الصفحة السابقة الصفحة التالية

جامع السعادات (ج3)

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب

ص 211

وإصلاح الملائكة بعضهم ببعض إلى أن ينتهي إلى حضرة الربوبية، التي هي ينبوع كل نظام، ومطلع كل حسن وجمال، ومنشأ كل ترتيب وتأليف وقد ظهر مما ذكر: إن من فتش يعلم أن رغيفا واحدا لا يستدير بحيث يصلح للأكل ما لم يعمل عليه آلاف ألوف من الملائكة وصناع الإنس.

فصل تسخير الله التجار لجلب الطعام

ثم جميع الأطعمة لما لم يمكن أن يوجد في كل مكان وبلد، إذ لكل واحد شروط مخصوصة لأجلها، لا يمكن إلا أن يوجد في بعض الأماكن دون بعض، والناس منتشرون على وجه الأرض، وقد يبعد عنهم بعض ما يحتاجون إليه من الأطعمة، بحيث تحول بينهم وبينها البراري والبحار، فسخر الله - تعالى - التجار، وسلط عليهم حرص المال وشره الربح حتى يقاسوا الشدائد، ويركبوا الأخطار في قطع المفاوز وركوب البحار فيحملون الأطعمة وأنواع الحوائج من الشرق إلى الغرب ومن الغرب إلى الشرق. فانظر كيف علمهم الله صناعة السفن وكيفية الركوب فيها، وكيف خلق الحيوانات وسخرها للحمل والركوب في البوادي والجبال من الجمال وكيفية قطعها البراري والمراحل تحت الأعباء الثقيلة وصبرها على الجوع والعطش، ومن الخيل وكيفية سرعته سيرها وحركتها، ومن الحمار وصبره على التعب وانظر كيف خلق الله ما يحتاج إليه السفن وهذه الحيوانات من الأسباب والغذاء، وينتهي إلى حد لا يمكن تحديده.

فصل نعم الله في خلق الملائكة للانسان

ثم مجرد وجود الغذاء وحضوره وإصلاحه لا يفيد فائدة ما لم يؤكل ويصير جزء للبدن. وهذا موقوف على أعمال كثيرة، محتاجة إلى أسباب كثيرة، من الطحن، والجذب، والهضم المعدي والكبدي، وغير ذلك من الأفعال التي يحتاج كل منه إلى أسباب كثيرة. وقد أشرنا إلى لمعة من كيفية ذلك في باب التفكر، فرجع إليه. وهنا تشير إلى أنموذج من نعمة الله في خلق الملائكة. فنقول:

ص 212

أن كثرة الملائكة لم تبلغ حدا يمكن تصوره تفصيلا أو أجمالا. ولهم طبقات وأصناف: منها: طبقات الملائكة الأرضية. ومنها الملائكة السماوية. ومنها: حملة العرش العظيم ومنها: المسلسلون. ومنها: المهيمنون.. وغير ذلك مما لم نسمع اسمهم ورسمهم، ولا يحيط بهم إلا الله - سبحانه - فكل صنع من صنائع الله في الأرض والسماء لا يخلو عن ملك أو ملائكة موكلين به. فانظر كيف وكلهم الله بك فيما يرجع إلى الأكل والاغتذاء الذي كلامنا فيه، دون ما يجاوز، وذلك من صنائع الله وأفعاله، ومن الوحي إلى الأنبياء والهداية والإرشاد وغيرها، فإن استقصاء ذلك ليس من مقدورات البشر. فنقول: إن كل جزء من أجزاء بدنك، بل من أجزاء النبات، لا يغتذي إلا بأن يوكل به سبعة من الملائكة، هم أقل الأعداد إلى عشرة إلى مائة، إلى أكثر من ذلك بمراتب. بيان ذلك: إن معنى الاغتذاء: أن يقوم جزء من الغذاء مقام جزء تلف من بدنك. وهذا موقوف على حركات وتغيرات واستحالات للغذاء، حتى يصير جزء للبدن كالجذب والهضم وصيرورته لحما وعظما. ومعلوم أن الغذاء والدم واللحم أجسام ليست لها قدرة ومعرفة واختيار حتى تتحرك وتتغير بأنفسها، ومجرد الطبع لا يكفي في ترددها في أطوارها، كما أن البر بنفسه لا يصير طحينا وعجينا وخبزا مطبوخا إلا بصناع، والصناع في الباطن هم الملائكة، كما أن الصناع في الظاهر هم أهل البلد. فالغذاء، بعد وضعه في الفم إلى أن يصير دما لا بد له من صناع من الملائكة، ولا تتعرض لهم ولبيان عددهم، ونقول: بعد صيرورته دما إلى أن يصير جزء للبدن، ويتوقف على سبعة من الملائكة، إذ لا بد من ملك يجذب الدم إلى جوار اللحم والعظم إذ الدم لا يتحرك بنفسه، ولا بد من ملك آخر يمسك الغذاء في جواره، ولا بد من ثالث يخلع عنه صورة الدم، ومن رابع يكسوه صورة اللحم والعظم والعرق، ومن خامس يدفع الفضل الزائد من الحاجة، ومن سادس يلصق ما اكتسب صفة اللحم باللحم، وما اكتسب صفة العظم بالعظم، وما اكتسب صفة العرق بالعرق حتى لا يكون منفصلا، ولا بد من سابع يراعي المقادير في الالصاق، فيلحق بالمستدير على ما لا يبطل استدارته، وبالعريض

ص 213

على ما لا يبطل عرضه، وبالمجوف على ما لا يبطل تجويفه، وهكذا... ويراعى في الالصاق لكل عضو ما يليق به ويحتاج إليه. فلو جمع لأنف الصبي - مثلا - من الغذاء ما يجمع على فخذه، لكبر أنفه، وبطل تجويفه وتشوهت صورته، بل ينبغي أن يسوق إلى الأجفان مع رقتها، وإلى الأفخاذ مع غلظتها، وإلى الحدقة مع صفائها، وإلى العظم مع صلابته، ما يليق بكل واحد منها من حيث القدر والشكل، ويراعي العدل في القسمة والتقسيط وإلا بطلت الصورة، وتشوهت الخلقة، ورق بعض المواقع وضعف البعض فمراعاة هذه الهندسة مفوضة إلى ملك من الملائكة. وإياك وأن تظن أن الدم بطبعه يهندس شكل نفسه، فإن من أحال هذه الأمور إلى الطبع جاهل ولا يدري ما يقول. فإن أراد من الطبع قوة عديمة الشعور ويقول: أن كل فعل من هذه الأفعال موكول إلى قوة لا شعور لها، فنقول ذلك أدل على عظمة الله وحكمته وقدرته، إذ لا ريب في أن ما لا شعور له ليس له في نفسه أن يفعل فعلا ما، فضلا عن أن يفعل أفعالا متقنة محكمة مشتملة على الحكم الدقيقة، والمصالح الجليلة والخفية. فتكون هذه شروطا ناقصة لإيجاد الله - سبحانه - هذه الأفعال بلا واسطة أو بواسطة عدد هذه القوى من الملائكة. وعلى أي تقدير، لا بد من سبعة أشخاص من مخلوق الله سبحانه - مسخرين في باطنك، موكلين بهذه الأفعال قد شغلوا بك وأنت في النوم تستريح، وفي الغفلة تتردد، وهم يصلحون الغذاء في باطنك ولا خبر لك منهم، وكذلك في كل جزء من أجزائك التي لا تتجزأ، حتى يفتقر بعض الأجزاء - كالعين والقلب - إلى أكثر من مائة ملك. ثم الملائكة الأرضية مددهم من الملائكة السماوية على ترتيب معلوم، لا يحيط بكنهه إلا الله، ومدد الملائكة السماوية من حملة العرش، والمنعم على جميعهم بالتأييد والتسديد والهداية المهيمن القدوس، المنفرد بالملك والملكوت والعزة والجبروت. ومن أراد أن يعلم - إجمالا - كثرة الملائكة الموكلين بالسماوات والأرضين، وأجراء النبات والحيوانات، والسحب والهواء والبحار والجبال والأمطار وغير ذلك، فليرجع في ذلك إلى الأخبار الواردة من الحجج - عليهم السلام -. ثم لا بد أن يفرض كل فعل من الأفعال السبعة المذكورة

ص 214

إلى ملك من الملائكة، ويكون الموكل به ملكا واحدا على حدة، ولا يمكن أن يفوض جميعها إلى ملك واحد، كما لا يمكن أن يتولى إنسانا واحدا سبعة أعمال في الحنطة، كالطحن وتمييز النخالة، ودفع الفضلة عنه، وصب الماء عليه، والعجن، وقطعها كسرات مدورة، وترقيقها رغفانا عريضة، وإلصاقها بالتنور. إذ الملك وحداني الصفة ليس فيه خلط وتركيب من المتضادات. فلا يكون لكل واحد منهم إلا فعل واحد، كما أشير إليه بقوله - تعالى -: (وما منا إلا له مقام معلوم) 15 ولذلك، ليس بينهم تحاسد وتنافس. ومثالهم في تعيين مرتبة كل واحد منهم وعدم مزاحمة الآخرين له مثال الحواس الخمس، وليس كالانسان الذي يتولى بنفسه أمورا مختلفة، وسبب ذلك اختلاف صفاته ودواعيه، فإنه لما لم يكن وحداني الصفة لم يكن وحداني الفعل، ولذلك ترى أنه يطيع الله تارة ويعصيه أخرى. وذلك غير موجود في الملائكة، فإنهم مجبولون على الطاعة لم تتصور في حقهم معصية، ولكل منهم طاعة خاصة معينة. فالراكع منهم راكع أبدا، والساجد منهم ساجد دائما، والقائم منهم قائم أبدا، لا اختلاف في أفعالهم ولا فتور، ولكل واحد منهم مقام معلوم. وإذ قد ظهر لك عدد ما يحتاج إليه بعض أفعال مجرد الاغتذاء من الملائكة الأرضية المستمدين من الملائكة السماوية، فقس عليه سائر أفعال الاغتذاء، وسائر أفعالك الباطنة والظاهرة، فإن بيان ذلك ليس ممكنا. ثم قس على ذلك إجمالا جملة صنائع الله وأفعاله الواقعة في عالمي الجبروت والملكوت، وعالم الملك والشهادة، فسماواته وأرضه وما بينهما وما تحتهما وما فوقهما فإن أعداء الملائكة الموكلين بها غير متناهية، كيف ومجامع طبقات الملائكة وقد ظهر مما عرف من توقف كل نعمة على نعم كثيرة متسلسلة، إلى أن ينتهي إلى الله، واتصال البعض بالبعض ووقوع الارتباط والترتب

(هامش)

(15) الصافات، الآية: 164 (*)

ص 215

بينهما: إن من كفر نعمة الله فقد كفر كل نعمة في الوجود، فمن نظر إلى غير محرم - مثلا - فقد كفر، ففتح العين نعمة الله في الأجفان، ولا تقوم الأجفان إلا بالعين، ولا العين إلا بالرأس، ولا الرأس إلا بجميع البدن، ولا البدن إلا بالغذاء، ولا الغذاء إلا بالماء والأرض والهواء والمطر والغيم والشمس والقمر وسائر الكواكب، ولا يقوم شيء من ذلك إلا بالسماوات ولا السماوات إلا بالملائكة. فإن الكل كالشئ الواحد، يرتبط البعض منه بالبعض ارتباط أعضاء البدن بعضها ببعض. فإذا قد كفر كل نعمة في الوجود، من ابتداء الثرى إلى منتهى الثريا. وحينئذ لا يبقى جماد ولا نبات ولا حيوان، ولا ماء ولا هواء، ولا كوكب ولا فلك ولا ملك، إلا يلعنه. ولذلك ورد في الأخبار: (أن البقعة التي يجتمع فيها الناس، إما تلعنهم إذا تفرقوا، أو تستغفر لهم). وكذلك ورد: (إن الملائكة يلعنون العصاة). وورد: (أن العالم يستغفر له كل شيء، حتى الحوت في البحر). وأمثال هذه الأخبار الدالة على ما يفيد المراد خارجة بطرفه عن الاحصاء، وكل ذلك إشارة إلى أن العاصي بتطريفة واحدة يجني على جميع الملك والملكوت. ثم جميع ما ذكرناه إنما يتعلق بجزء من المطعم، فاعتبر ما سواه. ثم تأمل هل يمكن أن يخرج أحد عن عهدة الشكر؟ كيف ولله في كل طرفة على كل عبد من عبيده نعم كثيرة خارجة عن الاحصاء؟ فإن في كل نفس ينبسط وينقبض نعمتين، إذ بانبساطه يخرج الدخان المحترق من القلب، ولو لم يخرج لهلك، وبانقباضه يجتمع روح الهواء إلى القلب، ولو لم يدخل نسيم الهواء فيه لا نقطع قلبه وهلك. ولم كان اليوم والليلة أربعا وعشرين ساعة وفي كل ساعة يوجد ألف نفس تخمينا، وإذا اعتبرت ذلك وقست عليه سائر النعم، يكون عليك في كل يوم وليلة آلاف ألوف نعمة في كل جزء من أجزاء بدنك، بل في كل جزء من أجزاء العالم، وكيف يمكن إحصاء ذلك ولذلك قال الله - تعالى -: (وأن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) 16

(هامش)

(16) إبراهيم، الآية: 34 النحل، الآية: 18 (*)

ص 216

وورد: (أن من لم يعرف نعمة الله إلا في مطعمه ومشربه، فقد قل علمه وحضر عذابه). فالبصير لا تقع عينه في العالم على شيء، ولا يلم خاطره بموجود إلا ويتحقق أن الله فيه نعمة عليه. ولذلك قال موسى بن عمران: (إلهي! كيف أشكرك ولك علي في كل شعرة من جسدي نعمتان: أن لينت أصلها، وإن طمست رأسها).

فصل الأسباب الصارفة للشكر

إعلم أن السبب الصارف لأكثر الخلق عن الشكر، إما قصور معرفتهم بأن النعم كلها من الله - سبحانه -، أو قصور معرفتهم وإحاطتهم بصنوف النعم وآحادها، أو جهلهم بحقيقة الشكر وكونه استعمال النعمة في إتمام الحكمة التي أريدت بها، وظنهم أن حقيقة الشكر مجرد أن يقولوا بلسانهم: الحمد لله، أو الشكر لله، أو الغفلة الناشئة عن غلبة الشهوة واستيلاء الشيطان، بحيث لا يتنبهون للقيام بالشكر، كما في سائر الفضائل والطاعات أو عدم احتسابهم للجهل ما يعم الخلق ويشملهم في جميع الأحوال من النعم نعمة. ولذلك لا يشكرون على جملة من النعم، لكونها عامة للخلق، مبذولة لهم في جميع الحالات. فلا يرى كل واحد لنفسه اختصاصا بها، فلا يعدها نعمة. وتأكد ذلك بالفهم واعتيادهم بها، فلا يتصورون خلاف ذلك، ويظنون إن كل إنسان يلزم أن يكون على هذه الأحوال. فلذلك تراهم لا يشكرون الله على روح الهواء، ووفور الماء، وصحة البصر والسمع وأمثال ذلك. ولو أخذ يمحقهم، حتى انقطع عنهم الهواء، وحبسوا في بيت حمام فيه هواء حار، أو بئر فيها هواء تقبل رطوبة الماء، ماتوا. فإن ابتلى واحد بشيء من ذلك، ثم نجى منه، ربما قدر ذلك نعمة وشكر لله عليه. وكذا البصير، إذا عميت عينه، ثم أعيد عليه بصره، عده نعمة وشكره، ولو لم يبتل بالعمى وكان بصيرا دائما كان غافلا عن الشكر. وهذا غاية الجهل، إذ شكرهم صار موقوفا على أن تسلب منهم النعمة ثم ترد عليهم في بعض الأحوال، مع أن النعمة في جميع الأحوال أولى بالشكر.

ص 217

فلما كانت رحمة الله واسعة قد عمت الخلق في جميع أحوالهم لم يعدها الجاهلون نعمة. ومثلهم كمثل العبد السوء الذي لو لم يضرب بطر وترك الشكر، وإذا ضرب في غالب الأحوال ترك ساعة شكر المولى على ذلك. ومن تأمل يعلم أن نعمة الله عليه في شربة ماء عند عطشه أعظم من ملك الأرض كلها. كما نقل: (أن بعض العلماء دخل على بعض الخلفاء، وفي يده كوز ماء يشربه، فقال له: عظني. فقال: لو لم تعط هذه الشربة إلا ببذل أموالك وملكك كله، ولو لم تعطه بقيت عطشانا، فهل تعطه؟ قال: نعم! قال: فكيف تفرح بملكك لا يساوي شربة ماء!) هذا مع أن كل عبد لو أمعن النظر في حاله، لرأى من الله نعمة أو نعما كثيرة تخصه لا يشاركه فيها أحد، أو يشاركه يسير الناس، إما في العقل، أو في الخلق، أو في الورع والتقوى، أو الدين أو في صورته وشخصه، أو أهله وولده أو مسكنه وبلده، أو رفاقه وأقاربه، أو عزه وجاهه، أو طول عمره وصحة جسمه، أو غير ذلك من محابه. بل نقول: لو كان أحد لا يكون مخصوصا بشيء من ذلك، فلا ريب في أنه يعتقد في نفسه اختصاصه ومزيته في بعض هذه على سائر الخلق. فإن أكثر الناس يعتقدون كونهم اعقل الناس، أو أحسن أخلاقا منهم، مع أن الأمر ليس كذلك ولذلك لا يشكون من نقصان العقل كما يشكون من قلة المال، ولا يسألون الله أن يعطيهم العقل كما يسألون منه زيادة المال ويرى من غير عيوبا يكرهها وأخلاق يذمها، ولا يرى ذلك من نفسه. وبالجملة: كل أحد يقدر في نفسه من المحاب وصفة الكمال ما لا يراه في غيره، وإن لم يكن مطابقا للواقع. ولذلك لو خير بأن يسلب منه ماله ويعطي ما خصص به غيره، لكان لا يرضى به. بل التأمل يعطي أن كل واحد من أكثر الناس لا يرضى أن يكون في جميع الصفات والأفعال والدين والدنيا مثل شخص آخر من الناس كائنا من كان، بل لو وكل إليه الاختيار وقيل له: أنت مخير في صيرورتك مثل من شئت وأردت من أفراد الناس لم يخير إلا نفسه. وإلى هذا أشار الله - سبحانه - بقوله: ج / 3

ص 218

(كل حزب بما لديهم فرحون) 17 وإذا كان الأمر هكذا، فأنى له لا يشكر الله على ذلك مع قطع النظر عن النعم العامة؟ ولو لم يكن لشخص من نعم الله إلا الأمن والصحة والقوة لعظمت النعمة في حقه، ولم يخرج عن عهدة الشكر. قال رسول الله (ص): (من أصبح آمنا في سربه، معافى في بدنه، وعنده قوت يومه، فكأنما خيرت له الدنيا بحذافيرها). ومهما فتشت الناس، لوجدتهم يشكون عن أمور وراء هذه الثلاث، مع أنها وبال عليهم. بل لو لم تكن للانسان نعمة سوى الإيمان الذي به وصوله إلى النعيم المقيم والملك العظيم، لكان جديرا به أن يستعظم النعمة ويصرف في الشكر عمره. بل ينبغي للعاقل ألا يفرح إلا بالمعرفة واليقين والإيمان. ونحن نعلم من العلماء من لو سلم إليه جميع ما دخل تحت ملوك الأرض من الشرق إلى الغرب، من أموال وأتباع، وأنصار وبلدان وممالك، بدلا عن عشر عشير من علمه لم يأخذه، لرجائه أن نعمة العلم تفضي به إلى قرب الله - تعالى - بالآخرة. بل لو سلم إليه جميع ذلك عوضا عن لذة العلم في الدنيا، مع نيله في الآخرة إلى ما يرجوه، لم يأخذه ولم يرض به، لعله بأن لذة العلم دائمة لا تنقطع، وثابتة لا تسرق ولا تغصب، وصافية لا كدورة فيها بخلاف لذات الدنيا.

فصل طريق تحصيل الشكر

الطريق إلى تحصيل الشكر أمور: الأول - المعرفة والتفكر في صنائعه - تعالى -، وضروب نعمه الظاهرة والباطنة والعامة والخاصة. الثاني - النظر إلى الأدنى في الدنيا وإلى الأعلى في الدين. الثالث - أن يحضر المقابر، ويتذكر أن أحب الأشياء إلى الموتى وأهم سؤالهم ودعواهم من الله أن يردوا إلى الدنيا، ويتحملوا ضروب الرياضات ومشاق العبادات في الدنيا، ليتخلصوا في الآخرة من العذاب،

(هامش)

(17) المؤمنين الآية: 54. الروم، الآية 32 (*)

ص 219

أو يزيد ثوابهم وترفع درجاتهم. فليقدر نفسه منهم مع إجابة دعوته ورده إلى الدنيا، فليصرف بقية عمره فيما يشتهي أهل القبور العودة لأجله. الرابع - أن يتذكر بعض ما ورد عليه في بعض أيام عمره من المصائب العظيمة والأمراض الصعبة التي ظن هلاك نفسه بها، فليتصور أنه هلك بها ويغتنم الآن حياته وماله من النعم، فليشكر الله على ذلك، ولا يتألم ولا يحزن من بعض ما يرد عليه مما ينافي طبعه. الخامس - أن يشكر في كل مصيبة وبلية من مصائب الدنيا من حيث إنه لم تصبه مصيبة أكبر منها، وإنه لم تصبه مصيبة في الدين. ولذلك قال عيسى (ع) في دعائه: (اللهم لا تجعل مصيبتي في ديني!). وقال رجل لبعض العرفاء: (دخل اللص في بيتي وأخذ متاعي)، فقال له: (اشكر الله لو كان الشيطان يدخل بدله في قلبك ويفسد توحيدك، ماذا كنت تصنع؟). ومن حيث أن كل مصيبة إنما هي عقوبة لذنب صدر منه، فإذا حلت به هذه العقوبة حصلت له النجاة من عقوبة الآخرة، كما قال رسول الله (ص): (إن العبد إذا أذنب ذنبا فإصابته شدة أو بلاء في الدنيا، فالله أكرم من أن يعذبه ثانيا). وقد ورد هذا المعنى بطرق متعددة من أئمتنا - عليهم السلام - أيضا، فليشكر الله على تعجيل عقوبته وعدم تأخيرها إلى الآخرة. ومن حيث أن هذه المصيبة كانت مكتوبة آتية إليه ألبتة، فقد أتيت وفرغ منها. ومن حيث أن ثوابها أكثر منها وخير له، لما يأتي في باب الصبر من عظم مثوبات الابتلاء بالمصائب في الدنيا ومن حيث أنها تنقص في القلب حب الدنيا والركون إليها، وتشوق إلى الآخرة وإلى لقاء الله سبحانه. إذ لا ريب في أن من آتاه النعم في الدنيا على وفق المراد، من غير امتزاج ببلاء ومصيبة، يورث طمأنينة القلب إلى الدنيا وأنسا بها، حتى تصير كالجنة في حقه، فيعظم بلاؤه عند الموت بسبب مفارقته، وإذا كثرت عليه المصائب انزعج قلبه عن الدنيا ولم يأنس بها، وصارت الدنيا سجنا عليه وكانت نجاته منها كالخلاص من السجن. ولذلك قال رسول الله (ص): (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر) فمحن الدنيا ومصائبها ورياضاتها توجب انزعاج النفس عنها، والتفاتها إلى عالمها الأصلي، وتشوقها إلى

ص 220

الخروج عنها إليه ورغبتها إلى لقاء الله وما أعد في دار الآخرة لأهلها. فإن قلت: غاية ما يتصور في البلاء أن يصبر عليه، وأما الشكر عليه فغير متصور، إذ الشكر إنما يستدعي نعمة وفرحا، والبلاء مصيبة وألم فكيف يشكر عليه؟ وعلى هذا ينبغي ألا يجتمع الصبر والشكر على شيء واحد، إذ الصبر يستدعي بلاء وألما، والشكر يستدعي نعمة وفرحا، فهما متضادان غير مجتمعين، فكيف حكمتم باجتماعهما في المصائب والبلايا الدنيوية؟ قلنا: كل واحد من النعمة والبلاء ينقسم إلى مطلق ومقيد. فالنعمة المطلقة كسعادة الآخرة والعلم والإيمان والأخلاق الحسنة في الدنيا، والنعمة المقيدة في الدنيا - أي ما هو نعمة وصلاح من وجه وبلاء وفساد من وجه - كالمال الذي يصلح الدين من وجه، ويفسده من وجه. والبلاء المطلق، كشقاوة الآخرة والكفر والجهل والأخلاق السيئة والمعاصي في الدنيا، والبلاء المقيد، كمصائب الدنيا، من الفقر والخوف والمرض وسائر أقسام المحن والمصائب، فإنها وإن كانت بلاء في الدنيا، ولكنها نعم في الآخرة. وعنه التحقيق لا تخلو عن تكفير الخطيئة، أو رياضة النفس، أو زيادة التجرد أو رفع الدرجة. فالنعمة المطلقة بإزائها الشكر المطلق، ولا معنى لاجتماع الصبر معه، والصبر الذي يجتمع معه لا ينافيه، كما يأتي. والبلاء المطلق لم يؤمر بالصبر عليه، إذ لا معنى للصبر على الكفر والمعصية، بل يجب عدم الصبر عليه والسعي في تركه. وأما البلاء المقيد، فهو الذي يجتمع فيه الصبر والشكر، وليس اجتماعهما من جهة واحدة حتى يلزم اجتماع الضدين، بل الصبر من حيث إيجابه الاغتمام والألم في الدنيا، والشكر من حيث أدائه إلى سعادة الآخرة وغيرها مما ذكر. ثم لو لم يصبر على جهة شريفة، ولم يشكر على جهة خيرية، صار بلاء مطلقا لزم تركه بالرجوع إلى الصبر والشكر. وأما النعمة المقيدة، كالمال والثروة، فإن أدت إلى إصلاح الدين كانت نعمة مطلقة يجب عليها الشكر، ولم يكن محلا للصبر، وإن أدت إلى فساده كانت بلاء مطلقا واجب الترك، وإن أدت إلى بلاء الدنيا، كأن يصير ماله سببا لهلاك أولاده، وفساد مزاجه ويصير فوته باعثا لابتلائه ببعض المصائب الدنيوية، كان حكمه حكم البلاء

ص 221

المقيد ثم يأتي في باب الصبر: إن الصبر قد يكون على الطاعة وعلى المعصية، وفيهما يتحقق الشكر والصبر، إذ الشكر - كما عرفت - هو - عرفان النعمة من الله والفرح به، وصرف النعمة إلى ما هو المقصود منها بالحكمة، والصبر - كما يأتي - وهو ثبات باعث الدين، أعني العقل النظري، في مقابلة باعث الهوى، أعني القوة الشهوية. ولا ريب في أنه في أداء الطاعة وترك المعصية يتحقق الثبات المذكور، إذ هو صرف النعمة إلى ما هو المقصود، إذ باعث الدين إنما خلق لحكمة دفع باعث الهوى، وقد صرفه إلى مقصود الحكمة. وأنت خبير بأنه وأن تحقق الشكر والصبر في هذه الطاعة وترك هذه المعصية، إلا أن ما تصبر عليه هو هذه الطاعة وترك هذه المعصية، إذ الصبر إنما هو عليهما، وأما الشكر فعلى باعث الدين أعني العقل الباعث لهذه الطاعة وترك هذه المعصية، فالمشكور عليه هو باعث الدين دون نفس الطاعة وترك المعصية، فاختلف فيهما الصبر والشكر في المتعلق، أي ما يصبر عليه وما يشكر عليه، واتحدا في فعل الصبر والشكر إذ فعل الصبر هو الثبات والمقاومة، وهو عين الطاعة وترك المعصية، وفعل الشكر هو صرف النعمة في مقصود الحكمة، وهو أيضا عين الطاعة وترك المعصية. ويمكن أن يقال: إن من فعل هذه الطاعة، وترك هذه المعصية عرف كونهما من الله وفرح به، ويعمل طاعة أخرى شكرا له. وعلى هذا فيتحد متعلقا الشكر والصبر في هذه الطاعة وترك هذه المعصية، أعني المشكور عليه وما يصبر عليه، إذ هما نفس هذه الطاعة وترك هذه المعصية بعينها، ويختلف فعلاهما. إذ فعل الصبر هو هذه الطاعة وترك هذه المعصية، وفعل الشكر تحميد أو طاعة أخرى.

فصل الصحة خير من السقم

لا تظنن مما قرع سمعك من فضيلة البلاء وأدائه إلى سعادة الأبد أنه خير من العافية في الدنيا، بل مع ذلك كله العافية في الدنيا خير من البلاء والمصيبة فيها فإياك أن تسأل من الله البلايا والمصائب في الدنيا، فإن رسول الله (ص) كان يستعذ في دعائه من بلاء الدنيا ومن بلاء الآخرة، وكان يقول هو

ص 222

والأنبياء والأوصياء - عليهم السلام -: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة)، وكانوا يستعيذون من شماتة الأعداء وسوء القضاء. وقال (ص): (سلوا الله العافية، فما أعطي عبد أفضل من العافية إلا اليقين)، وأشار باليقين إلى عافية القلب من الجهل والشك، وهو أعلى وأشرف من عافية البدن، وقال (ص) في دعائه: (والعافية أحب إلي). وبالجملة: هذا أظهر من أن يحتاج إلى الاستشهاد. إذ البلاء إنما يصير نعمة بالإضافة إلى ما هو أكثر منه في الدنيا والآخرة، وبالإضافة إلى ما يرجى من الثواب في الآخرة، ومن حيث يوجب تجرد النفس وانقطاعها من الدنيا وميلها إلى الآخرة. فينبغي أن يسأل تمام النعمة في الدنيا، والثواب في الآخرة على شكر المنعم، والتجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، فإنه قادر على إعطاء الكل، وما نقل عن بعض العارفين، من سؤالهم المصائب والبلاء، كما قال بعضهم: (أود أن أكون جسرا على النار يعبر علي الخلق كلهم فينجون، وأكون أنا في النار) وقال سمنون المحب ((وليس لي في سواك حب فكيفما شئت فاختبرني) فمبناه على غلبة الحب، بحيث يظن المحب بنفسه أنه يحب البلاء. ومثل ذلك حالة تعتريه وليس لها حقيقة. فإن من شرب كأس المحبة سكر، ومن سكر توسع في الكلام، ولما زال سكره علم أن ما غلب عليه كانت حالة لا حقيقة. فما تسمعه من هذا القبيل فهو كلام العشاق الذين أفرط حبهم، وكلام العشاق يستلذ سماعه ولا يعول عليه. وقد روي: (أن فاختة كان يراودها زوجها فتمنعه، فقال: ما الذي يمنعك عني، ولو أردت أن أقلب لك ملك سليمان ظهرا لبطن لفعلته لأجلك؟ فسمع ذلك سليمان (ع)، فطلبه وعاتبه في ذلك فقال: يا نبي الله كلام العشاق لا يحكى). ونقل: (أن سمنون المحب بعد ما قال البيت المذكور، ابتلى بمرض الحصر، فكان يصيح ويجزع ويسأل الله العافية، ويظهر الندامة مما قال، ويدور على أبواب المكاتب، ويقول للصبيان: أدعوا لعمكم الكذاب). والحاصل: أن صيرورة البلاء أحب عند بعض المحبين من العافية، لاستشعارهم رضا المحبوب لأجله، وكون رضاه عندهم أحب وألذ من العافية إنما يكون في غليان الحب، فلا يثبت ولا يدوم. ومع ذلك كله، فأعلم أن الظاهر من بعض الأخبار الآتية

ص 223

في باب الصبر: أن في الجنان درجات عالية لا يبلغها أحد إلا بالمصائب الدنيوية والصبر والشكر عليها، ويؤيده ابتلاء أكابر النوع، من الأنبياء والأولياء بالمصائب العظيمة في الدنيا، وما ورد من أن أعظم البلاء موكل بالأنبياء ثم بالأولياء، ثم بالأمثل فالأمثل في درجات العلاء والولاء. وعلى هذا فالظاهر اختلاف أصلحية كل من البلاء والعافية باختلاف مراتب الناس. فمن كان قوي النفس صابرا شاكرا في البلاء، ولم يصده عن الذكر والفكر والحضور والأنس والطاعات والاقبال عليها، ولم يصر باعثا لنقصان الحب لله، فالبلاء في حقه أفضل في بعض الأوقات، إذ بأزائه في الآخرة من عوالي الدرجات ما لا يبلغ بدونه. ومن كان له ضعف نفس يوجب ابتلائه بالمصائب جزعا أو كفرانا، أو منعه شيء مما ذكر، فالعافية أصلح في حقه، وربما كان البلاء مما منعه من الوصول إلى المراتب العظيمة، فلا ريب في أن العافية وعدم هذا البلاء أفضل وأعلى منه. فإن البصير الذي توسل بعينيه إلى النظر إلى عجائب صنع الله، وتوصل به إلى معرفة الله، وتمكن لأجل العينين إلى مطالعة العلوم وتصنيف الكتب الكثيرة من أنواع العلوم، وتبقى آثاره العلمية على مر الدهور، وينتفع من علومه الناس أبدا، وربما بلغ لأجل العينين إلى غاية درجات المعرفة والقرب والحب والأنس والاستغراق، ولولا وجود العينين له لم يبلغ إلى شيء من ذلك، فلا ريب في أن وجود البصر لمثله أفضل وأصلح من عدمه، ولولا ذلك لكان رتبة شعيب مثلا - وقد كان ضريرا من بين الأنبياء - فوق رتبة موسى وإبراهيم وغيرهما - عليهم السلام - لأنه صبر على فقد البصر، وموسى لم يصبر عليه، ولكان الكمال في أن يسلب الإنسان الأطراف كلها ويترك كلحم على وضم. وهذا باطل، فإن كل واحد من الأعضاء آلة في الدين، فيفوت بفواتها ركن من الدين. ويدل على ذلك ما ورد في عدة من الأخبار: (أن كل ما يرد على المؤمن من البلاء أو عافية أو نعمة أو بلية، فهو خير له وأصلح في حقه) وما ورد في بعض الأحاديث القدسية: (أن بعض عبادي لا يصلحه إلا الفقر والمرض، فأعطيته ذلك، وبعضهم لا يصلحه إلا الغنى والصحة، فأعطيته ذلك). وبذلك يجمع بين أخبار العافية وأخبار البلاء.

ص 224

 ومنها:

• الجزع

وهو إطلاق دواعي الهوى، من الاسترسال في رفع الصوت، وضرب الخدود، وشق الجيوب، أو ضيق الصدر والتبرم والتضجر. وهو وأن كان من نتائج ضعف النفس وصغرها الذي من رذائل القوة الغضبية فقط، إلا أنه لما كان ضده الصبر، وله أقسام بعضها من متعلقات القوة الشهوية - كما يأتي - فلذلك لم نذكره في متعلقات قوة الغضب فقط، بل ذكرناه هنا. ثم الجزع في المصائب من المهلكات، لأنه في الحقيقة إنكار لقضاء الله، وإكراه لحكمه، وسخط على فعله. ولذا قال رسول الله (ص): (الجزع عند البلاء تمام المحنة) وقال (ص): (أن عظم الجزاء مع عظم البلاء وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط). وفي الخبر القدسي: (من لم يرض بقضائي، ولم يشكر على نعمائي، ولم يصبر على بلائي، فليطلب ربا سواي). وروي: (أن زكريا لما هرب من الكفار، واختفى في الشجرة، وعرفوا ذلك، جاؤا بالمنشار فنشرت الشجرة حتى بلغ المنشار رأس زكريا، فأن أنة، فأوحى الله إليه: يا زكريا! لئن صعدت منك أنة ثانية لأمحونك من ديوان النبوة! فعض زكريا (ع) على أصبعه حتى قطع شطرين) وبالجملة: العاقل يعلم أن الجزع في المصائب لا فائدة فيه، إذ ما قدر يكون، والجزع لا يرده. ولا ريب في أنه يترك الجزع بعد مضي مدة، فليتركه أولا حتى لا يضيع أجره. وقد نقل: (أنه مات ابن لبعض الأكابر، فعزاه مجوسي، وقال له: ينبغي للعاقل أن يفعل اليوم ما يفعله الجاهل بعد خمسة أيام. فقال: اكتبوه عنه). وقال الصادق (ع): الصبر يظهر ما في بواطن العباد من النور والصفاء، والجزع يظهر ما في بواطنهم من الظلمة والوحشة. والصبر يدعيه كل أحد وما يثبت عنده إلا المخبتون، والجزع ينكره كل أحد وهو أبين على المنافقين، لأن نزول المحنة والمصيبة يخبر عن الصادق والكاذب. وتفسير الصبر ما يستمر مذاقه، وما كان عن اضطراب لا يسمى صبرا. وتفسير الجزع اضطراب القلب وتحزن الشخص، وتغير اللون

ص 225

والحال. وكل نازلة خلت أوائلها من الاخبات والإنابة والتضرع إلى الله فصاحبها جزوع غير صابر. والصبر ما أوله مر وآخره حلو، من دخله من أواخره فقد دخل، ومن دخله من أوائله فقد خرج، ومن عرف قدر الصبر لا يصبر عما منه الصبر، وقال الله تعالى في قصة موسى والخضر عليهما السلام: فكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا، فمن صبر كرها، ولم يشك إلى الخلق، ولم يجزع بهتك ستره، فهو من العام ونصيبه ما قال الله غز وجل: وبشر الصابرين: أي بالجنة والمغفرة. ومن استقبل البلاء بالرحب، وصبر على سكينة ووقار، فهو من الخاص، ونصيبه ما قال الله عز وجل: أن الله مع الصابرين) (18).

فصل الصبر

- مراتب الصبر - أقسام الصبر - فضيلة الصبر - الصبر على السراء - اختلاف مراتب الصبر في الثواب - طريق تحصيل الصبر - التلازم بين الصبر والشكر - القانون الكلي في معرفة الفضائل - تفضيل الصبر - على الشكر. * * * ضد الجزع (الصبر)، وهو ثبات النفس وعدم اضطرابها في الشدائد والمصائب، بأن تقاوم معها، بحيث لا تخرجها عن سعة الصدر وما كانت عليه قبل ذلك من السرور والطمأنينة، فيحبس لسانه عن الشكوى، وأعضائه عن الحركات الغير متعارفة. وهذا هو الصبر على المكروه، وضده الجزع. وله أقسام أخر لها أسماء خاصة تعد فضائل أخر: كالصبر في الحروب، وهو من أنواع الشجاعة، وضده الجبن والصبر في كظم الغيظ، وهو الحلم ، وضده الغضب. والصبر على المشاق، كالعبادة، وضده الفسق، أي الخروج عن العبادات الشرعية. والصبر على شهوة البطن والفرج من قبائح اللذات، وهي العفة، وإليه أشير في قوله سبحانه:

(هامش)

(18) صححنا الحديث على (مصباح الشريعة): باب 92 وعلى (البحار) باب الصبر واليسر بعد العسر، مج 15: 2 / 143 (*)

ص 226

(وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى، فإن الجنة هي المأوى) 19 وضده الشره. والصبر عن فضول العيش، وهو الزهد، وضده الحرص. والصبر في كتمان السر، وضده الإذاعة، والأولان، كالصبر على المكروه من فضائل قوة الغضب. والرابع، من نتائج المحبة والخشية. والبواقي، من فضائل قوة الشهوة كما يأتي. وفي ذلك: أن من عد الصبر مطلقا من فضائل القوة الشهوية أو القوة الغضبية إنما أراد به بعض أقسامه. ويظهر من ذلك: أن أكثر أخلاق الإيمان داخل في الصبر. ولذلك لما سئل رسول الله (ص) عن الإيمان، قال: (هو الصبر، لأنه أكثر أعماله وأشرفها)، كما قال: (الحج عزم). وقد عرف مطلق الصبر بأنه مقاومة النفس مع الهوى، وبعبارة أخرى: إنه ثبات باعث الدين في مقابلة باعث الهوى. والمراد بباعث الدين هو العقل النظري الهادي إلى طريق الخير والصلاح، والعقل العملي المنفذ لأحكامه المؤدية إلى الفوز والفلاح. والمراد بباعث الهوى هو قوة الشهوة الخارجة عن طاعة العقل، والقتال دائما بين الباعثين قائم، والحرب بينهما أبدا سجال (20)، وقلب العبد معركته، ومدد باعث الدين من الملائكة الناظرين لحزب الله، ومدد باعث الهوى من الشياطين الناصرين لأعداء الله، فإن ثبت باعث الدين بأمداد الملائكة حتى قهر باعث الهوى واستمر على مخالفته، غلب حزب الله والتحق بالصابرين، وإن تحاول وضعف حتى سلب باعث الهوى بأمداد الشياطين ولم يصبر على دفعه، التحق بأتباع الشياطين. وعمدة ما يثبت به باعث الدين هي قوة المعرفة، أي اليقين لكون الهوى عدوا قاطعا لطريق الوصول إلى الله مضادا لأسباب السعادات في الدنيا والآخرة. ثم باعث الدين إما يقهر داعي الهوى بالكلية، بحيث لا تبقى له قوة المنازعة، فيدوم الصبر، وتستقر النفس في مقام الاطمينان، وتنادي من وراء سرادقات الجمال بخطاب: (يا أيتها النفس

(هامش)

(19) النازعات، الآية: 40 - 41 (20) (الحرب بينهم سجال): مثل مشهور، أي تارة لهم وتارة عليهم (*)

ص 227

المطمئنة! ارجعي إلى ربك راضية مرضية)، فتدخل في زمرة الصديقين السابقين، وتنسلك في سلك عباده الصالحين، أو يغلب داعي الهوى وينقهر باعث الدين، بحيث لا تبقى له قوة المنازعة، وييأس عن المجاهدة والمقاومة، فتسلم نفسه الشريفة الملكوتية التي هي سر الله ووديعته إلى حزب الشيطان. ومثله مثل من أخذ أعز أولاده المتصف بجميع الكمالات، ويسلمه إلى الكفار من أعدائه، فيقتلونه لديه، ويحرقونه بين يديه، بل هو أسوأ حالا منه بمراتب كما لا يخفى. إذ لا يكون لأحدهما الغلبة التامة، بل يكون بينهما تنازع وتجاذب، فتارة يغلب هذا، وتارة يغلب ذاك، فتكون النفس في مقام المجاهدة إلى أن يغلب أحد الباعثين، فتدخل في حزب الله أو حزب الشيطان. ثم غلبت أحد الباعثين على الآخر إما أن تكون في جميع مقتضياته أو بعضها، وتخرج من القسمين ثلاثة أحوال: الأولى - أن يغلب باعث الدين على جميع الشهوات في جميع الأوقات. الثانية - أن يغلب عليه الجميع في الجميع. الثالثة - أن يغلب على بعض دون بعض في الجميع، أو يغلب عليها كلا أو بعضا دون بعض. وقد أشير إلى أهل الحالة الأولى في الكتاب الإلهي بقوله تعالى: (يا أيتها النفس المطمئنة... إلى آخر الآية) 21 وإلى الثانية بقوله: (ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين) 22 وإلى الثالثة بقوله: (خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم) 23

فصل مراتب الصبر

الصبر على المكروه ومشاق العبادات وعن ترك الشهوات، أن كان بيسر وسهولة فهو الصبر حقيقة، وأن كان بتكلف وتعب فهو التصبر مجازا. وإذا أدام التقوى وقوى التصديق بما في العاقبة من الحسنى،

(هامش)

(21) الفجر، الآية: 27 - 28 (22) السجدة، الآية: 13 (23) التوبة الآية: 103 (*)

ص 228

تيسر الصبر ولم يكن له تعب ومشقة، كما قال الله سبحانه: (فأما من أعطى واتقى، وصدق بالحسنى، فسنيسره لليسرى) 24 ومتى تيسر الصبر وصار ملكة راسخة أورث مقام الرضا، وإذا أدام مقام الرضا أورث مقام المحبة. وكما أن مقام المحبة أعلى من مقام الرضا، فكذلك مقام الرضا أعلى من مقام الصبر. ولذلك قال رسول الله (ص): (أعبد الله على الرضا، فإن لم تستطع ففي الصبر على ما تكره خير كثير). قال بعض العارفين: (أهل الصبر على ثلاث مقامات: الأول: ترك الشكوى، وهذه درجة التائبين. الثاني: الرضا بالمقدر، وهذه درجة الزاهدين. الثالث: المحبة لما يصنع به مولاه، وهذه درجة الصديقين). وكأن هذا الانقسام مخصوص بالصبر على المكروه بالمصائب والمحن. ثم باعث الصبر إما إظهار الثبات وطمأنينة القلب عند الناس، ليكون عندهم مريضا، كما نقل عن معاوية: أنه أظهر البشاشة، وترك الشكوى في مرض موته وقال: وتجلدي للشامتين أريهم * أني لريب الدهر لا أتزعزع وهذا صبر العوام، وهم الذين يعملون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون، أو توقع الثواب ونيل الدرجات الرفيعة في دار الآخرة، وهذا صبر الزهاد والمتقين، وإليه إشارة بقوله تعالى: (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) 25 أو الالتذاذ والابتهاج بورود المكروه من الله سبحانه. إذ كل ما يريد من المحبوب محبوب، والمحب يشتاق إلى التفات محبوبه، ويرتاح به، وإن كان ما يؤذيه ابتلاء وامتحانا له، وهذا صبر العارفين، وإليه الإشارة بقوله تعالى: (وبشر الصابرين، الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا أنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة) 26

(هامش)

(24) الليل، الآية: 5 / 7 (25) الزمر، الآية: 10 (26) البقرة، الآية: 155 - 157. (*)

ص 229

وقد ورد: أن الإمام محمد بن علي الباقر عليهما السلام قال لجابر ابن عبد الله الأنصاري - وقد اكتنفته علل وأسقام، وغلبه ضعف الهرم -: (كيف تجد حالك؟) قال: أنا في حال الفقر أحب إلي من الغنى، والمرض أحب إلي من الصحة، والموت أحب إلي من الحياة. فقال الإمام (ع): (أما نحن أهل البيت فما يرد علينا من الله من الفقر والغنى والمرض والصحة والموت والحياة، فهو أحب إلينا). فقام جابر، وقبل بين عينيه، وقال: صدق رسول الله (ص) حيث قال لي: (يا جابر! ستدرك واحدا من أولادي أسمه اسمي، يبقر العلوم بقرا).

تذنيب أقسام الصبر

الصبر باعتبار حكمه ينقسم إلى الأقسام الخمسة، فالصبر عن الشهوات المحرمة وعلى مشاق العبادات الواجبة فرض، وعلى بعض المكاره وأداء المندوبات نفل، وعلى الأذية التي يحرم تحملها حرام، كالصبر على قطع يده، أو يد ولده، أو قصد حريمه بشهوة محضورة، وعلى أذى تناله بجهة مكروهة في الشرع. وبذلك يظهر أن كل صبر ليس محمودا، بل بعض أنواعه ممدوح، وبعض أنواعه مذموم، والشرع محكم، فما حسنه حسن، وما قبحه قبيح.

فصل فضيلة الصبر

الصبر منزل من منازل السالكين، ومقام من مقامات الموحدين. وبه ينسلك العبد في سلك المقربين، ويصل إلى جوار رب العالمين. وقد أضاف الله أكثر الدرجات والخيرات إليه، وذكره في نيف وسبعين موضعا من القرآن. ووصف الله الصابرين بأوصاف، فقال عز من قائل: (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا) 27 وقال: (وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا) 28 وقال: (ولنجزين الذين

(هامش)

(27) السجدة، الآية: 24 (28) الأعراف الآية: 136 (*)

ص 230

صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون 29 وقال: (أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا 30. فما من فضيلة إلا وأجرها بتقدير وحساب إلا الصبر، ولذا قال: (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) 32. ووعد الصابرين بأنه معهم، فقال: (واصبروا أن الله مع الصابرين) 32 وعلق النصرة على الصبر، فقال: (بلا أن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين) 33 وجمع للصابرين الصلوات والرحمة والهدى، فقال: (أولئك عليهم صلوات من ربهم فرحمة وأولئك هم المهتدون) 34 والآيات الواردة في مقام الصبر خارجة عن حد الاستقصاء، والأخبار المادحة له أكثر من أن تحصى. قال رسول الله (ص): (الصبر نصف الإيمان). وقال (ص): (من أقل ما أوتيتم اليقين وعزيمته الصبر، ومن أعطى حظه منهما لم يبال ما فاته من قيام الليل وصيام النهار، ولئن تصبروا على مثل ما أنتم عليه أحب إلي من أن يوافيني كل امرئ منكم بمثل عمل جميعكم، ولكني أخاف أن تفتح عليكم الدنيا بعدي فينكر بعضكم بعضا، وينكركم أهل السماء عند ذلك، فمن صبر واحتسب ظفر بكمال ثوابه)... ثم قرأ قوله تعالى: (ما عندكم ينفذ وما عند الله باق) 35 وقال (ص): (الصبر كنز من كنوز الجنة). وقال (ص): (أفضل الأعمال ما أكرهت عليه النفوس). ولا ريب في أن الصبر مما تكرهه النفوس، ولذا قيل: (الصبر صبر). وقال (ص): (في الصبر على تكره خير كثير). وقال (ص): (الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ولا جسد لمن لا رأس له، ولا أيمان لمن لا صبر له). وسئل (ص) عن الإيمان، فقال: (الصبر والسماحة). وقال (ص):

(هامش)

(29) النحل الآية: 96 (30) القصص، الآية: 54 (31) الأنفال، الآية 47 (32) آل عمران، الآية: 125 (33) البقرة، الآية: 157 (34) الزمر، الآية: 10 (35) النحل، الآية: 96 (*)

ص 231

(ما تجرع عبد قط جرعتين، أحب إلى الله من جرعة غيض ردها بحلم، وجرعة مصيبة يصبر الرجل لها، ولا قطرت بقطرة أحب إلى الله تعالى من قطرة دم أريقت في سبيل الله، وقطرة دمع في سواد الليل وهو ساجد ولا يراه إلا الله، وما خطا عبد خطوتين أحب إلى الله تعالى من خطوة إلى الصلاة الفريضة، وخطوة إلى صلة الرحم). وروي: (أنه تعالى أوحى إلى داود (ع): يا داود! تخلق بأخلاقي، وأن من أخلاقي أني أنا الصبور). وروي: (أن المسيح قال للحواريين: إنكم لا تدركون ما تحبون إلا بصبركم على ما تكرهون) (36). وقال (ص): (ما من عبد مؤمن أصيب بمصيبة فقال كما أمره الله: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي وأعقبني خيرا منها، إلا وفعل الله ذلك). وقال (ص): (قال الله عز وجل: إذا وجهت إلى عبد من عبيدي مصيبة في بدنه أو ماله أو ولده، ثم استقبل ذلك بصبر جميل، إستحييت منه أن أنصب له ميزانا وأنشر له ديوانا) (37). وقال (ص): (الصبر ثلاثة: صبر عند المصيبة، وصبر على الطاعة، وصبر عن المعصية. فمن صبر على المصيبة حتى يردها بحسن عزائها كتب الله له ثلاث مائة درجة، ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين السماء إلى الأرض، ومن صبر على الطاعة كتب الله له ستمائة درجة، ما بين الدرجة إلى درجة كما بين تخوم الأرض إلى العرش، ومن صبر على المعصية كتب الله له ستمائة درجة، ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى منتهى العرش). وقال (ص): (سيأتي على الناس زمان لا ينال الملك فيه إلا بالقتل والتجبر، ولا الغني إلا بالغصب والبخل، ولا المحبة إلا باستخراج الدين واتباع الهوى، فمن أدرك ذلك الزمان فصبر على الفقر وهو يقدر على الغنى، وصبر على البغضة وهو يقدر على المحبة، وصبر على الذل وهو يقدر على العز، آتاه الله ثواب خمسين صديقا ممن صدق بي) (38). وقال (ص): (أن الله تعالى قال لجبرائيل: ما جزاء من سلبت كريمته؟ فقال: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا.

(هامش)

(36) صححنا النبويات على (إحياء العلوم): 4 / 53، كتاب الصبر (37) صححنا الرواية على (البحار): مج 15: 2 / 148، باب الصبر واليسر بعد العسر (*)

ص 232

قال: جزاؤه الخلود في داري، والنظر إلى وجهي). وقال (ص) لرجل قال له: ذهب مالي وسقم جسمي: لا خير في عبد لا يذهب ماله ولا بسقم جسمه، أن الله إذا أحب عبدا ابتلاه، وإذا ابتلاه صبره). وقال (ص): (إن الرجل يكون له الدرجة عند الله تعالى لا يبلغها بعمل حتى يبتلي ببلاء في جسمه فيبلغها بذلك). وقال (ص): (إذا أراد الله بعبد خيرا، وأراد أن يصافيه، صب عليه البلاء صبا وثجه عليه ثجا، فإذا وعاه، قالت الملائكة صوت معروف، وإذا دعاه ثانيا: فقال: يا رب! قال الله تعالى: لبيك عبدي وسعديك! لا تسألني شيئا إلا أعطيتك، أو رفعت لك ما هو خير، وادخرت لك عندي ما هو أفضل منه. فإذا كان يوم القيامة جيئ بأهل الأعمال فوزنوا أعمالهم بالميزان، أهل الصلاة والصيام والصدقة والحج، ثم يؤتى بأهل البلاء، فلا ينصب لهم ميزان، ولا ينشر لهم ديوان، يصب عليهم الأجر صبا كما كان يصب عليهم البلاء صبا، فيود أهل العافية في الدنيا لو أنهم كانت تقرض أجسادهم بالمقاريض لم يرون ما يذهب به أهل البلاء من الثواب، فذلك قوله تعالى: إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب). وقال (ص): إذا رأيتم الرجل يعطيه الله ما يحب، وهو مقيم على معصيته، فاعلموا أن ذلك استدراج)... ثم قرأ قوله تعالى: (فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء) 39 يعني: لما تركوا ما أمروا به فتحنا عليهم أبواب الخيرات حتى إذا فرحوا بما أوتوا - أي بما أعطوا من الخير - أخذناهم بغتة. وروي: (أن نبيا من الأنبياء شكى إلى ربه، فقال: يا رب، العبد المؤمن يطيعك ويجتنب معاصيك تزوي عنه الدنيا وتعرضه للبلاء، ويكون العبد الكافر لا يطيعك ويجتري على معاصيك تزوي عنه البلاء وتبسط له الدنيا! فأوحى الله تعالى إليه: إن العباد إلي والبلاء لي، وكل يسبح بحمدي. فيكون المؤمن عليه من الذنوب، فأزوي عنه الدنيا وأعرض له البلاء فيكون كفارة

(هامش)

(38) صححنا الرواية، وكذا ما قبلها، على (أصول الكافي): ج 2، باب الصبر وعلى (الوافي): 3 321 - - 223، باب الصبر. (39) الأنعام، الآية: 44 (*)

ص 233

لذنوبه حتى يلقاني، فأجزيه بحسناته، ويكون الكافر له من الحسنات، فأبسط له في الرزق وأزوي عنه البلاء فأجزيه بحسناته في الدنيا حتى يلقاني فأجزيه بسيئاته وعن أبي عبد الله (ع) قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وآله: قال الله عز وجل: إني جعلت الدنيا بين عبادي قرضا، فمن أقرضني منها قرضا أعطيته بكل واحدة منهن عشرا إلى سبعمائة ضعف وما شئت من ذلك، ومن لم يقرضني منه قرضا فأخذت منه شيئا قسرا، أعطيته ثلاث خصال لو أعطيت واحدة منهن ملائكتي لرضوا بها مني. قال: ثم تلا أبو عبد الله (ع) قوله عز وجل (الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا أنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم)، فهذه واحدة من ثلاث خصال، (ورحمة) اثنتان، (فأولئك هم المهتدون) ثلاث. ثم قال أبو عبد الله (ع): هذا لمن أخذ الله منه شيئا قسرا). وقال أمير المؤمنين (ع): (بني الإيمان على أربعة دعائم: اليقين، والصبر، والجهاد، والعدل). وقال أمير المؤمنين (ع) (الصبر صبران: صبر عند المصيبة حسن جميل، وأحسن من ذلك الصبر عندما حرم الله عز وجل عليك) وقال على (ع): (الصبر وحسن الخلق والبر والحلم من أخلاق الأنبياء). وقال أمير المؤمنين (ع): ((أيما رجل حبسه السلطان ظلما فمات، فهو شهيد، وإن ضربه فمات، فهو شهيد) 41). وقال أمير المؤمنين (ع): (من إجلال الله ومعرفة حقه ألا تشكو وجعك، ولا تذكر مصيبتك). وقال أمير المؤمنين (ع) (ألا أخبركم بأرجى آية في كتاب الله؟) قالوا: بلا! فقرأ عليهم: (وما أصابكم من مصيبة فيما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير) 42 فالمصائب في الدنيا بكسب الأوزار، فإذا عافاه الله في الدنيا فالله أكرم من أن يعذبه ثانيا، وأن عفا عنه في الدنيا فالله أكرم من أن يعذبه يوم القيامة). وقال الباقر (ع): (الجنة محفوفة بالمكاره والصبر، فمن

(هامش)

(40) صححنا الأحاديث الأربعة على (إحياء العلوم): 4 / 114، باب الصبر (41) صححنا الروايات الثلاث على (أصول الكافي): ج 2، باب الصبر وعلى ((الوافي): 3 / 321 - 323، باب الصبر (42) الشورى، الآية: 30 (*)

ص 234

صبر على المكاره في الدنيا دخل الجنة. وجهنم محفوفة باللذات والشهوات فمن أعطى نفسه لذتها وشهوتها دخل النار). وقال (ع): (مروءة الصبر في حال الفاقة والحاجة والتعفف والغنى، أكثر من مروءة الإعطاء) (43) وقال (ع): (لما حضرت أبي علي بن الحسين عليهما السلام الوفاة، ضمني إلى صدره، ثم قال: يا بني! أوصيك بما أوصاني به أبي حين حضرته الوفاة، وبما ذكر أن أباه أوصاه به، قال: يا بني أصبر على الحق وأن كان مرا). وقال الصادق (ع): (إذا دخل المؤمن قبره، كانت الصلاة عن يمينه، والزكاة عن يساره، والبر مطل عليه، ويتنحى الصبر ناحيته. فإذا دخل عليه الملكان اللذان يليان مساءلته، قال الصبر للصلاة والزكاة والبر: دونكم صاحبكم، فإن عجزتم عنه فأنا دونه). وقال (ع): (إذا كان يوم القيامة، يقوم عنق من الناس، فيأتون باب الجنة، فيضربونه، فيقال لهم: من أنتم؟ فيقولون: نحن أهل الصبر، فيقال لهم: على ما صبرتم؟ فيقولون: كنا نصبر على طاعة الله ونصبر عن معاصي الله، فيقول الله تعالى: صدقوا! ادخلوهم الجنة. وهو قول الله تعالى: إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب). وقال (ع): (من ابتلى من المؤمنين ببلاء فصبر عليه، كان له مثل أجر ألف شهيد). وقال (ع): (إن الله عز وجل أنعم على قوم فلم يشكروا، فصارت عليهم وبالا، وأبتلي قوما بالمصائب فصبروا، فصارت عليهم نعمة) وقال عليه السلام: (من لا يعد الصبر لنوائب الدهر يعجز). وقال (ع): (أن من صبر صبر قليلا، وأن من جزع جزع قليلا... ثم قال: عليك بالصبر في جميع أمورك، فإن الله عز وجل بعث محمدا (ص) فأمره بالصبر والرفق، فقال: (واصبروا على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا) 44 وقال أبو الحسن (ع) لبعض أصحابه: (أن تصبر تغتبط، وإلا

(هامش)

(43) قال العلامة (المجلسي) - قدس سره في (بحار الأنوار): مج 15 ج 2، في باب الصبر على المصيبة، في ذيل هدا الخبر: (بيان المروة: هي الصفاة التي بها تكمل إنسانية الإنسان) (44) المزمل، الآية: 10 (*)

ص 235

تصبر يقدر الله مقاديره، راضيا كنت أم كارها) (45). والأخبار في فضيلة الصبر على البلاء وعظم ثوابه وأجر ه أكثر من أن تحصى. ولذلك كان الأتقياء والأكابر محبين طالبين له، حتى نقل: (أن واحدا منهم دخل على ابن مريض له، فقال: يا بني! لئن تكن في ميزاني أحب إلي من أن أكون في ميزانك. فقال: يا أبة! لئن يكن ما تحب أحب إلي من أن يكون ما أحب). وقال بعضهم: (ذهبت عيني منذ ثلاثين سنة، ما علم به أحد).

فصل الصبر على السراء

كل ما يلقى العبد في الدنيا، وما يوافق هواه، أو لا يوافقه، بل يكرهه، وهو في كل منهما محتاج إلى الصبر. إذ ما يوافق هواه، كالصحة الجسمية، واتساع الأسباب الدنيوية، ونيل الجاه والمال، وكثرة الأولاد والأتباع، لو لم يصبر عليه، ولم يضبط نفسه عن الانهماك فيه والاغترار به، أدركه الطغيان والبطر. (فإن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى). وقال بعض الأكابر: (البلاء يصبر عليه المؤمن، والعوافي لا يصبر عليه إلا الصديق). وقال بعض العرفاء: (الصبر على العافية أشد من الصبر على البلاء). ولذ لما توسعت الدنيا على الصحابة وزال عنهم ضيق المعاش، قالوا: (ابتلينا بفتنة الضراء فصبرنا، وابتلينا بفتنة السراء فلا نقدر على الصبر عليها). ومن هنا قال الله سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا لا تلهيكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله) 46. وقال (إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم) 47. ومعنى الصبر على متاع الدنيا: لا يركن إليه، ويعلم أنه مستودع عنده، وعن قريب يسترجع عنه، فلا ينهمك في التنعم والتلذذ، ولا يتفاخر

(هامش)

(45) صححنا الأحاديث الواردة عن أهل البيت - عليهم السلام - في باب الصبر على الجزء الثاني من أصول الكافي باب الصبر، وعلى الوافي: 3 / 321 - 323، كتاب الصبر (46) المنافقون، الآية: 9 (47) التغابن، الآية: 14 (*)

ص 236

به على فاقده من أخوانه المؤمنين، ويرعى حقوق الله في ماله بالإنفاق، وفي بدنه ببذل المعونة للخلق، وفي منصبه بإعانة المظلومين، وكذلك في سائر ما أنعم الله به. والسر في كون الصبر عليها أشد من الصبر على البلاء: أنه ليس مجبورا على ترك ملاذ الدنيا، بل له القدرة والتمكن على التمتع بها، بخلاف البلاء، فإنه مجبور عليه، ولا يقدر على دفعه، فالصبر عليه أسهل. ولذا ترى أن الجائع إذا لم يقدر على الطعام أقدر على الصبر منه إذا قدر عليه. وأما ما لا يوافق هواه وطبعه، فله ثلاثة أقسام: الأول - ما يكون مقدورا للعبد، كالطاعات والمعاصي. أما الطاعة، فالصبر عليها شديد، لأن النفس بطبعها تنفر عنها، وتشتهي التقهر والربوبية كما يأتي وجهه، ومع ذلك يثقل عليها بعض العبادات باعتبار الكسل، وبعضها باعتبار البخل، وبعضها باعتبارهما، كالحج والجهاد، فلا تخلو طاعة من اعتبار يشق على النفس أن تصبر عليه، ومع ذلك يحتاج المطيع فيها إلى الصبر في حالات ثلاثة تتضاعف لأجلها الصعوبة، إذ يحتاج إليها قبل العمل في تصحيح النية والاخلاص، وتطهيرها عن شوائب الرياء، وفي حالة العمل لئلا يغفل عن الله في أثنائه، ولا يخل بشيء من وظائفه وآدابه، ويستمر على ذلك إلى الفراغ وبعد الفراغ عنه، لئلا يتطرق إليه العجب، ولا يظهر رياء وسمعة. والنهي عن إبطال العمل وعن إبطال الصدقات بالمن والأذى أمر بهذا القسم من الصبر. وأما المعاصي، فلكون جميعها مما تشتهيها النفس. فصبرها عليها شديد، وعلى المألوفة المعتادة أشد، إذ العادة كالطبيعة الخامسة، ولذا ترى أن كل معصية شاعت وتكررت ثقل استنكارها، فإن الاستبعاد في مثل لبس الحرير أكثر من الاستبعاد في أطلاق اللسان طول النهار في أعراض الناس، مع أن الغيبة أشد من الزنا، كما نطقت به الأخبار. فإذا انضافت العادة إلى الشهوة، ظهر جندان من جنود الشيطان على جند الله، فيصعب تركها. ثم المعصية أن كانت مما يسهل فعلها، كان الصبر عنها أشد، كمعاصي

ص 237

اللسان من الغيبة والكذب، ولو كانت مع ذلك مشتملة على تمام ما تقتضيه جبلة النفس من الاستعلاء والربوبية، كالكلمات التي توجب نفي الغير، والقدح فيه، والثناء على ذاتها تصريحا أو تعريضا، كان الصبر عنا أشد. إذ مثل ذلك - مع كونه مما تيسر فعله وصار مألوفا معتادا - انضافت إليه شهوتان للنفس فيه: إحداهما نفي الكمال من غيرها، وأخراهما إثباته لذاتها. وميل النفس إلى مثل تلك المعصية في غاية الكمال، إذ به يتم ما تقتضيه جبلتها من التفوق والعلو، فصبرها عنها في غاية الصعوبة. وقد ظهر مما ذكر: أن أكثر ما شاع وذاع من المعاصي إنما يصدر من اللسان. فينبغي من كل أحد أن يجتهد في حفظ لسانه بتقديم التروي على كلام يريد أن يتكلم به، فإن لم يكن معصية تكلم به، وإلا تركه، ولو لم يقدر على ذلك، وكان لسانه خارجا عن إطاعته في المحاورات وجبت عليه العزلة والانفراد، وتركه التكلم مع الناس، حتى تحصل له ملكة الاقتدار على حفظه. ثم صعوبة الصبر وسهولته لما كانت تختلف في آحاد المعاصي باختلاف داعية تلك المعاصي قوة وضعفا، فينبغي لكل طالب السعادة أن يعلم أن داعية نفسه إلى أي معصية أشد، فيكون سعيه في تركها أكثر. ثم حركة الخواطر باختلاج الوساوس أيسر بكثير من حركة اللسان بقبائح الكلمات، فلا يمكن الصبر عنها أصلا، إلا بأن يغلب على القلب هم آخر في الدين يستغرفه، كمن أصبح وهمومه هم واحد. وأكثر جولان الخاطر إنما يكون في فائت لا تدارك له، أو في مستقبل لا بد وأن يحصل منه ما هو مقدور. وكيف كان، فهو تصور باطل، وتضييع وقت. إذ آلة استكمال العبد قلبه، فإذا غفل القلب في لحظة من ذكر يستفيد به أنسا بالله، أو فكر يستفيد به معرفة بالله، ويستفيد بالمعرفة حب الله، فهو مغبون. الثاني - ما ليس حصوله مقدورا للعبد، ولكنه يقدر على دفعه بالتشفي، كما لو أوذي بفعل أو قول، أو جني عليه في نفسه أو ماله، فإن حصول الأذية والجناية وإن لم يرتبط باختياره، إلا أنه يقدر على التشفي من المؤذي أو الجاني بالانتقام منه، والصبر على ذلك بترك المكافات. وهو قد يكون واجبا، وقد يكون فضيلة، وهو أعلى مراتب الصبر.

ص 238

ولأجل ذلك خاطب الله نبيه (ص) بقوله: (واصبروا كما صبر أولو العزم من الرسل) 48 وبقوله: (فاصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا) 49. وبقوله: (ودع أذاهم وتوكل على الله 50 وقال: (ولتسمعن من الذين أوتو الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور) 51. وقال (وأن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين) 52 وقال رسول الله (ص) (صل من قطعك، واعط من حرمك، واعف عمن ظلمك) وروي: (أنه (ص) قسم مرة مالا، فقال بعض الأعراب من المسلمين: هذه قسمة ما أريد بها وجه الله! فأخبر به رسول الله، فاحمرت وجنتاه ثم قال: رحم الله أخي موسى، قد أوذي بأكثر من هذا فصبر، الثالث - ما ليس مقدورا للعبد مطلقا، كالمصائب والنوائب. والصبر عليه شديد في غاية الصعوبة، ولا ينال إلا ببضاعة الصديقين، والوصول إليه يتوقف على اليقين التام. ولذا قال النبي (ص): (أسألك من اليقين ما يهون علي مصائب الدنيا). وقد تقدم بعض الأخبار الواردة في فضيلة هذا القسم من الصبر. وقال (ص): (قال الله: إذا ابتليت عبدي ببلائي فصبر، ولم يشكني إلى عواده، أبدلته لحما خيرا من لحمه، ودما خيرا من دمه، فإن أبرأته أبرأته ولا ذنب له، وأن توفيته فإلى رحمتي). وقال صلى الله عليه وسلم: (من إجلال الله ومعرفة حقه: لا تشكو وجعك، ولا تذكر مصيبتك). وقال (ص): (من ابتلي فصبر، وأعطي فشكر، وظلم فغفر أولئك لهم الأمن وهم مهتدون). وقال (ص): (أن الله - تعالى قال لجبرائيل: ما جزاء من سلبت كريمته؟ فقال: سبحانك!! لا علم لنا إلا ما علمتنا. قال: جزاؤه الخلود في داري والنظر إلى وجهي). وقال داود (ع): (يا رب! ما جزاء الحزين يصبر على المصائب ابتغاء مرضاتك؟

(هامش)

(48) الأحقاف، الآية 35 (49) المزمل، الآية: 10 (50) الأحزاب، الآية: 48 (51) لا عمران، الآية: 186 (52) النحل، الآية: 126 (*)

ص 239

قال: جزاؤه أن ألبسه الأمان، لا أنزعه عنه أبدا). وقال لابنه سليمان (ع) (يستدل على تقوى المؤمن بثلاث: حسن التوكل في ما لم ينل، وحسن الرضا فيما قد نال، وحسن الصبر فيما قد فات). وروي: (أن من ابتلي بموت ثلاثة أولاد. لم يرد على النار أصلا).

تذنيب اختلاف مراتب الصبر في الثواب

لما كان الصبر على العافية بمعنى ترك الشهوات المحرمة وعدم الانهماك فيها فهو راجع إلى الصبر عن المعصية. وعلى هذا فأقسام الصبر ثلاثة: الصبر على المصائب والنوائب، والصبر على الطاعة، والصبر عن المعصية. ثم ما تقدم من الخبر النبوي صريح في كون الأول أقل ثوابا، والآخر أكثر ثوابا، والوسط وسطا بينهما. وربما ظهر من بعض الأخبار: كون الأول أكثر ثوابا. وأبو حامد الغزالي رجح الأول أولا، وبه صرح بعض المتأخرين من أصحابنا للخير النبوي، ثم رجح الثاني ثانيا محتجا بما روي عن ابن عباس أنه قال: (الصبر في القرآن على ثلاثة أوجه: صبر على أداء فرائض الله - تعالى - فله ثلاثمائة درجة، وصبر عن محارم الله تعالى - وله ستمائة درجة، وصبر على المصيبة عند الصدمة الأولى، فله تسعمائة درجة). وبأن كل مؤمن يقدر على الصبر عن المحارم، وأما الصبر على بلاء الله فلا يقدر عليه إلا ببضاعة الصديقين، لكونه شديدا على النفس. وعندي: أن القول بكون أحدهما أكثر ثوابا على الإطلاق غير صحيح إذ القول بأن الصبر عن كلمة كذب أو لبس ثوب من الحرير لحظة، أكثر ثوابا من الصبر على موت كثير من أعز الأولاد بعيد، وكذا القول بأن الصبر على فقد درهم أكثر ثوابا من كف النفس عن كبائر المعاصي، وفطامها عن ألذ اللذات والشهوات مع القدرة عليها أبعد، فالصواب: التفضيل بأن كل صبر من أي قسم كان من الثلاثة إذا كان على النفس أشد وأشق فثوابه أكثر مما كان أسهل وأيسر، كائنا ما كان، لما ثبت وتقرر أن أفضل الأعمال أحمزها، وبه يحصل الجمع والتلاؤم بين الأخبار.

ص 240

فصل طريق تحصيل الصبر

الطريق إلى تحصيل الصبر: تقوية باعث الدين، وتضعيف باعث الهوى والأول: إنما يكون بأمور: الأول - أن يكثر فكرته فيما ورد من فضل الصبر وحسن عواقبه في الدنيا والآخرة، وأن يعلم أن ثواب الصبر على المصيبة أكثر مما فات، وإنه بسبب ذلك مغبوط بالمصيبة، إذ فاته ما لا يبقى معه إلا مدة الحياة في الدنيا، وحصل له ما يبقى بعد موته أبد الدهر، فيجازى على المدة القصيرة الفانية بالمدة الطويلة الخالدة، وعلى الغاية القريبة الزائلة بالغاية المديدة الباقية. ومن أسلم خسيسا في نفيس، فلا ينبغي أن يحزن بفوات الخسيس في الحال. الثاني - أن يتذكر قلة قدرة الشدة الدنيوية ووقتها واستخلاصه عنها عن قريب، مع بقاء الأجر على الصبر عليها. الثالث - أن يعلم أن الجزع قبيح مضر بالدين والدنيا، ولا يفيد ثمرة إلا حبط الثواب وجلب العقاب، كما قال أمير المؤمنين (ع): (أن صبرت جرت عليك المقادير وأنت مأجور، وإن جزعت جرت عليك المقادير وأنت مأزور الرابع - أن يعود مصارعة هذا الباعث باعث الهوى تدريجا حتى يدرك لذة الظفر بها فيتجرى عليها، ويقوى متنه في مصارعتها. فإن الاعتياد والممارسة للأعمال الشاقة يؤكد القوى التي تصدر منها تلك الأعمال. ولذا تزيد قوة الممارسين للأعمال الشاقة - كالحمالين والفلاحين - على قوة التاركين لها فمن عود نفسه مخالفة الهوى غلبه مهما شاء وأراد. وأما الثاني: أعني تضعيف الهوى، إنما يكون بالمجاهدة والرياضة، من الصوم والجوع وقطع الأسباب المهيجة لشهوة من النظر إلى مظانها وتخيلها، وبالتسلية بالمباح من الجنس الذي يشتهيه بشرط ألا يخرج عن القدر المشروع.

ص 241

تتميم أن قيل: الصبر في المصائب إن كان المراد به ألا تكون في نفسه كراهة المعصية، فذلك داخل تحت الاختيار، إذ الإنسان مضطر إلى الكراهة، فبماذا ينال درجة الصبر في المصائب؟ قلت: من كان عارفا بالله وبأسرار حكمته وقضائه وقدره، بأن يعلم يقينا بأن كل أمر صدر من الله وأبتلي به عباده من ضيق أو سعة، وكل أمر مرهوب أو مرغوب على وفق الحكمة والمصلحة بالذات، وما عرض من ذلك ممن يعده شرطا، فأمر عرضي لا يمكن نزع الخير المقصود منه، وإن ذلك إذا كان متيقنا له، استعدت نفسه للصبر ومقاومة الهوى في الغم والحزن، وطابت بقضائه وقدره، وتوسع صدره بمواقع حكمه، وأيقن بأن قضاءه لم يجر إلا بالخيرة. وقد أشار إلى ذلك أمير المؤمنين (ع) بقوله: (اطرح عنك واردات الهموم بعزائم الصبر وحسن اليقين). ومن بلغ بهذه الدرجة، يتلذذ وبكل ما يرد عليه. ومثله يتمتع بثروة لا تنفد، ويتأيد بعز لا يفقد، فيسرح في ملك الأبد، ويعرج إلى قضاء السرمد. هذا مع أن العبد إنما يخرج عن مقام الصابرين بالجزع، وشق الجيوب، وضرب الخدود، والمبالغة بالشكوى، وإظهار الكآبة، وتغيير العادة في الملبس والمطعم ونحوها، وهذه الأمور داخلة تحت اختياره، فينبغي أن يجتنب عنها، ويظهر الرضا بقضاء، ويبقى مستمرا على عادته، ويعتقد أن ذلك كان وديعة فاسترجعت، ولا يخرجه عن حد الصابرين توجع القلب وجريان الدمع، لأن ذلك مقتضى البشرية. لما مات إبراهيم ولد النبي (ص) فاضت عيناه بالدمع، فقيل له: أما نهيتنا عن هذا؟ قال: (هذه رحمة، إنما يرحم الله من عباده الرحماء). وقال أيضا (ص): (العين تدمع والقلب يحزن، ولا يقول ما يسخط الرب). بل ذلك لا يخرج عن مقام الرضا أيضا، فإن المقدم على الفصد والحجامة راض به، مع أنه متألم بسببه لا محالة. نعم، من كمال الصبر كتمان المصائب، لما ورد من أن كتمان المصائب والأوجاع والصدقة من كنوز البر. وقد ورد المدح في كثير من الأخبار على عدم الشكاية من الأمراض والمصائب. وقال الباقر (ع) (الصبر الجميل، صبر ليس به شكوى إلى الناس). وفي بعض الأخبار:

ص 242

(أن الشكاية أن تقول: ابتليت بما لم يبتل به أحد، وأصابني ما لم يصب أحدا، وليس الشكوى أن تقول سهرت البارحة، وحميت اليوم، ونحو ذلك). وقال الصادق (ع): (من اشتكى ليلة، فقبلها بقبولها، وأدى إلى الله شكرها، كانت كعبادة ستين سنة)، قيل له: ما قبولها؟ قال: (يصبر عليها ولا يخبر بما كان فيها، فإذا أصبح حمد الله على ما كان).

تتميم التلازم بين الصبر والشكر

إعلم أنه اختلف في أفضلية كل من الصبر والشكر على الآخر، فرجح كلا منهما على الآخر طائفة. والظاهر أنه لا ترجيح لأحدهما على الآخر، لأنهما متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر. إذ الصبر على الطاعة وعلى المعصية هو عين الشكر، لكون أداء الطاعة وترك المعصية شكرا، كما مر في باب الشكر. والصبر على الشدائد والمصائب يستلزم الشكر، لما مر من أن الشدائد والمصائب الدنيوية تتضمن نعما، فالصبر على هذه الشدائد يستلزم الشكر على تلك النعم ولأن الصبر على المصائب هو حبس النفس عن الجزع تعظيما لله سبحانه -. وهذا هو الشكر بعينه، لأنه تعظيم لله يمنع عن العصيان، والشاكر يمنع نفسه عن الكفران مع ميل النفس إليه، وهذا هو عين الصبر عن المعصية. وأيضا، توفيق الصبر والعصمة من الجزع نعمة يشكر عليها الصابر، فكل صبر يستلزم الشكر، وبالعكس. وبالجملة: لا ريب في استلزام كل من الصبر والشكر للآخر، فإن اجتماعهما في الطاعة وترك المعصية، بل اتحادهما فيهما، أمر ظاهر، كما تقدم. وفي البلاء المقيد الدنيوي، إذا حصل فيه الصبر، فلا ريب في عدم انفكاكه عن تصور النعم اللازمة له، ومن الثواب الأخروي، وحصول الانزعاج عن الدنيا والرغبة إلى الآخرة، فيشكر على ذلك. فهو لا ينفك عن الشكر، لأنه يعرف هذه النعم من الله، كما يعرف البلاء أيضا من الله فيفرح بالنعم، ويعمل بمقتضى فرحه من التحميد وغيره. وفي النعمة المقيدة مثل المال، إذا توسل به إلى تحصيل الدين، فلا ريب في أنه كما تحقق فيه الشكر تحقق فيه الصبر أيضا. إذ في إنفاق المال وبذله في تحصيل الدين

ص 243

حبس النفس عما تحبه وتميل إليه، وثبات باعث الدين في مقابلة باعث الهوى. وفي البلاء المطلق، كالكفر والجهل، لا معنى لتحقق الشكر أو الصبر فيه، وفي النعمة المطلقة كسعادة الآخرة والعلم وحسن الأخلاق، كما يتحقق فيها الشكر يتحقق فيها الصبر أيضا. إذ تحصيل السعادة، والعلم، والأخلاق الفاضلة، والابقاء عليها، لا ينفك عن مقاومته مع الهوى ومنع النفس عما تميل إليه. مع أن الشكر عليهما يستلزم منع النفس عن الكفر وهو الصبر على المعصية. حتى أن شكر العينين بالنظر إلى عجائب صنع الله يستلزم الصبر عن الغفلة والنوم، والنظر إلى ما تميل إليه النفس من النظر إلى غير المحارم وأمثال ذلك. فإن قيل: استلزام كل من الصبر والشكر للآخر مما لا ريب فيه، إلا أن الكلام في أنه إذا لم يتحقق الاتحاد بينهما في فعل، كما في فعل الطاعة وترك المعصية لكونهما متحدين فيهما، بل تحقق الاستلزام الموجب لتحقق جهتين، فأي الجهتين أفضل؟ مثل أن يبتلى أحد بمصيبة دنيوية، فصبر عليها، بمعنى أنه عرف إنها من الله وحبس نفسه عن الجزع والاضطراب، وشكر عليها أيضا، بمعنى أنه عرف أن النعم اللازمة لها من الثواب الأخروي وغيرها من الله، وفرح بها، وعمل بمقتضى فرحه من التحميد أو طاعة أخرى، فهل الأفضل حينئذ جهة الصبر، أو جهة الشكر؟ قلنا: التأمل يعطي: أن كل صبر هو شكر بعينه، وبالعكس. فلا تتحقق بينهما جهتان مختلفتان حتى يتصور الترجيح بينهما. فإن الصبر على البلاء إنما هو حبس النفس عن الجزع تعظيما لله. وهذا هو عين الشكر إذ كل طاعة لله - سبحانه - شكر، وفي الشكر على النعم المطلقة منع النفس عن الكفران، وهو عين الصبر عن المعصية. فإن قلت: فعلى هذا، يجتمع الصبر والشكر في محل واحد بجهة واحدة، وقد تقدم أنهما متضادان، إذ الصبر يستدعي ألما، والشكر يستدعي فرحا، وقد ذكرت أن اجتماع الصبر والشكر في محل واحد إنما يكون من جهتين متغايرتين لا من جهة واحدة. قلنا: امتناع الاتحاد فيهما إنما هو في الصبر والشكر على ما هو كان

ص 244

نعمة وبلاء بعينه، فإنه لا يمكن أن يكون الصبر على موت ولد - أعني حبس النفس عن الجزع - هو عين الشكر على النعمة إذ موت الولد بعينه ليس نعمة بل هو مستلزم للنعمة. فالشكر على اللازم، والصبر على الملزوم. فاختلفت جهتا الصبر والشكر، فلا اتحاد. وما ذكرنا من الاتحاد إنما هو الشكر والصبر على النعمة وترك المعصية، أو على البلاء والطاعة. وندعي أن من وصلت إليه نعمة، فشكر عليها بعرفانها من الله، ففرح بها وعمل بمقتضى الفرح، من التحميد أو طاعة أخرى، كان هذا الشكر عين الصبر عن المعصية هي الكفران، أو على الطاعة التي هي التحميد وغيره. كذا من ابتلي ببلية، فصبر عليها بحبس نفسه عن الجزع، فهذا الصبر. عين الشكر بأداء الطاعة التي هي تعظيم الله بكف النفس عن الجزع، أو عن المعصية التي هي الجزع والاضطراب. وهذا الاتحاد والعينية يطرد في كل صبر وشكر، ولا يتحقق شكر لا يكون عن الصبر من هذا الوجه، وبالعكس. وليس بينهما تضاد وتغاير أصلا، واستلزم واختلاف الجهة إنما هو في 56 الصبر على البلاء والشكر على ما يستلزمه من النعم، ولا يمكن هنا اتحادهما لتضادهما، وفي هذه الصورة يكون كل من الصبر والشكر المتميزين عن الآخر باختلاف الجهة عين الآخر، من حيث ملاحظة الاعتبار السابق فلا يمكن الترجيح في هذه الصورة مع اختلاف الجهة أيضا. فإن قيل عرفان النعم من الله داخل في حقيقة الشكر، وليس داخلا في الصبر، فينبغي أن يكون الشكر لذلك أفضل من الصبر. قلنا: في الشق الأول من صورة العينية والاتحاد، يكون عرفان النعمة داخلا في الصبر وفي الشق الثاني منهما، وفي صورة الاستلزام، يدخل عرفان البلاء من الله في الصبر. فكما أن الشاكر يرى نعمة العينين من الله، فكذا الصابر يرى العمى من الله، فهما في المعرفة متساويان. ثم جميع ما ذكر في الفرق بين الصبر والشكر إنما إذا كانت حقيقة الصبر حبس النفس عن الشكوى في البلاء مع الكراهة والتألم (1)، وعلى هذا يكون

(هامش)

(1) قال أستاذ البشر المحقق (الطوسي) - قدس سره - في تعريف الصبر (الصبر حبس النفس عن الجزع عند المكروه، وهو يمنع الباطل عن الاضطراب واللسان عن الشكاية، والأعضاء عن الحركات غير المعتادة.) (*)

ص 245

الرضا فوقه، لو قطع النظر عن كون الصبر شكرا أيضا، ويكون الشكر فوق الرضا، إذ الصبر مع التألم والرضا يمكن بما لا ألم فيه ولا فرح، والشكر لا يمكن إلا على محبوب يفرح به، ولو لم يعتبر في مفهوم الصبر الكراهة والتألم، لصار الرضا والشكر في بعض درجاته، إذ يمكن أن يصل حال العبد في الحب مرتبة لا يتألم من البلاء أو يفرح به، لأنه يراه من محبوبه. وحينئذ، فترك الشكوى في البلاء مع الكراهة صبر، وبدونها رضا، ومع الفرح به شكر.

تنبيه القانون الكلي في معرفة الفضائل

إعلم أن المعيار والقانون الكلي في معرفة فضائل الأعمال والأحوال وترجيح بعضها على بعض عند أرباب القلوب: أن العمل كلما كان أكثر تأثيرا في إصلاح القلب وتصفيته وتطهيره عن شوائب الدنيا، وأشد إعدادا له لمعرفة الله وانكشاف جلاله في ذاته وصفائه وأفعاله، كان أفضل. وعلى هذا القانون، لولا الاتحاد والعينية والتلازم بينهما، لكان اللازم أن يوازن بين كل درجة درجة من درجات الصبر والشكر وترجيح أحدهما، إذ لكل منهما درجات مختلفة في تنوير القلب وتصفيته، وسبب الاختلاف أسباب: منها - الاختلاف بين أقسام النعم وأقسام البلاء. ومنها - اختلاف مراتب المعرفة والفرح المأخوذين في الشكر، واختلاف الطاعة التي تفعل في كل منهما صعوبة وسهولة. فربما كان بعض درجات الصبر أشد تنويرا وأكثر إصلاحا للقلب من بعض درجات الشكر، وربما كان الأمر بعكس ذلك في بعض آخر من درجاتهما. فإن الأعمال والأحوال المندرجة تحت كل منهما كثيرة، وباختلافها - كثرة وقلة - تختلف درجاتهما. فمن الأمور والأحوال التي تندرج تحت الشكر: حياء العبد من تتابع نعم الله عليه، ومعرفته بتقصيره عن الشكر، واعتذاره من قلة الشكر، واعترافه بأن النعم ابتداء من الله - تعالى - من غير استحقاقه لها، وعلمه بأن الشكر أيضا نعمة من نعمه ومواهبه، وحسن تواضعه بالنعم، والتذلل، وقلة اعتراضه، وحسن أدبه بين يدي المنعم وتلقي النعم بحسن القبول، واستعظام

 

الصفحة السابقة الصفحة التالية

جامع السعادات (ج3)

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب