنى ذلك ان العلة لا بد أن تكون كاملة تامة السببية, والا اذا فرض حصول العلة ولا يحصل عندها المعلول لا يلزم من العلم بها العلم به.

وعليه يمكن للمتأمل أن يعقب على كلامنا السابق, فيقول: إن العلة التامة التي لا يتخلف عنها المعلول هي الملتئمة من العلل الأربع في الكائنات المادية, اما كل واحدة منها فليست بعلة تامة, فكيف صح أن تفرضوا وقوع البرهان اللمي في كل واحدة منها؟

وهذا كلام صحيح في نفسه, ولكن إنما صح فرض وقوع البرهان اللمي في واحدة من الأربع ففي موضع تكون العلل الباقية مفروضة الوقوع متحققة وإن لم يصرح بها, فيلزم حينئذ من فرض وجود تلك العلة التي أخذت حداً أوسط وجود المعلول بالفعل لفرض حصول باقي العلل. لا لأنه يكتفى بأحدى العلل الاربع مجردة في التعليل, ولا لأن الواحدة منها هي مجموع العلل, بل لانها ـ حسب الفرض ـ لا ينفك وجودها عن وجود جميعها, فتكون كل واحدة مشتملة على البواقي بالقوة وقائمة مقامها. ولنتكلم عن كل واحدة من العلل كيف يكون فرض وجودها فرضا للبواقي فنقول:

اما العلة الصورية فإنه اذا فرض وجود الصورة فقد فرض وجود المعلول بالفعل لأن فعلية الصورة فعلية لذيها, فلا بد ـ مع فرض وجود المعلول ـ أن تكون العلل كلها حاصلة والا لما وجد وصار فعليا.

وكذا (العلة الغائية) فانما يفرض وجود الغاية بعد فرض وجود ذي الغاية وهو المعلول, لأن الغاية في وجودها الخارجي متاخرة عن وجود المعلول بل هي معلولة له, وانما العلة له هي الغاية بوجودها الذهني العلمي.

واما (العلة المادية) فإنه في كثير من الأمور الطبيعية يلزم عند حصول استعداد المادة لقبول الصورة حصول الصورة بالفعل, كما لو وضعت البذرة ـ مثلاً ـ في أرض طيبة في الوقت المناسب وقد سقيت بالماء فلا بد ان يحصل النبات, باعتبار ان الفاعل قوة طبيعية في جوهر المادة فلا يمكن الا أن يصدر عنها فعلها عند حصول الاستعداد التام, لأنه اذا طلبت المادة ـ عند استعدادها ـ بلسان حالها أن يفيض بارئ الكائنات عليها الوجود, فانه ـ تعالى ـ لا بخل في ساحته, فلا بد ان يفيض عليها وجودها اللائق بها. واذا وجدت الصورة فهو فرض وجود المعلول, لأن معنى حصول الصورة ـ كما سبق ـ حصول المعلول بالفعل.

نعم بعض الأمور الطبيعية لا يلزم من حصول استعداد المادة حصول الصورة بالفعل. وذلك عندما يكون حدوث تلك الصورة متوقفة على حركة من علة محركة خارجة, كاستعداد النخلة للثمر, فإنما تتم ثمرتها بالفعل بعد التلقيح, والتلقيح حركة من فاعل محرك خارج وهو الملقح. ومن هذا الباب الأمور الصناعية فإن مجرد استعداد الخشب لأن يصير كرسياً لا يصيره كرسياً بالفعل ما لم يعمل الصانع في نشره وتركيبه على الوجه المناسب. وعليه لا يقع البرهان اللمي في أمثال هذه المواد, فلا تقع كل مادة حداً أوسط فلذا لا يصح أن يعلل كون الشيء كرسيا بقولنا: لأنه خشب.

واما (العلة الفاعلية), فليس يجب من فرض الفاعل في كثير من الأشياء وجود المعلول, بل لا يؤخذ حداً أوسط الا اذا كان فاعلا تاما, بمعنى أنه مشتمل على تمام جهات تأثيره, كما اذا دل على استعداد المادة ووجود جميع الشرائط, فيما اذا كان المعلول من الأمور الطبيعية المادية. وذلك كفرض وجود الحرارة في الحديد الذي يلزم منه بالضرورة وجود التمدد, فالفاعل بدون الموضوع القابل لا يكون فاعلاً تاما, كما لا يكون القابل بدون الفاعل قابلاً بالفعل.

ومن هذا الكلام يعلم ويتضح أنه ليس على المطلوب الواحد ـ في الحقيقة ـ الا برهان لمي واحد مشتمل على جميع العلل بالفعل أو بالقوة, وان تعددت البراهين ـ بحسب الظاهر ـ بتعدد العلل حسب اختلافها, فالسؤال بلمَ إنما يطلب به معرفة العلة التامة, فإذا أجيب بالعلة الناقصة فإنه لا ينقطع السؤال بلم. وما دام هنا شرط أو جزء من العلة لم يذكر فالسؤال باق حتى يجاب بجميع العلل التي تتألف منها العلة التامة. وحينئذ يسقط السؤال بلم وينقطع.

ـ 9 ـ

شروط مقدمات البرهان

ذكروا لمقدمات شروطا ارتقت في أكثر عباراتهم إلى سبعة, وهي:

1ـ أن تكون المقدمات كلها يقينية (وقد سبق أن ذلك هو المقوم لكون القياس برهانا وتقدم أيضاً معنى اليقين هنا). فلو كانت أحدى مقدمتيه غير يقينية لم يكن برهاناً, وكان اما جدلياً أو خطابياً أو شعرياً أو مغالطياً على حسب تلك المقدمة. ودائما يتبع القياس في تسميته أخس مقدماته.

2ـ أن تكون المقدمات أقدم وأسبق بالطبع من النتائج لأنها لا بد أن تكون عللا لها بحسب الخارج. وهذا الشرط مختص ببرهان (ِلمَ).

3ـ أن تكون أقدم عند العقل بحسب الزمان من النتائج حتى يصح التوصل بها إلى النتائج. فإن الأقدم في نفس الأمر وهو الأقدم بالطبع شيء والأقدم بالنسبة إلينا وبحسب عقولنا شيء آخر, فإنه قد يكون ما هو الأقدم بحسب الطبع كالعلة ليس أقدم بالنسبة إلى عقولنا بأن يكون العلم بالمعلول أسبق وأقدم من العلم بها, فإنه لا يجب في كل ما هو أقدم بحسب الطبع أن يكون أقدم عند العقل في المعرفة.

4ـ أن تكون أعرف عند العقول من النتائج ليصح أن تعرفها, لأن المعرَّف يجب أن يكون أعرف من المعرَّف. ومعنى أنها أعرف أن تكون أكثر وضوحاً ويقينا لتكون سببا لوضوح النتائج, بداهة أن الوضوح واليقين يجب أن يكون أولاً وبالذات للمقدمات, وثانياً وبالعرض للنتائج.

5ـ ان تكون مناسبة للنتائج, ومعنى مناسبتها أن تكون محمولاتها ذاتية أولية لموضوعاتها, على ما سيأتي من معنى الذاتي والأولي هنا, لأن الغريب لا يفيد اليقين بما لا يناسبه لعدم العلة الطبيعية بينهما. وبعبارة أخرى ـ كما قال الشيخ الرئيس في كتاب البرهان من الشفا ص 72 ـ >فإن الغربية لا تكون عللا, ولو كانت المحمولات البرهانية يجوز أن تكون غريبة لم تكن مبادئ البرهان عللا, فلا تكون مبادئ البرهان عللا للنتيجة<.

6ـ أن تكون ضرورية اما بحسب الضرورة الذاتية أو بحسب الوصف. وليس المراد من (الضروري) هنا المعنى المقصود منه في القياس, فإنه إذا قيل هناك: (كل حـ ب بالضرورة) يعنون به أن كل ما يوصف بأنه (حـ) كيفما اتفق وصفه به فهو موصوف بأنه (ب) بالضرورة وان لم يكن موصوفا بأنه (حـ) بالضرورة. واما هنا فيعنون به المشروطة العامة أي ان كل ما يوصف بانه (حـ) بالضرورة فانه موصوف بأنه (ب).

7ـ ان تكون كلية. وهنا أيضا ليس المراد من (الكلية) المعنى المراد في القياس.

بل المراد أن يكون محمولها مقولا على جميع أشخاص الموضوع في جميع الازمنة قولاً أولياً وإن كان الموضوع جزئياً أو مهملا, فالكلية هنا يصح أن تقابلها الشخصية.

والمقصود من معنى الكلية في القياس أن يكون المحمول مقولا على كل واحد وان لم يكن في كل زمان. ولم يكن الحمل أوليا فتقابل الكلية هناك القضية الجزئية والمهملة.

وهذان الشرطان الأخيران يختصان بالنتائج الضرورية الكلية, فلو جوزنا أن تكون نتيجة البرهان غير ضرورية وغير كلية, فما كان بأس في ان تكون أحدى المقدمات ممكنة أو غير كلية بذلك المعنى من الكلية, لأنه ليس يجب في جميع مطالب العلوم أن تكون ضرورية أو كلية, إلا أن يراد من الضرورية ضرورية الحكم وهو الاعتقاد الثاني وان كانت جهة القضية هي الامكان, فإن اليقين ـ كما تقدم يجب أن يكون الاعتقاد الثاني فيه لا يمكن زواله. ولكن هذا الشرط عين الشرط يقينية المقدمات وهو الشرط الاول.

ـ 10 ـ

معنى الذاتي في كتاب البرهان

تقدم انه يشترط في مقدمات البرهان أن تكون المحمولات ذاتية للموضوعات وللذاتي في عرف المنطقيين عدة معاني أحدهما الذاتي في كتاب البرهان. ولا بأس ببيانها جميعاً ليتضح المقصود هنا, فنقول:

1ـ الذاتي في باب الكليات, ويقابله (العرضي). وقد تقدم في الجزء الاول ص 90.

2ـ الذاتي في باب الحمل والعروض, ويقابله (الغريب), اذ يقولون: >ان موضوع كل علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية<. وهو له درجات وفي الدرجة الأولى ما كان موضوعه مأخوذا في حده, كالانف في حد الفطوسة حينما يقال (الانف أفطس) فهذا المحمول ذاتي لموضوعه, لأنه إذا أريد تعريف الأفطس أخذ الأنف في تعريفه. ثم قد يكون موضوع المعروض له ماخوذا في حده, كحمل المرفوع على الفاعل فإن الفاعل لا يؤخذ في تعريف المرفوع ولكن الكلمة التي هي معروضة للفاعل تؤخذ في تعريفه كما تؤخذ في تعريف الفاعل. وقد يكون جنس المعروض له مأخوذا في حده, كحمل المبني على الفعل الماضي مثلاً فإن الفعل لا يؤخذ في تعريف المبني ولكن جنسه وهو الكلمة هي التي تؤخذ في حده. وقد يكون معروض الجنس ماخوذا في حده كحمل المنصوب على المفعول المطلق مثلا فان المفعول المطلق لا يؤخذ في حده المنصوب ولا جنسه, وهو المفعول يؤخذ في حده بل معروض المفعولية وهو الكلمة تؤخذ في حده. ويمكن جمع هذه المحمولات الذاتية بعبارة واحدة فيقال:

(المحمول الذاتي للموضوع ما كان موضوعه أو أحد مقوماته واقعاً في حده) لأن جنس الموضوع مقوم له وكذا معروضه لأنه يدخل في حده وكذا معروض جنسه كذلك.

3ـ (الذاتي) في باب الحمل أيضاً, وهو ما كان نفس الموضوع في حد ذاته كافيا لانتزاع المحمول بدون حاجة إلى ضم شيء إليه وهو الذي يقال له: (المنتزع عن مقام الذات) ويقابله ما يسمى المحمول بالضميمة, مثل حمل الموجود على الوجود وحمل الأبيض على البياض, لا مثل حمل الموجود على الماهية وحمل الأبيض على الجسم, فإن هذا هو المحمول بالضميمة فإن الماهية موجودة ولكن لا بذاتها بل لعروض الوجود عليها, والجسم أبيض ولكن لا بذاته بل لضم البياض إليه وعروضه عليه بخلاف حمل الموجود على الوجود فإنه ذاتي له بدون ضم وجود آخر له بل بنفسه موجود, وكذا حمل الأبيض على البياض فإنه أبيض بذاته بدون ضم بياض آخر إليه فهو ذاتي له.

4ـ (الذاتي) في باب الحمل أيضا, ولكنه في هذا القسم وصف لنفس الحمل لا للمحمول كما في الاصطلاحين الاخيرين, فيقال الحمل الذاتي ويقال له الاولي أيضا. ويقابله الحمل الشايع الصناعي وقد تقدم ذلك في الجزء الأول.

5ـ (الذاتي) في باب العلل, ويقابله (الاتفاقي), مثل ان يقال: اشتعلت النار فاحترق الحطب وابرقت السماء فقصف الرعد, فإنه لم يكن ذلك اتفاقيا بل اشتعال النار يتبعه احراق الحطب اذا مسها والبرق يتبعه الرعد لذاته, لا مثل ما يقال: فتح الباب فابرقت السماء, أو نظر لي فلان فاحترق حطبي أو حسدني فلان فاصابني مرض فإن هذه وأمثالها تسمى أمور اتفاقية.

اذا عرفت هذه المعاني للذاتي فاعلم أن مقصودهم من الذاتي في كتاب البرهان ما يعم المعنى الأول والثاني ويجمعهما في البيان ان يقال: >الذاتي هو المحمول الذي يؤخذ في حد الوضوع أو الموضوع أو احد مقوماته يؤخذ في حده<.

ـ11 ـ

معنى الاوّلي

والمراد من الأولي هنا هو المحمول لا بتوسط غيره أي لا يحتاج إلى واسطة في العروض في حمله على موضوعه, كما نقول: حسم أبيض وسطح أبيض فإن حمل أبيض على السطح حمل أوَّلي اما حمله على الجسم فبتوسط السطح فكان واسطة في العروض, لأن حمل الابيض على السطح أولاً وبالذات وعلى الجسم ثانياً وبالعرض.

والتدقيق في معنى الذاتي والاولي له موضع آخر لا يسعه هذا المختصر. ولكن مما يجب ان يعلم هنا ان بعض كتب أصول الفقه المتأخرة وقع فيها تفسير الذاتي الذي هو في باب موضوع العلم المقابل له الغريب, بمعنى الاولي المذكور هنا.

فوقعت من أجل ذلك اشتباهات كثيرة نستطيع التخلص منها إذا فرقنا بين الذاتي والاوَّلي ولا نخلط أحدهما بالآخر.

صناعة الجدل أو آداب المناظرة

ونضعها في ثلاثة مباحث: الأول في القواعد والأصول, والثاني في المواضع, والثالث في الوصايا.

المبحث الاول ـ القواعد والاصول ـ 

ـ 1 ـ

مصطلحات هذه الصناعة

لهذه الصناعة ـ ككل صناعة ـ مصطلحات خاصة بها والآن نذكر بعضها في المقدمة للحاجة فعلاً, ونرجئ الباقي إلى مواضعه.

1ـ كلمة (الجدل), إن الجدل لغة هو اللدد واللجاج في الخصومة بالكلام, مقارناً غالباً لاستعمال الحيلة الخارجة أحياناً عن العدل والإنصاف. ولذا نهت الشريعة الإسلامية عن المجادلة, لا سيما في الحج والاعتكاف.

وقد نقل مناطقة العرب هذه الكلمة واستعملوها في الصناعة التي نحن بصددها والتي تسمى باليونانية (طوبيقا).

وهذه لفظة (الجدل) أنسب الألفاظ العربية إلى معنى هذه الصناعة على ما سيأتي توضيح المقصود بها, حتى من مثل لفظ المناظرة, والمحاورة والمباحثة, وإن كانت كلّ واحدة منها تناسب هذه الصناعة في الجملة, كما استعملت كلمة (المناظرة) في هذه الصناعة أيضا, فقيل (آداب المناظرة) وألفت بعض المتون بهذا الاسم.

وقد يطلقون لفظ (الجدّل) أيضاً على نفس استعمال الصناعة كما أطلقوه على ملكة استعمالها, فيريدون به حينئذ القول المؤلف من المشهورات أو المسلمات الملزم للغير والجاري على قواعد الصناعة. وقد يقال له أيضاً: القياس الجدلي أو الحجة الجدلية أو القول الجدلي. أما مستعمل الصناعة فيقال له: (مجادل) و(جدلي).

2ـ كلمة (الوضع). ويراد بها هنا (الرأي المعتقد به أو الملتزم به), كالمذاهب والملل والنحل والأديان والآراء السياسية والاجتماعية والعلمية, وما إلى ذلك.

والإنسان كما يعتنق الرأي ويدافع عنه لأنه عقيدته, قد يعتنقه لغرض آخر فيتعصب له ويلتزمه وإن لم يكن عقيدة له, فالرأي على قسمين: رأي معتقد به ورأي ملتزم به, وكل منهما يتعلق به غرض الجدلي لإثباته أو نقضه, فأراد أهل هذه الصناعة أن يعبروا عن قسمين بكلمة واحدة جامعة, فاستعملوا كلمة (الوضع) اختصاراً, ويريدون به مطلق الرأي الملتزم سواء أكان معتقداً به أم لا.

كما قد يسمّون أيضا نتيجة القياس في الجدل (وضعاً) وهي التي تسمى في البرهان (مطلوبا). وعلى هذا يكون معنى الوضع قريباً من معنى الدعوى التي يراد إثباتها أو إبطالها.

ـ 2 ـ

وجه الحاجة الى الجدل

إن الإنسان لا ينفك عن خلاف ومنازعات بينه وبين غيره من أبناء جلدته, في عقائده وآرائه من دينية وسياسية واجتماعية ونحوها, فتتألف بالقياس إلى كل وضع طائفتان: طائفة تناصره وتحافظ عليه, وأخرى تريد نقضه وهدمه وينجر ذلك إلى المناظرة والجدال في الكلام, فيلتمس كلّ فريق الدليل والحجّة لتأييد وجهة نظره وإفحام خصمه أمام الجمهور.

والبرهان سبيل قويم مضمون لتحصيل المطلوب, ولكن هناك من الأسباب ما يدعو إلى عدم الأخذ به في جملة من المواقع, واللجوء إلى سبيل آخر, وهو سبيل الجدل الذي نحن بصدده. وهنا تنبثق الحاجة إلى الجدل, فإّنه الطريقة المفيدة بعد البرهان. أما الأسباب الداعية إلى عدم الأخذ بالبرهان فهي أمور.

1ـ إن البرهان واحد في كلّ مسألة لا يمكن أن يستعمله كل من الفريقين المتنازعين لأن الحق واحد على كلّ حال, فإذا كان الحق مع أحد الفريقين فإنّ الفريق الآخر يلتجئ إلى سبيل الجدل لتأييد مطلوبه.

2ـ إن الجمهور أبعد ما يكون عن إدراك المقدمات البرهانية إذا لم تكن من المشهورات الذايعات بينهم, وغرض المجادل على الأكثر إفحام خصمه أمام الجمهور فيلتجئ هنا إلى استعمال المقدمات المشهورة بالطريقة الجدلية وإن كان الحق في جانبه ويمكنه استعمال البرهان.

3ـ انه ليس كل احد يقوى على إقامة البرهان او إدراكه فيلتجئ المنازع إلى الجدل لعجزه عن البرهان أو لعجز خصمه عن إدراكه.

4ـ إن المبتدئ في العلوم قبل الوصول إلى الدرجة التي يتمكن فيها من إقامة البرهان على المطالب العلمية يحتاج إلى ما يمّرن ذهنه وقوته العقلية على الاستدلال على المطالب بطريقة غير البرهان, كما قد يحتاج إلى تحصيل القناعة والاطمئنان إلى تلك المطالب قبل أن يتمكن من البرهان عليها. وليس له سبيل إلى ذلك إلاّ سبيل الجدّل.

وبمعرفة هذه الأسباب تظهر لنا قوة الحاجة الى الجدل ونستطيع ان نحكم بأنّه يجب لكل من تهمه المعرفة وكلّ من يريد أن يحافظ على العقائد والآراء أية كانت أن يبحث عن صناعة الجدل وقوانينها وأصولها. والمتكفل بذلك هذا الفن الذي عني به متقدموا الفلاسفة من اليونانيين وأهمله المتأخرون في الدورة الإسلامية إهمالاً لا مبرر له عدا فئة قليلة من أعاظم العلماء كالرئيس ابن سينا والخواجة نصير الدين الطوسي إمام المحققين.

ـ 3 ـ

المقارنة بين الجدل والبرهان

قلنا إن الجدل أسلوب آخر من الاستدلال, وهو يأتي بالمرتبة الثانية بعد البرهان, فلا بد من بحث المقارنة بينهما وبيان ما يفترقان فيه فنقول:

1ـ إن البرهان لا يعتمد إلاّ على المقدمات التي هي حق من جهة ما هو حق, لتنتج الحق, أما (الجدل) فإنّما يعتمد على المقدمات المسلمة من جهة ما هي مسلمة, ولا يشترط فيها أن تكون حقاّ, وإن كانت حقاّ واقعاّ, إذ لا يطلب المجادل الحق بما هو حق ـ كما قلنا ـ بل إنّما يطلب إفحام الخصم وإلزامه بالمقدمات المسلمة سواء أكانت مسلمة عند الجمهور وهي المشهورات العامة والذائعات, أم مسلمة عند طائفة خاصة يعترف بها الخصم, أم مسلمة عند شخص الخصم خاصة.

2ـ إن الجدل لا يقوم إلا بشخصين متخاصمين, أما البرهان فقد يقام لغرض تعليم الغير وإيصاله إلى الحقائق فيقوم بين شخصين كالجدل, وقد يقيمه الشخص ليناجي به نفسه ويعلّمها لتصل إلى الحق.

3ـ انه تقدم في البحث السابق أن البرهان واحد في كل مسألة لا يمكن أن يقيمه كل من الفريقين المتنازعين. أما الجدل فإنه يمكن ان يستعمله الفريقان معاً ما دام الغرض منه إلزام الخصم وإفحامه لا الحق بما هو حق, وما دام إنه يعتمد على المشهورات والمسلّمات التي قد يكون بعضها في جانب الإثبات وبعضها الآخر في عين الوقت في جانب النفي. بل يمكن لأحد الفريقين أن يقيم كثيراً من الأدلة الجدلية بلا موجب للحصر على رأي واحد, بينما إن البرهان لا يكون إلاّ واحداً لا يتعدد في المسألة الواحدة, وإن تعدد ظاهراً بتعدد العلل الأربع على ما تقدم في بحث البرهان.

4ـ إن صورة البرهان لا تكون إلاّ من القياس على ما تقدم في بحث البرهان أما المجادل فيمكن أن يستعمل القياس وغيره من الحجج كالاستقراء والتمثيل, فالجدل أعم من البرهان من جهة الصورة, غير أن أكثر ما يعتمد الجدل على القياس والاستقراء.

ـ 4 ـ

تعريف الجدل

ويظهر بوضوح من جميع ما تقدم صحة تعريف فن الجدل بما يلي:

(إنه صناعة علمية يقتدر معها ـ حسب الإمكان ـ على إقامة الحجة من المقدمات المسلمة على أي مطلوب يراد وعلى محافظة أي وضع يتفق, على وجه لا تتوجه عليه مناقضة).

وإنما قيد التعريف بعبارة (حسب الإمكان) فلأجل التنبيه على أن عجز المجادل عن تحصيل بعض المطالب لا يقدح في كونه صاحب صناعة, كعجز الطبيب مثلاً عن مداواة بعض الأمراض فإنه لا ينفي كونه طبيباً.

ويمكن التعبير عن تعريف الجدل بعبارة أخرى كما يلي:

(الجدل صناعة تمكن الإنسان من إقامة الحجج المؤلفة من المسلمات أو من ردها حسب الإرادة ومن الاحتراز عن لزوم المناقضة في المحافظة على الوضع).

ـ5ـ

فوائد الجدل

مما تقدم تظهر لنا الفائدة الأصلية من صناعة الجدل ومنفعتها المقصودة بالذات, وهي أن يتمكن المجادل من تقوية الآراء النافعة وتأييدها ومن إلزام المبطلين والغلبة على المشعوذين, وذوي الآراء الفاسدة على وجه يدرك الجمهور ذلك. ولهذا الصناعة فوائد أخر تقصد منها بالعرض, نذكر بعضها:

1ـ رياضة الأذهان وتقويتها في تحصيل المقدمات واكتسابها, إذ يتمكن ذو الصناعة من إيراد المقدمات الكثيرة والمفيدة في كل باب ومن إقامة الحجة على المطالب العلمية وغيرها.

2ـ تحصيل الحق واليقين في المسألة التي تعرض على الإنسان, فإنه بالقوة الجدلية التي تحصل له بسبب هذه الصناعة يتمكن من تأليف المقدمات لكل من طرفي الإيجاب والسلب في المسألة. وحينئذ بعد الفحص عن حال كل منهما والتأمل فيهما قد يلوح الحق له, فيميز أنه في أي طرف منهما, ويزيف الطرف الآخر الباطل.

3ـ التسهيل على المتعلم المبتدئ لمعرفة المصادرات في العلم الطالب له, بسبب المقدمات الجدلية, إذ أنه بادئ بدء ينكرها ويستوحش منها, لأنه لم يقو بعد على الوصول إلى البرهان عليها. والمقدمات الجدلية تفيده التصديق بها وتسهل عليه الاعتقاد بها فيطمئن إليها قبل الدخول في العلم ومعرفة براهينها.

4ـ وتنفع هذه الصناعة أيضا طالب الغلبة على خصومه, إذ يقوى على المحاورة والمخاصمة والمراوغة وإن كان الحق في جانب خصمه, فيستظهر على خصمه الضعيف عن مجادلته ومجاراته, لا سيما في هذا العصر الذي كثرت فيه المنازعات في الآراء السياسية والاجتماعية.

5ـ وتنفع أيضا الرئيس للمحافظة على عقائد أتباعه عن المبتدعات.

6ـ وتنفع أيضا الذين يسمّونهم في هذا العصر المحامين الذين اتخذوا المحاماة والدفاع عن حقوق الناس مهنة لهم, فإنهم أشد ما تكون حاجتهم إلى معرفة هذه الصناعة, بل إنها جزء من مهنتهم في الحقيقة.

ـ6ـ

السؤال والجواب

تقدم أن الجدل لا يتم إلاّ بين طرفين متنازعين فالجدلي شخصان: (أحدهما) محافظ على وضع وملتزم له غاية سعيه ألا يلزمه الغير ولا يفحمه و(ثانيهما) ناقض له وغاية سعيه ان يلزم المحافظ ويفحمه.

و(الاول) يسمى (المجيب). واعتماده على المشهورات في تقرير وضعه, إما المشهورات المطلقة أو المحدودة بحسب تسليم طائفة معينة. و (الثاني) يسمى (السائل) واعتماده في نقض وضع المجيب على ما يسلّمه المجيب من المقدمات وإن لم تكن مشهورة.

ولتوضيح سرّ التسمية بالسائل والمجيب نقول: إن الجدل إنما يتم بأمرين سؤال وجواب, وذلك لأن المقصود الأصلي من صناعة الجدل عندهم ان تتم بهذه المراحل الأربع:

1ـ أن يوجه من يريد نقض وضع ما أسئلة إلى خصمه المحافظ على ذلك الوضع بطريق الاستفهام, بأن يقول: (هل هذا ذاك؟) أو (أليس إذا كان كذا فكذا؟) ويتدرج بالأسئلة من البعيد عن المقصود, إلى القريب منه حسبما يريد أن يتوصل به إلى مقصوده من تسليم الخصم, من دون أن يشعره بأنه يريد مهاجمته ونقض وضعه, أو يشعره بذلك ولكن لا يشعره من أية ناحية يريد مهاجمته منها, حتى لا يراوغ ويحتال في الجواب.

2ـ أن يستل السائل من خصمه من حيث يدري ولا يدري الاعتراف والتسليم بالمقدمات التي تستلزم نقض وضعه المحافظ عليه.

3ـ أن يؤلف السائل قياساً جدلياً مما اعترف وسلّم به خصمه (المجيب) بعد فرض اعترافه وتسليمه, ليكون هذا القياس ناقضاً لوضع المجيب.

4ـ أن يدافع المحافظ (المجيب) ويتخلص عن المهاجمة ـ إن استطاع ـ بتأليف قياس من المشهورات التي لا بد أن يخضع لها السائل والجمهور.

وهذه الطريقة من السؤال والجواب هي الطريقة الفنية المقصودة لهم في هذه الصناعة وهي التي تظهر بها المهارة والحذق في توجيه الأسئلة والتخلص من الاعتراف أو الإلزام. ومن هذه الجهة كانت التسمية بالسائل والمجيب, لا لمجرد وقوع سؤال وجواب بأي نحو اتفق. والمقصود من صناعة الجدل اتقان تأدية هذه الطريقة حسبما تقتضيه القوانين والأصول الموضوعة فيها.

ونحن يمكننا أن نتوسع في دائرة هذه الصناعة, فنتعدى هذه الطريقة المتقدمة إلى غيرها, بأن نكتفي بتأليف القياس من المشهورات أو المسلمات لنقض وضع او للمحافظة على وضع, لغرض افحام الخصوم, على أي نحو يتفق هذا التأليف وان لم يكن على نحو السؤال والجواب ولم يمر على تلك المراحل الاربع بترتيبها. ولعل تعريف الجدل المتقدم لا يابى هذه التوسعة.

بل يمكن ان نتعدى الى ابعد من ذلك حينئذ, فلا نخص الصناعة بالمشافهة, بل نتعدى بها إلى التحرير والمكاتبة. وفي هذه العصور لا سيما الأخيرة منها بعد انتشار الطباعة والصحف أكثر ما تجري المناقشات والمجادلات في الكتابة, وتبتني على المسلمات والمشهورات, على غير الطريقة البرهانية, من دون أن تتألف صورة سؤال وجواب. ومع ذلك نسميها قياسات جدلية, أو ينبغي أن نسميها كذلك, وتشملها كثير من أصول صناعة الجدل وقواعدها فلا ضير في دخولها في هذه الصناعة وشمول بعض قواعدها وآدابها لها.

ـ7ـ

مبادئ الجدل

أشرنا فيما سبق إلى أن مبادئ الجدل الأولية التي تعتمد عليها هذه الصناعة هي المشهورات والمسلمات, وأن المشهورات مبادئ مشتركة بالنسبة إلى السائل والمجيب, والمسلمات مختصة بالسائل.

كما أشرنا إلى أن المشهورات يجوز أن تكون حقاً واقعاً وللجدلي أن يستعملها في قياسه. أما استعمال الحق غير المشهور بما هو حق في هذه الصناعة فإنه يعد مغالطة من الجدلي لأنه في استعمال أية قضية لا يدعي أنها في نفس الأمر حق. وانما يقول: إن هذا الحكم ظاهر واضح في هذه القضية ويعترف بذلك الجميع ويكون الحكم مقبولا لدى كل احد.

ثم أنا أشرنا في بحث (المشهورات) أن للشهرة أسباباً توجبها, وذكرنا أقسام المشهورات حسب اختلاف أسباب الشهرة, فراجع. والسرّ في كون الشهرة لا تستغني عن السبب أن شهرة المشهور ليست ذاتية, بل هي أمر عارض, وكل عارض لا بد له من سبب. وليست هي كحقية الحق التي هي أمر ذاتي للحق لا تعلل بعلة.

وسبب الشهرة لا بد أن يكون تألفه الأذهان وتدركه العقول بسهولة, ولولا ذلك لما كان الحكم مقبولاً عند الجمهور وشايعاً بينهم.

وعلى هذا يتوجه علينا سؤال وهو: إذا كانت الشهرة لا تستغني عن السبب, فكيف جعلتم المشهورات من المبادئ الأولية أي ليست مكتسبة؟

والجواب إن سبب حصول الشهرة لوضوحه لدى الجمهور تكون أذهان الجمهور غافلة عنه ولا تلتفت الى سرّ انتقالها إلى الحكم المشهور, فيبدو لها أن المشهورات غير مكتسبة من سبب كأنها من تلقاء نفسها انتقلت إليها, وإنما يعتبر كون الحكم مكتسباً إذا صدر الانتقال إليه بملاحظة سببه. وهذا من قبيل القياس الخفي في المجربات والفطريات التي قياساتها معها, على ما أوضحناه في موضعه, فإنما مع كونها لها قياس وهو السبب الحقيقي لحصول العلم بها عدّوها من المبادئ غير المكتسبة, نظراً إلى أن حصول العلم فيها عن سبب خفي غير ملحوظ للعالم ومغفول عنه لوضوحه لديه.

ثم لا يخفى أنه ليس كل ما يسمى مشهوراً هو من مبادئ الجدل, فإن الشهرة تختلف بحسب اختلاف الأسباب في كيفية تأثيرها في الشهرة. وبهذا الاعتبار تنقسم المشهورات إلى ثلاثة أقسام:

1ـ المشهورات الحقيقية, وهي التي لا تزول شهرتها بعد التعقيب والتأمل فيها.

2ـ المشهورات الظاهرية, وهي المشهورات في بادئ الرأي التي تزول شهرتها بعد التعقيب والتأمل مثل قولهم: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً), فإنه يقابله المشهور الحقيقي وهو: (لا تنصر الظالم وإن كان اخاك).

3ـ الشبيهة بالمشهورات, وهي التي تحصل شهرتها بسبب عارض غير لازم تزول الشهرة بزواله, فتكون شهرتها في وقت دون وقت وحال دون حال, مثل استحسان الناس في العصر المتقدم لإطلاق الشوارب تقليداً لبعض الملوك والامراء, فلما زال هذا السبب زالت هذه العادة وزال الاستحسان.

ولا يصلح للجدل إلاّ القسم الأول دون الأخيرين, أما الظاهرية فإنما تنفع فقط في صناعة الخطابة كما سيأتي, وأما الشبيهة بالمشهورات فنفعها خاص بالمشاغبة كما سيأتي في صناعة المغالطة.

ـ8ـ

مقدمات الجدل

كل ما هو مبدأ للقياس معناه أنه يصلح أن يقع مقدمة له ولكن ليس يجب في كل ما هو مقدمة أن يكون من المبادئ, بل المقدمة إما أن تكون نفسها من المبادئ أو تنتهي إلى المبادئ. وعليه فمقدمات القياس الجدلي يجوز أن تكون في نفسها مشهورة. ويجوز أن تكون غير مشهورة, ترجع إلى المشهورة كما قلنا في مقدمات البرهان إنها تكون بديهية وتكون نظرية تنتهي إلى البديهية.

والرجوع إلى المشهورة على نحوين:

أـ أن تكتسب شهرتها من المقارنة والمقايسة إلى المشهورة. وتسمى (المشهورة بالقرائن). والمقارنة بين القضيتين إما لتشابهما في الحدود أو لتقابلهما فيها. وكل من التشابه والتقابل يوجب انتقال الذهن من تصور شهرة إحداهما إلى تصور شهرة الثانية, وإن لم يكن هذا الانتقال في نفسه واجباً, وإنما تكون شهرة أحداهما مقرونة بشهرة الأخرى.

مثال التشابه: قولهم إذا كان إطعام الضيف حسناً فقضاء حوائجه حسن أيضاً, فإنّ حسن إطعام الضيف مشهور وللتشابه بين الإطعام وقضاء الحوائج تستوجب المقارنة بينهما انتقال الذهن إلى حسن قضاء حوائج الضيف. ومثال التقابل: قولهم: إذا كان الإحسان إلى الأصدقاء حسناً كانت الإساءة إلى الأعداء حسنة, فإن التقابل بين الأحسان والإساءة وبين الأصدقاء والأعداء يستوجب انتقال الذهن من إحدى القضيتين إلى الأخرى بالمقارنة والمقايسة.

ب ـ أن تكون المقدمة مكتسبة شهرتها من قياس مؤلف من المشهورات منتج لها بان تكون هذه المقدمة المفروضة مأخوذة من مقدمات مشهورة. نظير المقدمة النظرية في البرهان إذا كانت مكتسبة من مقدمات بديهية.

ـ9ـ

مسائل الجدل

كل قضية كان السائل قد أورد عينها في حال سؤاله أو أورد مقابلها فإنها تسمى (مسالة الجدل) وبعد أن يسلّم بها المجيب ويجعلها السائل جزءاً من قياسه هي نفسها تسمى (مقدمة الجدل).

إذا عرفت ذلك فكل قضية لها ارتباط في نقض الوضع الذي يراد نقضه تصلح أن تقع مورداً لسؤال السائل, ولكن بعض القضايا يجدر به أن يتجنبها نذكر بعضها:

(منها) أنه لا ينبغي للسائل أن يجعل المشهورات مورداً لسؤاله, فإن السؤال عنها معناه جعلها في معرض الشك والترديد وهذا ما يشجع المجيب على إنكارها ومخالفة المشهور. فلو التجأ السائل لإيراد المشهورات فليذكرها على سبيل التمهيد للقواعد التي يريد أن يستفيد منها لنقض وضع المجيب. باعتبار أن تلك المشهورات مفروغ عنها لا مفّر من الاعتراف بها.

و(منها) أنه لا ينبغي له أن يسأل عن ماهية الأشياء ولا عن لميتها (علّيتها) لأن مثل هذا السؤال إنما يرتبط بالتعلم والاستفادة لا بالجدل والمغالبة, بل السؤال عن الماهية لو احتاج إليه فينبغي أن يضعه على سبيل الاستفسار عن معنى اللفظ, أو على سبيل السؤال عن رأيه وقوله في الماهية, بأن يسأل هكذا (هل تقول إن الإنسان هو الحيوان الناطق أو لا ؟) أو يسأل هكذا: (لو لم يكن حد الإنسان هو الحيوان الناطق فما حده إذن؟).

وكذلك السؤال في اللمية لا بد أن يجعل السؤال عن قوله ورأيه فيها لا عن أصل العلية.

ـ10ـ

مطالب الجدل

إن الجدل ينفع في جميع المسائل الفلسفية والاجتماعية والدينية والعلمية والسياسية والأدبية وجميع الفنون والمعارف وكل قضية من ذلك تصلح أن تكون مطلوبة به. ويستثنى من ذلك قضايا لا تطلب بالجدل.

منها (المشهورات الحقيقية المطلقة) لأنها لما كانت بهذه الشهرة لا يسع لأحد إنكارها والتشكيك بها حتى يحتاج إثباتها إلى حجة. وحكمها من هذه الجهة حكم البديهيات فإنه لا تطلب بالبرهان. ويجمعها أنها غير مكتسبة فلا تكتسب بحجة.

ومن ينكر المشهورات لا تنفع معه حجة جدلية لأن معنى إقامتها إرجاعه إلى القضايا المشهورة وقد ينكرها أيضاً. ومثل هذا المنكر للمشهورات لا ردّ له إلا العقاب أو السخرية والاستهزاء أو إحساسه: فمن ينكر مثل حسن عبادة الخالق وقبح عقوق الوالدين فحقه العقاب والتعذيب. ومنكر مثل أن القمر مستمد نوره من الشمس يسخر به ويضحك عليه. ومنكر مثل أن النار حارة يكوى بها ليحس بحرارتها.

نعم قد يطلب المشهور بالقياس الجدلي في مقابل المشاغب كما تطلب القضية الأولية بالبرهان في مقابل المغالط.

أما المشهورات المحدودة أو المختلف فيها فلا مانع من طلبها بالحجة الجدلية في مقابل من لا يراها مشهورة أو لا يعترف بشهرتها, لينبهه على شهرتها بما هو أعرف وأشهر.

ومنها (القضايا الرياضية ونحوها) لأنها مبتنية على الحس والتجربة, فلا مدخل للجدل فيها ولا معنى لطلبها بالمشهورات كقضايا الهندسة والحساب والكيمياء والميكانيك ونحو ذلك.

ـ11ـ

ادوات هذه الصناعة

عرفنا فيما سبق أن الجدل يعتمد على المسلّمات والمشهورات غير أن تحصيل ملكة هذه الصناعة (بأن يتمكن المجادل من الانتفاع بالمشهورات والمسلّمات في وقت الحاجة عند الاحتجاج على خصمه أو عند الاحتراز من الانقطاع والمغلوبية) ليس بالأمر الهين كما قد يبدو لأول وهلة. بل يحتاج إلى مران طويل حتى تحصل له الملكة شأن كل ملكة في كل صناعة. ولهذا المران موارد أربعة هي أدوات للملكة إذا استطاع الإنسان أن يحوز عليها فإن لها الاثر البالغ في حصول الملكة وتمكن الجدلي من بلوغ غرضه.

ونحن واصفون هنا هذه الأدوات. وليعلم الطالب أنه ليس معنى معرفة وصف هذه الأدوات أنه يكون حاصلاً عليها فعلاً, بل لا بد من السعي لتحصيلها بنفسه عملا واستحضارها عنده, فإن من يعرف معنى المنشار لا يكون حاصلاً لديه ولا يكون ناشراً للخشب, بل الذي ينشره من تمكن من تحصيل نفس الآلة وعمل بها في نشر الخشب. نعم معرفة أوصاف الآلة طريق لتحصيلها والانتفاع بها.

والأدوات الأربع المطلوبة هي كما يلي:

(الأداة الأولى) ـ أن يستحضر لديه أصناف المشهورات من كل باب ومن كل مادة على اختلافها, ويعدها في ذاكرته لوقت الحاجة, وأن يفصل بين المشهورات المطلقة وبين المحدودة عند أهل كل صناعة أو مذهب, وأن يميز بين المشهورات الحقيقية وغيرها, وأن يعرف كيف يستنبط المشهور ويحصل على المشهورات بالقرائن وينقل حكم الشهرة من قضية إلى أخرى.

فإذا كمل له كل ذلك وجمعه عنده فإن احتاج إلى استعمال مشهور: كان حاضراً لديه متمكناً به من الاحتجاج على خصمه.

وهذه الأداة لازمة للجدلي, لأنه لا ينبغي له أن ينقطع أمام الجمهور ولا يحسن منه أن يتأنى ويطلب التذكر أو المراجعة فإنه يفوت غرضه ويعد فاشلاً لأن غايته آنية, وهي الغلبة على خصمه أمام الجمهور. فيفوت غرضه بفوات الآوان, على العكس من طالب الحقيقة بالبرهان, فإن تأنيه وطلبه للتذكر والتأمل لا ينقصه ولا ينافي غرضه من تحصيل الحقيقة ولو بعد حين.

ومما ينبغي أن يعلم أن هذه الملكة (ملكة استحضار المشهور عند الحاجة) يجوز أن تتبّعض, بأن تكون مستحضرات المجادل خاصة بالموضوع المختص به: فالمجادل في الأمور الدينية مثلاً يكفي أن يستحضر المشهورات النافعة في موضوعه خاصة, ومن يجادل في السياسة إنما يستحضر خصوص المشهورات المختصة بهذا الباب فيكون صاحب ملكة في جدل السياسة فقط... وهكذا في سائر المذاهب والآراء.

وعليه فلا يجب في الجدلي المختص بموضوع أن تكون ملكته عامة لجميع المشهورات في جميع العلوم والآراء.

(الأداة الثانية) ـ القدرة والقوة على التمييز بين معاني الألفاظ المشتركة والمنقولة والمشككة والمتواطئة والمتباينة والمترادفة وما إليها من أحوال الألفاظ, والقدرة على تفصيلها على وجه يستطيع أن يرفع ما يطرأ من غموض واشتباه فيها, حتى لا يقتصر على الدعوى المجردة في إيرادها في حججه, بل يتبين وجه الاشتراك أو التشكيك أو غير ذلك من الأحوال.

وهناك أصول وقواعد قد يرجع إليها لمعرفة المشترك اللفظي وتمييزه عن المشترك المعنوي ولمعرفة باقي أحوال اللفظ: لا يسعها هذا الكتاب المختصر. ولأجل أن يتنبه الطالب لهذه الأبحاث نذكر مثالاً لذلك, فنقول:

لو اشتبه لفظ في كونه مشتركاً لفظياً أو معنوياً فانه قد يمكن رفع الاشتباه بالرجوع إلى اختلاف اللفظ بحسب الاعتبارات, مثل كلمة (قوة) فإنها تستعمل بمعنى القدرة كقولنا قوة المشي والقيام مثلاً, وتستعمل بمعنى القابلية والتهيؤ للوجود مثل قولنا الأخرس ناطق بالقوة والبذرة شجرة بالقوة. فلو شككنا في أنها موضوعة لمعنى أعم أو لكل من المعنيين على حدة, فإنه يمكن أن نقيس اللفظ الى ما يقابله فنرى في المثال أن اللفظ بحسب كل معنى يقابله لفظ آخر وليس له مقابل واحد, فمقابل القوة بالمعنى الأول الضعف ومقابلها بالمعنى الثاني الفعلية. ولتعدد التقابل نستظهر أن لها معنيين لا معنى واحداً وإلاّ لكان لها مقابل واحد.

وكذلك يمكن ان تستظهر أن للفظة معنيين على نحو الاشتراك اللفظي, إذا تعدد جمعها بتعدد معناها, مثل لفظة (أمر) فإنها بمعنى شيء تجمع على (أمور) وبمعنى طلب الفعل تجمع على (أوامر). فلو كان لها معنى واحد مشترك لكان لها جمع واحد.

ثم إن كثيراً ما تقع المنازعات بسبب عدم تحقيق معنى اللفظ, فينحو كل فريق من المتنازعين منحى من معنى اللفظ غير ما ينحوه الفريق الآخر ويتخيل كل منهما أن المقصود لهما معنى واحد هو موضع الخلاف بينهما. ومن له خبرة في أحوال اللفظ يستطيع أن يكشف مثل هذه المغالطات ويوقع التصالح بين الفريقين. ويمكن التمثيل لذلك بالنزاع في مسألة جواز رؤية الله, فيمكن أن يريد من يجيز الرؤية هي الرؤية القلبية أي الادراك بالعقل بينما أن المقصود لمن يحيلها هي الرؤية بمعنى الإدراك بالبصر. فتفصيل معنى الرؤية وبيان أن لها معنيين قد يزيل الخلاف والمغالطة. وهكذا يمكن كشف النزاع في كثير من الأبحاث. وهذا من فوائد هذه الأداة.

(الأداة الثالثة) ـ القدرة والقوة على التمييز بين المتشابهات سواء كان التمييز بالفصول أو بغيرها. وتحصل هذه القوة (الملكة) بالسعي في طلب الفروق بين الأشياء المتشابهة تشابهاً قريباً لا سيما في تحصيل وجوه اختلاف أحكام شيء واحد بل تحصل بطلب المباينة بين الأشياء المتشابهة بالجنس.

وتظهر فائدة هذه الأداة في تحصيل الفصول والخواص للأشياء, فيستعين بذلك على الحدود والرسوم. وتظهر الفائدة للمجادل كما لو ادعى خصمه مثلاً أن شيئين لهما حكم واحد باعتبار تشابهها فيقيس أحدهما على الآخر, أو أن الحكم ثابت للعام الشامل لهما, فإنه أي المجادل إذا ميز بينهما وكشف ما بينهما من فروق تقتضي اختلاف أحكامها ينكشف اشتباه الخصم ويقال له مثلاً: إن قياسك الذي ادعيته قياس مع الفارق.

مثاله ما تقدم في بحث المشهورات في دعوى منكر الحسن والقبح العقليين إذ استدل على ذلك بأنه لو كان عقلياً لما كان فرق بينه وبين حكم العقل بأن الكل أعظم من الجزء مع أن الفرق بينهما ظاهر. فاعتقد المستدل أن حكمي العقل في المسألتين نوع واحد واستدل بوجود الفرق على إنكار حكم العقل في مسألة الحسن والقبح.

وقد أوضحنا هناك فرق بين العقلين وبين الحكمين بما أبطل قياسه فكان قياساً مع الفارق. وهذا المثال أحد موارد الانتفاع بهذه الأداة.

(الأداة الرابعة) ـ القدرة على بيان التشابه بين الأشياء المختلفة عكس الأداة الثالثة, سواء كان التشابه بالذاتيات أو بالعرضيات. وتحصل هذه القدرة (الملكة) بطلب وجوه التشابه بين الأمور المتباعدة جداً أو المتجانسة, وبتحصيل ما به الاشتراك بين الأشياء وإن كان أمراً عدمياً.

ويجوز أن يكون وجه التشابه نسبة عارضة. والحدود في النسبة إما أن تكون متصلة أو منفصلة: أما المتصلة فكما لو كان شيء واحد منسوباً أو منسوباً إليه في الطرفين, أو أنه في أحد الطرفين منسوباً وفي الثاني منسوباً إليه, فهذه ثلاثة أقسام:

(مثال الاول) ما لو قيل: نسبة الإمكان إلى الوجود كنسبته إلى العدم. و(مثال الثاني) ما لو قيل نسبة البصر إلى النفس كنسبة السمع إليها. و (مثال الثالث) ما لو قيل: نسبة النقطة إلى الخط كنسبة الخط إلى السطح.

أما المنفصلة ففيما إذا لم يشترك الطرفان في شيء واحد أصلاً كما لو قيل: نسبة الأربعة إلى الثمانية كنسبة الثلاثة إلى الستة.

وفائدة هذه الأداة اقتناص الحدود والرسوم بالاشتراك مع الأداة السابقة. فإن هذه الأداة تنفع لتحصيل الجنس وشبه الجنس, والأداة السابقة تنفع في تحصيل الفصول والخواص كما تقدم.

وتنفع هذه الأداة في إلحاق بعض القضايا ببعض آخر في الشهرة أو في حكم آخر, ببيان ما به الاشتراك في موضوعيهما, بعد أن يعلل الحكم بالأمر المشترك كما في التمثيل.

وتنفع هذه الأداة أيضاً الجدلي فيما لو ادعى خصمه الفرق في الحكم بين شيئين, فيمكنه أن يطالب بإيراد الفرق, فاذا عجز عن بيانه لا بد أن يسلم بالحكم العام ويذعن. وإن كان بحسب التحقيق العلمي لا يكون العجز عن إيراد الفرق بل حتى نفس عدم الفرق مقتضياً لالحاق شيء بشبيهه في الحكم.

المبحث الثاني ـ المواضع 

ـ1ـ

معنى الموضع

للتعبير (بالموضع) أهمية خاصة في هذه الصناعة, فينبغي أن نتقن جيداً معنى هذه اللفظة قبل البحث عن أحكامه, فنقول:

الموضع ـ باصطلاح هذه الصناعةـ هو الأصل أو القاعدة الكلية التي تتفرع منها قضايا مشهورة.

وبعبارة ثانية أكثر وضوحاً, الموضع: كل حكم كلي تنشعب منه وتتفرع عليه أحكام كلية كثيرة كل واحد منها بمثابة الجزئي بالإضافة إلى ذلك الكلي الأصل لها, وفي عين الوقت كل واحد من هذه الأحكام المتشعبة مشهور في نفسه يصح أن يقع مقدمة في القياس الجدلي بسبب شهرته.

ولا يشترط في الأصل (الموضع) أن يكون في نفسه مشهوراً, فقد يكون وقد لا يكون. وحينما يكون في نفسه مشهوراً صح أن يقع ـ كالحكم المنشعب منه ـ مقدمة في القياس الجدلي, فيكون موضعاً باعتبار ومقدمة باعتبار آخر.

مثال الموضع قولهم: >إذا كان أحد الضدين موجوداً في موضوع كان ضده الآخر موجوداً في ضد ذلك الموضوع<. فهذه القاعدة تسمى موضعاً, لأنه تنشعب منها عدة أحكام مشهورة تدخل تحتها مثل قولهم: >إذا كان الإحسان للاصدقاء حسناً فالإساءة إلى الأعداء حسنة أيضاً<, وقولهم: >إذا كانت معاشرة الجهال مذمومة فمقاطعة العلماء مذمومة<, وقولهم: >إذا جاء الحق زهق الباطل< وقولهم: >إذا كثرت الأغنياء قلّت الفقراء<... وهكذا. فهذه الأحكام وأمثالها أحكام جزئية بالقياس إلى الحكم الأول العام, وفي نفسها أحكام كلية مشهورة.

(مثال ثانٍ للموضع): قولهم: >إذا كان شيء موجوداً في وقت أو موضع أو حال أو موضوع أو نافع أو جميل فهو مطلقاً ممكن أو نافع أو جميل< فهذه القاعدة تسمى موضعاً, لأنه تنشعب منها عدة أحكام مشهورة, مثل أن يقال: >إذا كذب الرجل مرة فهو كاذب مطلقاً< و >إذا كان السياسي يذيع السرّ في بيته فهو مذيع للسرّ مطلقاً< و >اذا صبر الإنسان في حال الشدة فهو صابر مطلقاً< و >إذا ملك الإنسان العقار فهو مالك مطلقاً< ومثل إن يقال: >إذا أمكن الطالب أن يجتهد في مسألة فقهية فالاجتهاد ممكن له مطلقاً< و >إذا كان الصدق نافعاً في الحال الاعتيادية فهو نافع مطلقاً< و >إذا حسنت مجاملة العدو في حال اللقاء فهي حسنة مطلقاً<... وهكذا تتشعب من ذلك الموضع كثير من أمثال هذه الأحكام المشهورة التي هي من جزئياته.

وأكثر المواضع ليست مشهورة. وإنما الشهرة لجزئياتها فقط. والسرّ في ذلك:

1ـ إن تصور العام أبعد عن عقول العامة من تصور الخاص, فلا بد أن تكون شهرة كل عام أقل من شهرة ما هو أخص منه. لأن صعوبة التصور تستدعي صعوبة التصديق. وهذه الصعوبة تمنع الشهرة وإن لم تمنعها فإنها تقللها على الأقل.

2ـ إن العام يكون في معرفة النقض أكثر من الخاص, لأن نقض الخاص يستدعي نقض العام ولا عكس. ولهذا يكون الاطلاع على كذب العام أسهل وأسرع.

ولأجل التوضيح نجرب ذلك في الموضع الأول المذكور آنفاً:

فإنا عند ملاحظة الأضداد نجد أن السواد والبياض مثلاً من الأضداد, مع أنهما معاً يعرضان على موضوع واحد وهو الجسم, لا أن البياض يعرض على نوع من الجسم مثلاً والسواد يعرض على ضده كما يقتضيه هذا الموضع.

إذن هذا الموضع كاذب لا قاعدة كلية فيه. فانظر كيف اطلعنا بسهولة على كذب هذا العام.

أما الأحكام المشهورة المنشعبة منه كمثال الإحسان الى الأصدقاء والإساءة إلى الأعداء, فإن النقض المتقدم للوضع لا يستلزم نقضها, لما قلناه إن نقض العام لا يستدعي نقض الخاص. مثلاً نجد امتناع تعاقب الضدين مثل الزوجية والفردية على موضوع واحد بأن يكون عدد واحد مرة زوجاً ومرة فرداً, فكون بعض أصناف الأضداد كالبياض والسواد يجوز تعاقبهما على موضوع واحد لا يستلزم ان يكون كل ضدين كذلك, فجاز أن يكون الإحسان والإساءة من قبيل الزوجية والفردية لا من قبيل السواد والبياض.

وحينئذ يجب ملاحظة جزئيات هذا الحكم المنشعب من الموضع, فإذا لا حظناها ولم نعثر فيما بينها على نقض له ولم نطلع على مشهور آخر يقابله, فلا بد أن يكون في موضع التسليم ولا يلتفت إلى الأضداد الأخرى الخارجة عنه.

والخلاصة إن كذب الموضع لا يستكشف منه كذب الحكم المنشعب منه المشهور.

ـ2ـ

فائدة الموضع وسر التسمية

وعلى ما تقدم يتوجه السؤال عن الفائدة من المواضع في هذه الصناعة إذا كانت الشهرة ليست له!

والجواب: إن الفائدة منه هي أن صاحب هذه الصناعة يستطيع أن يعد المواضع ويحفظها عنده أصولا وقواعد عامة, ليستنبط منها المشهورات النافعة له في الجدل عند الحاجة للإبطال أو الإثبات. وإحصاء المواضع (القواعد العامة) أسهل وأجدى في التذكر من إحصاء جزئياتها (المشهورات المنشعبة منها).

ولذا قالوا ينبغي للمجادل ألاّ يصرح بالموضع الذي استنبط منه المشهور؛ بل يحتفظ به بينه وبين نفسه, حتى لا يجعله معرضاً للنقض والرد, لأن نقضه ورده ـ كما تقدم ـ أسهل وأسرع.

ومن أجل هذا سمّي الوضع موضعاً لأنه موضع للحفظ والانتفاع والاعتبار.

وقيل: إنما سمي موضعاً لانه يصلح أن يكون موضع بحث ونظر. وهو وجيه أيضاً وقيل غير ذلك, ولا يهم التحقيق فيه.

ـ3ـ

اصناف المواضع

جميع المواضع في المطالب الجدلية إنما تتعلق بإثبات شيء لشيء أو نفيه عنه, أي تتعلق بالإثبات والإبطال.

وهذا على إطلاقه مما لا يسهل ضبطه وإعداد المواضع بحسبه. فلذلك وجب على من يريد إعداد المواضع وضبطها ليسهل عليه ذلك أن يصنفها ليلاحظ في كل صنف ما يليق به من المواضع ويناسبه.

والتصنيف في هذا الباب إنما يحسن بتقسيم المحمولات حسبما يليق بها في هذه الصناعة. وقد بحث المنطقيون هنا عن أقسام المحمولات بالأسلوب المناسب لهذه الصناعة, وإن اختلف عن الأسلوب المعهود في بحث الكليات.

ونحن لأجل أن نضع خلاصة لأبحاثهم وفهرساً لمباحثهم في هذا الباب نسلك طريقتهم في التقسيم, فنقول:

إن المحمول إما أن يكون مساوياً للموضوع في الانعكاس() وإما أن لا يكون:

و (الأول) لا يخلو عن أحد أمرين:

(أ) ـ أن يكون دالاً على الماهية. والدال على الماهية أحد شيئين حد أو أسم.

والاسم ساقط عن الاعتبار هنا لأن حمله على الموضوع حمل لفظي لا حقيقي, فلا يتعلق به غرض المجادل. فينحصر الدال على الماهية في (الحدّ) فقط.

(ب) ـ أن لا يكون دالاً على الماهية. ويسمى هنا (خاصة) وقد يسمى أيضا (رسماً), لأنه يكون موجباً لتعريف الماهية بتمييزها عمّا عداها.

و (الثاني) لا يخلو ـ أيضا عن أحد أمرين:

(أ)ـ أن يكون واقعاً في طريق ما هو. ويسمى هنا (جنساً). والجنس بهذا الاصطلاح يشمل الفصل باصطلاح باب الكليات, إذ لا فائدة تظهر في هذا الفن بين الجنس والفصل.

وإنما كان الفصل من أقسام ما ليس بمساوٍ للموضوع, فلانه بحسب مفهومه وذاته بالقوة يمكن أن يقع على الأشياء المختلفة بالحقيقة, وأن كان فعلاً لا يقع إلاّ على الأشياء المتفقة الحقيقة, فإن الناطق مثلاً لا يقع فعلاً إلا على أفراد الإنسان, ولكنه بالقوة وبحسب مفهومه يصلح للصدق على غير الإنسان لو كان له النطق, فلا يمتنع فرض صدقه على غير الإنسان. فلم يكن مفهوماً مساوياً للإنسان. وبهذا الاعتبار يسمى هنا (جنساً).

(ب)ـ أن لا يكون واقعاً في طريق ما هو, ويسمى (عرضاً). والعرض شامل للعرض العام وللعرض الذي هو أخص من الموضوع, إذ أن كلاً منهما غير مساوٍ للموضوع, كما أنه غير واقع في جواب ما هو.

وعلى هذا فالمحمولات أربعة: حد, وخاصة, وجنس, وعرض. أما (النوع) فلا يقع محمولاً, لأنه إما أن يحمل على الشخص أو على الصنف, ولا اعتبار بحمله على الشخص هنا, لأن موضوعات مباحث الجدل كليات. وأما الصنف فحمل النوع عليه بمثابة حمل اللوازم, لأن النوع ليس نوعاً للصنف, فيدخل النوع من هذه الجهة في باب العرض.

وعليه فالنوع بما هو نوع لا يقع محمولاً في القضية. بل إنما يقع موضوعاً فقط.

إذا عرفت أقسام المحمولات على النحو المتقدم الذي يهم الجدلي ـ فاعلم أنه لا يتعلق غرض المجادل في مقام المخاصمة في أن محموله في مطلوبه أي قسم منها, فإن كل غرضه أن يتوصل إلى إثبات حكم أو إبطاله, أما أنه جنس أو خاصة أو أي شيء آخر فليس ذلك يحتاج إليه.

وإنما الذي يحتاج إليه قبل المخاصمة والمجادلة أو يعد المواضع لاستنباط المشهورات التي تنفعه عند المخاصمة. وإعداد هذه المواضع في هذه الصناعة يتوقف على تفصيل المحمولات حسب تلك الأقسام ليعرف لكل محمول ما يناسبه من المواضع.

وعليه فالمواضع منها ما يخص الحد ـ مثلاًـ فينظر لأجل إثباته في أنه يجب أن يكون موجوداً لموضوعه وأنه مساوٍ له وأنه واقع في طريق ما هو وأنه قائم مقام الاسم في الدلالة على الموضوع.

ومنها ما يخص الخاصة, فينظر لأجل إثباتها في أنها يجب أن تكون موجودة لموضوعها وأنه مساوية له وأنه غير واقعة في طريق ما هو ... وهكذا باقي أقسام المحمولات.

فتكون المواضع ـ على ما تقدم ـ أربعة أصناف:

ثم إن هناك مواضع عامة للإثبات والإبطال لا يخص أحد المحمولات الأربعة بالخصوص وتنفع في جميع المحمولات. وتسمى (مواضع الإثبات والإبطال).

فيضاف هذا الصنف إلى الأصناف السابقة, فتكون خمسة.

ثم لا حظوا إن كثيراً ما يهم الجدلي إثبات أن هذا المحمول أشد من غيره أو اضعف أو أولى وغير أولى. وهذا إنما يصح فرضه في الأعراض الخاصة لأنها هي التي تقبل التفاوت. فزادوا صنفاً سادساً وسمّوه (مواضع الأولى والآثر) ثم لا حظوا أنه قد يتوجه نظر الجدلي إلى بحث آخر, وهو إثبات الاتحاد بين الشيئين إما بحسب الجنس أو النوع أو العارض أو الوجود؛ فسمّوا المواضع في ذلك (مواضع هو هو).

وعلى هذا فتكون المواضع سبعة, وتفصيل هذه المواضع يحتاج إلى فن مستقل لا تسعه هذه الرسالة المختصرة. على أن كل مجادل مختص بفن كالفقيه والمتكلم والمحامي والسياسي لا بد أن يتقن فنّه قبل أن يبرز إلى الجدال فيطلع على ما فيه من مشهورات ومسلّمات وما يقتضيه من المشهورات. فلا تكون له كبير حاجة إلى معرفة المواضع في علم المنطق وتحضيرها من طريقه.

ولأجل ألا نكون قد حرمنا الطالب من التنبه للمقصود من المواضع نذكر بعض المواضع لبعض الأصناف السبعة المتقدمة, ونحيله على الكتب المطولة في هذا الفن إذا أراد الاستزادة, فنقول.

ـ4ـ

مواضع الإثبات والإبطال

مواضع الإثبات والإبطال نفعها عام في جميع المحمولات كما تقدم, وإثبات وإبطال الأعراض داخلة في هذا الباب أيضاً. وأشهر المواضع في هذا الباب عدّوها عشرين موضعاً, وما ذكرناه من أمثلة المواضع فيما سبق هي من مواضع الإثبات والإبطال. ونذكر الآن مثالاً واحداً غيرها, وهو:

أن العارض على المحمول عارض على موضوعه, فيمكن أن تثبت عروض شيء للموضوع بعروضه لمحموله, وتبطل عروضه للموضوع بعدم عروضه لمحموله, فمثلاً يقال: الجمهور عاطفي. فالجمهور موضوع وعاطفي محمول. وهذا المحمول وهو العاطفي يوصف بأنه تقوى فيه طبيعة المحاكاة فيثبت من ذلك ان الجمهور يوصف بأنه تقوى فيه طبيعة المحاكاة.

ويقال أيضاً: السياسي نفعي. ثم إن هذا المحمول, وهو النفعي, يوصف بانه يقدّم منفعته الخاصة على المصلحة العامة. فيثبت أن السياسي يقدم منفعته الخاصة على المصلحة العامة.

ويقال أيضا: الصادق عادل. ثم إن هذا المحمول, وهو العادل. لا يوصف بكونه ظالماً أي لا يعرض عليه الظلم. فيبطل بذلك كون الصادق ظالماً.

ومعنى هذا الموضع أنك تستنبط من مشهورين مشهوراً ثالثاً. والمشهوران هما حمل المحمول على موضوعه واتصاف المحمول بصفة كالمثالين الأولين, فتستنبط المشهور الثالث وهو حمل صفة المحمول على الموضوع. أو المشهوران هما حمل المحمول على موضوعه وعدم اتصاف المحمول بصفة كالمثال الأخير, فتستنبط منهما المشهور الثالث وهو إبطال اتصاف الموضوع بتلك الصفة.

الصفحة السابقة الصفحة التالية

كتاب المنطق

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب