ص 41
وتعالى وبالدلائل والشواهد القائمة في الخلق، ومعرفة الواجب عليه، من العدل على
الناس كافة. وبر الوالدين، وأداء الأمانة، ومواساة أهل الخلة، وأشباه ذلك، مما قد
توجد معرفته، والإقرار، والاعتراف به في الطبع والفطرة، من كل أمة موافقة أو
مخالفة، وكذلك أعطي علم ما فيه صلاح دنياه، كالزراعة والغراس، واستخراج الأرضيين،
واقتناء الأغنام، والأنعام واستنباط المياه، ومعرفة العقاقير التي يستشفي بها من
ضروب الأسقام، والمعادن التي يستخرج منها أنواع الجواهر، وركوب السفن، والغوص في
البحر، وضروب الحيل في صيد الوحش والطير والحيتان، والتصرف في الصناعات ووجوه
المتاجر والمكاسب، وغير ذلك مما يطول شرحه ويكثر تعداده، مما فيه صلاح أمره في هذه
الدار. فأعطي علم ما يصلح به دينه ودنياه، ومنع ما سوى ذلك، مما ليس في شأنه ولا
طاقته أن يعلم. كعلم الغيب وما هو كائن. وبعض قد كان أيضا، كعلم ما فوق السماء وما
تحت الأرض. وما في لجج البحار وأقطار العالم، وما في قلوب وما في الأرحام وأشباه
هذا مما حجب عن الناس علمه. وقد ادعت طائفة من الناس هذه الأمور، فأبطل دعواهم ما
يبين من خطئهم، فيما يقصون عليه ويحكمون به فيما ادعوا عليه. فانظر كيف أعطي
الإنسان علم جميع ما يحتاج إليه لدينه ودنياه، وحجب عنه ما سوى ذلك، ليعرف قدره
ونقصه وكلا الأمرين فيها صلاحه.
(ما ستر عن الإنسان علمه من مدة حياته)
تأمل الآن
يا مفضل ما ستر عن الإنسان علمه من مدة حياته، فإنه لو عرف مقدار عمره - وكان قصير
العمر - لم يتهنأ بالعيش، مع ترقب الموت وتوقعه، لوقت قد عرفه، بل كان يكون بمنزلة
من قد فني ماله، أو
ص 42
قارب الفناء، فقد استشعر الفقر، والوجل من فناء ماله وخوف الفقر على أن الذي يدخل
على الإنسان فناء العمر أعظم مما يدخل عليه من فناء المال، لأن من يقل ماله يأمل أن
يستخلف منه، فيسكن إلى ذلك، ومن أيقن بفناء العمر استحكم عليه اليأس وإن كان طويل
العمر، ثم عرف ذلك، وثق بالبقاء، وانهمك في اللذات والمعاصي، وعمل على أنه يبلغ من
ذلك شهوته، ثم يتوب في آخر عمره. وهذا مذهب لا يرضاه الله من عباده ولا يقبله، ألا
ترى لو أن عبدا لك عمل على أنه يسخطك سنة ويرضيك يوما أو شهرا، لم تقبل منه، ولم
يحل عندك محل العبد الصالح دون أن يضمر طاعتك ونصحك في كل الأمور؟ وفي كل الأوقات،
على تصرف الحالات (فإن قلت) أو ليس قد يقيم الإنسان على المعصية حينا ثم يتوب فتقبل
توبته؟ (قلنا): إن ذلك شيء يكون من الإنسان لغلبة الشهوات له وتركه مخالفتها. من
غير أن يقدرها نفسه، ويبني عليه أمره، فيصفح الله عنه، ويتفضل عليه بالمغفرة. فإما
من قدر أمره على أن يعصي ما بدا له، ثم يتوب آخر ذلك، فإنما يحاول خديعة من لا
يخادع، بأن يتسلف (1) التلذذ في العاجل، ويعد ويمني نفسه التوبة في الآجل، ولأنه لا
يفي بما يعد من ذلك، فإن النزوع الترفه والتلذذ ومعاناة (2) التوبة، ولا سيما عند
الكبر وضعف البدن، أمر صعب، ولا يؤمن على الإنسان، مع مدافعته بالتوبة أن يرهقه
الموت، فيخرج من الدنيا غير تائب، كما قد يكون على الواحد دين إلى أجل، وقد يقدر
على قضائه، فلا يزال يدافع بذلك حتى يحل الأجل، وقد نفذ المال، فيبقى الدين قائما
عليه. فكان خير الأشياء للإنسان أن يستر عنه مبلغ عمره،
(هامش)
(1) التسلف: الاقتراض كأنه يجري معاملة مع ربه، بأن يتصرف في اللذات عاجلا ويعد ربه
في عوضها التوبة ليؤدي إليه آجلا... وفي بعض النسخ يستسلف وهو طلب وبيع الشيء سلفا.
(2) المعاناة: مقاساة العناء والمشقة. (*)
ص 43
فيكون طول عمره يترقب الموت، فيترك المعاصي، ويؤثر العمل الصالح (فإن قلت): وها هو
الآن ستر عنه مقدار حياته، وصار يترقب الموت في كل ساعة يقارف (1) الفواحش وينتهك
المحارم (2) (قلنا): إن وجه التدبير في هذا الباب، هو الذي جرى عليه الأمر فإن كان
الإنسان مع ذلك لا يرعوي (3) ولا ينصرف عن المساوي، فإنما ذلك من مرحه ومن قساوة
قلبه، لا من خطأ في التدبير، كما أن الطبيب قد يصف للمريض ما ينتفع به، فإن كان
المريض مخالفا لقول الطبيب، لا يعمل بما يأمره ولا ينتهي عما ينهاه عنه، لم ينتفع
بصفته، ولم تكن الإساءة في ذلك للطبيب بل للمريض، حيث يقبل منه. ولئن كان الإنسان
مع ترقبه للموت كل ساعة لا يمتنع عن المعاصي، فإنه لو وثق بطول البقاء كان أحرى بأن
يخرج إلى الكبائر الفظيعة.. فترقب الموت على كل حال خير له من الثقة بالبقاء ثم إن
ترقب الموت وإن كان صنف من الناس يلهون عنه، ولا يتعظون به فقد يتعظ به صنف آخر
منهم، وينزعون عن المعاصي، ويؤثرون العمل الصالح، ويجودون بالأموال والعقائل (4)
النفيسة في الصدقة على الفقراء والمساكين فلم يكن من العدل أن يحرم هؤلاء الانتفاع
بهذه الخصلة لتضييع أولئك حظهم منها.
(الأحلام وامتزاج صادقها بكاذبها وسر ذلك)
فكر
يا مفضل في الأحلام كيف دبر الأمر فيها فمزج صادقها
(هامش)
(1) في الأصل المطبوع يفارق ولا يستقيم المعنى بها بل يكون عكسيا. ولما رجعنا إلى
البحار وجدناها يقارف. (2) المحارم جمع محرم وهو الحرام. (3) الارعواء: الكف عن
الشيء، أو الندم على الشيء والانصراف عنه وتركه. (4) العقائل جميع عقيلة والعقيلة
من الإبل هي الكريمة، والعقيلة من كل شيء هي أكرمه. (*)
ص 44
بكاذبها، فإنها لو كانت كلها تصدق لكان الناس كلهم أنبياء، ولو كانت كلها تكذب، لم
يكن فيها منفعة، بل كانت فضلا لا معنى له، فصارت تصدق أحيانا، فينتفع بها الناس في
مصلحة يهتدى لها، أو مضرة يتحذر منها، وتكذب كثيرا لئلا يعتمد عليها كل الاعتماد.
(الأشياء المخلوقة لمآرب الإنسان وإيضاح ذلك)
فكر يا مفضل في هذه الأشياء التي
تراها موجودة معدة في العالم من مأربهم، فالتراب للبناء. والحديد للصناعات، والخشب
للسفن وغيرها والحجارة للأرحاء (1) وغيرها، والنحاس للأواني. والذهب والفضة
للمعاملة والذخيرة، والحبوب للغذاء، والثمار للتفكه، واللحم للمأكل، والطيب للتلذذ،
والأدوية للتصحح (2) والدواب للحمولة. والحطب للتوقد والرماد للكلس (3)، والرمل
للأرض، وكم عسى أن يحصي المحصي من هذا وشبهه... أرأيت لو أن داخلا دخل دارا، فنظر
إلى خزائن مملوءة من كل ما يحتاج إليه الناس، ورأى كل ما فيها مجموعا معدا لأسباب
معروفة أكان يتوهم أن مثل هذا يكون بالإهمال، ومن غير عمد؟ فكيف يستجيز قائل أن
يقول هذا من صنع الطبيعة في العالم، وما أعد فيه من هذه الأشياء. اعتبر يا مفضل
بأشياء خلقت لمآرب الإنسان، وما فيها من التدبير فإنه خلق له الحب لطعامه، وكلف
طحنه وعجنه وخبزه، وخلق له الوبر لكسوته، فكلف ندفه وغزله ونسجه، وخلق له الشجر،
فكلف غرسها
(هامش)
(1) الأرحاء جمع رحى وهي الطاحونة. (2) التصحح من صحح المريض: أزال مرضه. (3)
الكلس: - بالكسر - ما يقوم به الحجر والرخام ونحوهما ويتخذ منها بإحراقها. (*)
ص 45
وسقيها والقيام عليها وخلقت له العقاقير لأدويته، فكلف لقطها (1) وخلطها وصنعها،
وكذلك تجد سائر الأشياء على هذا المثال. فانظر كيف كفى الخلقة التي لم يكن عنده
فيها حيلة. وترك عليه في كل شيء من الأشياء موضع عمل وحركة، لما له في ذلك من
الصلاح، لأنه لو كفى كله، حتى لا يكون له في الأشياء موضع شغل وعمل، لما حملته
الأرض أشرا وبطرا (2) ولبلغ به ذلك إلى أن يتعاطى أمورا فيها تلف نفسه، ولو كفى كل
ما يحتاجون إليه لما تهنأوا (3) بالعيش ولا وجدوا له لذة... ألا ترى لو أن امرءا
نزل بقوم، فأقام حينا بلغ جميع ما يحتاج إليه من مطعم ومشرب وخدمة، لتبرم بالفراغ
ونازعته نفسه إلى التشاغل بشيء، فكيف لو كان طول عمره مكفيا لا يحتاج إلى شيء؟ فكان
من صواب التدبير في هذه الأشياء التي خلقت للإنسان: أن جعل له فيها موضع شغل، لكيلا
تبرمه البطالة، ولتكفه عن تعاطي ما لا يناله، ولا خير فيه أن ناله. (الخبز والماء
رأس معاش الإنسان وحياته) وأعلم يا مفضل أن رأس معاش الإنسان وحياته: الخبز
والماء... فانظر كيف دبر الأمر فيهما، فإن حاجة الإنسان إلى الماء أشد من حاجته إلى
الخبز، وذلك أن صبره على الجوع أكثر من صبره على العطش، والذي يحتاج من الماء أكثر
مما يحتاج إليه من الخبز، لأنه يحتاج إليه لشربه ووضوئه وغسله وغسل ثيابه وسقي
أنعامه وزرعه فجعل الماء مبذولا
(هامش)
(1) اللقط مصدر من لقط الشيء: أخذه من الأرض بلا تعب. ولقط الطائر الحب: أخذه
بمنقاره. (2) الأشر والبطر: (كلاهما بالفتح) بمعنى واحد. (3) وفي نسخة البحار
تهنوا. (*)
ص 47
الآخر (1)، وقد يحدث مثل هذا في تشابه الأشياء. فضلا عن تشابه الصور، فمن لطف
بعباده بهذه الدقائق التي لا تكاد تخطر بالبال، حتى وقف بها على الصواب، إلا من
وسعت رحمته كل شيء. لو رأيت تمثال الإنسان مصورا على حائط، وقال لك قائل: إن هذا
ظهر هنا من تلقاء نفسه لم يصنعه صانع!... أكنت تقبل ذلك، بل كنت تستهزئ به، فكيف
تنكر هذا في تمثال مصور جماد، ولا تنكر في الإنسان الحي الناطق.
(نمو أبدان الحيوان
وتوقفها وسبب ذلك)
لم صارت أبدان الحيوان - وهي تغتذي أبدا - لا تنمي، بل تنتهي إلى
غاية من النمو، ثم تقف ولا تتجاوزها، لولا التدبير، ذلك، فإن تدبير الحكيم فيها أن
تكون أبدان كل صنف منها على مقدار معلوم غير متفاوت في الكبير والصغير، وصارت تنمي
حتى تصل إلى غايتها، ثم تقف ثم لا تزيد، والغذاء مع ذلك دائم لا ينقطع ولو تنمي
نموا دائما لعظمت أبدانها، واشتبهت مقاديرها (2) حتى لا يكون لشيء منها حد يعرف.
(ما يعتري أجسام الإنس من ثقل الحركة والمشي لو لم يصبها ألم) لم صارت أجسام الإنس
خاصة تثقل عن الحركة والمشي، وتجفو عن
(هامش)
(1) أي قد يشبه مال شخص بمال شخص آخر كثوب أو دينار فيصير سببا للاشتباه والتشاجر
والتنازع فضلا عن تشابه الصورة فإنه أعظم فسادا. (2) أي لم يعرف غاية ما ينتهي إليه
مقداره، فيشتبه الأمر عليه، فيما يريد أن يهيئه لنفسه من دار وثياب وزوجة. (*)
ص 48
الصناعات اللطيفة (1)، إلا لتعظيم المؤنة فيما يحتاج إليه الناس للملبس والمضجع
والتكفين وغير ذلك، لو كان الإنسان لا يصيبه ألم ولا وجع، بم كان يرتدع عن الفواحش،
ويتواضع لله، ويتعطف على الناس... أما ترى الإنسان إذا عرض له وجع خضع واستكان ورغب
إلى ربه في العافية، وبسط يده بالصدقة، ولو كان لا يألم من الضرب بم كان السلطان
يعاقب الدعار (2) ويذل العصاة المردة، وبم كان الصبيان يتعلمون العلوم والصناعات،
وبم كان العبيد يذلون لأربابهم، ويذعنون لطاعتهم. أفليس هذا توبيخ (ابن أبي
العوجاء) (3) وذويه الذين جحدوا التدبير. (والمانوية) الذين أنكروا الوجع والألم.
(انقراض الحيوان لو لم يلد ذكورا وإناثا) ولو لم يولد من الحيوان إلا ذكر فقط أو
أنثى فقط ألم يكن النسل منقطعا وباد مع أجناس الحيوان، فصار بعض الأولاد يأتي ذكورا
وبعضها يأتي إناثا ليدوم التناسل ولا ينقطع.
(هامش)
(1) أي يبتعد ويجتنب ولا يداوم على الصناعات اللطيفة أي التي فيها دقة ولطافة.
والمراد أن الله تعالى جعل أجسام الإنسان بحيث تثقل عن الحركة والمشي قبل سائر
الحيوانات، وتكل عن الأعمال الدقيقة لتعظم عليه مؤونة تحصيل ما يحتاج إليه، فلا
يبطر ولا يطمع، أو ليكون لهذه الأعمال أجر، فيصير سببا لمعائش أقوام يزاولونها. (2)
الدعار جمع داعر وهو الخبيث. وفي النسخة المطبوعة الذعار بالذال وهذا تصحيف. (3)
تقدمت ترجمة ابن أبي العوجاء في مقدمة الكتاب. (*)
ص 49
(ظهور شعر العانة عند البلوغ ونبات اللحية للرجل دون المرأة وما في ذلك من
التدبير)
لم صار الرجل والمرأة إذا أدركا تنبت لهما العانة، ثم تنبت اللحية للرجل
وتتخلف عن المرأة. لولا التدبير في ذلك، فإنه جعل الله تبارك وتعالى الرجل قيما
ورقيبا على المرأة، وجعل المرأة عرسا وخولا (1) للرجل، أعطى الرجل اللحية، لما له
من العز والجلالة والهيبة، ومنعها المرأة، لتبقى لها نضارة الوجه والبهجة التي تشاكل المفاكهة (2) والمضاجعة أفلا ترى الخلقة وكيف تأتي بالصواب في الأشياء،
وتتخلل مواضع الخطأ (3) فتعطي وتمنع على قدر الأرب (4) والمصلحة بتدبير الحكيم عز
وجل. قال المفضل: ثم حان وقت الزوال، فقام مولاي إلى الصلاة، وقال: بكر (5) إلي غدا
إن شاء الله تعالى.. فانصرفت عنده مسرورا بما عرفته، مبتهجا بما أوتيته، حامدا
تعالى عز وجل على ما أنعم به علي شاكرا لأنعمه على ما منحني بما عرفنيه مولاي،
وتفضل به علي، فبت في ليلتي مسرورا بما منحنيه، محبور بما علمنيه.
(هامش)
(1) الخول - بفتحتين - العبيد والإماء وغيرهم من الحاشية وهو يستعمل بلفظ واحد
للجميع، وربما قيل للواحد خائل. (2) المفاكهة: هي الممازحة والمضاحكة. (3) يحتمل أن
تكون الجملة حالية، أي تأتي بالصواب مع أنها تدخل مواضع هي مظنة الخطأ من قولهم
تخللت القوم أي دخلت خلالهم ويحتمل أن يكون المراد بالتخلل التخلف أو الخروج من
خلالها، لكن تطبيقها على المعاني اللغوية يدعو إلى التكلف. (4) الأرب - بفتحتين -:
الحاجة والغاية والجميع آراب. (5) بكر - بالتشديد - أتاه بكرة. (*)
ص 50
(المجلس الثاني)
قال المفضل: فلما كان اليوم الثاني بكرت إلى مولاي فاستؤذن لي
فدخلت، فأمرني بالجلوس فجلست فقال: - الحمد لله مدبر الأدوار (1)، ومعيد الأكوار
(2)، طبقا (3) عن طبق، وعالما بعد عالم، ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا، ويجزي الذين
أحسنوا بالحسنى، عدلا منه، تقدست أسماؤه، وجلت آلاؤه، لا يظلم الناس شيئا، ولكن
الناس أنفسهم يظلمون، يشهد بذلك قوله جل قدسه *(فمن يعمل مثقال ذره خيرا يره، ومن
يعمل مثقال ذره شرا يره)* في نظائر لها (4) في كتابه الذي فيه تبيان كل شيء ولا
يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه (تنزيل من حكيم حميد) ولذلك قال سيدنا محمد
صلوات الله عليه وعلى آله: إنما هي أعمالكم ترد إليكم . ثم أطرق الإمام هنيئة
وقال:: يا مفضل الخلق حيارى عمهون (5) سكارى في طغيانهم يترددون، وبشياطينهم
وطواغيتهم يقتدون، بصراء عمي لا يبصرون، نطقاء بكم (6) لا يعقلون، سمعاء (7) صم (8)
لا
(هامش)
(1) الأدوار جمع دور مصدر بمعنى الحركة. (2) الأكوار جمع كور - بالفتح - مصدر بمعنى
الجماعة الكثيرة أو القطيع من الإبل والبقر ويقال كل دور كور والمراد أما استيناف
قرن بعد قرن وزمان بعد زمان. (3) الطبق: وجه الأرض ولعل المراد به معنى الحال يقال:
الدهر إطباق - أي أحوال تختلف. (4) أي قالها في ضمن نظائرها أو مع نظائرها. (5)
عمهون، جمع عمه - بفتح فكسر - وهو المتردد في الضلال والمتحير في أمره أو طريقه.
(6) بكم: جمع أبكم وهو الأخرس. (7) سمعاء، جمع سميع بمعنى السامع والمسمع وهو
للمبالغة. (8) الصم، جمع أصم وهو الذي انسدت أذنه وثقل سمعه أو ذهب عنه بتاتا. (*)
ص 51
يسمعون، رضوا بالدون (1)، وحسبوا، أنهم مهتدون، حادوا (2) عن مدرجة (3) الأكياس (4)
ورتعوا في مرعى الأرجاس (5) الأنجاس، كأنهم من مفاجآت الموت آمنون، وعن المجازات
مزحزحون، يا ويلهم ما أشقاهم، وأطول عناءهم وأشد بلاءهم *(يوم لا يغني مولى عن مولى
شيئا ولا هم ينصرون إلا من رحم الله)*! قال المفضل: فبكيت لما سمعت منه!... فقال:
لا تبك تخلصت إذ قبلت، ونجوت إذ عرفت.
(أبنية أبدان الحيوان وتهيئتها وإيضاح ذلك)
ثم قال: ابتدئ لك بذكر الحيوان ليتضح لك من أمره ما وضح لك من غيره. فكر في أبنية
أبدان الحيوان، وتهيئتها على ما هي عليه فلا هي صلاب كالحجارة. ولو كانت كذلك لا
تنثني (6)، ولا تتصرف في الأعمال، ولا هي على غاية اللين والرخاوة، فكانت لا
تتحامل، ولا تستقل بأنفسها، فجعلت من لحم رخو ينثني، تتداخله عظام صلاب يمسكه عصب
وعروق تشده، وتضم بعضه إلى بعض، وغلفت (7) فوق ذلك بجلد يشتمل على البدن كله وأشباه
ذلك، هذه التماثيل التي تعمل
(هامش)
(1) الدون، أريد به هنا معنى الخسيس الحقير السافل. (2) حادوا: مالوا. (3) مدرجة
جمع مدارج، ما يساعد على التوصل إلى ما هو أفضل أو أعلى منه. (4) الأكياس: جمع كيس
بتشديد الياء - أي الفطن الحسن الفهم والأدب. (5) الأرجاس لعله جمع رجس - بالكسر -
القذر والمأثم أو كل ما استقذر من العمل والعمل المؤدي إلى العذاب. (6) لا تنثني:
لا تنعطف ولا تميل. (7) في نسخة وعليت. (*)
ص 52
من العيدان، وتلف بالخرق وتشد بالخيوط، وتطلى فوق ذلك بالصمغ فتكون العيدان بمنزلة
العظام، والخرق بمنزلة اللحم، والخيوط بمنزلة العصب والعروق، والطلاء بمنزلة الجلد،
فإن جاز أن يكون الحيوان المتحرك حدث بالإهمال من غير صانع جاز أن يكون ذلك في هذه
التماثيل الميتة، فإن كان هذا غير جائز في التماثيل فبالحري أن لا يجوز في الحيوان.
(أجساد الأنعام وما أعطيت وما منعت وسبب وذلك)
وفكر يا مفضل - بعد هذا - في أجساد
الأنعام (1) فإنها حين خلقت على أبدان الإنس من اللحم والعظم والعصب، أعطيت أيضا
السمع والبصر ليبلغ الإنسان حاجته، فإنها لو كانت عميا صما لما انتفع بها الإنسان
ولا تصرفت شيء من مآربه، ثم منعت الذهن والعقل لتذل للإنسان، فلا تمتنع عليه، إذا
كدها الكد الشديد، وحملها الحمل الثقيل. فإن قال قائل إنه قد يكون للإنسان عبيد من
الإنس، يذلون ويذعنون بالكد الشديد، وهم مع ذلك غير عديمي العقل والذهن. فيقال في
جواب ذلك أن هذا الصنف من قليل، فأما أكثر الناس فلا يذعنون بما تذعن به الدواب من
الحمل والطحن وما أشبه ذلك، ولا يغرون (2) بما يحتاج إليه منه.. ثم لو كان الناس
يزاولون مثل هذه الأعمال بأبدانهم لشغلوا بذلك عن سائر الأعمال، لأنه كان يحتاج
مكان الجمل الواحد والبغل الواحد إلى عدة أناسي، فكان هذا العمل يستفرغ الناس حتى
لا يكون فيهم عنه فضل لشيء من الصناعات مع ما يلحقه من التعب الفادح في أبدانهم
والضيق والكد في معاشهم.
(هامش)
(1) الأنعام جمع نعام - بفتحتين - الإبل وتطلق على البقر والغنم. (2) لا يغرون -
بالغين على بناء المفعول - أي لا يؤثر فيهم الإغراء والتحريض على جميع الأعمال التي
يحتاج إليها الخلق من ذلك العمل الذي تأتي به الدواب. (*)
ص 53
(خلق الأصناف الثلاثة من الحيوان)
فكر يا مفضل في هذه الأصناف الثلاثة من الحيوان
وفي خلقها، على ما هي عليه مما فيه صلاح كل واحد منها. فالإنس لما قدروا أن يكونوا
ذوي ذهن وفطنة وعلاج لمثل هذه الصناعات من البناء والتجارة والصياغة والخياطة، وغير
ذلك خلقت لهم أكف كبار ذوات أصابع غلاظ ليتمكنوا من القبض على الأشياء، وأوكدها هذه
الصناعات. (آكلات اللحم من الحيوان والتدبير في خلقها) وآكلات اللحم لما قدر أن
تكون معائشها من الصيد، خلقت لهم أكف لطاف مدمجة (1) ذوات براثن (2) ومخالب (3)
تصلح لأخذ الصيد ولا تصلح للصناعات، وآكلات النبات قدر أن يكونوا، لا ذوات صنعة ولا
ذات صيد خلقت لبعضها أظلاف تقيها خشونة الأرض إذا حاولت طلب المرعى، ولبعضها حوافر
ململمة (4) ذوات قعر (5) كأخمص القدم تنطبق على الأرض عند تهيئها للركوب والحمولة.
تأمل التدبير في خلق آكلات اللحم من الحيوان، حين خلقت ذوات أسنان حداد، وبراثن
شداد، وأشداق (6) وأفواه واسعة، فإنه لما قدر أن
(هامش)
(1) مدمجة أي مستقيمة محكمة متداخلة. (2) البراثن جمع برثن بالضم - من السباع
والطير بمنزلة الإصبع من الإنسان. (3) المخالب جمع مخلب - بالكسر - وهو الظفر خصوصا
من السباع. (4) ململمة أي مجموعة بعضها إلى بعض. (5) قعر كل شيء أقصاه. (6) الأشداق
جمع شدق - بالفتح أو الكسرة - زاوية الفم من باطن الخدين. (*)
ص 54
يكون طعمها (1) اللحم خلقت خلقة تشاكل وأعينت بسلاح، وأدوات تصلح للصيد، وكذلك تجد
سباع الطير ذوات مناقير ومخالب مهيئة لفعلها، ولو كانت الوحوش ذوات مخالب كانت قد
أعطيت ما لا تحتاج إليه، لأنها لا تصيد ولا تأكل اللحم، ولو كانت السباع ذوات أظلاف
كانت قد منعت ما تحتاج إليه، أعني السلاح الذي تصيد به وتتعيش. أ فلا ترى كيف أعطي
واحد من الصنفين ما يشاكل صنفه وطبقته. بل ما فيه بقاؤه وصلاحه.
(ذوات الأربع
واستقلال أولادها)
أنظر الآن إلى ذوات الأربع كيف تراها تتبع أماتها (2) مستقلة
بأنفسها لا تحتاج إلى الحمل والتربية كما تحتاج أولاد الإنس، فمن أجل أنه ليس عند
أماتها ما عند أمهات البشر من الرفق والعلم بالتربية، والقوة عليها بالأكف والأصابع
المهيأة لذلك أعطيت النهوض والاستقلال بأنفسها وكذلك ترى كثيرا من الطير كمثل
الدجاج والدراج (3) والقبج (4)، تدرج وتلقط حين تنقاب عنها البيضة. فأما ما كان
منها ضعيفا لا نهوض فيه، كمثل فراخ الحمام واليمام (5) والحمر (6) فقد جعل في
الأمهات فضل عطف
(هامش)
(1) الطعم - بالضم - الطعام. (2) الأمات جمع أم وقيل إنها تستعمل في البهائم، وأما
في الناس فهي أمهات. (3) الدراج - بضم فتشديد - طائر شبيه بالحجل وأكبر منه أرقط
بسواد وبياض قصير المنقار يطلق على الذكر والأنثى، جمعه دراريج وواحدته دراجة
والتاء للوحدة لا للتأنيث. (4) القبج - بفتحتين - طائر يشبه الحجل وفي القاموس هو
الحجل والواحدة قبجة تقع على الذكر والأنثى. (5) اليمام: الحمام الوحشي. (6) الحمر
- بضم فتشديد - طائر أحمر اللون والواحدة حمرة. (*)
ص 55
عليها، فصارت تمج (1) الطعام في أفواهها بعد ما توعيه (2) حواصلها (3) فلا تزال
تغذوها تستقل بأنفسها، ولذلك لم ترزق الحمام فراخا كثيرة مثل ما ترزق الدجاج، لتقوى
الأم على تربية فراخها فلا تفسد ولا تموت فكلا أعطى بقسط من تدبير الحكيم اللطيف
الخبير.
(قوائم الحيوان وكيفية حركتها)
أنظر إلى قوائم الحيوان كيف تأتي أزواجا،
لتتهيأ للمشي، ولو كانت أفرادا لم تصلح لذلك، لأن الماشي ينقل قوائمه يعتمد على بعض
فذو القائمتين ينقل واحدة، ويعتمد على واحدة، وذو الأربع ينقل اثنتين ويعتمد على
اثنتين وذلك من خلاف، لأن ذا الأربع لو كان ينقل قائمتين من أحد جانبيه، ويعتمد على
قائمتين من الجانب الآخر، لم يثبت على الأرض، كما يثبت السرير وما أشبهه، فصار ينقل
اليمنى من مقاديمه مع اليسرى من مآخيره، وينقل الأخريين أيضا خلاف، فيثبت على
الأرض، ولا يسقط إذا مشى. (انقياد الحيوانات المسخرة للإنسان وسببه) أما ترى الحمار
كيف يذل للطحن والحمولة وهو يرى الفرس مودعا منعما، والبعير لا يطيقه عدة رجال لو
استعصى كيف كان ينقاد للصبي؟ والثور الشديد كيف كان يذعن لصاحبه، حتى يضع النير (4)
على عنقه،
(هامش)
(1) تمج الطعام أي ترمي به. (2) توعيه من أوعى الزاد ونحوه - أي جعله في الوعاء.
(3) الحواصل كأنها جمع حوصلة وحوصلاء وهي من الطير بمنزلة المعدة من الإنسان. (4)
النير - بالكسر - الخشبة المعترضة في عنقي الثورين بأدائها والجمع أنيار ونيران.
(*)
ص 56
ويحرث به؟ والفرس الكريم يركب (1) السيوف والأسنة بالمواتاة لفارسه والقطيع من
الغنم يرعاه واحد، ولو تفرقت الغنم فأخذ كل واحد منها في ناحية لم يلحقها. وكذلك
جميع الأصناف المسخرة للإنسان.. كانت كذلك؟ إلا بأنها عدمت العقل والروية، فإنها لو
كانت تعقل وتتروى في الأمور كانت خليقة أن تلتوي على الإنسان في كثير من مآربه حتى
يمتنع الجمل على قائده والثور على صاحبه، وتتفرق الغنم عن راعيها وأشباه هذا من
الأمور.
(افتقاد السباع للعقل والروية وفائدة ذلك)
وكذلك هذه السباع لو كانت ذات
عقل وروية فتوازرت (2) على الناس، كانت خليقة أن تجتاحهم، فمن كان يقوم للأسد
والذئاب والنمور والدببة، لو تعاونت وتظاهرت على الناس؟... أفلا ترى كيف حجر (3)
ذلك عليها وصارت مكان ما كان يخاف من أقدامها ونكايتها، تهاب مساكن الناس وتحجم
عنها، ثم لا تظهر ولا تنتشر لطلب قوتها إلا بالليل، فهي مع صولتها كالخائف من الأنس
بل مقموعة (4) ممنوعة منهم ولو كان ذلك لساورتهم في مساكنهم وضيقت عليهم. (عطف
الكلب على الإنسان ومحاماته عنه) ثم جعل في الكلب من بين هذه السباع عطف على مالكه
ومحاماة عنه.
(هامش)
(1) يركب السيوف والأسنة أي يلقي نفسه عليها. (2) توازرت أي اجتمعت واتحدت. (3) حجر
عليه الأمر: حرمه ومنعه. (4) مقموعة: مقهورة ذليلة. (*)
ص 57
وحافظ له، ينتقل على الحيطان والسطوح في ظلمة الليل لحراسة منزل صاحبه وذب الذعار
عنه، ويبلغ من محبته لصاحبه أن يبذل نفسه للموت دونه ودون ماشيته وماله ويألفه غاية
الألف (1) حتى يصبر معه على الجوع والجفوة... فلم طبع الكلب على هذه الألفة
والمحبة؟ إلا ليكون حارسا للإنسان له عين (2) بأنياب (3) ومخالب، ونباح هائل، ليذعر
منه السارق، ويتجنب المواضع التي يحميها ويخفرها (4). (وجه الدابة وفمها وذنبها
وشرح ذلك) يا مفضل تأمل وجه الدابة كيف هو...؟ فإنك ترى العينين شاخصتين أمامها
لتبصر ما بين يديها، لئلا تصدم حائطا، أو تتردى في حفرة وترى الفم مشقوقا شقا في
أسفل الخطم (5) ولو شق كمكان الفم من الإنسان في مقدم الذقن، لما استطاع أن يتناول
به شيئا من الأرض ألا ترى أن الإنسان لا يتناول الطعام بفيه ولكن بيده، تكرمة له
على سائر الآكلات، فلما لم يكن للدابة يد تتناول بها العلف جعل خرطومها (6) مشقوقا
من أسفله، لتقبض على العلف ثم تقضمه، واعينت بالجحفلة (7) لتتناول بها ما قرب وما
بعد... اعتبر بذنبها والمنفعة لها فيه، فإنه بمنزلة الطبق (8) على الدبر والحياء
جميعا، يواريهما ويسترهما، ومن منافعها فيه أن ما يبين
(هامش)
(1) الألف - بفتح فسكون - المحبة والأنس. (2) العين - بالفتح - الغلظة في الجسم
والخشونة. (3) الأنياب جمع ناب وهو السن خلف الرباعية مؤنث. (4) يخفرها: يجيرها
ويؤمنها. (5) خطم الدابة: مقدم أنفها وفمها. (6) الخرطوم: الأنف أو مقدمه أو ما
ضممت عليه الحنكين. (7) الجحفلة هي لذات الحافر كالشفة للإنسان. (8) الطبق -
بفتحتين - مصدر الغطاء جمعه أطباق. (*)
ص 58
الدبر ومراقي البطن منها وضر (1) يجتمع عليها الذباب والبعوض فجعل لها الذنب
كالمذبة (2) تذب بها عن تلك المواضع، ومنها أن الدابة تستريح إلى تحريكه وتصريفه
يمنة ويسرة، فإنه لما كان قيامها على الأربع بأسرها، وشغلت المقدمتان بحمل البدن عن
التصرف والتقلب، كان لها في تحريك الذنب راحة، وفيه منافع أخرى يقصر عنها الوهم،
فيعرف موقعها في وقت الحاجة إليها، فمن ذلك أن الدابة ترتطم في الوحل (3)، فلا يكون
شيء أعون على نهوضها، من الأخذ بذنبها، وفي شعر الذنب منافع للناس كثيرة يستعملونها
في مأربهم، ثم جعل ظهرها مسطحا مبطوحا على قوائم أربع ليتمكن من ركوبها، وجعل حياها
بارزا من ورائها ليتمكن الفحل من ضربها، ولو كان أسفل البطن كما كان الفرج من
المرأة لم يتمكن الفحل منها... ألا ترى أنه لا يستطيع أن يأتيها كفاحا (4) كما يأتي
الرجل المرأة (الفيل ومشفره) تأمل مشفر (5) الفيل وما فيه من لطيف التدبير، فإنه
يقوم مقام اليد في تناول العلف والماء، وازدرادهما إلى جوفه، ولولا ذلك لما استطاع
أن يتناول شيئا من الأرض، لأنه ليست له رقبة يمدها كسائر الأنعام، فلما عدم العنق
أعين مكان ذلك بالخرطوم الطويل ليسد له، فيتناول به
(هامش)
(1) الوضر - بفتحتين - مصدر الوسخ. (2) المذبة - بالكسر - ما يذب به الذباب. (3)
الوحل - بفتحتين - الطين الرقيق جمعه وحول وأوحال. (4) الكفاح - بالكسر - الملاقاة
وجها لوجه. (5) المشفر - بكسر فسكون ففتح - الشفة وتستعمل للبعير إلا أن الإمام
الصادق عدل المعنى إلى خرطوم الفيل إذ هو بمثابة الشفاه، بل هو شفاهه الحقيقية التي
بها يتناول العلف والماء. (*)
ص 59
حاجته... فمن ذا الذي عوضه مكان العضو الذي عدم ما يقوم مقامه إلا الرؤوف بخلقه؟
وكيف يكون هذا بالإهمال - كما قالت الظلمة -؟ فإن قال قائل: فما باله لم يخلق ذا
عنق كسائر الأنعام؟ قيل إن رأس الفيل وأذنيه أمر عظيم، وثقل ثقيل، فلو كان ذلك على
عنق عظيم، لهدها وأوهنها، فجعل رأسه ملصقا بجسمه لكيلا يناله منه ما وصفناه، وخلق
له مكان العنق هذا المشفر ليتناول غذاءه، فصار مع عدم العنق - مستوفيا ما فيه بلوغ
حاجته.
(حياء الأنثى من الفيلة)
أنظر الآن كيف جعل حياء الأنثى من الفيلة في أسفل
بطنها؟ فإذا هاجت للضراب ارتفع وبرز، حتى يتمكن الفحل من ضربها.. فاعتبر كيف جعل
حياء الأنثى من الفيلة على خلاف ما عليه في غيرها من الأنعام ثم جعلت فيه هذه الخلة
ليتهيأ للأمر الذي فيه قوام النسل ودوامه. (الزرافة وخلقتها وكونها ليست من لقاح
أصناف شتى) فكر في خلق الزرافة، واختلاف أعضائها، وشبهها بأعضاء أصناف من الحيوان.
فرأسها رأس فرس، وعنقها عنق جمل، وأظلافها أظلاف بقرة، وجلدها جلد نمر. وزعم ناس من
الجهال بالله عز وجل: إن نتاجها من فحول شتى، قالوا: وسبب ذلك أن أصنافا من حيوان
البر إذا وردت الماء تنزو على بعض السائمة، وينتج مثل الشخص الذي هو كالملتقط من
أصناف شتى وهذا جهل من قائله، وقلة معرفة بالباري جل قدسه، وليس كل صنف من الحيوان
يلقح كل صنف، فلا الفرس يلقح الجمل، ولا الجمل يلقح
ص 60
البقر، وإنما يكون التلقيح من بعض الحيوان فيما يشاكله ويقرب من خلقه، كما يلقح
الفرس الحمار، فيخرج بينهما البغل، ويلقح الذئب الضبع، فيخرج من بينهما السمع (1).
على أنه ليس يكون في الذي يخرج من بينهما عضو كل واحد، منهما كما في الزرافة، عضو
من الفرس وعضو من الجمل، وأظلاف من البقرة، بل يكون كالمتوسط بينهما الممتزج منهما،
كالذي تراه في البغل، فإنك ترى رأسه وأذنيه وكفله (2)، وذنبه وحوافره وسطا بين هذه
الأعضاء من الفرس والحمار وشحيجة (3)، كالممتزج من صهيل الفرس ونهيق الحمار، فهذا
دليل على أنه ليست الزرافة من لقاح أصناف شتى من الحيوان، كما زعم الجاهلون، بل هي
خلق عجيب من خلق الله للدلالة على قدرته التي لا يعجزها شيء، وليعلم أنه خالق أصناف
الحيوان كلها، يجمع بين ما يشاء من أعضائها، في أيها شاء ويفرق ما شاء، منها في
أيها شاء. ويزيد في الخلقة ما شاء وينقص منها ما شاء.، دلالة على قدرته على
الأشياء، وأنه لا يعجز شيء أراده جل وتعالى... فأما طول عنقها والمنفعة في ذلك فإن
منشأها ومرعاها في غياطل (4) ذوات أشجار شاهقة، ذاهبة طولا في الهواء. فهي تحتاج
إلى طول العنق لتتناول بفيها أطراف تلك الأشجار فتقوت من ثمارها. (القرد وخلقته
والفرق بينه وبين الإنسان) تأمل خلقة القرد وشبهه بالإنسان في كثير من أعضائه أعني
الرأس والوجه والمنكبين والصدر، وكذلك أحشاؤه شبيهة أيضا بأحشاء الإنسان
(هامش)
(1) السمع - بكسر فسكون - ولد الذئب من الضبع والأنثى سمعة. (2) الكفل - بفتحتين -
من الدابة: العجز أو الردف والجمع أكفال. (3) الشحيج من شحج البغل: صوت وغلظ صوته.
(4) الغياطل جمع غيطل وهو الشجر الكثير الملتف. (*)